بعد عام على الرّحيل، نفتقد إلى الحضن الذي كان يضمّنا بحنانه فيملأ صدورنا فرحاً وغبطةً ومحبّة، وإلى توجيهاته وإرشاداته وتسديداته الأبويّة.. الّتي نحملها دروساً في الأداء والسّلوك والعمل..

ها هي ذكرى إطلالة الرَّحيل، رحيل المرجع الحبيب.. ومع إطلالة هذه الذِّكرى، تشتكي العيون قذاها.. تصرخ والصَّمت يردِّد صداها.. تبحث عن ذلك البدر الّذي كان يبعث النّورَ فيها، من ضياء وجه كمشكاةٍ فيها مصباح، فلا ترى في عالمها إلا الجمال، انشغالاً بالطلَّة البهيَّة عن كلِّ ما حولها، يا للفرح الّذي كان يغمر رؤاها، والمدى لا يحدّه مكانٌ في الأرض ولا أفقٌ في السّماء.. وفي ليلةٍ ليلاء، أرخى العتم سدوله القاتمة، فلم تعد تُبصرُ إلا السّواد.

ثورة الوعي:
عامٌ على الرّحيل، ولم تزل عيوننا شاخصةً في المغيب، علَّها ترقُب بصيص أملٍ يعيد إليها بعض فرح الماضي التّليد.. لا شيء غير دموع حارّة تنهمر من عيون أفجعها الفقد..
عام مضى، والأسى في القلوب لا يبدِّده إلا حضوره الّذي يكبر فيها يوماً بعد يوم، بخلاف العيون الَّتي ما عادت تكحِّلُ النَّظر بمرآه، وبسلوى العشق الّذي يزداد ويتعاظم ويتَّسع مساحات شاسعة للإرث الباقي، تهدأ النّفوس وتطمئنّ للآتي من الزَّمن والمستقبل، أنّى تطلَّعت في الميادين والأرجاء ترى السيِّد، سيّد الحاضر المنطلق بسرعة الضَّوء إلى القلوب، من دون منافسٍ أو نظيرٍ أو مثيل..

لكأنَّ ثورة الوعي قد بدأت من لحظتها، وإن كانت انطلاقتها عقوداً بين ماضٍ منهكٍ بالتّعب والنّصب والألم؛ لكأنّ قلوباً استفاقت من سُبات لوثٍ عميق؛ لكأنّ الّذين كانوا لا يشعرون بمسؤوليّة الرّسالة والحياة، مع وجود الحاضن والمتحمّل عنهم تحدّيات الواقع والفكر والرّسالة.. لكأنّهم جميعاً استشعروا الفقد يقضّ مضاجعهم، فهم عن السَّبب يتساءلون، أو عن الّذي كان الحامي في ظهرانيهم يبحثون..
كم عاش فينا وفيهم، يحثُّ العقول لتنهل من عذب فكره الإنسانيّ الخلاق، ورجع صوته يردّد فينا: "أيّها الأحبّة، لا تؤجّروا عقولكم فتقولوا للآخرين فكّروا عنّا، وهم ينتظرون منكم ذلك، ليست عقول المبدعين في الغرب من ذهب وعقولنا من تراب" ..
فكم أمسك بنواصي قلوبنا مستحثّاً فيها المحبّة، لتكون الدّافع والمحرّك في العلاقة مع الله والذّات والآخر: "عيشوا المحبّة في كلِّ جوانب الحياة"، وما كان البعض الذي استفاق الآن يولي لهذه القيمة العظيمة جديّة اهتمام..
حتّى إذا وقع الفقدُ وجُنَّ اللّيل، وأطلّت الفتنة برؤوسها، ورأوا ما رأوا، أدركوا ما كان السيِّد يراه بعين الله، فيحمل عنهم أثقال ما كانوا لا يحسبون له حساباً ولا يتنبهون..
سيذكرني قومي إذا جدّ جدّهم وفي اللّيلة الظّلماء يفتقد البدر
ألسنا نشعر جميعاً، ولم يمض على الرَّحيل إلا عامٌ واحد، بأنَّنا نفتقد إلى الحضن الّذي كان يضمّنا بحنانه، فيملأ صدورنا فرحاً وغبطةً ومحبَّة، وأنّنا نفتقد إلى توجيهاته وإرشاداته وتسديداته الأبويّة ـ وقد ترك لنا منها لسنواتٍ وسنوات قادمة ـ والّتي سوف تبقى نصب أعيننا، نحملها دروساً في الأداء والسّلوك والعمل، حتّى تبقى البوصلة في اتجاهها الصَّحيح..


