النتائج 1 إلى 2 من 2
  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jul 2004
    الدولة
    هناك
    المشاركات
    28,205

    افتراضي من أدب السجون العراقي: ثلاث قصص للقاص (حامد فاضل)

    (على الرغم من تقديمنا الطعام إلى الذئب ، فإنه ينظر دائما شطر الغابة )
    (تورجنيف)
    كتب القاص "حامد فاضل" عددا من القصص المتفردة عن حياة ا لسجن السياسي في العراق ، وبذلك يكون من الكتاب "الشباب" القلائل الذين سخّروا نصوصا قصصية عدة لهذه الموضوعة الحساسة. في قصة "النافذة" (1) يتناول هذه المعضلة من مقترب غير مسبوق يربكنا منذ عتبة العنوان : النافذة الذي سيخلق في ذهن القاريء إيحاءات معروفة ترتبط بدور النافذة كفتحة نطل منها على المحيط والعالم الصغير الذي يحيط بنا . النافذة مرادف للأمل ومنفذ الإتصال بين الداخل والخارج ، بين حيز محدود وفضاء أوسع مهما كان موضعها. لكن الراوي ، والقصة تحكى بضمير المتكلم ؛ الفردي والجماعي، يضعنا ومنذ أسطر الاستهلال أمام موقف مغاير ذي دلالات خانقة :
    (كاما مررت من أمام السجن الجاثم على صدر البلدة ، اجتزت تلك الأمتار المعدودات ، ولاحت لعيني تلك النافذة الملتصقة في أعلى جدار السجن-ص 7 ) .
    ومنظر هذه النافذة يحيل ذهن الراوي إلى ذكريات بعيدة مريرة ترتبط بسنوات الستينيات السود كما يصفها . نظر هذه النافذة يثير في أعماقه النقمة وضراوة الاحتجاج على عنف القرن العشرين . هي إذن نافذة رمز واسع على عدوان الإنسان على أخيه الإنسان في أي مكان. إنها الآن مطفأة ومكممة بالحجارة ومعصومة بالأسمنت . لكن دوي معانيها مازال يعصف بالروح والذاكرة . وفي عملية فنطازية يشابه القاص بين انبثاق الذكريات المتشظي من صندوق الذاكرة الأسود وبين تصدّع النافذة ملقية كسر الحجارة وفتات الأسمنت لتنطلق تلك الأصوات ؛ أصوات السجناء التي كانت تصدح بنشيد الأمل والكفاح والوطن الحر والمستقبل السعيد. لكن من هو جمهور هؤلاء السجناء الذي يستمع إلى نشيجهم المخنوق ونشيدهم المتفائل ؟ إنهم مجموعة من الأطفال يلعبون كرة القدم يوميا في الساحة التي تطل عليها تلك النافذة المشؤومة التي حولتها الصلة الإنسانية الحميمة والدافئة التي تأسست بين السجناء والأطفال إلى نافذة للأمل ومسرى للرجاء والتواصل الصادق . على جانب من النافذة هناك عالم القمع المحصور بين جدران الزنزانة الغبراء، وعلى جانبها الآخر يمتد فضاء الحرية والحركة الصاخبة لأعضاء فريق أشبال البلدة؛ البلدة التي كان سجنها محطة مؤقتة يُسفّر منها السجناء السياسيون إلى سجن نقرة السلمان الرهيب حيث الداخل مفقود والخارج مولود كما كان يتندر العراقيون بأسى وفي تشخيص دقيق . لكن عبر النافذة يحصل "تواصل" و"اتصال" عجيب. ولتصوير حالة التواصل والاتصال المدهشة هذه يؤنسن حامد مكوّنا كونيا هو الشمس ليصوّر من خلالها تلك الأبعاد الحميمة :
    ( الشمس تستيقظ على محفة الشرق كل صباح. تنزع نقاب الغبش . تُسفر عن شعرها الأشقر ، وتطل بوجهها المضيء ،تحمل سلتها ، وتخطو بقامتها الفارعة ، تسير في دروب البلدة لا يُسمع حفيف ثوبها، ولا تثير الغبار. تقصد جدار السجن . تقف على أطراف أصابعها . ترتكز على تراب الساحة ، وتمد ذراعا بضّة لتلقي بسلتها من النافذة ناثرة الضوء، والدفء ، والأمل في أكف السجناء . نافذة الحرية تلك كانت شاهدة على لقاء الصداقة والمحبة بين أهل البراءة وأهل النضال- ص 8).
    وفي هذه الموازاة بين الجهتين يحققحامد أكثر من مقارنة مستترة . فالسجناء وقد فرض عليهم وضع نكوصي قسرا يمدون أكفهم مثل الأطفال ليلتقطوا خيوط أشعة الشمس لتحقيق الدفء والأمل، وهم في تعلقهم بالأشبال الصغار يستعيدون طفولتهم الضائعة. صاروا يعنون بهم مثلما كانوا يتمنون أن يعنى بهم . كانوا يتواصلون عبر الرسائل الصوتية التي تنطلق من وإلى الزنزانة عبر النافذة .. عرف السجناء والأشبال أسماء بعضهم وصار الأولون يتساءلون عند غياب لاعب من الفريق ، في حين يستفسر اللاعبون عن صحة وأحوال السجناء بأسمائهم . لقد عرفوا حتى أسباب اعتقالهم . كانوا يرمون للسجناء بمسائل الرياضيات أو عناوين الإنشاء ليساعدوهم على حلها وكتابتها . كان جدار الحرمان سببا في اتساع فسحة الخيالات في ذهن الجانبين . كان الصغار يلعبون دورا كبيرا مشبعا لطموحاتهم المراهقة . كانت المخيلة تقفز من فوق جدار الحرمان لتتلاقح وتثرى وتتجدد . وفي هذا خرق لقانون السجن الأساسي : تحطيم السجين وإهارة إرادته عن طريق الحرمان الحسي . تنتهي فلسفة السجن مع تحقيق الإتصال بين عالم الداخل الخانق وفضاء الخارج المترامي . ولذلك ما أن تناهى خبر العلاقة "الصوتية" الوثيقة والمتصاعدة بين السجناء والأشبال إلى سمع السجّان حتى قام رجال الشرطة باعتقال الصغار ولم يطلقوا سراحهم إلا بعد أن قدم آباؤهم تعهدا خطيا بعدم