المنبر الحسيني
في رؤى وتطلّعات
المرجع فضل الله





كانت حركة المرجع الرّاحل العلامة السيّد محمّد حسين فضل الله(قده)، المنطلقة من إحساسه العميق بالمسؤوليَّة الكبيرة الملقاة على عاتق كلّ مسلم يعيش تحدّيات هذا الزمان في أبعادها المختلفة، وفي شدّة متغيّراتها وتنوّع صورها وعمق مرتكزاتها، وكانت تقع على عاتقه هو على وجه التّحديد، من خلال الموقع ـ الّذي كان يشعر ويصرّح في أكثر من مرة ـ بأنّه يطلّ من خلاله على كلّ الواقع في العالم، باعتباره المسؤول عن كلّ الحالة الإسلاميّة.. كانت حركته ذات أبعاد متعدّدة على المستوى الفكريّ والرّوحيّ والسياسيّ والثّقافيّ والاجتماعيّ والتّربويّ.

ومن هنا كان للخطاب الإعلامي المتعلّق بالنّهضة الحسينيّة في فكره حيّزٌ واسع، إذ أولاه عنايةً خاصةً في الكثير من المناسبات، ولا سيّما حين كان يرصد التّعاطي القاصر أو السّاذج أو الخاطئ في السّاحة الإسلاميّة عامّةً ـ والساحة الموالية لمدرسة أهل البيت(ع) على وجه الخصوص ـ الأمر الذي كان يدفعه إلى الحديث مرات ومرات حول حقيقة تلك النّهضة في منطلقاتها ومفاهيمها ومعطياتها، وفي الكيفيّة الإيجابيّة للتعاطي الروحيّ والعقليّ والعاطفيّ والإعلاميّ معها، بما يطلقها من قمقم الماضي والتّعصب والتمذهب، إلى آفاق الحاضر والمستقبل، ورحابة الإسلام، وشمولية المضامين الإنسانية.

وعلى الرغم من حساسية النقد في هذا الإطار عند الكثيرين ـ وإن كان النقد إيجابياً وبنّاءً ومتناغماً مع المعطيات الشرعية والواقعية ـ إلا أن المفكر الراحل لم يكن ليجامل في الأمر على حساب القضية التي كان يؤمن بأن من مسؤولياته أن يتفاعل معها بما يخدم الأهداف العامة للإسلام، والخاصة بالنهضة الحسينية، وإن كلّفه ذلك الكثير من المواقف السلبية والكلمات الجارحة التي كان يطلقها الآخرون الذين اختلفوا معه، أو حاربوه في مشاريعه الإصلاحية.

الدّور الحضاريّ للمجالس الحسينيّة:

لم تقتصر قراءة السيد(قده) للخطاب الإعلامي المتعلق بالنهضة الحسينية على النقد فقط، بل كان يؤكد عراقة المجالس الحسينية والأدوار المهمة التي تنهض بها على المستويات المختلفة، ولا سيما أنها تستقطب الجماهير بصورة يقلّ نظيرها، بل وتستقطب حتى أولئك الذين قطعوا علاقتهم بالأجواء الدينية العامة. قال(قده): "إنني أتصور أن مسألة إحياء ذكريات التاريخ ليست أمراً غير إنساني أو غير حضاري، فإننا نجد العالم كله، مع اختلاف اتجاهاته، يحتفل في كل سنة بذكرى، قد تتصل بانتصار وطني، أو قومي، في معركة ترقى إلى مئات السنين، أو لمأساة من المآسي التي قد تكون نتيجة وضع صراعي أو سياسي معيّن، مما يرقى إلى عشرات أو مئات السنين أيضاً. وكذلك، فإننا نجد أن الحاضر في كل مواقعه لا يعيش انفصالاً عن التاريخ، بل نجد أن الإنسان الذي يحاول أن يؤكد نفسه، وأن يؤصّل مرحلته، ويركز خطواته في الاتجاه الذي يريده في تقدّمه وتطوره، لا يزال يشعر بأن هناك في التاريخ نقاطاً مضيئة، يبقى استحضارها حاجةً لكلّ مرحلة من المراحل التي يعيش فيها نوع معيّن من الظلام، أو أن فيها درساً لا يرتبط بمرحلة معينة، بل يرتبط بالحياة كلها".

