لم يكن صباح الأحد، الواقع في الرَّابع من شهر تموز 2010، موعداً لغياب مرجعٍ إسلاميّ شيعيّ وفقيهٍ مجدِّدٍ وحسب، بل كان موعداً أيضاً لفقد شاعر حسّاس، صافي الشعور وصادق الوجدان..
لم يكن ابن عيناثا - جبل عامل السيّد محمد حسين فضل الله (رحمه الله)، ليبخل على جمهوره ومقلّديه بما حباه الله من نعمة الفصاحة والبيان، فقد كان خطيباً مفوّهاً وأديباً وشاعراً، عرف كيف يزاوج بين لغة الفقه الحاسمة ولغة الشِّعر بما فيها من فيض حبٍّ وعاطفةٍ ووجدان..
آمن سماحة المرجع السيّد محمد حسين فضل الله، بأنَّ الشِّعر هو الإنسان، وأنَّه لا يمكنك أن تكون شاعراً أو أديباً إذا لم تكن إنساناً يتحسَّس كلّ صرخات الجياع وأنّات المظلومين وعذابات المضطهدين، لأنّ الشِّعر هو الإحساس بالحياة العزيزة والكريمة، الحياة التي لم يُعْلِنْ سماحته اكتمال فهمه لها، لكنّه أحبّها، ليغنيها ويبدع فيها ويؤنسها.. يقول:
أهوى الحياة انطلاقاً في ذرى حلمٍ يشدُّه لحياةِ الوحيِ إيمان
عيشٌ بسيطٌ ودنيا غيرُ طامعةٍ وعالمٌ بالشّعورِ الحُرِّ يزدانُ...

على شاطئ الوجدان
وقد جاءت قصائده في مرحلة الشّباب، من خلال ديوان "على شاطئ الوجدان"، الّذي يشكّل بعناوين قصائده لوحةً من الحبّ الإنسانيّ، عبّرت عنها كلّ عناوين هذا الديوان وقصائده، ولا سيّما قصيدة "حبّي" الّتي أعلن فيها هويّة هذا الحبّ:
حُبِّي الّذي سقيته من دمي ومن حياتي: كأس عطر ونور
هذا الّذي وزّعت أطيافه على التفاتات الصّباح النّضير
يرشّ في الدّرب أناشيده فيرقص الدّرب، ويغفو العبير
وقد عبَّر كثيراً في لقاءاته وحواراته عن أنّه يخلق جنّته من خلال ألمه ومعاناته وحزنه، ولذلك حضر كثيراً البيت الشّعريّ من قصيدته: أنا يا ليلاي:
فأنا أخلقُ وحدي جنّتي فأرى اللذّة في أعماق حُزني
ولهذا تراه من قلبٍ مُفعمٍ بالالتزام بقضايا الأُمَّة، يخرجُ إلى الضَّوء أنوار ديوانه "قصائد للإسلام والحياة"، والّذي عبَّر عن مرحلة صراعه مع القضايا الّتي عاشها الإسلام ـ إن صحَّ التَّعبير ـ وقد جاءت عناوين المحاور بمعظمها: مع الله، مع الرَّسول، في رحاب أهل البيت(ع)، مع النَّفس، وغيرها مما واكبه من أحداثٍ نظم فيها شعره السياسيّ والدّينيّ والاجتماعيّ، وحتى رثاء الأحبَّة، ومنه قصيدته في رثاء رفيق العمر والدّرب، السيّد الشهيد محمد باقر الصّدر، والتي عنونها: "لأنّك قوّة" وقال فيها:
لأنّك قوّة لأنّك ثورة لأنّك سِرّ انطلاقةِ أمّة...
أرادوك أن تنحني للرّياح... وأن تسلِّم الرّوحَ في كلَّ ساح...
أخي... ويعود الحنينُ لقلبي... عميقاً كمثلِ الجراح...

في الشّعر العقائديّ
وأمّا شعره العقائديّ، فقد جاء دستوراً خصّ به الدّين الإسلاميّ الحنيف ورسالة نبيّ الهُدى، في ديوانه "يا ظلال الإسلام"، والمنظوم على بحرِ الخفيف، وهو كما قال سماحته عنه: "مشروع ملحمة إسلاميَّة كبرى"، حيث كانت قصائد الدّيوان تعبيراً صارخاً عن الالتزام بقضيَّة الإسلام الكبرى "فلسطين"، والّتي لا يمكن تجاهل أنَّه نظم فيها بيتين وهو في العاشرة من عمره، حيث قال:
دافعوا عن حقِّنا المغتصبِ في فلسطين بحدِّ القضبِ...
واذكروا عهد صلاحٍ حينما هبَّ فيها طارِداً للأجنبي...
وقد كانت قصائده كلّها دعوةً إلى وحدة الإنسان، ووحدة القيم، ووحدة المشاعر الإنسانيَّة الّتي خلَّدها في فهمه لحقيقة الشّعر والشّعراء، فلطالما كان يردِّدُ حين سؤاله عمّن تُفضّل من الشّعراء، بأنّ "لكلّ ورد رائحة". فما أعذب شعره، وما أنبل عاطفته الجيَّاشة، وما أظهر وأجمل رائحته التي عطَّرت فضاء الإنسان، وكانت أملاً لكلّ السّاعين في درب الحريّة..

