يا ظلال الصّمتِ المهوّم في قلبي تفيّأتُ سرّك الأبديّا
أنتِ لي زورقٌ أطوف به الدّهرَ فأخلو إلى الحياة مليّا
يتهادى في شاطئ العمر لا ينفكّ يغري الأحلام في عينيّا
أتملّى روحي بدفء أغانيه أغنّي شراعه الذّهبيّا
أتملّى سرّ الوجود وأصغي لصداه ينساب حلواً رويّا
فأزفّ النّشيد طلقاً يُريني كيف ثارت عواصفُ اللّيل فيّا
أنتِ في وحدتي بقايا انطلاقٍ خنقته الآلام في شفتيّا
وطيوفٌ هدهدْتُها بين جنبيّ وأطبقْتُ فوقها مقلتيّا
ونجاوى: أهرقتها في ليالي اليأس والكأس راعشٌ في يديّا
حضنتها أجواؤكِ الزّهرُ أصداءً عذاباً تموجُ في أذنيّا
أنا وقّعتها لتبعث أمسي فكرةً تنثر الشّعاع عليّا
***
السيّد محمد حسين فضل الله، عالم مجتهد ومفكّر وقائد إسلاميّ واجتماعيّ، وهو إضافةً إلى صفاته هذه وصفاته الأخرى، يعتبر شاعراً موهوباً ومبدعاً، نظم الشّعر وهو في مقتبل العمر. ومن قصائده الّتي نظمها في مرحلة الشَّباب الّتي قضاها في مدينة العلم والعلماء (النّجف الأشرف)، قصيدة (يا ظلال الصَّمت) من ديوانه (على شاطئ الوجدان)، وقد وردت فيها مفردة الصَّمت كمضافٍ إليه، وأضاف مفردة "ظلال" إليها..
في قصيدته، ينادي الظّلال وكأنّه ينادي كائناً حيّاً، بل هو يستنجد بها ويلجأ إليها؛ إنّه يعيش في جوّ رومانسيّ كبير، لكن ليس رومانسيّة الماضي، بل رومانسيّة الحاضر الواقعيّة. وفي رأيي، فإنّ الشّاعر، أيّ شاعر، يعيش رومانسيّة واقعيّة عندما يبلغ مرحلة متقدّمة من الإيمان بالله تعالى، وقد بلغ السيّد فضل الله هذه المرحلة وهو في بداية عمره.. فالمؤمن بالله يعيش في الأمل، ولا يوجد عنده مستحيل، لأنَّ إرادة الله هي أقوى الإرادات، والتعلّق بها يخلق الآمال والأحلام الكبيرة..
وفي رأيي، فإنّ مفردة الصّمت عند السيّد فضل الله لا تعني الصّمت نقيض الكلام، بل هي صمت الكون الكبير الّذي لا تدرك حدوده، هذا الصّمت ذو الآيات العظيمة الّذي يبهر العقول وأصحاب الفكر بأسراره وآياته الّتي تدعو الى التفكّر والتدبّر، والأكثر تفكّراً وتدبّراً هو الأكثر قرباً من الله تعالى.. الصّمت الكونيّ هذا تحسّسه السيّد فضل الله وهو في مقتبل العمر، فالقصيدة نظمت وهو في مرحلة الشّباب، نظمها وهو متوجّه لبارئه ولآثار خلقه، يتفاعل ويتأثّر بهذه الآثار والآيات الإلهيّة، صمتها متحرّك بالنّسبة إليه، يناديها (يا ظلال الصّمت المهوّم في قلبي تفيّأت سرّك الأبديّا)، وهذه دلالات توحي إلى المعنى الّذي أشرت إليه، فهو ينادي ظلال الصّمت وكأنّها تفهم كلامه، هذه الظّلال تثير عنده الانتباه، وتحرّك فكره وتدعوه إلى التدبّر. ولفظ ظلال هو رمز لآيات خلق الله في هذا الصّمت الكونيّ العظيم الّذي لا يمكن تخيّل حدوده، إنّه يتكلّم الآن بقلبه، يعبّر عمّا يوجد في قلبه من صور إيمانيه فيرسمها بالكلمات. نعم القلب هو الّذي يستلم نتائج التفكّر والتدبّر، حيث تزيد نتائج هذا التدبّر والتفكّر من إيمان الشخص المفكر والمتدبر في القلب، لأن الإيمان يكبر ويصغر في القلب بمقدار تعاملنا وتأثّرنا بآيات الله الباهرات.