عودة أبنائهم إلى اللعب في الساحة المجاورة لسجن البلدة. ولم يكتف الجلاد بذلك ، وبسياج الأسلاك الشائكة الذي كبل به الساحة ، بل قام بغلق وسيلة "التواصل" الوحيدة : النافذة ، على السجناء، وكمموها بالطابوق والأسمنت. وحامد ينتقي مفرداته، وليس جمله بحسب، لتضمن أقصى دقة تعبيرية تجسد دلالات المشهد المعني، فالنافذة لم تكن من الناحية الرمزية والنفسية والوجدانية فتحة للتواصل وانتقال الصوت والمخيلة عبر جانبيها ، كانت في الواقع "فما" للطرفين ، ينطق ويتحاور ولذلك فإن فعل "التكميم" يعبر ببلاغة شرسة عن الاستجابة العدوانية العنيفة للجلاد . مثلما يعبر فعل "التقييد " بدقة عن تكبيل جسد الساحة وإلغاء فضاء حرية الحركة في "أطرافها" . ويبدو أن عملية القمع والاضطهاد تحمل في أحشائها ما يشبه "الحلقة المفرغة"، حيث كل فعل قمعي يتسبب بردة فعل مقابلة . وهذه ، بدورها، ستخلق استجابة مضادة وهكذا. فصوت السجناء صار يصل كل بيت وكوخ وصريفة من صرائف الفقراء صادحا بالنشيد المقاوم الذي حفظه الصغار ، وصار تعلقهم بـ "رفاقهم" ونشيدهم يتصاعد كلما أبعدوا عنهم .. والممنوع مرغوب في السلوك البشري .. فكيف بممنوع يحاصر بقيود الظلم والطغيان رغم أبعاده الإنسانية ؟! صارت النافذة المكممة رمزا .. وأصبحت خيالات أهالي المدينة تحلق حولها (كعصافير تبحث عن أعشاشها في بقايا شجرة طوّحت بها العاصفة- ص 11). ويأتي المشهد الختامي مرسوما بعين سينمائية تلتقط المشهد العريض المحتدم عاطفيا . فقد علم لاعبو فريق أشبال البلدة من صانع مقهى السجن بأن السجناء سيرحلون إلى منفى نقرة السلمان ، فجاءوا بملابسهم الرياضية (يصطفون على الرصيف المقابل للسجن .. حتى إذا خرجوا بالسجناء ، تعارفت الوجوه ، بعد التعارف بالأسماء، تعانقت النظرات ، هفت القلوب إلى القلوب . وتكلم الصمت البليغ .. ثم ضجت حناجر السجناء بالنشيد .. وحين تحركت بهم السيارات .. استمروا يلوحون بأيديهم إلى لاعبي فريق أشبال البلدة الذين ساروا خلف قافلة أصدقائهم السجناء المتجهة إلى سجن آخر في جوف الصحراء - ص 11 ) .
    لم يستطع الجلاد تكميم فم الضحية ، والنشيد ، رمز الصمود الصوتي ، حلق في آفاق أوسع وأفسح ، على وعد تنكسر فيه حلقة الطغيان المفرغة بهزيمة الجلاد الذي أسهم من حيث يعلم في تدريب عينة من الجيل الجديد على الفكر المقاوم وحفظ وصية النشيد الهادر .
    وقد قلت في مقالة سابقة إن القاص "حامد فاضل" يحمل امتيازا سرديا عراقيا وعربيا ، لأنه ابتكر "جنس" كتابة القصة القصيرة بشعر التفعيلة ، وقد قدمت نماذج من تلك القصص . وفي هذه القصة يعيد القاص الكرة في بعض مواضعها منتقلا من السياق النثري إلى الشعري وعائدا إليه بسلاسة وتلقائية باهرة :
    (... صادحة بنشيد السجناء الذي ألقى في قلوبنا بذرة حلم بوطن حرّ
    تحطّ النجوم على هامته
    وتنداح موجة الهور على قدميه

    وشعب سعيد
    له الشمس معلقة كالثريا
    والنجوم مصابيحه
    والقمر
    عاليا لا يصله عواء الذئاب
    ولا سلّم فيه لارتقاء القرود
    أي متعة تضاهي متعة أيام البراءة
    أي عطر
    كعطر الصبا
    ينث رذاذ صدى في الفؤاد
    يوم كنا نلعب كرة القدم ، متسربلين بغبار الساحة الترابية المجاورة للسجن - ص 7 و8 ).
    ملاحظة:
    قمت بتقطيع السطور الشعرية والتسويد من عندي .
    # وفي قصة "للشاي طعم آخر" (2) ، تأتي معالجة ثانية لموضوعة السجن السياسي . وفي الكثير من النصوص نجد حامد فاضل يصمم الشكل السردي وتسلسل الحوادث والرداء اللغوي بصورة تناسب الموضوع فتأتي القصة رشيقة كتطابق الثياب على جسد الموديل . في هذه القصة لا يتيح لنا العنوان أي حيز في لعبة الاحتمالات التأويلية ولا يعدنا لأي استقبال مضموني محدّد وفق أطروحة "ثريا النص" التي يطبقها الكثير من النقاد بتطرف وإجحاف أفقدها مضمونها. إذ ما معنى "للشاي طعم آخر"؟ وفي أي موقف يتغير طعم الشاي؟ وهل سيكون مرّا أم مغثيا أم أكثر حلاوة ؟ وما هي الدلالات النفسية أو الاجتماعية لتغير هذا الطعم ؟ كل هذه التساؤلات لا توفر للعنوان اشتراطات الاستعداد التأويلي الاستقبالي . ثم يأتي السطر الأول من استهلال القصة ليربك أطروحة أخرى أفرط في استعمالها والتي ترتب على الاستهلال إسهامة مركزية في الاستعداد التأويلي . يقول الراوي - والكثير من قصص حامد تسرد بضمير المتكلم - : (الصباح برعم يتفتح ليعوض شجرة العمر عن ورقة أسقطتها رياح الأمس) . فالموقف التفاؤلي هذا يفترض خسارة سابقة . لكن الأسطر اللاحقة لا تتيح هذا الإفتراض حيث يقول القاص :
    ( وأنا أحب الصباح ، الهواء بارد منعش ، والدنيا نقية . غادرت الفندق ، فاستقبلني الشارع المغسول بالندى ــ الوزارة لا تستقبل مراجعيها إلا في الساعة العاشرة ــ ملأت رئتي بعطر فتاة مرت بجانبي ، وطمأنت نفسي : سيتذكرني ).
