الأستاذ أنيس النقاش في مقابلة خاصة:
بلور السيد فضل الله(ره) نظرية جديدة لمقاومة الاحتلال فكان القرار الأمريكي الصهيوني بإزاحته من الساحة
حاورته: رحيل دندش
08/03/2012


الثامن من شهر آذار عام 1985م كان يوماً مروّعاً في تاريخ لبنان الحديث، عشرات من الشهداء والجرحى من الرجال والنساء والأطفال، حتى الأجنّة، سقطوا إثر انفجار هائل وقع في منطقة بئر العبد في ضاحية بيروت الجنوبية..
27 عاماً مضى على تلك العملية الجبانة التي استهدفت اغتيال أبرز شخصية إسلامية في لبنان آنذاك؛ سماحة العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله(ره) (1935/ 2010).

ولكي لا ننسى الوجه الحقيقي لأمريكا التي تقف اليوم داعمة لحركات الشعوب! نلتقي في مؤسسة الفكر الإسلامي المعاصر في هذه المناسبة مع المحلل السياسي ومنسّق شبكة الأمان للبحوث والدراسات الإستراتيجية الأستاذ أنيس النقاش، لنعود بالذاكرة إلى تلك الحادثة الأليمة، والإطلالة على الأسباب والخلفيات الكامنة وراء وقوعها ونتائجها، وأيضاً للحديث عن مجريات الأحداث المتسارعة في العالم العربي والتي تخطت العام الأول مما بات يُعرف بالربيع العربي

المحور الأول: ذكرى متفجرة بئر العبد
كيف تصف المرحلة التي عاشها لبنان في ثمانينات القرن الماضي؟
ـ كانت مرحلةً تحمل صفة الاعتداء السافر بكلِّ أبعاده من قبل إسرائيل وحلفائها الغربيين، حيث دخلت إسرائيل إلى بيروت واحتلت جزءاً كبيراً من لبنان، وجاء الأطلسي بعدّته الكاملة ليقوم بالمهمّات الَّتي لا تستطيع إسرائيل القيام بها. عندها وجد لبنان نفسه أمام قوى أجنبيَّة محتلّة تحاول إعادة صياغة حكمه وتوازن القوّة فيه، وترتيب أوضاعه لصالح إسرائيل، وبالتالي بات خيار المقاومة هو الخيار الوحيد من أجل طرد العدو الصهيوني والقوى الأجنبيّة من أرضه، ولذلك كانت المرحلة عنيفة جداً، وقد تميَّزت بالتضحيات الكبيرة الَّتي قدَّمتها القوى التي كانت تقاوم آنذاك، رغم أنّها كانت يافعة وجديدة وخبرتها محدودة.


ماذا تقول فيما يخص الصراعات الداخلية بين فصائل المقاومة آنذاك؟
ـ كان عدم الوعي السياسيّ سبباً أساسياً لتلك الصِّراعات، إلا أنّ جزءاً منها يعود إلى الاستخبارات الَّتي تغلغلت بين اللبنانيين. وفي حين كان يستسهل البعض القول بأنَّ الاشتباكات كانت تقع بهدف النّفوذ والصّراع السّياسي، تبيِّن الدّراسة التاريخيَّة أنَّ الكثير من الأجهزة آنذاك كان هدفها الإيقاع بين الأطراف المختلفة، وكان هذا العمل جزءاً من مخطط ضرب قوى المقاومة.

