المستشار الاعلامي والسياسي للمرجع فضل الله :
هذه ذكرياتي مع السيِّد






محطَّات من ذكريات كثيرة، صاغها التَّاريخ الجهاديّ والنّضاليّ الإسلاميّ لسماحة العلامة المرجع، السيِّد محمَّد حسين فضل الله(رض)، يرويها تلميذه ومستشاره الإعلاميّ، الحاج هاني عبد الله، متوقِّفاً في الذّكرى السَّنويَّة الأولى لرحيل سماحته، عند محطَّاتٍ تبرز بعضاً من السِّيرة العطرة الّتي كتبها سماحته بحبر المعاناة والجهاد والحركة والتَّعب.. عن السيِّد المتواضع، عدوّ الرّاحة، الدّاعية، وعن الأيّام الأخيرة، وما بعد الرَّحيل.. بعض من ذكريات....

وفي مقاله الذي نشره موقع بينات ، يعود عبد الله إلى العام 1986م حيث يقول: استمعت إلى أحد أمراء الحرب، كان يقول أنا أختلف مع السيّد فضل الله 180 درجة، ولكنّي لا أحترم شخصاً مثل هذا الشَّخص.. لأنّه صريح وواضح.. وأذكر أنه في أعقاب الحرب، وفي أوّل زيارة قام بها رئيس حزب الكتائب، وهو جورج سعادة، إلى منزل سماحة السيّد، كان يسأل، وكان سماحة السيّد يجيب، وكنّا نشعر بعلامات التعجّب باديةً على وجهه، إلى أن قال له: أنت تفاجئني يا سماحة السيّد.. فقال سماحته: لم أفاجئك؟ قال: لأنّك لست كما تتحدّث.. قال له سماحة السيّد: بل أنا كما أتحدّث، ولكنّ المشكلة أنّكم كوّنتم فكرةً عنّي من خلال وسائل الإعلام، وخصوصاً وسائل الإعلام الغربيّة... وكانت الجلسة مطوّلةً، وأذكر أنّه في نهايتها، قال جورج سعادة لسماحته: لقد أتيت إلى هنا وأنا أعتبرك عدوّي اللّدود، أما الآن، فأقول لك: أنت مرشدي دون محاباة. واستطاعت هذه الجلسة أن تفتح السّاحة الإسلاميّة على السّاحة المسيحيّة.

وعن سمو الاخلاق عند المرجع السيد فضل الله يذكر عبد الله ان احدهم جاءه بسؤال ذات يوم يقول: إنَّنا اغتبناك، فهل من مسامحة؟ فأجاب سماحته: أنا أسامح من اغتابني ومن يغتابني ومن سوف يغتابني، ولن أكون حجر عثرةٍ في طريق مؤمنٍ إلى الجنَّة..

وعن ذكرياته في أيام الحرب، يقول عبد الله : أستطيع أن أتحدَّث عن سماحة السيّد في أيّام الحرب الصّعبة والقاسية جدّاً، أذكر أنّنا كنّا في أواخر الحرب الأهليّة اللّبنانيّة، والجميع يعرف أنَّ سماحة السيّد كان يصرّ على الذّهاب إلى مسجد الإمام الرّضا(ع) في بئر العبد، لقراءة دعاء كميل بنفسه، وفي يومٍ من أيّام الحرب، وفي ليلة الجمعة، كان القصف يشتدّ على هذه المنطقة، وبالتَّحديد على منطقة حارة حريك وبئر العبد، وفي ذلك الوقت، كان القصف يتساقط عشوائيّاً في جوار المسجد، وأخبر سماحته الأخوة المرافقين بأنّه سينزل إلى المسجد، فاستغرب الإخوة وتساءلوا كيف ننزل والقصف يتساقط، فقال سماحته: "اتَّكلنا على الله". وأذكر أنَّ سماحته ذهب إلى المسجد، ولم يكن أحد يتوقّع أن يأتي سماحته في مثل هذه الظّروف.

وعن الحروب الصهيونيه، يقول هاني عبد الله : الكل كان يعرف أنَّ سماحته لم يكن ليترك النَّاس في أيِّ لحظةٍ من اللّحظات.. وكان أن دكت الطّائرات الإسرائيليّة أماكن قريبة في حارة حريك، وكان سماحته يصرّ على أن لا يترك النّاس وأن يبقى معهم، مع أنّ الكثير منهم تركوا مناطقهم .. في حرب تموز مثلاً، من العام 2006، وفي اليوم الثاني للحرب، قلت لسماحته إنّ الحرب أصبحت تنذر بالشّيء الخطير، ويبدو أنها كبيرة وشاملة، وعليك أن تذهب إلى الشّام، لأن هذه المنطقة ستدمَّر على ما يبدو، فكان ينظر إليَّ نظرة استهجانٍ، وكأنه يقول لي: أنت لا تعرف من أنا، ولم تعرف مواقفي.. وفي نهاية المطاف قال لي: أنا لا أترك النّاس.