    وعليه فإن المفتتح السابقهو مدخل تأملي يعكس عمق نظرة الراوي التفاؤلية إلى الحياة ؛ الراوي الذي ينطلق بهذه الروح المتفتحة على الأمل والحياة إلى موعد في إحدى الوزارات ويتوقع أن موظفا فيها سيتذكره ويستعيد ذكرى موقف أو علاقة قديمة ربطت بين الإثنين . موقف أو علاقة كان للراوي فيها دالة ما تتيح له استجابة إيجابية من الموظف المعني، تعينه في الحصول على وظيفة في الوزارة بعد أن تسرح من الجيش . ومن سمات حامد الأسلوبية هو أنه لا يطرح أبعاد الموقف بصورة مباشرة بل من خلال الإيحاء عبر حادثة أو إشارة أو حتى حركة عابرة . وبدلا من أن يحكي لنا مباشرة عن ظروف خدمته العسكرية وعناءاتها فإنه يوحي بذلك عبر ثلاث "حركات" فهو ، وبعد أن يعلن عن حبّه للصباح ويقرر قطع الشارع المغسول بالندى سيرا على الأقدام ، دون أن يفكر في ركوب سيارة تاكسي أو سيارة أنفار مستمتعا بالمشي على قدميه ، تفاجئه سيارة عسكرية ( مرت سيارة عسكرية ، نفثت من مؤخرتها دخاناً أبيض واختفت ، أنا تسرحت من الجيش وذاهب الآن لإشغال وظيفة ). سيقابل الراوي الشخص المسؤول عن قبوله أو رفضه في الوزارة . وفي الطريق تنشط ذاكرته - ولذاكرة دور حاسم في سلوك وحياة شخوص حامد فاضل القصصية - فيستعيد تلك المرحلة مبتدئا من الصباح ليحقق وحدة في بنية النص الزمانية . فيتذكر كيف كان يحب النوم صباحا بعد أن يفسد البعوض نومه ليلا. لكن أباه بدوره يخرب متعته تلك وينهره آمرا إياه أن ينهض فورا ليلتحق بعمله . كان يعمل صانعا لدى الأسطه (صاحب) مستأجر مقهى مركز الشرطة الذي كان يحجز فيه السجناء السياسيون . كان يبيع عليهم الشاي صباحا وقناني الببسي ظهرا . وكان حريصا على تنفيذ "حكمة" صاحب المقهى : لا ترى لا تسمع لا تتكلم . وذلك بسبب حساسية وضع نزلاء السجن. وفي إحدى المرات تعززت أواصر "الصداقة" كما يصفها بينه وبين أحد السجناء . تقرب منه السجين وجلس إلى جواره وسأله عن اسمه فلم يجب إلتزاما بحكمة معلمه ، فاختار له السجين اسم (غافروش) وهو إسم أحد شخصيات رواية (البؤساء) الشهيرة لفكتور هيجو . لكن الصغير رد محتجا بأن اسمه (أحمد) فضحك السجين حيث تأكد أن الصغير ليس أبكما . يقول الراوي :
    ( على مر الأيام صار ذلك السجين صديقي ، كسر قيودي ، تحررت من حكمة ( الأسطة ) صاحب ، انطلق لساني ، تحدثت ، وتحدثت ، وتحدثت .. ) .
    وهنا يخلق القاص موازاة بين موقف الصبي وموقف السجين مستثمرا اشتراطات وضع الأخير المقيد المحاصر . فالصبي كان "سجينا" أيضا .. مقيدا بأوامر ونواه لا تحتملها روحه الصغيرة الهشّة . صار يتكلم ويرى ويسمع ، والأهم "يتعلم" . لا يشكل السجن "مدرسة" للرجال المعتقلين بل لآخرين الذين يحتكون بهم خصوصا من الأطفال حيث تنطبع على لوح عقولهم ونفوسهم الأبيض كل المشاهد التي يرونها مرة واحدة وإلى الأبد . وقد بدأ أحمد يتعلم من سلوكيات هذا السجين خبرات كبيرة وخطيرة المعاني . فقد طلب منه ذات مرة شفرات حلاقة فاعتقد أحمد بعقله الصغير أن السجين سوف يقطع شرايينه ، لكن السجين أجابه : ( حياتي ملك وطني ، لا يحق لي التصرف بها ) . ثم قام السجين بتكليفه بمهمة أعقد وتحمل قدرا كبيرا من الخطورة ، فقد طلب منه أن يجلب له أوراق معينة (منشورات) من صاحب مكتبة (الوطن) . يقول الراوي :
    (لطمت أمي خديها :هؤلاء ضد الحكومة ، ونحن فقراء نريد أن نعيش ) قلت : أنا رجل وقد أعطيت وعد رجال ) .
    رضخت الأم وربطت الأوراق على بطنه ولبس دشداشته وخرج . وبعد حركة من الشرطي الحارس كادت تكشفه أوصل الأوراق إلى السجين بعد أن عمل له السجناء ستارا يخفيه . وحتى الآن - وهذه السمة الاحترافية للقاص الحاذق- لا نعرف ما هي صلة هذه الذكريات بموعد مقابلة التعيين في الوزارة . لكننا سنعلم قبيل نهاية القصة ، فهذا السجين الصديق هو الآن ، وفي هذا الصباح الجميل الذي استيقظ فيه أحمد على راحته بدل الانتهار الأبوي ومنغصات لسعات البعوض وتقييدات ونواه الأسطه صاحب ، هو الموظف المسؤول عن قبول أو رفض أحمد في التعيين في الوزارة . دخا أحمد على الموظف الكبير / السجين السياسي السابق ، لم يتعرف إليه أولا وسأله - وأعتقد أن السؤال يحمل جوابه ومفتاح الموقف - "إسمك أحمد ، وأنت من السماوة ؟" . هنا يستعيد الراوي لحظة التعارف القديمة ، فاسم (غافروش) الذي استفزه آنذاك، وجعله يترك الصمت ويفصح عن اسمه الحقيقي وهو (أحمد) ، هو الذي سيكون أداته التعريفية التي تعيد إلى ذهن السجين السابق ذكرى الصداقة التي جمعت بينهما . ويبدو أن القلق الذي يخيم على أي موقف ، والإطار الذي يحصل فيه هو الذي يحدد القيمة الاستعمالية للمفردة (التسمية هنا) ودلالتها وطبيعة استقبالنا النفسي لها. والسجن بؤرة للقلق والتحسّب . أما في فضاء الحرّية الذي يقابل فيه أحمد السجين السابق فإنه يستعين بتلك التسمية التي رفضها آنذاك لتكون مفتاحا للتعارف. وقد سار الكثير من القصاصين على قاعدة رسم نهايات سوداء لمثل هذه الواقعة تتمثل في أن ينكر السجين السابق معرفته بالصبي الذي كان يساعده سابقا أو يصبح بيروقراطيا متعاليا أو لا يسمح له بالدخول أصلا .. إلخ . لكن هذه الروح التفاؤلية التي تشيع في الكثير من قصص حامد فاضل تأتي متسقة وتثير الإرتياح في نفوسنا كمتلقين: لمسة الوفاء الختامية هذه اتشحت بجمالية عالية باستذكار الموقف الطفلي ومماحكة التسمية الساخرة. وحامد فاضل يعمد دائما على تحقيق روابط تعزز وحدة قصته قد تكون وصفا أو تعبيرا وأحيانا مفردة . وطوال القصة كانت مفردة (ركن) تتكرر. في السجن كان أحمد الصغير يوزع الشاي ثم يجلس صامتا في "ركنه". الآن وبعد أن انزاحت غمامة القلق السوداء يجلس في ركن الأريكة مسترخيا بعد أن "تكلم":
    ( نظر في أوراقي : اسمك أحمد وأنت من السماوة . قلت : أنا غافروش . رفع رأسه ، اتسعت العينان في زجاج النظارة وتبسم الوجه الجميل .. نهض اليَّ صافحني ، رفع النظارة : ما شاء الله ، اتفضل استرح . سحب الستارة فاندلق ضوء الصباح ، جلست في ركن الأريكه .. ابتسم لي ، ضغط زر الجرس وطلب الشاي).