كيف تجلّى دور سماحة العلامة المرجع السيِّد محمَّد حسين فضل الله(ره) في مقاومة العدو الصهيوني، وخصوصاً في تلك المرحلة الدَّقيقة والمفصليَّة؟
تجلى دور سماحته من خلال قراءته الموضوعيِّة والسليمة لتلك المرحلة، حيث كان يوصّفها بشكلٍ دقيق جداً، وكان يعرف أنَّ نقطة الضّعف الأساسيَّة هي الخوف، فإذا ما استسلمنا لقوَّة العدو، فإنه سيفعل ما يريد، لذلك كان همّه الأساسي أن يرفع الخوف من عقول الناس وقلوبهم. وفي الوقت نفسه، كان يشدِّد على الصّمود والمقاومة والتمسك بالعقيدة، مؤكداً على ضرورة استثمار الإنسان الضَّعيف لكل إمكاناته، وبذلك يكون قد بلور نظريَّة المقاومة الجديدة انطلاقاً من الإرث التّاريخي الإسلامي، ومن الآيات القرآنيَّة والمفاهيم الإسلاميَّة، الَّتي وضعها في إطارها الزمني.كما تفرَّد وتميَّز سماحة العلامة المرجع السيِّد فضل الله(ره) -حتى قبل هذه الأحداث الكبيرة-، باستقطابه للشَّباب الذين استفادوا من توجيهاته باعتبارها توجيهات شرعية، لأنه عرف كيف يخاطبهم خطاباً يختلف عن الخطاب الدّيني التَّقليدي. وقد كان الحاج عماد مغنيَّة وإخوته من تلامذة السيِّد(ره) حتى قبل الاحتلال الإسرائيلي لبيروت.

نعيش اليوم ذكرى متفجِّرة بئر العبد الَّتي حصدت أرواح زهاء 80 شهيداً ما بين رجالٍ ونساءٍ وأطفالٍ، إضافةً إلى عشرات الجرحى. ما هي حقيقة هذا الاستهداف؟ وهل تكمن خلفيَّته الحقيقيَّة في تفجير مقرّ مشاة البحريَّة الأمريكيَّة "المارينز"؟
كان الإعلام المحلي والدولي يصف السيِّد بأنَّه المرشد الرّوحي للمقاومة الجديدة ولحزب الله الصّاعد، وهذا أمر غير بعيد عن الحقيقة، فقد كان هناك اثنان من الملهمين لشبيبة المقاومة في لبنان؛ الإمام الخميني والثورة الإسلاميَّة في إيران، والعلامة المرجع السيِّد فضل الله(ره) في لبنان من حيث المتابعة اليوميَّة، ولكن هذا لا يعني أنَّ هناك علاقةً عضويةً ما بين الحزب والسيِّد، فالسيِّد مرشد روحي وهم يتأثرون به ويسألونه ويستشيرونه. وهنا كان العدو الإسرائيلي وأمريكا أمام مشكلة تتمثل بعدم معرفتهم بهذا الجسم الجديد، الَّذي ليس له قائد أو قيادة مركزيَّة، ولكنهم كانوا يعرفون السيِّد فضل الله الَّذي تتحدَّث عنه الصّحف بأنَّه المرشد الروحي لحزب الله، إلا أنَّ السيّد كان ينفي هذه العلاقة العضويَّة لأنَّه رجل صادق، فيقول: لست مسؤولهم، أنا منفتح على كلّ الحالة الإسلاميّة، لا تضيقوني بجهةٍ أو بحزبٍ معين..

ما يلفت النَّظر في موضوع متفجّرة بئر العبد، هو طبيعة النَّموذج الذي تمثّله، والذي لا زلنا نعاني منه بشكلٍ كبير ٍحتى اليوم؛ إنه نموذج التَّعامل ما بين ثلاث قوى في الوقت نفسه وبعمليّة واحدة. فمتفجرة بئر العبد هي قرار أمريكي باغتيال السيّد، وتورّط عربي بالتمويل عبر شخصية خليجية معروفة، وتنفيذ على الأرض من قبل مخابرات لبنانيّة سابقة وضباط محليين ليس لهم "ناقة ولا جمل"، أو علاقة بكون الصّراع مبدئي أو مذهبي، بل كان كل همهم المال، وقد استطاعوا تجنيد الشَّبكة اللبنانيَّة الَّتي وضعت السَّيارة. وهنا تكمن خطورة هذا النموذج، لأنه يبدأ من دولة كبرى، يمر بدولة إقليميّة، لينفَّذ بأيادٍ لبنانيةٍ سخيفةٍ لها علاقة بالمخدّرات وسوء الأخلاق وحب المال...نموذجٌ نشهده اليوم في العراق وسوريا ولبنان، عنوانه التَّنسيق الدّولي الإقليميّ، بالتعاون مع بعض القوى المحليَّة التي لا تدري أبعاد اللعبة بسبب غبائها السّياسي، وعن طريق شراء ذمم هذه القوى وخدماتها في الوقت نفسه، وبالتّالي، يبقى العدو بمنأى عن التورط المباشر.

