منذ طفولته المبكرة، في السنِّ الّتي يتعلَّم فيها الإنسان القراءة والكتابة، بدأ سماحته الدَّرس في "الكتاتيب" عند شيخٍ يكاد يكون أميّاً في ثقافته، وإن كان يملك بعض المعلومات في القراءة والكتابة دون أيّة إمكانات فنيّة ومعرفيّة في المسألة التّربويّة، علماً أنَّ المدرسة شيء لم يألفه الوسط العلميّ آنذاك، لأنَّ هناك الكثير من التّهاويل الّتي كانت تعشعش في الذّهنيّة الدينيّة حول المدرسة باعتبارها نتاج الغرب، حتّى إنّ الدّخول إليها كان من الأمور المستنكرة...
درس سماحته مدّةً عند هذا الشَّيخ ولم يمكث طويلاً، وكانت طريقة التَّعليم تقوم على الكتابة على لوحٍ يحتفظ كلّ طالبٍ بقطعة منه، أمَّا القراءة، فكانت تقليديَّة عبر تقنية الاستظهار..
وكان السيِّد يشعر كما غيره من الأطفال، بأنّ المشرف على هذا الكتّاب يميّز بعض أبناء الوجهاء الكبار، ثمّ نقل سماحته إلى كتّاب ثانٍ قريبٍ من البيت، وكان المشرف عليه شيخاً كبير السّنّ، أعرج، كما كان شديداً على طلابه – حسب ما ذكر سماحة السيد، ثم ما لبث أن انتقل إلى مدرسةٍ دينيَّةٍ عصريّةٍ من قِبَل جمعيّة "منتدى النشر"، وكان السيّد في العاشرة من عمره عندما امتحنت معلوماته، وتقرّر وضعه في الصّفّ الثّالث ابتدائي، وبسبب اجتهاده وتفوّقه، رُفع إلى الصّفّ الرّابع..
لم يتمكَّن السيِّد من متابعة دراسته في هذه المدرسة الحديثة الّتي استقطبت العديد من التّلاميذ اللامعين، ومنهم السيِّد محمد باقر الصَّدر، والّذي صار صديقاً حميماً لسماحته، ولقد كان لخروجه من المدرسة أثر في نفسه، ولعلَّ الإمكانات الماديّة لم تكن تسمح له بالمتابعة حسبما يُستشَفّ من كلامه، والمفصل البارز في مسيرته العلميَّة، كان انتقاله إلى مرحلة الدّراسة الدينيّة، وما طبعها من طابعٍ غنيّ ومتنوّع، ساهمت إلى حدٍّ كبير في تكوين شخصيَّته العلميَّة المتميّزة منذ البدايات الأولى..
فالسيِّد انتسب إلى الحوزة العلميَّة حوالى سنة 1363هـ، وكان عمره آنذاك إحدى عشرة سنة، وقد استمرَّت دراسته حتّى سنة 1385هـ، أي أنَّ مدّة دراسته الحوزويَّة كانت حوالى اثنتين وعشرين سنة.
أستاذه الأوّل، هو والده السيِّد عبد الرؤوف فضل الله (1907-1984م)، أحد كبار علماء الدّين في النّجف وجبل عامل، ومن الشَّخصيّات المعروفة بالقداسة والتّقى والورع، تخرّج على يديه الكثير من العلماء والأدباء..
تتلمذ سماحته إذاً، وبدايةً في مرحلة مقدّمات العلم الدينيّ على والده، وقرأ كتاب "الأجرومية"، وهو أوَّل كتاب في النَّحو، ثم كتاب "قطر النّدى"، وكثيراً من كتب الصَّرف، والمذكور أنَّ ارتداءه العمامة كزيٍّ دينيٍّ، كان في سنِّ الثّانية عشرة أو الثّالثة عشرة، فالمتعارف عليه، كان أن يلبس الطالب العمامة أو الزي الديني مبكراً ..
