العثمانيون على أبواب الشام



جريدة المستقبل العراقية 20/11/2011

كاظم فنجان الحمامي


ربما كانت تصريحات (أحمد داود أوغلو) وزير خارجية تركيا, هي التي وضعت النقاط على الحروف, وكشفت المستور في اللعبة الأناضولية الأردوغانية الجديدة, التي ستمهد الطريق لعودة سلطان الدولة العثمانية إلى ربوع الوطن العربي بحلة إسلامية مريبة. .
قال أوغلو: ((لدينا ميراثاً آل إلينا من الدولة العثمانية, أنهم يقولون عنا: أنهم العثمانيون الجدد, نعم نحن العثمانيون الجدد)), لقد جاء حزب العدالة والتنمية إلى السلطة منسلخا من حزب الرفاه الإسلامي, لكي يعيد للإمبراطورية العثمانية مجدها القديم وهيبتها, التي بددها الرجل المريض بعد فشله في اختبارات الحرب العالمية الأولى. .


وبعد مضي قرن من الزمان تقريبا على تفسخ جسد الرجل المريض في مقابر التاريخ, أدركت تركيا الأردوغانية أن عدم قبولها في الاتحاد الأوربي لا يعني فقدانها القدرة على التنفس في مستنقعات الولايات العثمانية القديمة الممتدة من الشام إلى مراكش, فولجت الباب من الثقوب التي فتحتها لها أمريكا في جدران الحركات المتظاهرة بالإسلام, فكانت هي الراعية لها, وهي الممولة لبعضها, وأضاءت لها إسرائيل الطريق إلى استقطاب عامة العرب باختلاق المواقف البطولية المفبركة في الصراع الشكلي المفتعل بين أنقرة وتل أبيب, فلبس أمناء الأحزاب العربية الجديدة عمامة السلطان الطيب أردوغان, ابتداء من (راشد الغنوشي) في تونس إلى الإخوان في مصر, مرورا بالقيادات البديلة في المدن الليبية المتصارعة على عرش طرابلس, وساعدت بعض التوجهات الخليجية والفلسطينية بطريقة أو بأخرى في توفير الإسناد والمدد للأحزاب المشفرة بالصيغة العثمانية, وبالاتجاه الذي يضمن لها التفوق المطلق على النظير الفارسي الضعيف, الذي يمتلك التطلعات نفسها, لكنه غير قادر من النواحي الميدانية على التنافس مع سدنة الباب العالي في الأستانة, فكانت بوابة دمشق هي المسرح الأقرب لقرع طبول الدعوة الأردوغانية, ووجدت سوريا نفسها مجبرة على السباحة في بحرين متلاطمين, أما أن تستمر بالتنسيق مع طهران لضمان صمودها بوجه الزحف العثماني, أو تسعى لتقديم المزيد من الإغراءات والتنازلات للجار التركي المعزز بتأييد أقطار مجلس الدوما الخليجي. .

أيقنت سوريا بعد انهيار باب العزيزية أن بواباتها لا تمتلك الأرضية الصلبة للصمود بوجه الأزمة, ولا تستطيع الحد من الأطماع العثمانية, الأمر الذي اضطر بشّار إلى إطلاق تحذيراته الزلزالية, التي قال فيها: ((أن أي مشكلة تطرأ على سوريا ستحرق المنطقة برمتها, وإذا كانت المخططات تهدف إلى تقسيم سوريا, فإن ذلك يعني تقسيم المنطقة كلها)), بيد أن انعقاد المؤتمرات المناوئة لسوريا على الأرض التركية في أنقرة واسطنبول, وتشكيل (المجلس الوطني السوري), على غرار نظيره الليبي, وتصاعد النبرة الطائفية العثمانية, وضع سوريا في مواقف دفاعية لا تحسد عليها, ما اضطرها إلى تحريك المليشيات الكردية التركية (حزب العمال الكردستاني) لإثارة الشغب في الهضاب التركية, في الوقت الذي قامت فيه طهران بعقد هدنة للصلح مع حزب الحياة الحرة الكردي, والذي يعد من أهم أجنحة حزب العمال في تركيا, وبادرت سوريا إلى إطلاق المعتقلين الكرد في سجون الشام, فكانت ورقة الأكراد من أهم الأوراق, التي استخدمتها سوريا في التصدي للمشاريع العثمانية, في تهديد صريح لحكومة أردوغان, وذلك من خلال إقرار سوريا بحقوق الكرد القومية, والسماح لهم بعقد المؤتمرات الداعية لتحرير أكراد تركيا, وتحريضهم على الثورة ضد أردوغان, ولجأت سوريا في الوقت نفسه إلى تحريض الطوائف العلوية المستوطنة في الجبال التركية, في يوزغات, وغازي عنتاب, والاسكندرونة, وملاطيا, وبنغول, وقبر شهر, وتونجلي, وسيواس, وقهرمان ماش, وقارص, وباليغ أسير, ومرسين, فالعلويون الأتراك يشكلون اليوم أكثر من ربع سكان تركيا, وعندهم الرغبة الجامحة لإثارة الشغب وإطلاق التهديدات, وإعلان الاعتصامات, خصوصا بعد أن خذلتهم الأحزاب التركية العلمانية والدينية, ومارست ضدهم أبشع صنوف التهميش والاضطهاد, ما شجع سوريا على اللعب بهذه الورقة لزعزعة الأمن التركي, وسحب البساط من تحت أقدام أردوغان, وذلك بإعلان قيام إقليم الساحل السوري (الإقليم العلوي), وتحريض الأحزاب العلوية التركية للمطالبة بالحكم الذاتي أسوة بأقرانهم في سوريا. .

في الختام, يبدو أننا نقف اليوم على أعتاب منعطفات تاريخية ومنزلقات خطيرة ستشهدها المنطقة بسبب هذا التخبط الذي خلفته التدخلات الإقليمية, وبسبب ما نراه من دسائس وأطماع ومؤامرات ومخططات تحريضية, ستمهد الطريق لإشعال نيران الحروب الطائفية والقومية بين السنة والشيعة والعلويين والدروز والمسيحيين, والعرب والأكراد والأتراك والفرس, وربما ستتوسع دائرة الصراع لتتجاوز الحدود السورية, وتنتقل إلى سد مأرب في جنوب الجزيرة العربية, ثم تقفز إلى أماكن أخرى لتطيح بعدها بأنظمة عربية مازالت نائمة في العسل, ولا تدري بما يغلي تحتها من قدور ممتلئة بالأحقاد والضغائن والثارات المكبوتة. . .
والله يستر من الجايات