ولكن الكونغرس نفى تورطه بما حصل!
نعم، نفى الكونغرس علاقته بما حصل، ولكنَّ اللافت بعد وقوع الانفجار، هو وضع الشَّباب يافطة كبيرة كُتب عليها "Made in USA"، ما يشير إلى الوعي الكبير لديهم، وهذا ما صدم الأمريكي الذي كان يحاول بكل جهده إبعاد التهمة عن نفسه عبر استخدام مجموعة لبنانيَّة واللجوء إلى التمويل العربي، كي لا يترك أي أثر في ميزانية الـCIA، إذ أن مدير الاستخبارات المركزية الأمريكية وليام كايسي كان بحاجة إلى ثلاثة ملايين دولار من الدولة الخليجية، ليس لأنَّ أمريكا لا تملك هذا المبلغ، بل لأنَّ أي عملية سريَّة بحاجة إلى التمويل، على الإدارة الأمريكية أن توافق عليها، وبما أنهم لا يستطيعون أن يطلبوا موافقة علنيَّة ورسميَّة، لجأوا إلى الاستعانة بتمويلٍ خارجي.

ما هي مصلحة الدّول الإقليميّة باغتيال سماحة السيّد (ره)؟
إنَّ مصالح الدول الإقليميَّة مرتبطة استراتيجياً بمصالح أمريكا، وهذا الارتباط ليس نزوة، بل هناك اتفاقيات مكتوبة في هذا الإطار. فهم لا يرضون لأيِّ قوة شعبيَّة مهما كان مذهبها أن تنهض، حتى الفلسطيني إذا أراد أن يقف في وجه الإسرائيلي، لأن ذلك يعتبر استهدافاً للاستراتجية المتكاملة في المنطقة، إذ أن خروج هذه القوى الثوريَّة، والَّتي ليست مع الرجعيَّة العربيَّة، يخلّ بموازين القوى.

كيف كان تأثير هذه الحادثة على المقاومة سواء على المستوى العسكري أو الشعبي؟
هذه الجريمة الكبيرة زادت المقاومة وعياً بضرورة حماية نفسها وكوادرها، وعززت ثقتها بصوابية خيارها، حيث أن سقوط أي شهيد كان يزيد المقاومة إيماناً وصلابةً وإصراراً وعزيمةً على مواصلة هذا الطريق، حتى أصبح هناك علاقة جدليَّة بين الشَّهيد والتَّحريض.


كيف ترى اليوم عودة لـCIA إلى لبنان وبالشخصيات نفسها التي ساهمت بتلك الجريمة عام 1985 من أمثال "روبرت بير". بعدما انكفأوا عن الساحة اللبنانية ؟

هم انكفأوا عسكرياً عن السّاحة بشكل مكشوف، ولكنَّ عملهم الأمني استمر باستخدام قوى محليّة بالصّراع مع المقاومة، فبدل أن يكونوا في الواجهة، استخدموا الأحزاب اللبنانيّة، فما نشهده اليوم من انشقاق لبناني بين 8 و14 آذار، ليس بعيداً عن النفوذ الأمريكي الإسرائيلي الَّذي يحرض في هذا الاتجاه.
وهذه الوقاحة بالمطالبة بسلاح المقاومة في لبنان الَّذي مهمَّته تهديد إسرائيل، ليست موقفاً سياسيّاً تحليليّاً خاصاً بهؤلاء، لأنَّ هؤلاء وجدوا أنَّ عليهم أن ينخرطوا في الاستراتجيَّة الأمريكيَّة، وبالتالي اعتبرت أميركا أنَّ هذه القوى المحليَّة تساعد على مناكفة المقاومة وإضعافها والسَّيطرة على السّلطة في لبنان، ويبقى عملهم في إطار التّجنيد الأخطر الَّذي لا يعني تجنيد الجاسوس الَّذي يجمع معلومات فقط، بل تجنيد الجاسوس الَّذي يملك موقع تأثير ونفوذاً سياسياً لدى الرأي العام، والهدف هو سحب النّاس عن المقاومة وإيجاد تيار ضدها، وهذا ما هو حاصل في لبنان، تحريض مذهبي لإحداث انشقاق في صفِّ اللّبنانيين، حتى لا يكون هناك تأييد للمقاومة، ولكنَّ هذه الأساليب الَّتي يتبعونها غير مجدية، لأنَّ الموازين تتغير مع التحديات والصراعات في المنطقة، والشعب يقف إلى جانب المقاومة.