اعتبر المرجع الراحل أن من الخطأ تقييم هذه المجالس وكأنها موجهة من طائفةٍ نحو أخرى تحمّلها من خلالها مسؤولية ما جرى على أرض كربلاء


قضية الحسين للجميع:

وفي ذات الإطار، اعتبر المرجع الراحل أن من الخطأ تقييم هذه المجالس وكأنها موجهة من طائفةٍ نحو أخرى تحمّلها من خلالها مسؤولية ما جرى على أرض كربلاء، وتستثير من خلالها الضغائن، فقال: "إننا نستطيع أن نستوحي من هذا أننا لا نحمّل الشيعة وزر بعض السلبيات التي عاشت في خلاف السنة والشيعة في الماضي، أو نحمّل السنّة الموجودين خلافات ما جرى على الشيعة سلبياً من السابقين، بل إنّ الشيعة والسنة الآن يعيشون عصراً واحداً ومرحلةً واحدة، وتبقى هناك وجهات نظر في فهم الإسلام، أو في حركيّة الإسلام، أو في تقديس هذا وتقديس ذاك، تبقى هذه وجهات نظر يمكن أن نتحاور حولها، أما المعطيات التاريخيّة، فهي ليست مسؤولياتنا، ولا يجوز أن نتراشق مع بعضنا البعض على هذا الأساس".

ضرورة النقد البنّاء:

يبدو أنَّ من طبيعة الإنسان الشَّرقي أن يفرط في الحساسيّة من النّقد، إضافةً إلى حساسيّة الدّائرة التي يرتبط بها النقد، كأن يكون نقداً لشخصيّة يقدّسها النّاس ـ وإن لم تكن مقدّسة في واقعها ـ أو لأمر يرتبط به الناس عاطفياً لمديات بعيدة، أو لعنوان خصّه النّاس بالتعالي على أية إشكالات يمكن أن تعتريه، لذا أكّد السيد(قده) أنّ نقد المجالس الحسينيّة لا يعني بحال محاولة إضعاف هذه المجالس أو توهينها، بل هو نقد ضروري في المسيرة التي يفترض بها أن تكون تكامليّة لأي مشروع دينيّ وثقافيّ وإعلاميّ وتربويّ واجتماعيّ.

يضاف إلى ذلك، أنّ شريحةً من جمهور هذه المجالس، بات يتحدث علناً في إطار نقد بعض ما يقال ويجري فيها، بل إن البعض فضّل الانسحاب نهائياً ومقاطعتها، علاوة على الشريحة التي سجّلت ملاحظاتها على هذه المجالس، فكانت منطلقاً لابتعادها عن مدرسة أهل البيت(ع) بصورةٍ تامة.. ناهيك بتلك التي ترصد وتترصّد كلّ زلة، لتسجّل نقطة هنا ونقطة هناك على ما يمارس ضمن أجواء مدرسة أهل البيت(ع) بعنوان الشّعائر، وعلى ما يقال على المنابر بعنوان عقيدة هذه المدرسة وفكرها.

ثمّ إنّ هناك مسؤولية شرعية واعتبارية ملقاة على كلّ مسلم في أن يعي ما يقال، وأن يستمع عن تبصّر وتفكّر، لأنّه مسؤول عن تبعات ما يأخذه عن الآخرين.

ـ إدخال الإسلام في العصر:

واعتبر السيد(رض)، أنّ من أهم مسؤوليات القائمين على التبليغ الدينيّ، ربط التعاليم الإسلاميّة بالواقع الفكريّ والسياسيّ والتربويّ والاجتماعيّ والأخلاقيّ الذي يعيشونه، لأنّ الإسلام أولاً وأخيراً هو الدين والشّريعة التي رسم الله تعالى معالمها حين بعث نبيّه الأكرم(ص)، وحين أنزل معه القرآن الكريم نوراً مبيناً، كلّ ذلك بهدف إخراج الناس من ظلمات الواقع الذي يعيشونه، إلى نور الحياة التي يتزودون من خلالها للحياة الآخرة، ويقتبسون من نورها نوراً في ظلمات الآخرة.