يُذكر أنَّ المرحوم السيِّد محمد سعيد فضل الله(قده)، عمّ سماحة السيِّد، هو من قام بشراء ملابسه الدّينيَّة حسبما يذكَر سماحته، وربّما كان سماحته يعيش الزَّهو في ذلك، تماماً كما يشعر الشابّ أو الفتى بأنّه صار رجلاً. وبعدها تَّدرّج في الدراسة الحوزية على يد كبار العلماء أمثال السيِّد الخوئي والسيِّد الحكيم، والشيخ صدرا الباركوبي في ميدان الفلسفة...
وهكذا عاش سماحته في جوٍّ علميّ وُسِمَ بأسلوبٍ يقوم على تدريب الطّالب على مناقشة أستاذه منذ بداية دراسته، بحيث لا تتمثَّل الدّراسة باستظهار الطالب لما درسه، وإنّما بوعيه له، واللافت أنَّ بعض الأساتذة كان يقول له كدلالةٍ على مميّزات الجوّ العلميّ آنذاك: "إنَّ عليك أن تجتهد بحجمك في كلّ كتابٍ تدرسه، بحيث تفكّر في أن تناقش صاحب الكتاب"...
وكان هناك جوٌّ من الحريَّة يسمح للتّلميذ بالتَّعاون مع أستاذه، فيناقشه قبل أن يستكمل درسه عند كلِّ نقطةٍ من النِّقاط الّتي تثير علامات استفهام، إضافةً إلى المجالس المعقودة للمذاكرة العلميَّة.. هذه المجالس كانت تمثِّل حالة التوتّر العلميّ والفكريّ الّتي يستطيع من خلالها الطّالب المجتهد أن يصل إلى نتاج فكري مميَّز يسبقُ عمره، وهذا ما حصل مع السيِّد في بداية دراسته لعلوم العربيَّة، حيث اهتدى إلى مسألةٍ من النَّظريَّات الأصوليَّة، وهي هل إنّ العام في الخاص حقيقة أم مجاز؟ وهو لا يزال في مرحلة دراسته الألفيّة...
وهكذا كان يعيش عمق التَّفكير عن طريق هذا الجدل العلميّ الأسبوعيّ، إضافةً إلى أنَّ في النَّجف الأشرف تقليداً، هو أنَّه عندما ينتهي الطَّالب من درسه، يتذاكر في الدراسة مع طالبٍ آخر أو أكثر، فيكرّر كلّ واحد منهم ما درس أمام الآخرين..
وبذلك يتعلَّم الطَّالب مسألة إلقاء الدّروس، ويتلقَّى دورةً تدريبيَّةً في التَّدريس بصورة مبكرة، إضافةً إلى النّشوء في قلب الجوّ الأدبيّ، فالنّجف، مع أنّها حوزة علميّة متقدّمة ترقى إلى أكثر من ألف عام، هي مدينة أدبيَّة شاعرة خرّجت الكثير من الأدباء والشّعراء، وما من شاعرٍ إلا وتأثّر بها، حتّى الشّعراء المحدثون، كالسيّاب وغيره..
في هذا الجوّ الكثيف من العلم والأدب، بدأ تكوين شخصية سماحته بالنّضوج، وبدأ الذّكاء المفرط مع قوّة الحافظة بالبروز، ما شكَّل عامل تفرّد وتفوّق في ميدان الفقه والاجتهاد، رفده بأفكاره التنويريَّة التجديديَّة، مستنداً إلى وعيه العميق وحضوره البارز في قلب الأحداث...
وعمليّاً، نرى انعكاس ذلك في مجمل فتاويه الجريئة الّتي تعالج مشاكل النَّاس بما تقتضيه متطلّبات العصر، فيطلقها حلولاً واقعيّة لكلّ التّساؤلات والإشكالات التي يواجهها الإنسان في واقعه المعقَّد..
التاريخ: 20 رجب 1432 هـ الموافق: 23/06/2011 م