المحور الثاني: مستقبل الحراك العربي

ظهرت مواقف متباينة إلى حدٍ ما تجاه مؤشرات التحوّل الديمقراطي الذي تعيشه المنطقة، أي مخطط يُرسم للمنطقة، وخصوصاً أننا نلمس بشكلٍ علني وصريح تباين الموقف الغربي إزاء الحراكات وركوبه موجتها لحماية مصالحه وتبنيه المطلق لأمن إسرائيل. كيف تُقيّم ما جرى حتى اليوم في العالم العربي؟
منذ بداية هذا الحراك، رفضت تسمية "الربيع العربي" وتسمية "الثورة"، وسميته الحراك العربي المُرقّط، لأنه يشبه الثياب العسكرية المرقطة الَّتي تتعدد فيها الألوان، وهذا مفتاح للقراءة الموضوعية، فعندما أُطلق عليه هذه التسمية أصبحُ قادراً على أن أرى كل الألوان وأميز بينها. وبالتالي، أعتبر انطلاقاً من هذا المنطق أنَّ هذا الحراك ليس له لون واحد وليس له دوافع واحدة، وليس له أهداف واحدة، هناك مجموعة من الأيادي التي تحركه، أيادٍ غربية وعربية، وموضوعية من الشعب، وهناك يد للقوى الثوريَّة، ولا نستطيع أن ننسى إيران وتأثيراتها، وأن نغفل عن انتصار المقاومة وتأثيراته، وكما قال السيّد حسن نصر الله عن انقلاب السيناريو، فلو كانت أمريكا هي التي انتصرت في العراق وسيطرت وكسرت رأس سوريا وإيران كقوى معارضة لها، هل كان ما يتحدثون عنه بأنه "الربيع العربي" سيظهر؟!
بالعكس، كان مبارك سيصبح ملكاً وبن علي كذلك، وكان الشَّعب العربي سيغرق أكثر فأكثر في المغارة، وبالتالي، هناك عدة أمور في هذا الحراك لم تأتِ من فراغ، الأمر الأول هو أنَّ الأمريكيين أثناء صراعهم مع ما يُسمّى الإرهاب، وهجومهم على أفغانستان والعراق، كتبوا دراسات اعتبروا فيها أن العمل العسكري لا يكفي من أجل إخضاع الأمة الإسلاميَّة، إنما إخضاعها يجب أن يتم عبر تبديل في مفاهيمها، والعمل على تغيير في بنية العقليَّة العربيَّة، وهذا يتطلَّب عمل ما يُسمى public Diplomacy، أي الدبلوماسيَّة الواسعة مع الشّعوب ومع المنظمات غير الحكومية، والدخول عبر الإعلام من أجل تغيير العقول، وقد كان تغيير الأنظمة جزءاً من هذه التغيرات، لأنَّ هذه الأنظمة في تحليلهم تُفيدهم من الناحية الأمنيَّة والاقتصاديَّة، ولكنَّها لا تفيدهم من الناحية الثقافيَّة والاجتماعيَّة، لأنها