صديقي الصّدوق توفيق (بومحمود)، رغم هزليّته الفائقة، إلا أنّه قال لي مرّةً من المرّات ونحن نتحدّث عن الرّاحل السيّد محمد حسين فضل الله، إنَّ هذا الرَّجل لن تعرف قيمته وقيمة أفكاره وتقدّمها إلا بعد قرن من الزّمن.. إنّه الرّجل الّذي جاء قبل عصره.
في الذّكرى الأولى لرحيل المجدِّد الكبير السيّد محمد حسين فضل الله، كان لا بدّ من أن نقف وقفة إكبارٍ للرّجل القمّة، وللمرجع المجدّد، وللشّخص الظّاهرة؛ إنّه الفقيه الجريء، الرّافض للجمود، والكاسر للقيود، والدّاعي للتّجديد؛ إنّه الفقيه الّذي لم تثنه الضّغوط القذرة عن مواصلة مسيرة الإصلاح الدّينيّ، حتّى وافاه الأجل المحتوم.. ورغم الكلفة الباهظة الّتي تحمَّلها الرّاحل جرّاء فكره الإصلاحيّ المتطوّر، ورغم الحرب الضّروس الّتي شنّها أصحاب الفكر الظّلاميّ ضدَّه، دفع فضل الله كامل تكاليف فاتورة التّغيير.
بعد عام على رحيل فضل الله، مازالت كلماته حيَّةً ومتجدّدةً كلّما مرّت فوق رؤوسنا المصائب والمحن، سواء على مستوى الفعل أو الثّقافة، فصرنا نترحّم على الرّجل الّذي كلّما عتق رحيله، تجدّد فكره المستنير.
ما يميِّز فضل الله عن بقيَّة علماء المسلمين، أنَّه كان يؤمن بأنَّ الحقيقة لا يملكها فرد بعينه، وأنَّ الجنَّة ليست حكراً على طائفةٍ دون سواها، وأنَّ الدَّولة الّتي يجب أن تستقرّ في وجودنا وفي واقعنا، هي دولة الإنسان. الحريَّة والحريَّات، الحبّ والتَّعايش، التّسامح والسَّلام، التَّغيير والتَّجديد، وكسر التخلّف بمطرقة العقل، ونبذ كلِّ أشكال الممارسات الدّينيَّة الخاطئة والمتخلِّفة، والدَّعوة إلى احترام الآخر وفتح أبواب الحوار، واستخدام وسائل اللّين بدل وسائل العنف، واحترام حقوق الإنسان، وتقدير المرأة والطّفل، كلّ ذلك وأكثر، كانت هي العناوين الأبرز في محطّة فضل الله الفكريّة والنّهضويّة. فضل الله مثله كمثل الكواكبي والأفغاني والمجدّدين من علماء الأمّة الإسلاميّة الّذين لم تُعرف حقيقة وحجم وعيهم وتخطّيهم حدود زمانهم؛ إلا بعد رحيلهم.
نحن لا نقدّس فضل الله لأنّه يرفض التّقديس، لكنّنا نستطيع أن نذكره كأنموذجٍ من نماذج علماء المسلمين المجدّدين الّذين سعوا لتحريك المياه الرّاكدة في عقول الأمة وسلوكها، محاولين جاهدين أن يفتحوا نافذةً على الفكر المنفتح رغم قساوة وشراسة الحملة الّتي تعرّضوا لها طيلة مراحل التّغيير.
لم يدع فضل الله باباً إلا وطرقه بقوَّة الدَّليل والبرهان، فتحدَّث في أمورٍ كثيرة لم يجرؤ أيٌّ من علماء المسلمين أن يتطرَّقوا إليها؛ إمّا خوفاً من المجتمع، أو خوفاً من أن تصيبهم نازلة من عذاب شديد، ولهذا ظهر الفرق واضحاً بين الفكر الجامد والفكر المتحرِّك.
