الغشّ والاحتكار من الجرائم الاقتصاديَّة، لأنَّ ضررهما يطال المجتمع ككلّ، ويخلّ بالبنيان الاقتصاديّ والأخلاقيّ للنَّاس، فيفقد المجتمع مناعته، ويتيه في دهاليز التفرّق، ويجعله يغرق في الفوضى والظّلم والفساد. واليوم، يعاني مجتمعنا من هذه الجرائم وبكثرة، نتيجة التطوّر التّكنولوجيّ الهائل، والّذي يسهِّل أنواع الغشّ والانتفاع غير المشروع. فكثيراً ما بتنا نسمع عن أنواعٍ وأنواعٍ من السّلع الاستهلاكيّة الّتي تمسّ حياة النّاس اليوميّة، من طعامٍ وشرابٍ ودواءٍ يُصار إلى تزوير علاماتها التجاريّة، أو التّلاعب بنوعيّتها ـ أي تقليدها ـ وبيعها للمستهلك على غير صورتها الحقيقيّة، وفي بعض الأحوال، يعمد إلى بيع بضائع وسلع منتهية الصلاحيّة بعد التّلاعب بتاريخها الفعليّ، ما يعرّض الحياة للخطر..

ومع انفتاح العالم بعضه على بعض وسرعة هذا الانفتاح، أصبحت السّوق المحليَّة تغرق ببضائع وسلع من مصادر لا يعلم على وجه الدّقّة بلد منشئها، ما يفتح المجال أمام التّلاعب بنوعيّتها وتاريخها وأسعارها، فالنّفع المادّيّ هو المسيطر على القيّمين على الأسواق المحليَّة والعالميّة، والنّاس تحت رحمتهم فيما يمدّونهم به، ويبيعونهم إيّاه، كما أنَّ وجود وسائل الاتّصالات والإعلام وتطوّرها، كالإنترنت وغيرها، يجعل من الغشّ بأنواعه المختلفة شيئاً يسيراً، فكثرة العروضات والمعلومات السّريعة عنها في الإنترنت في كثيرٍ من أحوالها، ليست واقعيّةً وصحيحة...
يبقى الإنسان البسيط هو من تتجاذبه أطماع كلّ هذه الأجواء، لتثقل كاهله بجشع الكثيرين الّذين يتوخّون الرّبح السّريع وجمع الثّروات كيفما كان وبأيّ طريقة، دون النّظر إلى خطورة ذلك وحرمته في الميزان الشّرعيّ، فأمثال هؤلاء لا يقيمون للشَّرع حساباً، ولكنّهم في حساب الشّرع خاسرون...
بدايةً، يعتبر سماحة الفقيه المجدّد السيّد فضل الله(رض)، أنّه ورد في الأحاديث الشّريفة التعرّض لجملةٍ من آداب التكسّب الّتي لا تختصّ بحرفة معيّنة، ومن المناسب أن نذكر منها هذه الأمور:
أن تكون الغاية طاعة الله ومرضاته، والفوز في الآخرة، وأن يطلب الإنسان الرّزق بالصَّبر والأناة من وجوه الحلال، ففي الحديث عن النبيّ(ص) أنّه قال في حجّة الوداع: "ألا إنّ الرّوح الأمين نفث في روعي أنّه لا تموت نفس حتّى تستكمل رزقها، فاتَّقوا الله وأجملوا في الطّلب، ولا يحملنَّكم استبطاء شيء من الرّزق أن تطلبوه بمعصية الله، فإنّ الله تبارك وتعالى قسّم الأرزاق بين خلقه حلالاً ولم يقسّمها حراماً"... [فقه الشَّريعة، ج2، ص:45].
وبالنِّسبة إلى تغيير المواصفات الخاصَّة بالبضاعة، يقول سماحته(رض): إنّ الغشّ يتمثّل بإخفاء الأدنى من الأعلى، كمزج الجيّد بالرّديء، وبإخفاء غير المراد بالمراد، كمزج الماء باللّبن، وبإظهار الصّفة الجيّدة مع أنّها مفقودة ـ واقعاً ـ مثل رشّ الماء على الخضار ليتوهّم أنّها طازجة، وبإظهار الشّيء على خلاف جنسه، مثل طلي الحديد بماء الذّهب أو الفضّة.. فإن كان تغيير المواصفات الخاصّة بالبضاعة، مع إبقاء العنوان المميّز لها بحسب حالتها الأصيلة، أو طبيعتها الذاتيّة، ظاهراً في عنوان المعاملة مع إخفاء التّغيير، كان غشّاً محرّماً حتّى لو كان السّعر أقلّ من السّعر العاديّ...[فقه الحياة، ص:106].
وأيضاً قد يحرم التّرويج للسّلعة المحلّلة عند طروء عنوان آخر محرّم، وذلك كما في صورة ما لو استخدم في التّرويج الكذب في المعلومات المنشورة عنه، أو تصوير الدّعاية ضمن مشاهد من العري والإباحيّة، أو كان النّتاج الفكريّ مشتملاً على الهجاء أو الاستهزاء بذوي الحرمة من النّاس، أو نحو ذلك من الأمور المحرّمة، فإنّه يحرم حينئذٍ نشر ذلك النتاج أو وضع تلك الدّعاية أو الإعلان، ويحرم أخذ الأجرة عليه... [فقه الشّريعة، ج2، ص:176].
وعن الاحتكار، وهو حبس السِّلع مدّةً من الزَّمان، وتفريغ السّوق منها، مع حاجة النَّاس إليها، رغبةً في رفع أسعارها وبيعها بثمنٍ مرتفع، فإنّه حرام في كلِّ سلعةٍ يضرّ النّاس فقدها، كالقمح والدّواء والزّيت والسكّر، ونحوها من السّلع الأساسيّة، وينبغي على المسلم أن يجتنب الاحتكار في أيّ نوعٍ كان، وعدم التسبّب بالإضرار بالنّاس، ولو كان ضرراً طفيفاً... [وفقاً لرأي سماحة المرجع السيّد فضل الله(رض)]...
محمد السيد