تُنتج المتطرفين بسبب استبدادها، لذلك هم يعملون على تغييرها حتى تصبح أنظمة ديمقراطية، ومن خلالها يتوصلون إلى أن يصبح كلَّ فرد مهتماً بنفسه وبمشكلته فقط، وبالتالي يتحقق السلم بين "الديموقراطيين"، فـ"الديمقراطي العربي" سيتفاهم مع "الديمقراطي الإسرائيلي"، وهذا ما كُتب في الدراسات.
ولذلك، كان ينظر العالم العربي إلى الخطة العسكرية لاحتلال العراق وأفغانستان، ولكنه لم ينظر إلى الخطة الطويلة الأمد بتغيير العقلية العربية والإسلامية، والتي أتى دورها اليوم لتُنفذ بقوة، طبعاً هذا الكلام لا يعني أنهم هم من قالوا للشباب قوموا الآن بالثورة في تونس، فهم قرأوا أنَّ هناك ظروفاً موضوعية، وكانوا أمام خيارين؛ إما أن يقولوا أنَّ هناك ثورة ضد الأنظمة التي تدعمني، أو يجب أن أتماشى مع الثورة حتى أكون المستفيد منها، وهم اختاروا الطريق الثاني.
بالطَّبع، هم لا يستطيعون أن يقفوا ضدّ الحراك الشَّعبي، لأنَّ ذلك سيخالف الكثير من الشّعارات الَّتي يطرحونها، ولذلك عمدوا إلى الدخول على خطِّه من أجل حرفه وتطويعه بالطَّريقة التي تخدم مصالحهم، بالتالي، فإنَّنا نرى هناك حراكاً شعبياً موضوعياً يتحرك، وله الحقّ بأن يتحرك، ولكنَّ هناك أيضاً دخولاً غربياً على خطِّه، في الوقت نفسه، وتتحدَّث وثائق ويكليكس عن 170 مليون دولار صرفوا في مصر أثناء حكم مبارك للتشبيك مع هؤلاء الشَّباب الَّذين تم تدريبهم على الكمبيوتر والإنترنت وتفاصيل عديدة. وما بعد الثورة، وتحديداً بعد شهرين من سقوط مبارك، اعترفت السَّفيرة الأمريكيَّة بدفع حوالى 40 مليون دولار لمنظمات من أجل تشكيل أحزاب جديدة، كما سمعنا بالمحاكمات الجارية في مصر لمنظمات غير حكوميَّة ممولة أمريكياً، تم السماح لهم بالسَّفر من مصر، وهم حوالى 12 مصرياً يحوزون على جنسيَّة أمريكيَّة، كانوا ممن يدفعون الأموال في مصر، ولكن يبدو أنَّه حصل اتفاق تسوية بالسَّماح لهم بالسفر، ولكن شريطة أن لا تموّل أمريكا في مصر، وإلا فهي موّلت 40 مليون دولار مجموع الأحزاب والتَّنظيمات، وفتحت مكاتب استشاريَّة لتوجِّه الشَّباب نحو طريقة التّفكير الجديدة، وتحرضهم ضد المجلس العسكري وضد الإخوان المسلمين.