    والآن فقط ، يصبح للشاي طعم آخر ..
    ملاحظة بسيطة: لأول مرة أقرأ مفردة (تمرحضتُ) في نص قصصي في موضع لا تأتي فيه نشازا مثيرة للإشمئزاز ، بل متسقة مع الأفعال "النظيفة" التي تلتها :
    (قبل أن ينفذ [= الأب] تهديده أكون قد نزلت ، تمرحضت ، وغسلت وجهي وجلست أمامه . أغمس كعكتين أو ثلاثاُ في الشاي . أفطر وأتوكل على الله ) .
    # في القصة الثالثة (ما ترويه الشمس ، ما يرويه القمر) (3)، نجد معالجة فريدة رغم أنها مطروقة سرديا وسينمائيا ، وتتمثل في هروب مجموعة من السجناء من سجن ، وملاحقة الأهوال المدمرة التي تواجههم . لكن هذا ليس نقصا ، فمن المعروف بنيويا أن الثيمات الأساسية في الأدب والفن لا تزيد على العشرين (قصة حب، إبن يقتل أباه، بطل يبحث عن الخلود .. إلخ) ، لكن المعضلة تكمن في (المعالجة) ، وحين أقول المعالجة ، فأرجو أن يتجه ذهن القاريء الكريم نحو الشكل ، أو الرداء الللغوي الذي يلبسه السارد لحكايته . المعالجة تعني التحام الشكل والمضمون ، وكثيرا ما سأل الباحثون في هذه المعضلة : أين ترى الإبتسامة ، أمام الوجه ، أو خلفه ؟ والجواب هو إنك تراها "في" الوجه . وقد أحكم حامد فاضل ، في هذا النص، الإمساك بطرفي هذه المعادلة الشائكة ، فاستطاع تقديم قصة تنثال عليك بناها موحدة شكلا ومعنى . ويربكنا القاص جزئيا منذ لحظة الإستهلال حين يبدأ السرد بضمير المتكلم :
    ( كنت أول من رأى السجناء الثلاثة وهم يهربون من السجن الجاثم في الصحراء مثل قبر خرافي .. رأيتهم يطلعون متلفعين ببرودة الليل تاركين خلفهم جدار السجن السميك ، الذي يخفي عن سمع الصحراء وبصرها ، الآهات والأنين والبؤس - ص 115 ) .
    فمن المؤكد أن لحظة إرباك تأويلي ابتدائي ستحصل ، معتقدين أن الراوي ، الذي سيظهر انه "القمر" الذي يلاحق بعين الله المنخذلة محاولة هؤلاء الثلاثة المقهورين اليائسة ، هو إنسان مراقب رصد هروب السجناء من قلعة الموت ، وهو واحد من أبشع سجون النفي والخراب وهي "نقرة السلمان" التي لا أعلم متى يكتب المبدعون العراقيون ، ولم يبق أحد منهم بمختلف انتماءاتهم ، لم يفقد زهورا من سني عمره فيها ، وبلا استثناء ، وهذه من السمات الكارثية لمفهوم السجن السياسي في العراق ؛ لا استثناء ، الكل يُسجن ، والكل يَسجن ، والذي يَسجن يتبادل الأدوار مع الذي كان يُسجن بصورة ملهاة ، تتيح أبشع حالات الثأر . وأعتقد أن هذا واحد من الأسباب الرئيسية التي جعلت حامد فاضل لا يمنح أسماء فردية محددة لأبطاله السجناء الهاربين الثلاثة، بل يعرّفهم بمظاهرهم الجسمانية : الطويل الأصلع ، والقصير السمين ، والثالث الذي لم يكن طويلا ولا أصلعا ولا قصيرا ولا سمينا ( ص 115) ، إذن ماذا يكون هذا الثالث من حيث السمات ؟
    ويؤنسن القاص القمر المترب المراقب الذي هو أول من رأى عملية الهروب ، ولم يكتف بالمشاهدة ، بل انفعل بها ، وتأسّى:
    ( توقفوا لاهثين ، رفعوا رؤوسهم ، حدقوا بي ، وبالنجوم المتناثرات من حولي . أبصرت في شحوب وجوههم سيماء لا تُرى إلا في وجوه من عانوا اضطهاد السجن . رأيت الحزن يغرق في مدّ الفرح الذي تلألأ في عيونهم - ص 115) .
    ولعل القاريء المتفحص ، الصبور ، وأعتقد أن واحدة من أهم صفات الناقد التي تميزه عن القاريء هو الصبر والأناة ، ومن المعروف عن القاريء العراقي والمبدع العراقي على حد سواء ، أنهما ليسا صبورين ( ألهذا لم تتطور الرواية العراقية كثيرا وهي التي تحتاج جلد عالم في مختبره ؟!) سيلمس نوعا من الإيحاء الماكر المستتر في تصميم القاص لحديث القمر - وبطبيعة الحال يأتي حديث القمر ليلا - ومن بعده الشمس نهارا ، فهما ساردان عليمان لكنهما محايدان بمعنى الكلمة .. هما يصفان ما يجري من مأساة أمام عينيهما بهدوء وموضوعية تصل حد المقت . لا تحيا الموضوعية اليابسة إلا بنداوة العاطفة الذاتية . صحيح أن القمر الشاهد ينقل لنا تفاصيل حميمة ، لكنها تفاصيل "عدسة" دقيقة :
    ( أخرج الطويل الأصلع ورقة مطوية وخلاها مفتوحة قدّام عيني . أبصرت فيها خطوطا متعرجة .. تناقش الرجال الثلاثة ، شبكوا أكفهم صانعين قبضة واحدة .. تعانقوا وصعد إلي صوت قلوبهم .. أشار الطويل الأصلع إلى نجم لامع ، وسمعته يقول لرفيقيه : نبتعد عن طريق النجوع ، ونسلك الدرب المقفر حتى نقع غرب الفرات - ص 116 ) .
