برداً وسلاماً كانت النَّار على سيِّدنا إبراهيم(ع).. عادة العقاب بالإحراق ليست بحديثة، فطقس "السّاتي" الهندوسيّ، كانت تقوم فيه الزَّوجة المتوفَّى زوجها طوعاً أو كرهاً بحرق نفسها مع جثّة زوجها، "فقد كان من المعيب اجتماعيّاً أن تعيش الأرملة بعد وفاة زوجها". ومع تقدّم العصور، أصبح السّاتي أمراً غير قانونيّ.
من ظاهرة فرديّة إلى ظاهرة جماعيّة
ارتبطت "ظاهرة العقاب بالإحراق في الكثير من الثّقافات بطقوس تطهيريّة، لما للنَّار من حضورٍ في الطّقوس كعاملٍ مطهّر ومنقّ". فحرق السَّاحرات كان يتمّ في أوروبّا في العصور الوسطى على اعتبار أنَّهن مصدر أغلب الشّرّ.
إلا أنَّه في الآونة الأخيرة، سادت ظاهرة جديدة عرفت بـ"البوعزيزيَّة"، تيمّناً بالشابّ التّونسيّ محمد البوعزيزي، الّذي أقدم على إضرام النَّار في نفسه، فاعتقد البعض أنَّه بإشعاله لنفسه، أشعل شرارة ثورات اجتاحت العالم العربيّ. وبغضّ النّظر عن صحّة هذا الكلام، تحوَّلت ظاهرة الاحتجاج الفرديَّة هذه إلى ظاهرة جماعيَّة، تمثَّلت بإقدام عددٍ من الشَّباب على حرق أنفسهم تعبيراً عن غضبهم وانتقامهم من وضعهم الاجتماعيّ.
وبعد أكثر من عام، شهد المغرب حالات مماثلة، عندما قام خمسة شبَّان بإحراق أنفسهم، ليضافوا إلى حصيلة شهر أقدم خلاله آخرون، في الأردن، والبحرين، وتونس، على الخطوة ذاتها.
لا يجوز للإنسان أن يقتل نفسه إلا إذا كانت هناك مصلحة كبيرة تتوقَّف على قتل نفسه، وكان هذا هو السَّبيل للوصول إلى هذه المصلحة

ما هي وجهة نظر الدّين وعلم الاجتماع حول هذه الظّاهرة؟ كيف يمكن تفسير تضاعف هذه الظّاهرة عدديّاً، واتّساع رقعتها جغرافيّاً؟ وهل لبنان بمنأى عن هذه الظّاهرة؟ هذا ما سيوضحه التّحقيق التّالي، ضمن مقاربة دينيّة اجتماعيّة قابلت فيها وكالة أنباء التّقريب "تنا" (مكتب بيروت)، كلاً من سماحة السيّد علي فضل الله، والدّكتورة المختصّة في علم الاجتماع، السيّدة سحر مصطفى.
انتحار أم تضحية بالذّات؟
"نظرة الأفراد إلى الجسد وطريقة تصرفهم معه"، هي أحد الأسباب الّتي تدفع الشّخص إلى الإقدام على هذا الأمر، بحسب ما أوضحت لنا الدّكتورة مصطفى، مبيّنةً أنّ "البعض يعتبر أنّ الجلد هو معبر احتكاكهم مع الخارج، لذا يحتجّون على ظلم الآخرين من خلال إحراق هذا الجلد".
وتكمل الدّكتورة شرحها لدوافع القيام بهذا التصرّف قائلةً: "البعض يفسّر هذه الظّاهرة، بأنَّ الأفراد الّذين يعتبرون أنفسهم يعيشون جحيماً في الدّنيا يشعرون بأنّه لا ضير عليهم أن يرموا أنفسهم في النّار طوعاً". وتتابع بأنّ "مقاربة موضوع الانتحار بكلّ أشكاله مع دوركهايم، أعطى العديد من التّفسيرات الاجتماعيّة لهذه الظّاهرة الّتي ظلّت حتّى القرن التّاسع عشر يجري التّعاطي معها على أنّها ضرب من الجنون، أو ضمن الأمراض النّفسيّة فقط".
ومن الدّافع، إلى النَّظرة إلى هذا التصرّف، والّتي تختلف بين متعاطفٍ ومستنكر، فثمَّة من يرى فيه تضحيةً بالذّات أو إحدى وسائل تعذيب النّفس، وآخر يصفه بالانتحار الغيريّ، فيما نظر إليه آخرون كظاهرة معبِّرة عن الإحباط الممنهج واليأس.
البديل من إحراق النّفس
ولكن، ما البديل من هذه الوسيلة لمواجهة الظّلم ونيل الحقّ؟
"من ناحية المبدأ، لا يجوز للإنسان أن يقتل نفسه، إلا إذا كانت هناك مصلحة كبيرة تتوقَّف على قتل نفسه، وكان هذا هو السَّبيل للوصول إلى هذه المصلحة العامَّة والضَّروريَّة". هذا ما يؤكِّده لنا سماحة السيِّد فضل الله.