أين كانت الاستخبارات المصرية أيام مبارك عن كل ما يحدث من تدريبات أمريكية على أرضها؟
كانت ترى كل ما يحدث، وتعتبر تدريب الشباب عملاً أمريكياً سخيفاً، ولكن حسني مبارك كان متأكداً من أنّ أميركا لا يمكن أن تتركه، ولا سيَّما بعد كل الخدمات الكبيرة التي قدمها، ولذلك كانت الاستخبارات متساهلة، ولما حكم العسكر قاموا بضرب هذه المنظَّمات، لأنهم وجدوا فيها مخرِّباً. ولأنَّ المصري لا يستطيع أن يدير شؤونه لوحده، دخل الأمريكي على الخطّ، فلذلك أجروا لهم محاكمات، ولكن عندما علت الصرخة بين مصر وأمريكا، توصلوا أخيراً إلى اتفاقٍ يلغي المحاكمات، فاستقالت هيئة المحكمة، وسمحوا لهم بالسفر، بالطبع لم يقولوا ما هو الاتفاق، ولكنني أعتقد أنه الرحيل في مقابل التوقف عن دفع الأموال.

بينما في تونس، هناك تقرير كندي يقول إنَّ رئيس جمهورية تونس الجديد منصف المرزوقي ليس تابعاً لـ CIA، ولكنَّه تابع لثلاث منظَّمات أمريكيَّة تدعم الديمقراطيَّة وحريات الإنسان وتموّلها، وكان يأخذ منها الأموال، فما الفرق بين من يعمل عند الـCIA ، ومن يعمل عند منظَّمات إنسانيَّة؟! ولماذا يرضون بأن يُموّل رئيس جمهوريّة تونس من الأمريكان من أجل نشر الحريّة والديمقراطيّة؟! هم يستسهلون الموضوع لأنَّ الشعار جميل، بينما عملياً هو لا يقدر أن يكون ضدّ الأمريكيين. ولذلك أنا سميّت الحراك مرقطاً فالذي يقول إنَّه ثورة بحتة يجب أن يعرف أن هناك تدخلات أجنبية، والذي يقول إنه ثورة إيجابية تقدميّة، يجب أن يعرف أن هناك سلفيين وإخواناً مسلمين، لا يمكن أن يكونوا تقدميين، فالسَّلفي قد حسم أمره، والإخوان أمام امتحان سياسي كبير لنرى ما إذا كان بإمكانهم أن يكونوا تقدميين. لذلك، علينا أن نحلل وأن نأخذ حذرنا، فهذه الظاهرة يجب أن تدرس بألوانها المتعدّدة، فلا يجب أن نعمّم "ربيعاً عربياً" أو "ثورة"، هذا غير مقبول.

الغريب أنَّ الخطابات الأمريكية ما قبل الثورة، والتي انطلقت على لسان أكثر من مسؤول أمريكي، كانت صريحة إلى حدٍّ ما في رسم مخططات جديدة، ولكنَّها مرت مرور الكرام، وهذا ما يُعبّر بطبيعة الحال عن سهولة انخداع الشّعوب العربية بالخطابات الرنانة؟
قبل الاحتجاجات الَّتي حصلت في تونس بثلاثة أسابيع، عقد في الدوحة مؤتمر للحديث عن "التحولات في المنطقة"، حيث قالت كلينتون يومها إن لم تغيّروا فسوف يأتي من يغيركم ونحن سنقف معه، فإما أن تغير وتصبح ديمقراطياً، أو سيأتي من سيغير ونحن سنكون إلى جانبه.

هل أمام الإسلاميين فرصة تاريخيّة لتحقيق نجاحات مهمّة على مستوى السّلطة بعد فوزهم في بعض الدول العربيّة في الانتخابات، وهل سيلعب السّلفيون دوراً مسهلاً أم معيقاً لهذه التّجربة الإسلاميّة؟
أولاً، هناك قاعدة عامّة دوليّة لا علاقة لها فقط بالعالم العربي أو بهذا الحراك فقط، فإما أن تكون مقطوراً خلف القاطرة الأمريكية بالسّياسة الدوليّة والاقتصاد وبنظرتك للعالم، أو أن تكون مستقلاً عنها، بحيث تكون متمرداً على المشروع الأمريكيّ كما هو الحال بالنّسبة إلى إيران، فكلّ إسلامي سواء كان ملتحياً أم غير ملتحٍ، مقصراً كان أو مطولاً، إذا لم يكن مستقلاً بمعنى المتصارع مع المشروع الأمريكي، فهو حتماً مقطور، لأنَّ ليس هناك شيئاً اسمه استقلاليّة ونصف استقلاليّة، وبالتّالي، الامتحان هو على الإسلاميين كلّهم وعلى الوطنيين واليساريين، حول فهمهم لهذه النظرية.

