المعروف عن البيئة الدّينيّة النجفيّة أنها حاضرة علمية متقدّمة ترقى إلى أكثر من ألف عام، فهي مدينة للأدب والشّعر، تخرّج منها ألمع الشعراء، أمثال: الحبوبي، والجواهري، والشرقي وغيرهم، حتى الشّعراء المحدثون تأثّروا بها، كالسيّاب وغيره...
في هذا الوسط الأدبيّ والشّعريّ المتوقّد، بزغ نجم السيّد شاعراً وهو في حداثة عمره الشَّريف، تلك الحقبة الزمنيّة الّتي عاشها، كانت تمثّل العصر الذّهبيّ للنجف، أدبيّاً وعلميّاً، وضمّت علماء وأدباء لامعين، فنظم الشّعر وهو في سنّ العاشرة أو الحادية عشرة، وكان أوّل ما نظم، قصيدة يقول في مطلعها:
فمن كان في نظمِ القريضِ مفاخراً ففخري طُرّاً بالعلى والفضائـلِ
ولست بآبائـي الأبـاةِ مفاخـراً ولستُ بمن يبكي لأجل المنـازلِ
سأنهجُ نهج الصّالحين وأرتـدي رداء العلى السّامي بشتّى الوسائلِ
وأجهد نفسي أن أعيش معـزّزاً وليس طِلابُ العـزّ سهل التّناولِ .
في هذا الجوّ، عاش السيِّد الانفتاح أكثر من أقرانه من خلال قراءاته المتنوعة في الفكر والأدب والسياسة ، الّتي قد لا تكون منظّمةً أو مرتّبةً أو ممنهجة، ولكنّها كانت كمن يتنقّل بين الأزهار، فكان يختزن الكثير من المشاعر والأحاسيس، في الوقت الّذي بدأ بكتابة الشّعر دون أن تكون لديه ثقافة شعريَّة واسعة، وهذه علامة فارقة في دنيا الشّعر لا تتأتّى لأيّ كان...
بدايةً، دخل السيِّد حفلات النجف المتنوّعة، وألقى قصائد في مناسباتها الّتي كانت تضجّ بالأدب والشّعر، وكان في سنّ الرّابعة عشرة، والمعروف أنّ البيئة النجفيَّة كانت تحيي الكثير من المناسبات الدينية والأدبية بشكل أدبي وديني متميز ، وكانت بهذا الجو الأدبي المتحرك تخرّج مئات الشّعراء . ومن جهةٍ أخرى، يظهر أثر الثّقافة التاريخيَّة الدّينيَّة في شعره، من خلال استقرائه لوقائع التَّاريخ الإسلاميّ الكبرى، فلقد أودع السيّد قصائده ما يختزن من معارف اطّلع عليها في الكتب الدّينيّة والتاريخية والأدبية القديمة، وانتفع بثقافته تلك في كلّ المجالات التي عالجها في شعره، حتى صار الاستشعار بالأبيات الشعرية عنده ظاهرة ملموسة في كلامه في شتّى المجالات.
وقد اتّسعت دائرة قراءته الشّعريّة لتشمل الأشعار المترجمة، مثل أشعار (لامارتين) و(أناتول فرانس) و(طاغور) و(محمد إقبال)، وذكر في بعض مقابلاته الصّحفيّة، أنّه تأثّر كثيراً بالأخطل الصّغير والياس أبي شبكة وجبران خليل جبران وشوقي والسيَّاب وعبد الصّبور وغيرهم...
وفي محاولتنا معرفة نظرة السيّد إلى الشّعر، يقول: "أنا أعتقد أنّ قيمة حركيّة الشّاعر في وجدانه، عندما ينفتح على الله، على المطلق، أن تكون شاعراً، أن تتجاوز الحدود، أن لا تقف أمام الجدار هنا وهناك، لأنّك تلتقي بالمطلق حيث لا حدود"..
ويرى أنّ هناك قيمتين أساسيّتين لا بدَّ من أن تتوفرا في الخطاب الشّعريّ: القيمة البلاغيّة (الجماليّة)، والقيمة الإبلاغيّة، أي أن تكون للشّعر وظيفة رساليّة اجتماعيّة إصلاحيّة. يقول: "والشعر إذا لم يبن المجتمع في كلّ حاجات المجتمع الفنية والإبداعية والفكرية والسياسية، فإنه يكون بلا مضمون، لأنّ الشّعر إذا ابتعد عن مضمون الحياة، يصبح شيئاً بلا معنى...".
