لقد انطلق الإسلام في هذه الحياة لينشر دعوة الله في الأرض ويبشّر بها، ويبني على أساسها دولةً تكفل للحياة التنظيم والتوجيه، وتحمي الإنسان من شرور نفسه وشرور أبناء جنسه.. ولهذا، لم تكن طبيعة الدّولة في الإسلام منفصلةً عن روح الدّعوة ومجراها، بل هي منسجمة معها، تماماً كما يلتقي مجرى النّهر بمصبّه... ولكن هناك قضيّة تتعلّق بطبيعة الدّعوة وطبيعة الدّولة، فطبيعة الدّعوة ـ من حيث هي رسالة روحيّة وفكريّة ـ تتطلب إفساح المجال أمام الفكر ليفكّر، وفتح الطريق أمامه ليقتنع، وخلق الأجواء الملائمة للرّوح لتنطلق وتحسّ وتؤمن..
فمهمّة الدّاعية إذاً ـ في مجال الدّعوة ـ هي إعانة الإنسان على أن يصل إلى الإيمان بفكره وروحه، ولا بدّ له في سبيل ذلك من استخدام الوسائل الّتي تتلاءم وهذه المهمّة، لتصل به إلى ذلك الهدف...
أمّا طبيعة الدّولة ـ من حيث هي كيان معنويّ ومادّيّ ينظّم حياة المجموع، ويحمي أمنها وسلامها ـ فتتطلّب تهيئة القوى الّتي تدعم هذا الكيان وتركّزه، والعمل على بقاء هذه القوّة صامدةً أمام التيّارات التي تندفع نحوها، والقوى الظّالمة التي تتحفّز للإجهاز عليها، فمهمّة مؤسّس الدّولة هي تجميع القوى الّتي تهيّئ لهذا الكيان سلامته، وتنظيمها في وحدة قويّة ثابتة، ولا بدّ له في الوصول إلى ذلك، من اتّباع الأساليب الّتي تصل به إلى تلك الغاية...
والإسلام ـ بحكم اختلاف طبيعة المضمون في كلّ منهما ـ حاول أن يعطي لكلّ منهما مجاله، ويشرّع له الأساليب الّتي تتّفق وطبيعته.. وبذلك نستطيع أن نفسِّر الآيات الّتي تأمر بالرّفق وتدعو له، وتطلب المغفرة حتّى للّذين لا يرجون أيّام الله، والآيات الّتي تدعو للقتال والشدّة والغلبة مع الكفّار.. إنَّه الفرق بين أحكام الدَّعوة وأحكام الدّولة، الّذي يرجع إلى اختلاف طبيعتهما، مع نبل الغاية وسلامة الهدف ووحدة المصدر الّذي يرتكز على الخطّ العام الّذي جرى عليه الإسلام في تشريعه، من رعاية الصّالح العام للإنسان، ودفع المفاسد والأضرار عنه...
وبذلك نتمكّن من أن نضع أيدينا على الخطّ الفاصل بين أساليب الدّولة وأساليب الدّعوة، وأن نبتعد عن الالتباس والخلط بينهما، الأمر الّذي قد يسبّب لنا ارتباكاً في الفكر وخللاً في البحث...
من كتاب "أسلوب الدّعوة في القرآن".