لم يترك سماحة السيّد النّاس، حتّى عندما كان الناس كلهم تقريباً قد خرجوا من الضّاحية الجنوبيّة، كان هو لا يزال فيها، والكلّ يعلم أنه كان في محراب المسجد عندما سقط منزله بفعل غارتين صهيونيّتين.. حتى الشّباب الذين كانوا برفقة سماحته، عندما كانت الأبنية تتساقط وهو في جوار المسجد، قال لي بعضهم إنّ الغبار كان يتصاعد عليهم، ومع ذلك، لم يكن يرفّ للسيّد جفن، وكان يشعر باطمئنان غير عاديّ وبقوة غير عاديّة، وكان يردِّد كلمته الشهيرة: قوَّتي حبّ النّاس، ونقطة ضعفي حبي للنّاس.

وعن الأشهر الأخيرة من حياته، يقول الحاج هاني عبد الله : وعندما كنا نتحدَّث إلى سماحته في تلك المرحلة، شعر الجميع بأنَّ صوته كان متهدّجاً، ولكنَّه كان يصرّ على الأطبَّاء أن يحلّوا مشكلة الصَّوت، لأنَّ هذه المشكلة هي الّتي تضع حاجزاً بينه وبين النَّاس.. كان في ذلك الوقت، يصعد إلى منبر خطبة الجمعة، وكنت أستمع إلى أحد الإخوة في مسجد الإمامين الحسنين يقول: انظروا، هكذا تكون مراجع الدِّين، انظروا مرجعاً في آخر حياته يصرّ على أن يصعد إلى المنبر، وأن يتكلَّم مع النّاس، وهو يحمل على الأيدي والأكتاف ليستطيع النزّول من المحراب..

وفي جانب آخر تحدث هاني عبد الله عن استماعه إلى الكثير من المشايخ والعلماء ممّن أتوا ليطلبوا المسامحة، وكان يسامحهم جميعاً، ويقول لهم: أنتم من البيت وأنتم أولادي، حتَّى ولو أسأتم إليّ، سامحكم الله..

وعن اللحظات الاخيره للرحيل تحدث الحاج هاني عبد الله: أذكر أنني في اللّيلة الّتي سبقت وفاة سماحته، كنت أسأل طبيبه عنه، فكان يقول لي: إنّ قلب هذا الرّجل لا يستسلم.. تماماً كما نفس السيّد الّذي لم يكن ليستسلم لأيِّ شيء.. وكنَّا نعيش لحظات الفراق بكلّ قساوتها وألمها.. في تلك اللّحظات، لم نكن نشعر بأنَّنا يمكن أن نأخذ قسطاً من الرّاحة أو لحظةً أو غمضةً من عين.. كنّا نشعر بأنّ الدّنيا تفارقنا إذا فارقنا سماحة السيِّد.

في آخر اللّحظات، نزل الطّبيب وقال لابنه السيّد أحمد: ثمة بضع دقائق ثم يتوقّف قلب سماحة السيّد.. وهذا ما حصل..

لا أريد أن أتحدّث عن اللّحظة الّتي شعرت فيها بأنّ الدّنيا كلّها اسودّت عندما نظرت إلى سماحته، وكان ذلك القلب الكبير قد توقَّف عن الخفقان، لأنّني أعتقد أنّ هذه اللّحظة لن تفارقني في كلّ حياتي، لأنَّني كنت أشعر بأنَّ هذا الشّخص الكبير جدّاً الّذي قدَّم كلّ ما في جعبته للإسلام، والّذي كان مثلاً يحتذى، كنت أشعر بأنَّه يقول لي وأنا أنظر إليه في تلك اللَّحظات، وإلى وجهه الّذي كان يتدفّق منه النّور، يقول لي ما قاله عليّ(ع): "أنا بالأمس صاحبكم، وأنا اليوم عبرة لكم، وغداً مفارقكم... وستعقبون منّي جثة خلاء، ساكنةً بعد حراك، وصامتةً بعد نطق، ليعظكم هدوّي وخفوت أطرافي، فإنّه أوعظ للمعتبرين من المنطق البليغ".