    وبتصميم باهر ، يرسم حامد حركات ضمير الأنا السارد في وحدات متوازنة ومتساوية بين لسان القمر ولسان الشمس وهي ست وحدات . بعد الوحدة السابقة التي كان فيها القمر شاهدا على هروب السجناء الثلاثة ، واختيارهم الطريق الأخطر للخلاص رغم ما فيه من احتمالات مميتة مؤكدة ، تأتي وحدة الشمس السردية ، إنها العين التي رتصد تحولات النهار الصاخبة ، حيث انكشاف عملية الهروب التي تمت ببساطة ، لأن الجلاد وصل حدا رهيبا من الاستخفاف بمصائر البشر ، حد ترك أبواب قلعة السجن النقرة مفتوحة . كان مطمئنا إلى أن لا أحد يستطيع الإفلات فـ ( الداخل مفقود ، والخارج مولود ) كما قلنا ، ورغم ذلك فهذه روح تفاؤلية مفرطة ، إذ إن الشمس تخبرنا على لسان البدوي القوّاف أن سلوك السجناء الطريق القفر ، وتجنبهم طريق (الفيضات) يعني أنهم سيكونون فريسة سهلة للذئاب المفترسة أو الموت عطشا . تقول الشمس وهي تراقب الهاربين :
    (وأنا التي منحنى الخالق من حدة البصر ووسع العين ما يمكني من رؤية ما يجري على الأرض . فإنني أبصر هؤلاء وأولائك ؛ هؤلاء الشرطة الذين توغلوا في غابات السدر الصحراوي ، وأولئك السجناء الهاربين الذين توغلوا في أخاديد القفر حيث حناجر العواصف التي تطلق عويلها في وجه الصحراء . انتصف النهار ، وها أنا الآن في السمت ؛ تحتي تتلظى الرمال ، تتلاشى آخر قطرة ندى جعلت عشب الصحراء مثواها - ص 117 ) .
    إن أخطر ما يقدمه الإبداع هو هذه القدرة على تمرير الحفزات التحرّشية نحو الجهات المرجعية اللاهوتية التي تتحكم بمصائرنا دون أن نعرف السبب ، أو لأي نتيجة واتجاه . تصف الشمس ، وهي من تجليات الإرادة الإلهية ، وبروح الحكم المتفرج المجرّد من أي عاطفة وانحياز ، كيف يجري الصراع بين الشر - ممثلا بالشرطة الباحثة عن التأديب والإنتقام ، والسجناء الباحثين عن الخلاص ، والكفتان غير متكافئتين أبدا ، والفيصل بينهما هو : الماء ؛ الماء الذي تجففه الشمس عادة ، خصوصا في الصحراء . ومع حركة الصباح ، نامت الشمس مستغشية بثيابها ، ليصحو القمر ؛ ها هو يجد الرجال الثلاثة مختفين في أخاديد رمل الصحراء .. لقد أدت الشمس دورها المؤصل والجائر بإشعار السجناء بأن حياتهم متوقفة على رشفات الماء ، هذا قانون يصطبغ بصبغة مادية ، ولكنه ذو تصميم ماورائي . صار السجناء ، بعد الحركة الزمنية الأولى للشمس ( وهي الثانية بين الحركات الست ) يرشفون ماء الزمزمية بغطائها الصغير . لكن في هذه الليلة ( وهي الحركة الثانية للقمر ، والثالثة في زمن الهروب ) بدأ القصير الأصلع يشكو من ألم في كليتيه يشتد ساعة بعد أخرى خصوصا وأن العطش يهيجه بدرجة أكبر ، فصار الطويل يسقيه جرعات أكثر من الزمزمية فبدأو يواجهون احتمالا لا يقل خطورة عن خطورة الجلاد وهو الموت عطشا . كم هو هش ومتنفج هذا الإنسان ، إنه أشد ضعفا من أي كائن آخر مستضعف في هذه المعمورة المتضاربة المظاهر . هذا ما يحاول حامد الإحالة إليه من خلال حركة سريعة وجزئية ، لمحة عابرة لكنها شديدة الإيحاء ومحملة بالمعاني الكبيرة ، وهذا فعل القاص "الرائي" ، ففي الوقت الذي كان فيه ( القصير السمين يعتصر خاصرته والألم يغضّن وجهه ، انسابت من أمامهم أفعى رقطاء ، أخرجت لسانها ولطعت الرمل . تعلّقت أبصارهم بعينيها الجامدتين - ص 120 ) .
    لكن حامد يميل دائما إلى الضرب على أوتار الثيمة الواحدة في أكثر من موضع ، ضربات قد تبدو عابرة ، لكنها بالنسبة للقاريء المدقّق لمسات تساهم في خلق الأرضية النفسية لاستقبال ما هو لاحق من ناحية ، ولتصعيد احتدامات الموقف النفسي الكلي الصارم من ناحية أخرى ، بما يتناسب مع التوجه التقدمي للحركة الصراعية الحاكمة . قبل انزلاق الحيّة الرقطاء بمواقف قصيرة كان القاص قد قدم صورة أخرى للأفعى ، لكن في وقت انتشاء السجناء الثلاثة بظفرهم الهروبي ، وكأنه يحاول ، منفعلا بشخوصه ، أن يدق ناقوس الخطر المقبل ، ولو بصورة خافتة . كان على السجناء الثلاثة الذين ضربت نشوة الهروب ، بعد سني العذاب والمهانة ، غشاوة على بصيرتهم وبصرهم على حد سواء ن أن يلتفتوا دائما إلى العوامل الجزئية البسيطة ، ولا يتمنطقوا بالأطروحات والعبارات والشعارات الجسيمة التي امعنت في تغييب وعيهم ، وحسّهم النقدي . تروي الشمس ما تراه من توغل ظافر للسجناء في أخاديد القفر :
    ( انتصف النهار ، وها أنا الآن في السمت ، تحتي تتلظى الرمال ، تتلاشى آخر قطرة ندى جعلت عشب الصحراء مثواها . إنها الظهيرة . وفي الظهيرة يتجول سلطان الهجير ، ومن بين يديه ، تسيب أفعى السراب دائما ؛ من الأفق تتلوى ، يلمع جلدها كوجه الماء ، مخادعة أبصار العطاشى - ص 118 ) .