أمَّا البديل، فيكون من خلال "الرّفض والاحتجاج الّذي يحمل مشاريع بديلة، القائم على العقل، وليس على مجرّد تفاعل عاطفيّ"، بحسب ما تؤكّد الاختصاصيّة في مجال علم الاجتماع، وتعطي مثالاً أقلّ عنفاً، وكان له أثر في التّاريخ، وهو "الإضراب عن الطّعام".
أمّا سماحة السيد فضل الله، فلا يرى "أنّ هذا هو الأسلوب الوحيد الّذي تُثار من خلاله معاناة المجتمع، أو تدفعه لكي يتحرّك ويواجه الواقع المنحرف، فهناك وسائل أخرى، مثل الإضرابات والمسيرات، وعبر وسائل الإعلام ومنابر حقوق الإنسان". مشدّداً على أنّ "للحياة احترامها الكبير في التّشريع الإسلاميّ، ولا بدَّ من عدم تعريضها للخطر أو للموت، مع توفّر وسائل أخرى فيها التّأثير، وكثيرة هي الثّورات والاحتجاجات الّتي انطلقت وأدّت دورها وحصلت بسببها نتائج لم تكن فيها هذه الظّاهرة".
للحياة احترامها الكبير في التّشريع الإسلاميّ، ولا بدَّ من عدم تعريضها للخطر أو للموت، مع توفّر وسائل أخرى فيها التّأثير...

عقاب فرديّ أم جماعيّ؟
ولا ترى الدّكتورة مصطفى أنَّ لبنان بمنأى عن هذه الظّاهرة الّتي إن حصلت "فسيكون لها طابع مختلف ورمزيّة مختلفة، ترتبط بتعقيدات المجتمع اللّبنانيّ، حيث لا وجود لهيكليّة سلطة واضحة، بل تتعدّد المرجعيّات لفئات مختلفة من المجتمع"، لافتةً إلى أنّنا "في عصر تطغى فيه جاذبيّة الأفكار الغريبة والمشهديّة، وخصوصاً في ظلّ تراجع القيم الرّوحيّة، وبحث الأفراد عن أدوار في المجتمعات تخلّد ذكرهم، ووجود قدرٍ كبيرٍ من الوحشيّة الرّأسماليّة الّتي تزيد الهوَّة في المجتمعات، وتهمّش فئات كبيرة من المجتمع".
وما بين الإقدام على حرق النّفس يأساً، والإقدام على حرقها إيثاراً وحثّاً للمجتمع على النّهوض بوجه الظّلم، فرق كبير. هنا تنفي الدّكتورة في علم الاجتماع أن يكون "البوعزيزي يسعى إلى تخليص المجتمع التّونسيّ من الحكم الظّالم، بقدر ما كان مجرّد تعبير على طريقته عن مستوى من القهر"، مشيرةً إلى أنّ التّاريخ حافل "بطرق استنهاضٍ للأمم ناجحة ومثمرة، ولم يكن حرق النّفس أحد أشكالها".
بين الحرق والعمليّات الاستشهاديّة
من جهة أخرى، يميّز سماحة السيّد فضل الله بين العمليّات الاستشهاديّة الّتي هي أحد أساليب مواجهة العدوّ، والّتي لا يرى فيها مبدأً، وإنّما يُلجَأُ إليها في حال الضّرورة والاستثناء، مؤكّداً ضرورة أن تكون من وراء ذلك "مصلحة ضروريّة كبرى، وبعد دراسة من قِبَل الجهات الشّرعيّة المختصّة والخبراء المختصّين في المجال العسكريّ والأمنيّ"، وبين ظاهرة حرق النّفس، "الّتي يراد منها إثارة الوجدان العام وإعلان الاحتجاج". بحسب ما يشير السيّد فضل الله، فيما ترى الدّكتورة مصطفى أنّه عقاب للنّفس والمجتمع، وتقول في هذا الإطار: "في هكذا فعل، يكون قصد الّذي يقوم بحرق نفسه، وخصوصاً أنّ الأغلب يقوم بهذا الفعل في السّاحات العامّة، وعلى مرأى ومسمع من النّاس، هو الاحتجاج والتّعبير عن رفض الحالة الّتي يصل إليها من ضعف وظلم، وإحساسه بأنّه لا وجود له، وأنّه غير مرئيّ من قبل الجماعة، فيقوم بتحويل نفسه إلى رماد، في مشهد مأساويّ صادم للجماعة".
تحقيق بتول زين الدين – وكالة أنباء التقريب تنا
التاريخ: 5 ربيع الأوّل 1433 هـ الموافق: 28/01/2012 م