ولذا كان حبس الإسلام في تعاليمه وشرائعه في غياهب الماضي، والاستغراق فقط في مفردات التاريخ والأبعاد النظرية المجرّدة والترف الثّقافي، واحداً من أكبر الأخطاء التي قد يُقدم عليها القائمون على الشأن التبليغيّ والإرشاديّ، أياً كان عنوانهم أو موقعهم، وسواء أكان من خلال المنبر الحسيني أم غيره. ومن هنا كان إصرار السيد على أن تكون مجالس العزاء الحسينيّ في مقدمة الوسائل لربط التعاليم الإسلامية بالواقع، وإن عارض ذلك أصحاب الرأي الآخر الذين يريدون لهذه المجالس أن تنأى بنفسها عن هذه العناوين، وتبقى مقتصرةً على استعراض أحداث الثورة الحسينية في أبعادها المأساوية لا غير، معتبراً أنّ اهتمام أهل البيت(ع) بإقامة مجالس العزاء الحسيني ـ ولو بصورته البسيطة ـ لم يكن بعيداً من غرض تحريك واقع المسلمين وفق المنهج الإسلاميّ.

إنّ من مفاتيح تحقيق هذا الغرض ـ وفق السيد ـ امتلاك الخطيب المنبري الثقافة المسؤولة التي يُراد من خلالها خدمة الهدف الرساليّ. قال(قده) في ضمن حديث طويل: "كانت الثقافة الدينية، فيما مضى من عصور الإسلام الأولى والوسطى، قضية الإنسان المسلم الشخصية التي ينهل منها ما ينهل، ليمارس الإسلام في حياته عن معرفة، ويدعو إليه عن وعي، وكانت دعوته إلى الإسلام ـ كممارسته له ـ عملاً عفوياً ينطلق من إحساسه العميق بأن الإسلام ـ في وعي الإنسان المسلم ـ حركة في الداخل تحرِّك فكره وروحه وعمله، وحركة في خارج الذات، تحرّك الناس نحوه بالدعوة والبلاغ، وتملأ الحياة من حوله بالحيوية والقوة، فكان من نتيجة ذلك أن رأينا الداعية يتمثل في أكثر من نموذج من نماذج المجتمع".


السيد فضل الله : لا يكفي أن تحب أهل البيت(ع) أو تحب رسول الله إذا لم تعرف ما معنى رسول الله(ص) في حركة الإنسان، وما معنى أهل البيت في حركة الإنسان


وقال في موقع آخر: "على المبلّغين ـ من علماء وخطباء ـ أن يعيشوا الثقافة الإسلامية بكل عمقها وامتدادها، وثقافة عصرهم في كل القضايا التي تحكم العصر وتمثل روحه وحياته، لأنّ المطلوب هو أن نعمل على إدخال الإسلام في العصر. ولما كان التشيع هو الخط الإسلامي الأصيل، فلا بد لنا من أن ندخل التشيع في العصر، بحيث يعيش عصرنا في مختلف مواقعه الثقافية والسياسية، روح الإسلام روح أهل البيت(ع)، وهذا يفرض علينا أن نعيش حالة طوارئ ثقافية، نؤصل فيها الثقافة، ونميّز فيها بين الغثّ والسمين، وبين الصحيح والفاسد، لأن ذلك هو الذي يمكن أن يجعلنا نلتقي بكل الأجيال في هذا المجال".

واعتبر أن من انعكاسات البعد عن الواقع في المعالجة والطرح، تحجيم رسالة النهضة الحسينية ومجالس العزاء الحسيني، قال(قده): "إنّني أخشى مما نقوم به من تصغير عاشوراء، وحبسها في القمقم، وهي التي انطلقت إسلامياً.. ولذلك فلنفكر: ما هو المردود الثقافي، هل استطاعت هذه الجماهير من النساء والرجال أن تعيش ثقافة عاشوراء في امتدادها الإسلامي وامتدادها الإنساني؟ لا أنكر أنّ عاشوراء في خطابها الحماسي وفي خطابها الولائي استطاعت أن تعبىء الناس بحب أهل البيت(ع)، ولكن ما هو مضمون هذا الحب، هل يكفي أن نقول إنّ الحق لهم، أو أنّ علينا أن نفهم ما هو الحق عندهم، ما هو فكرهم، ما هو خطّهم، ما هي القضايا التي أثاروها في مرحلتهم، ما هي القضايا التي تبقى لتعالج مشاكلهم، لا يكفي أن تحب أهل البيت(ع) أو تحب رسول الله إذا لم تعرف ما معنى رسول الله(ص) في حركة الإنسان، وما معنى أهل البيت في حركة الإنسان. إنّ الحب الضبابي سرعان ما يزول عندما يزول الضباب، ولكنّ الحب المرتكز على قواعد فكرية وعقلية هو حب يبقى مهما انطلقت العواصف من أجل أن تجتثّ جذورها، لأنها كالشجرة الطيّبة".