    إن أفعى السراب المجازية المخادعة ، تحولت بعد أن تفتحت أعين السجناء على حقيقة الموت ، إلى أفعى مادية حقيقية ، أفعى موت تلعق التراب وتنساب ، بتشف موغل في الأذى .
    هكذا ، ينسرح هذا الكيان الحيواني الصغير ، ببساطة ، ورهاوة ، حيث يتحمل كل مخاطر العطش ، لاعقا الرمل الجاف ، العطش الذي سيقضي عليهم قريبا . هل كانت هذه الحركة كافية لتهير السجين القصير الأصلع الذي سحقت جسده آلام الكلى التي كانت تتضاعف مع اشتداد العطش ؟ ممكن ذلك وشائع من الناحية النفسية ، وموظّف في الإبداع العالمي ، ولعل أروع تجسيد لذلك قام به ( ليو تولستوي) في روايته الشهيرة "أنا كارنينا" .
    لكن فوق خطر العطش ، هناك خطر الذئاب ؛ وها هو ذئب رمادي ينحدر نحوهم من إحدى (الكارات) . فطلب الطويل من رفيقيه أن لا يخافا ، لأن الخوف - كما هو موروث - يجذب الذئب ويجعله يتجاسر عليهم . للخوف رائحة كما يقول مظفر النواب في إحدى قصائده ، وقبله وليم فوكنر في إحدى قصصه القصيرة . وفي التفاتة مهمة يحذّر الطويل رفيقه القصير المتألم من كثرة الكلام لأنها تجفف الفم وتزيد عطشهم ، لكن القاص في حركة غير موفقة يصف عيني الذئب بأنهما متوهجتين مثل رؤوس سكائر السجناء ، ومن المعروف أن النيكوتين يسبب جفافا في الفم بدرجة أكبر ، كما أن توهّج السكائر قد يتسبب في كشف أماكن السجناء الذين كان عليهم أن يتحسبوا مهما كانت ثقتهم في أن الشرطة لن تسلك الطريق القفر ، هذا الوقت وقت تحسب لاحتمالات الحياة والموت ، وهو ليس وقت تدخين بالتأكيد . وهذا ما حصل فعلا ، فبلمحة بصر ، فتحت الصحراء فمها وابتلعت الذئب ، فشك الطويل - الذي يلعب الدور القيادي هنا - بأن هذا الحيوان شعر بما لا يشعروا به هم - وفي الحرب كنا نستخدم الحمامة لكشف ضربات الأسلحة الكيمياوية - فاختفوا سريعا في أحد الأخاديد ، وبعد دقائق من الخوف والترقب ، ظهرت سيارة مهربين . ولا أستطيع هنا تحديد السبب الذي جعل السجين الطويل يرفض فكرة القصير بالخروج من الأخدود وطلب مساعدة المهرّبين . قد يفسره التصميم الدرامي المسبق الذي رسمه القاص لحبكة قصته وحماسته لابطاله . فالمهربون لا يمكن أن يسلموا السجناء ، إذا رفضوا مساعدتهم ، إلى الشرطة لسبب واضح . وبعد ضياع هذه الفرصة التي لا تعوّض - ويجوز أن واحدا من أسبابها هو الشك في أن بعض المهربين يتعاونون مع الشرطة - بدأت آلام القصير الموجعة تتصاعد مع تقدمهم في المسير حتى أصبح يعيق رحلة فرارهم . حتى إذا سقط لاهثا ، عاد رفيقاه إليه ، وبدأ الطويل يستخدم معه نوعا من العلاج النفسي الكلامي الداعم ، مع جرعات الماء الذي أوشك على النفاد ، هذا العلاج يتمثل في الحديث إليه عن "شمس" الحرية التي ستشرق على وجودهم من جديد ، إذا صمدوا وتحصّنوا بالإرادة والإصرار الحديديين . وهي شمس مجرّدة تقف في موقف عجز فاضح أمام شمس الله الحارقة . لكن ظهر أن القصير يمتلك كلية واحدة ، فقد رفع الأخرى عندما كان طالبا في الكلية . ألم يكن من الضروري أن ينبه رفيقيه إلى هذا الأمر، خصوصا وأنه يعلم أن هروبهم لن يكون يسيرا ، بل عملية شاقة مليئة بالأهوال والمخاطر ، وأهمها خطر العطش في الصحراء ؟ يبدو أن رغبة الإنسان في الخلاص من مصيدة جلاده المدمرة ، وفعل اليأس الذي يساوي بين الموت والحياة ، قد جعلته يتخذ قرار الفرار ، غاضا الطرف عن كل الاحتمالات "العقلانية" :
    (بماذا يفكر السجناء الآن؟ ليتني أرى وجه المأمور لحظة اكتشافه هروبنا . إسمعا ، لا يهمني أن أموت هنا . المهم أنني حر الآن في الصحراء - ص 121 ) .
    بعد لحظات ، ورغم كل محاولات رفيقيه لبعث إرادة الحياة في أوصاله ، مات القصير . لكن هنا ستظهر حركة أخرى مُربكة ، فقد كنا نعتقد أن القصير قد أخفى عن رفيقيه عملية استئصال كليته ، وأنه اعترف بذلك لأول مرة وهو يلفظ أنفاسه ، لكن الطويل الآن يكتب اسم القصير على ورقة صغيرة لا نعرف من أين أتى بها ، هي والقلم ، ووضعها في علبة دواء أخرجها من جيب القصير . تعاون الرفيقان المتبقيان على حفر قبر لرفيقهما القصير الأصلع ، ودفناه وهما يبكيان ، ثم انطلقا بعد أن مسحا دموعهما في موازاة انفعالية محكمة يقوم بها القاص بين هذه الحركة ، وحركة القمر الذي يقول مختتما الحركة الثالثة :
    (مسحا دموعهما ، ومسحت أنا ضوئي عن الحجارة السوداء التي أصبحت هي شاهدة على قبره ، وتركتها لتستقبل ضوء الشمس - ص 122 ) .