وهذا ما نعثُر عليه في ديوانيْه (على شاطئ الوجدان) و(قصائد للإسلام والحياة)، يقول معبّراً:
إنّما الشعرُ دفقةٌ من شعاع تنفثُ الوعي في لهيبِ قوانا
ونداءٌ من الحياة.. يمورُ الفكرُ في أفقه طليقاً مُصانا
وفي قصيدةٍ أخرى بعنوان (قلب شاعر):
فمضى يُحلّق في سماءِ خياله ويبثّ روح الفكر في أوطانِهِ
مترفّعـاً بخيالـه عن عالـمٍ داجٍ، يسيل الشرّ من أدرابـهِ
فيصوغ من دمعِ اليتامى شعره وينظـمُ الأوزانَ من هتانِـهِ
ويشارك المحزون في آهاتـه فيذيبها نغمـاً على ألحـانـهِ
والإبداع يتحقّق في رأيه عندما يعيش الشّاعر آفاق الحرية الواسعة، بعيداً عن القوالب الجاهزة التي لا يجد نفسه فيها، وهذا هو الفرق بين أن يكون الشّعر ملزماً وليس ملتزماً...
فلعلَّ من أبرز ملامح التّجديد الشّعريّ لديه، القدرة الفائقة بالانتقال في القصيدة الواحدة ـ أحياناً ـ من المراوحة في عدد التّفعيلات، إلى النظم على السياق الشّعريّ القديم، وتقسيم القصيدة الواحدة إلى (مقاطع)، والتَّنويع بينها في القوافي، كذلك التّفريع في النّغم الموسيقيّ، مع العلم أنَّ السيّد مارس الشّعر الحرّ رغم تمسّكه بالأوزان والبحور الخليليّة..
لقد وقف السيّد نظرياً على مسافة واحدة من القديم والجديد، لأنّ مقياسه هو الجودة في النصّ وليس الشّكل، فولوجه فضاء التجديد الشعري، وهو المفكّر الدّاعي إلى المعاصرة في الفكر والفتيا.. لم يأتِ من فراغ، وإنما مارس التجديد بعد إتقانه الشّكل العروضيّ القديم، وهذا ما ساعده في الإبداع في شعر التّفعيلة...
العلامة الفارقة فيما تقدّم، تبرز أنّ السيّد لم يتكلّف في شعره، ولم يفكّر في أن يكون شاعراً، لأنّ الشّعر فرض نفسه عليه، فلم يختره، ربما اختار الانفتاح عليه وتحريك تجاربه وإغناء مضمونه من خلال القراءات المتنوّعة، فالسيّد لم يجد مشكلة في أن يكون عالماً دينيّاً وشاعراً في آن، فكثير من العلماء الكبار كانوا شعراء مجيدين..
وللإنسانيّة وقيمها في شعره مساحة كبيرة تحكمها قاعدة الإيمان الّذي لا بدّ من أن يمرّ على مستوى التّنظير في الشّعر أو غيره، لذلك نرى في شعره بوضوح قيماً يؤكّدها ويدعو إلى العمل في سبيلها من أجل الإنسان وراحته وكرامته، فالقيم في شعره كثيرة، ومنها على وجه الخصوص: الحريّة والحقّ والعدل والسّلام، وهذه قيم مترابطة تؤدّي الواحدة منها إلى الأخرى، وهي في كلّ الأحوال قيم مستمدّة من النبع الإسلاميّ الصّافي.. وهي إضافةً إلى ذلك، لا بدّ منها في كلّ زمان ومكان، فهي تمثّل استقامة الوجود الإنسانيّ في النّهج الطّبيعيّ لحياة الإنسان..
فالحريّة بالنّسبة إليه هي حقّ وقيمة إنسانيَّة عظيمة، وحقّ إنسانيّ قرّره الله وليس الإنسان، فهي حقّ مقدّس لكلّ إنسان عاقل.. وإلى جانب ذلك، نرى في شعره احتضانه لقيمة الحقّ وثباتها ورسوخها ومرافقتها لحركة الحياة بامتداد الإنسان في الزّمن، وهو ما يعطيه الثبات والعمق والامتداد، فهو يقول:
إنّما العمرُ أن تعيش على دربِ الرّسالات في الطليعة حرّا..
أن يموت الظّلام في كلّ قلب يطلع الحقّ من حناياه بدرا..