كان السيد (قده) يؤكد ضرورة أن تبقى قضية الإمام الحسين(ع) في إطار التعبئة الجماهيرية العاطفية إلى جانب التعبئة الفكرية العقلية


الاقتصار على البعد العاطفي:

إنّ تزاوج العقل والعاطفة، والإيمان والحس في أية قضية، سيؤدي إلى القوة في وجودها واستمرارها، فكما أننا نحتاج إلى البراهين العلمية وإلى الجو العلمي من أجل تنمية الأفكار في عقولنا، نحتاج كذلك إلى الأساليب العاطفية من أجل تعميق الفكرة في أحاسيسنا ومشاعرنا؛ العاطفة هي التي تمنح الفكر حرارته وحيويته، وتخرجه من الجمود إلى النشاط، ليتحول من حالة فكرية إلى حالة إيمانية. لذا كان السيد(قده) يؤكد ضرورة أن تبقى قضية الإمام الحسين(ع) في إطار التعبئة الجماهيرية العاطفية إلى جانب التعبئة الفكرية العقلية. قال(قده): "لا بدّ من أن نجمع بين العاطفة والقضيّة، لأنّ القضيّة إذا لم تمتزج بالعاطفة فقد تموت في التّاريخ، كما ماتت الكثير من القضايا التاريخيّة في هذا المجال.. قيمة إثارة العاطفة بطريقة إنسانيّة وعقلانيّة، تجعلنا نتفاعل مع كلّ المآسي التي تمتدّ في العالم. فالكثير من النّاس الذين يعيشون مأساة كربلاء، يتفاعلون ضدّ المجازر الوحشيّة التي يقوم بها الصّهاينة بدعمٍ من أمريكا والاتحاد الأوروبيّ وبعض الدّول العربيّة". ولكنّه(قده) كان يؤكد أيضاً أنّ: "علينا أن نعقلن العاطفة ونرشدها ونصلحها حتى تتكامل مع القضيّة، ولتكون العاطفة في خدمة الرّسالة".

بين الوعي والتقليد:

ويؤكّد سماحته الفكرة ذاتها في موقع آخر، منتقداً الخطاب الشعري والأدبي المستغرق في الجانب العاطفي، حتى في مواقع إظهار القوة والعزة: "تحركت عاشوراء.. وكانت وعياً.. إلى أن تحوّلت تقليداً، وأصبحت تلك الدموع الاحتجاجية أشبه بدموع تقليدية باردة، نعتصرها لأننا لا نعيش حرارتها، ونحن جميعاً نعرف أنّ أية قضية عندما تتحول إلى تقليد من تقاليد الناس فإنها تجمد. ولذلك أصبح الشعراء عندما ينظمون الشعر في عاشوراء، يتحركون في استغراق باكٍ في المأساة، ويحاولون أن يتخيّلوا من خلال ظروفهم البدوية، ليحركوا زينب(ع) في أحاديث عاشوراء، على أساس تقاليد نساء البدو، فتتصوّر، وأنت تقرأ شعر القريض أو الشعر الشعبي، أنك تلتقي ببدوية تعرف كيف تبكي، وكيف تسقط أمام المأساة، وتواجه عشيرتها لتستثيرهم، كأنَّ المسألة قضية ذاتٍ تستنفر العشيرة، لا قضية بطلة تستنفر الأمة. ولذلك، فقد أصبحت زينب(ع) في الذهنية الشعبية، وربما في المستوى الأعلى من الذهنية الشعبية، رمزاً للمأساة أكثر مما هي رمزٌ للقضية".