في ذكرى الرَّاحل فضل الله، نستعرض بعضاً من أقواله الذَّهبيَّة الّتي تبيِّن لنا مستوى غزارة وعي الرَّجل، ونظرته الثّاقبة إلى مستقبلٍ لا يمكن أن يتطوَّر إلا من خلال أن يقدِّم بعض المفكّرين أنفسهم شهداء وقرابين للفكر الحرّ. يتحدَّث فضل الله عن الحوار فيقول: "إنّنا ننتج الحقد في المجتمع، ولا ننفتح على أخلاقيّة ما ننتمي إليه.. عندما نجد أنّ كلّ الأديان تدعو إلى الحوار، فلماذا لا نتحاور، لماذا نتعصّب لأفكارنا، سواء تلك الّتي ورثناها عن آبائنا، أو تلك الّتي اخترناها بأنفسنا، ولا يكون لدى كلّ منّا الاستعداد للتّنازل عن فكره لمصلحة فكرٍ آخر يمكن أن يثبت أنَّه الحقّ.. لماذا نحاول إثارة غرائز الجماهير، لماذا نربطهم بالغريزة؟!.. الآن الكثيرون منّا يخافون من الجماهير عندما تعقل وعندما تفكّر لأنّها تكتشف الحقيقة".
عن الوفاق الوطنيّ يقول: "إنَّ النَّاس تعيش مع بعضها البعض، وتتعاون وتتحرَّك وتتحالف.. والسّؤال: ما هو الوفاق الوطنيّ؟ هل أن يكون لهذه الطّائفة أو تلك أكثر من مدير عام؟ أو أن يكون للوطن (وهو لكلِّ الطَّوائف) مكان في النّفوس؟ كيف يمكن للوطن أن يبني مصانعه ويُمَكْنِن مزارعه وينتج الحلول لمشاكله؟ لأنّ الوفاق الوطنيّ هنا، ولا يختصر عشرة موظّفين من أيّ فئة الطّائفة، لأنّ الطّوائف تأخذ حقوقها عندما يأخذ الوطن حقّه، أمّا عندما تأخذ الطّوائف حقوقها في الدّائرة الضيّقة، فإنّ الوطن هو الّذي يخسر، وعند ذلك، سوف لا يتحوّل الوطن إلى أوطان".
أمّا بخصوص أمريكا، فيؤكِّد فضل الله: "عندما نواجه المسألة على المستوى الدَّوليّ، فإنّنا نجد أنَّ أمريكا الّتي كانت تمارس الإرهاب قبل 11 من سبتمبر، زادت من حدّته بعد هذا التّاريخ، أمريكا هذه وقفت أمام العالم لتهدّد العرب والمسلمين تحت عنوان نزع أسلحة الدّمار الشّامل منهم"'.
وحين يتحدّث عن الموالاة والمعارضة يقول: "ففي المسألة السياسيّة، نجد أنّ كلّ السياسيّين من الموالين والمعارضين، يجتمعون معاً في المجلس النيابيّ والنّوادي المتنوّعة والمناسبات الاجتماعيّة، فلماذا لا يتحدّثون مع بعضهم البعض عن الوطن؟! لماذا يبقى الحديث عن حقوق هذه الطّائفة وتلك الطّائفة بعيداً عن مسألة الوطن؟! لماذا لا نحدِّد المصطلحات؟ فالكلّ يقول: إنّ مشكلتنا أنّه ليس هناك وفاقٌ وطنيّ، وأنا لا أفهم ما هو مصطلح الوفاق الوطنيّ عند كلّ هؤلاء؟".
وهذه درّة أخرى من درره، يقول فيها عن الوطن: "يجب أن نتحلّى بميزة أخلاق المواطنيّة، فنحن في هذا البلد أو في أيّ بلد آخر مواطنون، لكلٍّ منّا موقع في بلده، ولد فيه وعاش، ولا بدّ أن يعيش مع الآخر، فالأرض تنتج للجميع، والينابيع تسقي الجميع".
إذا كان لدينا رجل بهذا الحجم، لا يمكن للأمّة أن تضيع أو أن تتخلّف، لا يمكن لنا إلا أن نكون أحراراً. لو كان فضل الله غربيّاً، لنصبوا له تمثالاً من ذهب لمجرّد أنّه حاول أن يبدع فكراً منفتحاً وحضارياً، أمّا نحن، فهوايتنا إهانة الكبار حتّى بعد رحيلهم. ليس فضل الله وحده يفكّر بطريقة متقدّمة، فهنالك بعض علماء المسلمين يفكّرون بطريقته، لكنهم على الأصابع يعدّون.
حسين التّتان
صحيفة الوطن البحرينيّة
التاريخ: 24 شعبان 1432 هـ الموافق: 25/07/2011 م