بالنّسبة إلى مفهوم العدل، يقول: الهدف الرّساليّ هو إقامة العدل، ولم يترك الله المسألة مجرّد حالة أخلاقيّة أو شعوريّة، بل عمل على التّخطيط التشريعيّ لتحويلها إلى مفردات شرعيَّة، يقول سماحته:
أيّها المؤمنون كونوا مع العدلِ فهذي شريعة الأنبياءِ
في نداءٍ ملوّنٍ بالأماني الخضر حلوٍ منوّع الأصداءِ
حيث لا ترف.. يعيش على القمّة في مشرق الضّحى اللألاءِ
وإلى السّلام ورحابه، يستمدّ السيِّد من الذات القدسيّة سلام الرّوح للإنسان، وبالصّلة معه، يتحوّل الإنسان إلى إنسان الخير والمحبّة والسّلام، فهذا المفهوم السّاعي إلى السّلام، نراه في تعاليم سيّدنا عيسى المسيح(ع)، والّذي أعطى الفكرة في أن يواجه الإنسان حياته كلَّها من موقع أن يعيش السّلام الرّوحيّ في نفسه ومع الله، هذه الالتفاتة إلى السيّد المسيح(ع)، تجعله يؤكّد ويكرّر سلم إسلامه وانتمائه إلى الأنبياء دعاة السَّلام:
إنّنا مسلمون ولتشهد الدّنيا بأنّا في موكب الأنبياءِ
إنّنا مسلمون.. كلّ تحايانا سلام ودعوة للّقاءِ
فالسَّلام عنده وفاق اجتماعيّ في خدمة الإنسان والإنسانيَّة... وعيه العميق لاختلاجات ذاته كان المنطلق لفهم الذّات البشريَّة عامَّةً في ضغطها وقوّتها وتوقها إلى اليقين والاستقرار، فاستطاع رؤية آفاق القوّة المتمثّلة بالإيمان المطلق، ما جعل منه محاوراً لبقاً وبارعاً للآخر المختلف، قبِلَ الآخر فحاوره ملحداً وعلمانيّاً، كما حاور ذاته المتوقّدة، وكان عماد الحوار دوماً وشعاره: الحبّ والعاطفة الجيّاشة...
وإذا أتينا إلى مظاهر التّجديد لديه، فهي تتّضح في وقفتين، الأولى ظاهرة الرومنسيّة، والثّانية مواكبة بدايات الشّعر الحديث، وبالعودة إلى الوقفة الأولى، "فالطّبيعة" كانت ملاذه الأكبر لمعاناته، يبثّ فيها تخبّط النّفس وجراح القلب:
يا صفاء السّماء حسبي صفاءً أنّ روحي في رحلةِ الإسراءِ
أنني أستحمّ بالنّور روحيّاً لذيذاً في روعةِ اللألاءِ
والطّبيعة بجمالاتها قد أخذت بقلبه نحو المحبَّة الإلهيَّة:
أنا أهواك للهوى ترعش الرّو ح بأفيـائـه ويهـزّ لحني
للسّمـاء الزّرقاء تنساب فيها شعلة النّور في جلالٍ ومنِّ
للصّباح الضّحوك ينهلّ كالشلا ل بالنّور مائجاً بالتغنّي...
فالطّبيعة شكَّلت في شعره معيناً لا ينضب، ورفداً من روافد الرّومنسيّة، فهي ضرورة فنيّة توظّف في خدمة الأدب...
إلا أنّه تجدر الإشارة، إلى أنّه مع وجود تطابق مع الرّومنسيّة في كثيرٍ من شعره على مستوى المعايير، إلا أنّنا نرى اختلافاً بينهم وبينه، فهو ينطلق من طبيعة إيمانه بالله، فيحدّد الأطر لتعاطيه مع الرّومنسيّة، بدءاً من الطّبيعة وصولاً إلى التوجّه الإنسانيّ..
أمّا من جهة التجديد ومواكبته حركة الحداثة وبداياتها، فنجد ذلك واضحاً جلياً في ديوان "على شاطئ الوجدان"، وتأثره بأبرز الثائرين على القديم، كـ"جبران" و"نعيمة"..
وعندما نأتي إلى اللّغة الشعريّة، نجدها سهلةً مطواعةً موحيةً تفي بالغرض دون تعقيد وغرابة، فترسم كلّ شيء ببساطة وعفويّة، وبأسلوبٍ بلاغيّ رشيق، فلقد حرِصَ في شعره على المزاوجة بين المعاني والمفردات والموسيقى..