الاستغراق في المعاجز:

إنّ خرق قوانين الطبيعة والإتيان بالمعجزات والكرامات، ليس هو الأصل بالنسبة إلى تصرفات الأنبياء والأولياء(ع)، بل إنّ المعجزة لا تأتي ابتداءً من عند الله، أو استجابةً لطلب أحد، إلا في ظروفٍ خاصةٍ وضمن شروط معينة، إلا أنّ خطاب المنبر الحسيني استغرق في ذكر المعجزات والكرامات المنسوبة إلى آل البيت(ع)، دون تحقيق أو مراعاة لآثار المبالغة في ذلك، فزرع في الشخصية الشيعية عقليةً أثّرت في تعاطيها مع أهل البيت(ع) وفهم قضاياهم وحركتهم في الحياة. قال(قده) وهو يبدي تألمّه من هذا الأسلوب: "لقد تحدثنا أكثر من مرة عن أنّ مشكلتنا مع أهل البيت(ع)، هي أننا حبسناهم في سجن المأساة فقط، وعندما أطلقنا آفاقهم، أطلقناها فقط في جانب المعجزات والكرامة، أما فكرهم ومنهجهم في الحياة وخطهم النبوي الأصيل، ومنهجهم القرآني الشامل، وكل ما قالوه وما تحركوا فيه مما يمكن أن يكون جواباً على الأسئلة والاستفهامات والمشاكل التي يتخبّط فيها جيلنا وأجيال المستقبل، فليس هناك عمل بالقدر المطلوب لإبرازه وبيانه.. لقد عزلناهم عن حركة الحياة وأدخلناهم في حركة الدموع، فضيّقنا واسعاً.. ولقد أراد علي(ع) من خلال رسول الله(ص)، وكذلك أراد لنا أبناؤه وزوجته الطاهرة(ع)، أن ندخل الحياة من الباب الواسع، ولكننا نريد أن ندخلها من الزوايا المنغلقة، فمشكلة أهل البيت(ع)، أنهم أرادوا أن يفتحوا لنا أبواب الوعي، ونحن نريد أن نجرّ ذكراهم إلى جوّ التخلّف، لأن المتخلفين لا يحبون إلاّ أن يعيش الآخرون معهم في أجواء التخلف".

الاعتماد على الأخبار الضعيفة:

في الوقت الذي تختلف نظريات المحققين حول معايير الأخذ بالروايات والأخبار التاريخية، وقول الأكثرية منهم بالتسامح فيها فيما لا يتسامح فيه فقهياً، وبالتالي إمكانية الأخذ بالكثير من روايات الضعفاء والمجاهيل والأخبار المرسلة، إلا أنّ هذا لا يعني فتح الباب أمام الروايات والأخبار التي لا تصمد أمام أقل انتقاد قد يلتفت إليه حتى ممن لا يمتلكون إلا ثقافة بسيطة في هذا الاتجاه.

ولذا كان السيد حريصاً على أن لا يجامل (الخرافيين) في ذلك، وأن يقدّم إلى الناس الأسباب والنتائج المترتبة على التسامح في استعراض السيرة الحسينية بصورتها المشوّهة، كما يفعل الكثيرون كل عام ممن لا يدركون خطورة عملهم هذا. قال: "رأينا أن الذين يثيرون العزاء بدأوا يتسابقون ويتنافسون في أساليب الإثارة، ومن الطبيعي أنّ مثل هذا الأمر هيأ الجو لكثيرٍ من حالات الوضع للأحاديث والقصص وما إلى ذلك.. ولعلّ حجة الكثيرين ممن يرفضون الدخول في النقد العلمي الموضوعي لمثل هذه القصص أو الأحاديث، أنّ المسألة هي من المسائل التي يراد بها إثارة المأساة، وليست هناك أية مشكلة تتصل بالجانب العقيدي، أو تتصل بالقضايا السلبية في واقع السلوك الإسلامي في خط القضية الحسينية، ولا سيما أنّ هذا قد يستثير الكثير من ردود الفعل الشعبية، باعتبار أنّ الكثير من هذه المفاهيم دخلت في عمق الحس الشعبي. ولكننا لا نوافق هؤلاء، ونجد أنّ من الضروري نقد نص السيرة الحسينية، كنقد نص السيرة النبوية الشريفة، كنقد أي نصٍ تاريخي، لأنّ التاريخ وإن ابتعد عنا، فهو قد دخل في وجداننا الثقافي، وإحساسنا الديني، وحركتنا السياسية، وبناءً على ذلك، فعندما نقدّم بعض الصورة غير الواقعية على أنها تمثل الشرعية، باعتبار أنها تُنسب إلى الحسين(ع)، الإمام الذي يُعتبر قوله وفعله يمثلان الخط الشرعي الصحيح، فإنّ ذلك سوف يدخل حتى في حركتنا الثورية في ما هو شرعي وما هو غير شرعي.. وأعتقد أنّ قرّاء التعزية إذا كانوا يملكون أسلوباً أدبياً فنياً في طريقة التعبير، وعناصر الإثارة، فإنّهم يستطيعون أن يحركوا المأساة في قضية الإمام الحسين(ع) من دون الحاجة إلى قصص وحكايات جديدة".