    لكن هذه الحركة - وبتخطيط من القاص - تأتي مشتركة في خطين متوازيين ، بين الشرطة ومعها البدوي القوّاف ، وبين الأصلع والآخر الذي لم يكن طويلا ولا أصلع ولا قصيرا ولا سمينا . لقد كان المأمور يزعق بعد مطاردة فاشلة سلكوا فيها طريق النجوع الآمن ، فطلب الآن من البدوي القواف أن يسلكوا طريق القفر الذي سلكه السجناء الهاربون فعليا . في هذا الطريق ، طريق الهلاك ، بدأ السجين الآخر ، الذي لم يكن طويلا ولا أصلع ولا قصيرا ولا سمينا ، مع استفحال ضراوة اليأس من الخلاص ، يشكك في مشروع الهروب من أساسه :
    ( هل هم أغبياء كي يتركوا باب السجن مفتوحا للسجناء ليخرجوا ويدخلوا على راحتهم ؟ لا يا صديقي . إنهم متأكدون أن من يحاول الفرار ، إنما يهرب من السجن إلى الموت في هذه الصحراء - ص 124 ) .
    بدأ هذا السجين يفقد السيطرة على قواه العقلية ، وأخذ يهذي ، يخلع ملابسه ، وينبش الرمال بحثا عن الماء ، والطويل يحاول تهدئته مستخدما نفس طريقة العلاج "النفسي" المطمئنة لكن المخدّرة . وعندما يموت السجين ، تقترب سيارة الشرطة مستدلة بحركة العقاب التي تحاول الظفر بعيني الميت كما يقول القاص ، فيهرب السجين الطويل ويختفي ، ويحمل رجال الشرطة جثة السجين إلى السيارة . وفي لمحة ذكية ، يشير القاص إلا أن البدوي القواف ، الذي كان المأمور يتأفف من رائحته ، قد شاهد آثار قدمي الطويل الأصلع ، وعرف انه يختبيء في أخدود قريب لكنه لم يخبر المأمور ، فهو أكثر رحمة منه . تبقى هناك جذوة تعاطف تتململ في نفس الإنسان ، مهما كان ركام رماد الخضوع والحاجة واليأس .
    وتتصاعد الوقفات التحرّشية التي هي من أهم دروس هذه القصة ؛ فالسجناء يُحطمون في السجن ، ويموتون عند الفرار يأسا تحت أنظار الله . حتى الشمس تعلن عن خجلها عندما ينظر إليها السجين الطويل الذي بقى وحيدا بعد موت رفيقيه عطشا ، وصار يتوقع المصير نفسه الآن . هذا الشجاع القيادي ذو الشخصية المسيطرة ، الذي كان ينفخ في روح رفيقيه اليائسين نفحات الأمل والحرية القريبة المخادعة ، بدأ "ينكص" ، فيستعيض عن الإرادة وأطروحات الصمود والعزم ، بالتمنيات الخرافية من جانب ، وبالمخاطبة الرومانسية للقمر من جانب آخر ؛ القمر هذه الكتلة الصخرية الصفراء الصمّاء في مخاطبة تكشف بوادر إنهياره النفسي ، خصوصا حين يبدأ باستعادة سعادات حياته العائلية المفقودة . وهو يحدث القمر وكأنه بديل عن القوة الكونية الكبرى التي تتحكم بحركة وأفعال مكونات هذا الوجود من عل :
    (يا قمر الدنيا ؛ يا من تبزغ في كل ليل على الأحرار والمكبلين ؛ على الظالمين والمظلومين ، ليتني أملك جناحي البراق لطرت إليك ..أنظر إلى سطح دارنا حيث يرقد أهلي .. و (أشياف) الرقي مكشوفة تحت السماء، وهناك تغفو طفلتي .. إنني عطشان .. عطشان جدا - ص 126 و127 ) .
    ومثل حال "جوليان سوريل" بطل "ستندال" في"الأحمر والأسود" الذي يقول ، وهو في طريقه إلى المقصلة :
    ( آه - شيء غريب - منذ أصبح محتما أن أموت ، تعود إلى ذاكرتي ، كل أبيات الشعر التي عرفتها طوال حياتي - هذه علامة الانحدار )
    .. فإن رفيقنا الأصلع ، بدأ يستعيد تفصيلات الحياة الناعمة والهانئة ، وهو بين راحتي الموت الخشنة والخانقة . لكن في هذا الخطاب الذي وجهه الهارب ، متوسلا بلا رجاء ، إلى القمر ، تحصل "زلة" تفشي ما يجب أن يثضمر إلى النهاية ؛ شيء هو الجزء الجوهري من الحركة الختامية في القصة ، هو روح الذروة ، ولحظتها التنويرية الكاشفة والصادمة في الوقت نفسه . لقد استعجل "حامد" في كشف الجزء الأروع من نصّه في موضع استباقي لم يخدم اللحمة الدرامية للنص أبدا ؛ هذه اللحمة التي أشاد معمارها على ركائز راسخة ومتقنة ، فقد جعل السجين الأخير الذي يتهدده الموت عطشا يقول وهو يخاطب القمر :
    ( أنا عطشان .. عطشان جدا .. العطش يحرق كبدي . ليتني أصل إلى السجن . نعم . أرضى ، الآن ، بكل سجون الدنيا مقابل قطرة ماء . أسمعت أيها القمر ؟ - ص 127 ) .
    وفي مسار هذه الحركة شبه الختامية ، وهي الخامسة بين ست حركات ، يصف لنا القمر ، وبصورة موضوعية ، عززتها التجارب العملية الكثيرة ، التي شاهدها عن عذابات الهاربين السابقين من السجون ، ومراحل انخذال إرادتهم ، وتدهور معنوياتهم ، منطلقا - وكأنه يتشفى بصورة مغطاة من صرخة السجين الأخير السابقة : (العطش يحرق كبدي ) - من تأثيرات خنجر العطش حين ينغرز في كبد السجناء الفارين المحطّمين ، حيث تستولي الحاجة للماء على كل مداركهم وحواسهم ، فلا يبصرون ولا يسمعون ولا ينطقون إلا باسم الماء ، ثم : ( يتجردون من ثيابهم ، ويسيرون عراة . ينبشون الرمل بحثا عن الماء. وبعد أن يعجزوا تماما ، ينطرحون على ظهورهم ، ويستسلمون لمصيرهم ، وقد تُجهز على جثثهم الصحراء ، أو تدفنهم عواصف الرمال .. ها قد بدأ يحدث ما تحدثت عنه - ص 128 ) .