قوله: (أنت لي زورق) معناه يتكامل مع المعنى الأوّل، فآيات الله الّتي يتحسّسها الإنسان بالنّسبة إلى السيّد هي (زورق)، وهو تشبيه جميل ورائع، لأنّ الزّورق يتحرّك بين الأمواج طافياً، ويسير حيث المراد، يطوف بزورقه الدّهر ليأخذ العبرة والحكمة والفائدة، كي يعيش حياته صحيحةً سليمة، (فأخلو إلى الحياة مليّا)، يتنقّل بزورقه في سني الدّهر..
يمكن القول إنّ الزّورق هو تعبير رمزيّ عن سني العمر الّتي يتنقل فيها على صفحة الحياة منقّباً ومفكّراً في آيات الله الباهرات، الباعث إلى ذلك هي ظلال السّكون الكوني (ظلال الصّمت). والسّؤال: مَن الّذي ينتبه لظلال الصّمت هذه؟ إنّهم أصحاب العقول المفكّرة، هنا يخاطب زورقه(سني عمره)، حيث تتولّد عنده خلال مسيرة السّنين في الحياة الأحلام والأماني، عيناه ترنو لتحقيق هذه الأحلام، أحلام سني عمره.. (زورق حياته) الّذي يتهادى بين أمواج الحياة، لينتقل به إلى الحياة الأخرى، وهي المرحلة الأخيرة من المسير في زورق الحياة، هو مطمئنّ وهو يركب زورق الحياة، هذا الاطمئنان مردّه إلى ثقته بنفسه وإيمانه الرّاسخ بالله تعالى، هو غير قلق في سيره بزورقه، تطلّعاته وأمانيه عنصر اطمئنان له، لذا تراه ينشد وهو يتطلّع إلى ماضيه وحاضره ومستقبله:
فأزف النّشيد طلقاً يريني كيف ثارت عواصف اللّيل فيّا
هنا وهو يتهادى بزورقه في رحلة العمر، يرجع إلى من أثار عنده هذه التطلّعات والأماني والأناشيد، يرجع إلى (ظلال الصّمت) التي هي مصدر الإلهام عنده:
أنت في وحدتي بقايا انطلاق خنقته الآلام في شفتيّا
ظلال الصّمت هذه هي مبعث انطلاقته في مهرجان الحياة، هذه الانطلاقة الّتي كانت مخنوقةً بسبب الآلام وقساوة الحياة، لولا (ظلال الصّمت) هذه ولجوء السيّد إليها، لعاش في أزمة (أنت في وحدتي بقايا انطلاق)، هي ذات أهميّة كبيرة له، فهي زورق يطوف به الدّهر، وهي بقايا انطلاق، وهي طيوف يعتزّ بها ويهتمّ، وهي نجاوى تعيد إليه الأمل..
القصيدة بمجملها تعبّر عن شاعر مرهف الحسّ، يعيش بدرجة عالية من درجات القرب إلى الله تعالى.. وأستطيع أن أقول إنّ القصيدة فيها مسحة صوفيّة، فمَن يعش أجواء القصيدة، يعش في نشوة نفسيّة كبيرة، ومن ينفعل بالقصيدة، يعش في أجواء روحانيّة منعشة.
وأخيراً، ندعو للسيّد محمد حسين فضل بالرّحمة والرّضوان.
علي جابر الفتلاوي: صحيفة المثقف ، العدد: 2035
التاريخ: 9 ربيع الثّاني 1433 هـ الموافق: 02/03/2012 م