كان المرجع الراحل السيد محمد حسين فضل الله(قده) يعتبر التطبير ، وضرب الظهور بالسلاسل ، من حيث الفتوى ومن حيث التحليل التأريخي والاجتماعي والإعلامي تصرفات دخيلة لا علاقة لها بالإسلام ولا بالقضية الحسينية، بل إنّها تعمل على تشويه صورة هذه النهضة المباركة، وحرف أهدافها.


الأساليب الدخيلة في إحياء الذكرى:

كان المرجع الراحل السيد محمد حسين فضل الله(قده) كثير النقد لبعض ما يمارس ويُصوَّر على أنّه من صميم شعائر إحياء الذكرى الحسينية، في الوقت الذي يعتبره من حيث الفتوى ومن حيث التحليل التأريخي والاجتماعي والإعلامي تصرفات دخيلة لا علاقة لها بالإسلام ولا بالقضية الحسينية، بل إنّها تعمل على تشويه صورة هذه النهضة المباركة، وحرف أهدافها. وقد أثارت فتواه بتحريم ضرب الرؤوس بالسيف، وضرب الظهور بالسلاسل، أجواءً عدائية، تماماً كما واجهها من سبقه من مراجع وفقهاء أفتوا بالمضمون ذاته، ولا سيما أنّ سماحته لم يكتفِ بذكر الفتوى معلّقة على عناوين معينة، إن انطبقت حرمت وإلا فلا، بل شخّص الموضوع الخارجي، وقدّم الفتوى واضحة لا لبس فيها، ضمن معطيات الواقع الذي درسه عن دراية وإحاطة ووعي.

قال(قده): "إنّنا نقف أمام الكثير من العادات والتقاليد التي أُعطيت عنوان المواساة للإمام الحسين(ع)، مثل ضرب الرؤوس بالسّيف، حتى إنّ بعض الناس من غير المسلمين قالوا إنّ سيوف الشيعة كانت ترتفع ضدّ أعدائهم فأصبحت ترتفع كي يضربوا بها رؤوسهم، وأصبح هذا من المقدّسات لديهم! مع أنّ كلّ هذا ليس له أصل في سيرة الأئمّة(ع) ومنهجهم.. كما تنقل شاشات التّلفزة بعض الاحتفالات ـ والتي للأسف يوجد إشراف ديني عليها ـ حيث يَنذر بعض النّاس أطفالهم، فيشجّون رؤوسهم، لتتناقل الصّحف ووسائل الإعلام هذه الصّور. وقد اطّلعت على مجلّةٍ كنديّةٍ تصوّر شخصاً أشيب، وهو يحمل طفلاً يبكي بكاءً شديداً، بعد أن شجّ رأسه، وتعلّق الصّحيفة على هذا المشهد: "هذا يُفعل باسم الله!". فإذا كان تعذيب النّفس محرّماً شرعاً من خلال حرمة الإضرار بالنّفس، فكيف بتعذيب الطّفولة؟! إنّ هذا حرام شرعاً! بل هو جريمة.. ولكن للأسف، فإنّ هذه العادات المتخلّفة أصبحت من المقدّسات، وأصبح الكثير من العلماء يفتون بأنّ هذا مستحبّ. كما أنّ الكثير من العلماء ـ هداهم الله ـ يعتبر أنّ التشيّع يكبر من خلال هذه العادات والتّقاليد.. لقد قلت لهؤلاء: ليست هذه طريقةً لمواساة الإمام الحسين(ع)، إنّ الّذين يواسونه هم الّذين واجهوا الصّهاينة في جبل صافي، وفي حرب تموز، وفي جميع المواجهات مع الصّهاينة... هؤلاء الشّباب المخلصون الطيّبون المجاهدون، هم الّذين يواسون الإمام الحسين(ع) حقّاً، لأنَّ الإمام جرح واستشهد وهو يجاهد".