السيّد العاشق
ولأنّ الحبّ كتب على ابن آدم منذ ولادته، لا ليستمرّ نوعه فحسب، بل لتصبح حياته ذات هدف ومعنى سامٍ، فإنّ سماحته كان في خضمّ تلك العواطف السامية الجيّاشة، وهو في عمر العشرين وما دون بسنوات، حيث نظم شعراً غزلياً رقيقاً راقياً عذباً..
ففي قصيدةٍ عنوانها "عتاب واستغفار" من ديوان "على شاطئ الوجدان"، وفي عفويّة المراهق العاشق وشغفه بالحبّ والحياة، ينشد سيّدنا:
في شغفي نار... وفي مقلتي دمع... وفي روحي التفات الحنين
وفي ارتجافات الهوى في يدي ذكرى غرام قد طوته السّنون
وفي فمي ترنيمة الملتقى يصرخ فيها القلب: هل ترجعين؟
وبين أضلاعي جوًى ملهب يرتعد الوجد به والأنين
فهل يعود الحبّ عذب الرّؤى يزهر بالفلّ وبالياسمين
وهل ترى ترجع أحلامنا ويرجع العهد الّذي تذكرين
مِنَ الحوارات الشّعرية مع سماحته: الشّعر حال نفسيّة منفتحة
رغم انشغالاته الدّينيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، فإنّ السيّد محمد حسين فضل الله(رحمه الله) كان لديه الوقت للاهتمام بالقضايا الأدبيَّة عامّةً، والشّعريَّة بشكلٍ خاص، كان يتابع باهتمام التّجارب الشعريّة القديمة والحديثة، ويقرأ آخر النّتاجات الشّعريّة ويتفاعل معها..
من إجاباته حول متابعاته الشّعريّة في أحد الحوارات، يقول السيّد فضل الله: "أستطيع القول إنّ انفتاحي على الحياة وأنا طفل بدأ بالاستماع إلى الشّعر وقراءته، وخصوصاً أنّني من عائلة شاعرة، فربّما تركت تأثيرات حفرت في اللاشعور عندي نبضات الشّعر، فكنت أتحسّسه من الدّاخل دون أن أعيه أو أستشعره، لذلك لم أعِ نفسي إلا وأنا شاعر. فقد كان بالنّسبة إليّ شيئاً يعيش بطريقةٍ عفويّةٍ جدّاً، فلم أتكلّفه، ونظمي لقصيدةٍ ذات خمسين بيتاً ليس صعباً أمام ما كنت أرتجله من الشّعر في بعض المناسبات، حيث كان هناك من يتقارع بالشّعر".

في رثائية السيد محسن الأمين
"علاقة روحيَّة فكريَّة نهجيّة كانت تربط فقيدنا السيّد محمد حسين فضل الله بالمجدّد السيّد محسن الأمين، فقد كان يرى أنّ نهجه هو النّهج الإصلاحيّ والتّجديديّ على جميع الأصعدة. وفي نظرة إلى القصيدة الشّهيرة التي رثى فيها فقيدُنا السيّد فضل الله المجددَ السيّد محسن الأمين، نرى جليّاً شدّة تأثّر فقيدنا بالنّهج الّذي أرساه السيّد محسن الأمين في العمل الرّساليّ. والقصيدة الّتي ألقيت في أربعين السيّد الأمين كانت مناسبةً مميّزةً للسيّد فضل الله، حيث كانت المرّة الأولى الّتي أطلّ فيها على جمهورٍ نخبويّ كان يضمّ أهمّ المفكّرين والعلماء والمثقَّفين من سوريا ولبنان، وكان السيِّد لم يتجاوز حينها السَّابعة عشرة من عمره..
ولهذه القصيدة وقعٌ خاصّ في نفس السيّد، حيث إنَّه كان لا يترك مناسبةً في حديث أو حوار أو مقابلة إلا ويذكر أبياتاً منها، ولا غرابة، لأنّه ضمّن القصيدة عدداً كبيراً من الأغراض الّتي تعدّ رسماً لرؤية السيّد في الكثير من المسائل الإشكاليّة في حينها ولا تزال.
وما يميِّز هذه القصيدة، أنَّها كما كانت رثاءً للمصلح المجدِّد السيّد محسن الأمين، فهي تستحضر نفسها هنا الآن لتؤبِّن كاتبها المصلح والمجدِّد، ونقطتف منها:
في ذمَّة القدر المُبيد روحٌ تسيرُ مع الخلودِ
والدّين عقيدة شعَّت على أفق الوجود
عرّفتنا فيه الحياة بما حواه من البنود
وأريتنا أنَّ الإخاء من الهدى بيت القصيد
ومناهج توحي لنا روح التَّضامن والصّمود
فالمسلمون... لبعضهم في الدّين كالصّرح المشيد
لا طائفيَّة... بينهم ترمي العقائد بالجحود
والدّين روحٌ برّةٌ تحنو على كلّ العبيد
ترمي لتوحيد الصّفوف ودفع غائلة الحقود
عاش الموحِّدُ في ظلال الحقّ في أُفُق الخُلود
وسام الأمين
مجلة شؤون جنوبية
التاريخ: 24 شعبان 1432 هـ الموافق: 25/07/2011 م