    لكن يبدو أن القمر لن يعرف بما ستعرفه الشمس ، وهذا درس بليغ ، والقصة الحديثة ليست حكاية أفعال ، بل حكاية تأملات عميقة في أسرار النفس البشرية ، حكاية "فلسفة" تغوص في أعماق هذه النفس المظلمة وتواجه غيلانها . لكن ، وحسب "فلسفة" حامد فاضل ، لن يروي لنا القمر ، إلا نصف الحقيقة ، وهي حقيقة تأتي عادة في حلة "رومانسية" خادعة ، في حين ستعرف الشمس النصف الآخر ، الذي يأتي مدويّا ، فيكتسح كل المسلمات الباردة التي تأسست تحت " ضوء القمر البارد " . لقد "سمّم " أفكارنا القمر ، وصاغ توقعاتنا وفق المسار الخرابي المرعب الذي يحصل لكل الهاربين عادة ، والذي كان "يصوّر" نهاياتهم الفاجعة بلا نأمة تدخّل . وقد رسم هذه التوقعات وهو يرى نهاية السجين الهارب الأخير ، وكيف سقط في دوامة الإضطراب الذهاني : ( الليل يمضي ، وتمضي معه ، قوى الطويل الأصلع ، الذي صار يمشي عاريا الآن . الضوء يقترب ، والصبح يقترب ، وأنا أبتعد . ها هي نجمة الصباح تنبهني للرحيل . لقد باتت تقاطيع جسم الصحراء واضحة تحت غلالة الصباح - ص 128 ) .
    وقد يكون القاص قد أحس "من حيث لا يدري " ، بضرورة الإخلاص لتماسك النسيج الدرامي للقصة ، فحاول ، بذكاء ، التعتيم على النهاية التي أفشى جوهرها قبل لحظات ، فجعل القمر يضع نهاية مرسومة ، نهاية محكوم عليها بالخراب والدمار المسبق ، وتتمثل في الهروب والعطش والهذيان الذي يتوج بالموت كما حصل للسجينين السابقين ؛ القصير والآخر الذي لم يكن قصيرا. ثم يأتي ليباغتنا بالنهاية الرائعة التي ستدهشنا فنيّا ، فمع بزوغ الشمس ، وصعودها من هوة كسلها الكوني الموروث ببلادة ، إلى سمت "المعرفة" والتحليل النشطين ، رأت المأمور يعد العدّة لرحلة مطاردة جديدة ، يقبض فيها على الطويل الأصلع ، وهو السجين الفالت واليائس الأخير الذي لم يقبضوا عليه . كانوا الجلادون يعتقدون أن السجين الضحية ؛ الطويل الأصلع ، قد أفلت ، وأن عليهم أن يجددوا المطاردة من جديد ، لكن الإنسان ، عندما تنفلت نوازعه العدوانية السادية ، يصبح مخيفا وباطشا ، وتتحاشاه حتى الآلهة . عندما يشعر الإنسان بأنه قادر على أن يتحكم في مصائر البشر الآخرين ، فإن هذا الشعور يوفّر له إمكانات إله ، ألهذا كانت الآلهة الرافدينية الأسطورية مثلا شديدة النزق ، تقتل ، وتسكر ، وتضاجع محارمها ؟ هل اشتقت هذه الصورة من الوجه الوحشي المخفي في لاشعور الإنسان ؟ هل صورة الآلهة المدمرة المكفهرة "مُسقطة" من دواخلنا الهائجة على الخارج ، إلى مواضعها الماعالية لتصبح أشد رهبة وتغريبا فلا نكاد نتعرف عليها ؟ حين يموت الله ، معنى ذلك أننا نستطيع فعل أي شيء ، هذا ما قاله "دستويفسكي" على لسان أحد أبطاله في " الأخوة كرامازوف" ، وبالنسبة للجلاد ، فإن الله ميت ، وبالتالي ، فهو يستطيع فعل أي شيء ، أي شيء .. بأخيه الإنسان .. وحين تحاول الضحية تأكيد قدرتها على الفعل والتمرد والخلاص ، بما يشعرها بإنسانيتها ، فإنها ، في الوقت نفسه ، تُشعر الجلاد بأنه قد فقد "حصانته" وهجاسات "قدرته الكلية - omnipotence " . لكن حامد يصوغ نهاية شديدة البلاغة لقصته هذه ، نهاية تلخص المعاني النفسية والفلسفية التي ذكرناها عن اشتراطات ونتائج عدوان الإنسان على أخيه الإنسان ، وهذه النهاية الكاشفة تجري ، كما هو متوقع ، تحت عيني الشمس في الحركة السادسة والأخيرة . تروي الشمس المشهد الأخير الذي شاهدته :
    ( تنفس الصباح فأيقظني - طبعا العكس هو الصحيح : الناقد - أرى المأمور في الساحة .. يوزّع أوامره لجولة أخرى من البحث . السلاح مشرع والشرطة مستعدون . وهناك رجل عار طويل أصلع يترنح مقتربا من بوابة السجن . عرفه المأمور ورآه الشرطة يسقط عند البوابة ، وأراه أنا الآن مستلقيا على ظهره ، ووجهه باتجاه السماء . عيناه مفتوحتان على سعتهما ، تغرفان من ضوئي ولا تطرفان ، وفمه مفتوح صراخا صامتا ، أسمعه يتردد ، كل صباح ، في صمت الجدران الموحش - ص 128 و 129 ) .
    وهذه هي صرخة الضمير التأنيبية ، التي تتردد في أرجاء الكون ، وتسمعها الشمس ، عين الله ، إلى اليوم ، وإلى الأبد ، حتى بعد أن مات السجين الأخير ، لائذا بجلّاده ، تصوروا الضحية تعود محتمية بجلادها !!،

    هوامش:
    -----------
    (1)من مجموعة (المفعاة)- حامد فاضل -دار الينابيع - دمشق - 2010 .
    (2)من مجموعة (حكايات بيدبا)- حامد فاضل - دار الشؤون الثقافية- بغداد- 1994- منشورات إتحاد الأدباء.
    (3)من مجموعة (ما ترويه الشمس ، ما يرويه القمر)- حامد فاضل- دار الشؤون الثقافية - بغداد- 2004 .

    حسين سرمك حسن
    يا محوّل الحول والاحوال ، حوّل حالنا إلى أحسن الحال......








  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Oct 2005
    المشاركات
    1,948

    افتراضي

    مشكورة اختي العزيزة على هذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
 
شبكة المحسن عليه السلام لخدمات التصميم   شبكة حنة الحسين عليه السلام للانتاج الفني