السيد فضل الله :: إنّ الّذين يواسون الإمام الحسين(ع) حقّاً هم الّذين يواجهون الصّهاينة

وفي دعوةٍ منه لمواجهة كل صور التخلف في إحياء ذكرى عاشوراء وتحويلها إلى أعمال إيجابية، قال(قده): "لا بد من صوتٍ ينقذ هذه الذكرى من كل هذه الوسائل.. نحن طرحنا ولا نزال نطرح: هل تريدون أن تقدموا دماءكم للحسين(ع)؟ هل تريدون أن تستنزفوها عن روح الحسين(ع)؟ إنّ هناك جرحى للانتفاضة يحتاجون إلى الدم، لماذا لا ننطلق في عاشوراء لنبحث عن أي مكان يمكن أن يكون مصرفاً للدم، لنقدم هذه الدماء احتفالاً بعاشوراء ومواساة للحسين(ع)، لنواسي كربلاء الفلسطينيين. إنّنا بذلك نستطيع أن نقدم للعالم في حركة المأساة التي نتفاعل بها شيئاً حضارياً إيجابياً حركياً، يقف مع المجاهدين ليعطيهم من دمائه إذا لم يستطع أن يعطيهم من طاقته في الحرب".

السيد فضل الله :: هناك ضرورة لإدخال قضية الحسين(ع) إلى المسرح الحديث والسينما، بحيث تكتب السيرة كتابةً فنيةً مبدعة، تخاطب الإنسان في العالم


تطوير المنبر الحسيني:

وأخيراً، فقد اعتبر السيد(قده) أنّ من مسؤوليات القائمين على الشأن التبليغي، أن يطوّروا من أساليبهم في عرض القضية الحسينية بما يتوافق مع متطلبات العصر وتطوره، قال: "من المؤسف جداً أننا لا نرى إلا بعدد أصابع اليد في كل هذا الواقع من الذين يتلون السيرة، ممّن يملك رحابة السيرة وأفقها في القضية الكبرى، لا نملك الإنسان المثقف الذي يملك ثقافة الفكرة وثقافة إدارة العاطفة، نحن نعرف أن الإنسان تطور، فأساليبنا في الشعر الآن تختلف عن أساليبنا في أيام امرئ القيس، وأساليبنا في النثر تختلف عن أساليب فلان وفلان من أدباء النثر، حتى إنّ أساليبنا في التعبير عن العاطفة اختلفت.. لذلك لا بد لنا من أن نثقّف الأسلوب، لأن القضية تبقى في عناصرها الطبيعية، نحن لا نريد أن نطور القضية فنبتعد بها عن عناصرها الطبيعية، لأنّ علينا أن نبقي التاريخ صادقاً، ولكن لا بد لنا من أن نطور الأسلوب.. ولذلك لا بد لنا من إنتاج شعر جديد، ونثر جديد، ربما تكون المأساة في عاشوراء محدودة في ما هو الصدق التاريخي، بحيث لا يملك الخطيب ما يريده في إثارة الدمعة وإثارة المشاعر، لكن عندما تكون خطيباً مثقفاً، أو خطيباً أديباً، تعرف كيف تحرك الكلام وتركّبه وتنظّمه في عملية إثارة المشاعر، ربما تقف لتعطي الصورة الكربلائية في المأساة، وتنهمر الدموع دون أن ترجع صوتك أو تأتي حتى ببيت شعر، المهم أن تعرف أين هي نبضات المشاعر عند الإنسان وما الذي يحركه.. نحن نتحدث عن ضرورة إدخال قضية الحسين(ع) إلى المسرح الحديث والسينما، بحيث تكتب السيرة كتابةً فنيةً مبدعة، تخاطب الإنسان في العالم، من خلال عناصر الإنسانية الحيوية الموجودة في داخلها".