باقٍ في القلوب:

عامٌ مضى، والسيّد الجسد قد غاب عن وجودنا، ولكنَّ السيّد المفكّر، والفقيه المجدّد، والأديب والموجّه والمرشد والإنسان والقائد، يتألّق يوماً بعد يوم في العقول والقلوب والوجدان، وما الاحتفال بالذّكرى السنويّة الأولى إلا بعض من الحضور الفاعل، فِعْلُ دم الحسين(ع) في الزّمن الّذي أعقب الشّهادة، والسيّد بعضٌ من العترة الطّاهرة التي تمثّل نهجها القويم، سلك صراطها المستقيم في كلّ حياته إلى يوم الرّحيل.
الوفاء للسيّد يتبدّى مع تعاقب اللّيل والنّهار، والشّعور والإحساس بأهمية الفقد يتنامى مع التّغيرات والتّبدلات التي تجتاح العالم كلّه، ولا سيّما في عالمنا العربي والإسلامي، حيث إنّ غيابه، كما قال أحدهم من قادة اليوم: "غياب السيّد خسارة كبرى للعالم الإسلاميّ كلّه، ولكلّ الأحرار في العالم، ولا أحد في عالمنا الحاضر يستطيع تعويض هذه الخسارة".
سوف تبقى مفرداتُ كلمات سماحة السيّد، تَعبر ـ معنا ومع الأجيال الآتية ـ الأزمنةَ مهما تباعدت.. سوف نبقى ننتج تجربتنا بإطلاق العقل فيما يغني الحياة بالجهد والنّشاط والعمل الدّوؤب.. "أن نعيش العقل في صلاحه ـ كما يقول السيّد ـ لأنّه يعيش صلاح الفكر في معناه، ليتحرّك من خلال صلاح الواقع وصلاح الحياة".. لن نترك المسائل الهامّة في التّربية والتّعليم تدور في الفراغ أو الارتجال من دون إثرائها فكراً وتفكّراً، وأن نرسم آليات تنفيذها كمشاريع للمستقبل..
إنَّ التاريخ الذي عشناه مع السيّد، يمنحنا القدرة في الحاضر، ويمكّننا من المستقبل، وإنّ تحريك مكامن القوّة في مسيرتنا سوف يستمرّ في الجيل الآتي، وكلمات السيّد(ره) تبقى تزرع القوّة، "سنكون الأقوياء بإنسانيّتنا؛ الأقوياء بإيماننا؛ الأقوياء بإرادتنا، ولن نسمح لأحد بأن ينظر إلينا بإشفاق أو باحتقار، سوف نفرض أنفسنا على المجتمع، أن يحترمنا لأنّنا نملك الخبرة والعلم والمعرفة، وأن يحترمنا لأنّنا نملك الإرادة القويّة".

طموح التغيير:
إنّ على من يقف في موقع المسؤوليّة، أن يسعى إلى المعرفة المتجدّدة، وأن لا يعتبر المدح طريقاً إلى النّفوذ، وأن لا يؤكّد ذاتيّته في الخطأ، بل في الارتفاع بها في الصّواب، كما يقول السيّد.
وأن يشعر بثقل الأمانة عند النّجاح، وعند التعثّر نتيجة الإصابة والخطأ، وعند الحزن على ضياع الفرص، وعند الفرح المتألّق بالإنجاز، والفرح بالتّطوير العلميّ والإنساني.
إنّ طموح التَّغيير لإعلاء البناء المادّيّ والإنسانيّ، يجب أن يتمّ بمشاركة الجميع، بقراءة الوقائع بكلّ صعوباتها، وإيجاد الأنسب في التّعامل معها، والانتقال إلى التفكير في الحلم المستقبلي للوصول إلى المواقع المتقدّمة، ولن يتمّ ذلك إلا بما أشرنا إليه منذ عام، بالتأمّل بالممارسة التّفكرية، وتوسيع مساحة العقل الواعي، لاستمرار التّنوير المؤسّساتي، و ستبقى حياة السيّد(ره) الرّفيق والصّاحب في مسيرة التفكّر.
علينا أن نؤكّد ثقافة الحوار، لأنّ غياب هذا الحوار سوف يوقف عملية التّفاعل الإيجابيّ، ويراكم النّظرة السّلبية.. كما علينا أن نعيش ثقافة المحبّة، وأن نجسّدها في أفعالنا وأقوالنا، وأن نتحرّك بها على أرض الواقع، ونستشرف بها آمال المستقبل، لأنّ مسؤوليّتنا، كما كان يخاطبنا السيّد، هي الحبّ، " حبّ الّذين يعطون الحياة حبّاً من طاقتهم وجهدهم وحركتهم".
وها نحن ننطلق من أجل مواصلة السّير في خطّ المسؤوليّة، بإمكانيات وتفكير أعمق، لتحقيق النّجاح، حتّى لو كلفنا ذلك الكثير الكثير من الجهد.. وحتّى لو استتبع بالكثير من الأرق والسّهاد، مؤكّدين حمل الأمانة، تلبيةً لنداء الحبيب، حتّى ولو كانت بثقل الجبال..
"إنّني أشعر بثقل الأمانة الّتي حمّلني الله إيّاها لتأسيس هذه المؤسّسات، وإنّني أريد منكم أن تشعروا بثقل هذه الأمانة، لتكون أمانة الله في أيديكم وأعناقكم، وربما يكلّفكم ذلك الكثير من الجهد".
وسنبقى معاً بإذن الله ما بقي في العمر بقيّة من المؤمنين المؤتمنين: {الّذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون}[المؤمنون: 8].
التاريخ: 27 شعبان 1432 هـ الموافق: 28/07/2011 م

د.محمد باقر فضل الله