هناك مقال جميل جداً لصديقنا فيصل جلول يشير فيه إلى أنَّ المرزوقي كان يقول: "هل معقول أن زين العابدين أفضل مني، أنا والله نظيف، أنا آدمي وذاك يرتشي..". فضحك هو وقال: القصة ليس أنت أو هو، القصة هي قصة النظام، فأنت عندما ستحكم وتصبح رئيس جمهورية، لا تستطيع أن تقول إن تونس يمكنها أن تعيش بدون استثمارات خارجية أو سياحة عالميّة، وقد تتساءل عن قدرتك على العيش دون أن تمشي خلف الغرب، طبعاً الأمر ممكن إذا امتلكت المقومات والإمكانات العقلية، وإذا كان لديك برنامج، ولكن أن تقول إنك أفضل من زين العابدين، وبمجرد أن تستلم الحكم تذهب إلى دافوس وتستنجدهم بأن يستثمروا عندك، وتقول لهم إننا خاضعون لشروطكم، وجاهزون لحماية استثماراتكم ربما أكثر من زين العابدين. كما أنَّ الأمريكي عندما يأتي ليستثمر ربما سيطلب منك أكثر من زين العابدين أو مثله، ومطالبه ستكون بعدم إعطاء العمال حقوقاً كثيرة، وعدم دفع معاشات عالية لهم، لأنَّه لا يمكنه أن يحقّق أرباحاً عالية بغير هذه الطّريقة، عندها هل تقدر أن تقبل أن يستثمر في بلدك وتملي عليه الشروط؟! لا تستطيع ذلك لأنَّ الرأسمالي يفرض شروطه، إذاً المسألة بينك وبين زين العابدين، ليست مسألة أخلاق، المسألة هي أن تكون في هذا "النظام" أو لا.
الشعب المصري قام بثورة عظيمة، ولكنه اكتشف فيما بعد مئات مليارات الدولارات من الديون، واكتشف عدم قدرته على دفع المعاشات خلال شهرين، وعلى دفع استيراداتهم للغذاء خلال أشهر، لذلك مصر أمام أزمة اقتصادية كبيرة، فعندما تدخل إلى البرلمان تؤذن أم لا تؤذن، تطيل في لحيتك أم لا تطيل، تصلي أو لا تصلي، والسؤال هو: هل يمتلك الثوار الجدد صورة عن النظام العالمي وكيف سيخرجون منه، أم أنه فقط لديهم حقد على "الرئيس" والحكومة "الحرامية" والفاسدين، ويعتقدون أنهم "أوادم"، وإذا استلموا مكانهم ستصلح الأمور؟!!

ماذا بالنّسبة إلى إيران؟
إيران تحاول أن تكون قاطرة مستقلة، لذلك هي تزداد قوة كلما فرضوا عليها عقوبات، لأنها قررت أن تخرج من هذا النظام، ولم تقبل بأن يستثمر الغرب عندها، وأن تبقى هي بلا نووي أو إمكانات، وأن تمثل فقط 80 مليون مستهلك إيراني، فالمسألة ليست مسألة "شادور" أو "لحية"، المسألة أنك حر في أن تفعل ما يحلو لك، ولكن عليك أن تذعن للسياسيَّة الغربية، وتسمح بأن تستثمر في بلدك وتستغلك.. إيران قررت أن تكون مستقلة لذلك هي في مواجهة مع الغرب.

هل صعود الإسلاميين في مصر سيكون عاملاً مساعداً في خدمة القضايا المصيرية للأمة، وهل ما حصل إلى الآن يشكل تهديداً بالنسبة إلى اتفاقية كامب دايفيد؟
لا أحد يستطيع أن يتنبأ بذلك حالياً، فالحراك مرقط كما أشرت إلى ذلك سابقاً، وأنا قلت مراراً إنني أخاف على الإسلاميين ولا أخاف منهم، أخاف أن يفشلوا، ولذلك التحدي اليوم بالنسبة إلى القضية الفلسطينيّة هو التالي: هل ارتباطنا بالقضية الفلسطينية هي مسألة عاطفية إنسانية؟ هل هي فقط مسألة شرعية؟ وكما نرى أنَّ المسائل الشرعيّة اليوم يمكن أن تدوّر، فمثلاً أنا أترك الإسلاميين يحكمون في تونس، ولكن في الشَّرع لا أقترب على كل وسائل الحياة، يعني أن يكون الإسلاميون بدون إسلام، فيمكن أن يكون الإسلاميون هم الحاكمين، ولكن بلا الشرع المتعلق بفلسطين، فكما عليّ أن أتعايش مع الوضع في البلاد، حيث هناك سفور ونوادٍ ليلية وخمور وبنوك ربوية إلى آخره، عليّ أيضاً أن أتذكر الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين.
ولكنَّ هناك خياراً آخر، وهو أن نتوجه إلى العدو الصهيوني الذي يشكل خطراً على الإنسانيَّة، لأنَّه أولاً عنصري، ولأنّه بقايا من الاستعمار القديم، ولأنّه امتداد للإمبريالية الجديدة وهدفه أن تبقى المنطقة ضعيفة لكي لا تقوى عليه، إذاً هو يشكل لنا مشكلةً، ولذلك في رأيي علينا أن نقفز إلى التّحليل الاستراتيجي السياسي، فبالمعيار الموضوعي وبعيداً عن الدين، هي عنصرية، فكيف لو كان المعيار الديني موجوداً! ولكن إذا كانت إنسانيتي حاضرة بأن هؤلاء مجموعة من المجرمين طردوا شعباً من أرضه، هذا يحتم بناء الوعي من المنطلق الأساسي، ويعتبر أمراً ضرورياً.