أمّا موضوع الأوزان، فقد التزم سماحته بالبحر والرّويّ في معظم قصائده، وقد نوّع في الرّويّ، هذا التنوّع ترافق مع استعمال المزجوج والرّباعيّات والثلاثيّات والخماسيّات، إضافةً إلى البحور القصيرة، وما يلاحظ أيضاً في شعره، وحدة القصيدة في تآلف أجزائها وتعاونها لتأدية الغرض والمراد، وهذا ما يسمّى بالوحدة العضويّة للقصيدة..
وما يلفت الانتباه في شعره، هذا الحسّ الشعريّ الجديد الذي لم يؤلف في البيئات الدينيّة والعلمية التي غالباً ما تنشدّ إلى التراث الشعريّ القديم، فقد استطاع بأشكاله التعبيرية الحديثة، أن يعبّر عن الهمّ الإسلاميّ في مرحلة مبكرة، في حديثه عن واقع المسلمين في العصر الحديث، وهي المرحلة الّتي كتب فيها يوميّاته الشعريّة في فترة الثمانينات، كما في "قصائد للإسلام والحياة"..
فقد تمثّل سماحته الرّموز والمناسبات الدّينيّة عبر التاريخ، لشحذ الهمم، وتقوية العزائم، واستلهام العبر، وحسن الاقتداء، وليس التجمّد عندها..
للشّهداء والشّهادة نصيب في اليوميّات الإسلاميّة الّتي نظمها السيّد في مرحلة العطاء، في مرحلة العمل الجهاديّ والفكريّ الدائب، فهو يرى أنّ الأمّة بكلّ قطاعاتها، وشبابها بشكل خاصّ، إذا لم تدرك هدفها في الحياة ورسالتها في هذا الوجود، سوف تكون طعماً سائغاً في حلبة الصّراع الحضاريّ، فكان لا بدَّ من رافدٍ لهذه المسيرة، فكانت مفردة (مع الله) كقوّة يستند إليها في حلبة الصّراع، كذلك الدّعاء الذي يمثّل الصّوت الفرديّ والجماعيّ للأمّة في الدّعوة إلى العمل الدّؤوب وعدم الاتّكالية والتثبّط، فتبيان الحقائق والقيم الإسلاميّة الأصيلة بفهمٍ حضاريّ واعٍ وجديد، يحيي ما أمات النّاس بجهلهم لها..
لقد صاغ سماحته الهمّ الإسلاميّ شعراً ، محافظاً على معادلة الهدف والفنّ، حيث يتعانق الهدف العظيم والفنّ الأصيل والصدق الشّعوريّ الّذي يعشق الفكرة ويذوب فيها، في تجربة إنسانيّةٍ راقيةٍ متوازنة بين العقل والعاطفة، وهذا ما يتّفق ونظرية الأدب وفق الرؤية الإسلاميّة، فقد أعطى سماحته لهدفه العقائديّ حقّه، كما أعطى للفنّ حقّه من العناية والصّدق، تحت عنوان الالتقاء بين الهدف والفنّ..
ولقد استطاع السيِّد أن يحقّق بعض المحاولات الجادّة في الشّعر الحرّ، وكانت قصيدته الحديثة معبّرةً عن تجربة متدفّقة بالصّور والرموز، تبعاً لانفعالات الشّاعر ولهفته وتأوّهاته واهتماماته الإنسانية...
بلغ المطبوع من شعره آلاف الأبيات، وقد ضمّت شعره المطبوع أربعة دواوين، هي: (رباعيات يا ظلال الإسلام) (على شاطئ الوجدان) (قصائد للإسلام والحياة) (في دروب السبعين)... ومن أراد الاطّلاع والتذوّق، فليرجع إليها ويتحسّس بنفسه رقّة الشّعور الإنساني..
وأخيراً وليس آخراً، لا يسعنا إلا أن نقف مبهورين أمام قامة شعريّة مرموقة في دنيا الشّعر والأدب، قدَّمت لنا نماذج راقية عبر قصائد موحية ومعبِّرة عن رهيف إحساس وشعورٍ إنسانيّ عذب، منبعه صفاء الرّوح وطهر الإيمان.. فنرى الإنسانيّة محلّقة شعراً ، في سماء السلام والحريّة والعدل والحقّ.. وماذا بعد الحقّ إلا الضّلال؟
التاريخ: 23 رجب 1432 هـ الموافق: 25/06/2011 م