هل صحيح أنَّ هناك حرباً صامتةً بين تل أبيب وواشنطن على خلفية دعم الأخيرة للثورات، وموقف الأولى من المشروع النووي الإيراني؟
إسرائيل متضررة لأنها تعتبر أنَّ الحاكم المستبد المضمون أفضل من القوى السياسية المجهولة التي تفتح الأبواب على مصراعيها، ولكن هذا الصراع هو مقدمة لاختلاف المصالح الإسرائيلية ـ الأمريكية، لأنَّ أمريكا تخسر كل شيء في الشرق الأوسط بسبب إسرائيل، وليس في سبيل مصلحتها، فقد كان من الممكن أن تتعامل مع العالم العربي بطريقة مختلفة. فمن منطلق آخر، لماذا لا تتصالح الولايات المتحدة الأمريكيَّة مع العالم الإسلامي وتحدد ماذا تريد منه، هل تريد منه النفط؟ يمكن لإيران المستقلة عن أمريكا إذا جاءت شركة أمريكية تريد منها النفط، أن تبيعها إياه مقابل المال.

لماذا هذا الالتزام المطلق بإسرائيل؟
لقد بدأوا بطريقةٍ خاطئة، حيث اعتبروا أنَّ العالم العربي لا يتمّ التعامل معه سوى بالإخضاع، ولذلك جاؤوا بقاعدة إسرائيليّة أمريكيّة، كي تخضع العالم العربي، في حين أنَّ برجنسكي اليوم يقول إن سياسة الإخضاع لم تعد تنفع. إذاً هناك نظريتان للتعامل، المحاصرة أم المشاركة، هم يريدون من إسرائيل أن تخضع العالم العربي، وهناك طريقة أخرى أن تسأل العالم العربي ماذا يريد..
وقد كتبت بارونا في" times" عن إسرائيل الّتي تعتبر البنت المدللة لأمريكا، أنَّ أمريكا ستكتشف أنها حدَّدت خياراتها بشكل خاطئ، حيث قامت بدفع مليارات لدولة تجرها إلى صراعات مع العرب والمسلمين دائماً، وبالتالي خسرت موقعها بسببها، طبعاً الخيار ليس إسرائيلياً، فأمريكا أخذت هذا القرار، باتخاذها خيار الإخضاع، والآن تدرك أنه لا يوجد شيء اسمه إخضاع، وهي تبحث عن حلفاء لذلك تسعى إلى أن تفاوض مع إيران، ولكن إيران لا تريد التفاوض، وهذا دليل على أنَّ خيار الإخضاع غير فاعل.

لماذا لا تريد إيران مفاوضتها؟
لأنها تعرف أن لها عمراً زمنياً، كالفتاة التي تقدم لخطبتها شاب عندما كانت شابة، وعندما أصبحت عجوزاً باتت تترجاه لأن يتزوجها، فبينما أمريكا اليوم تريد التفاوض، ترفض إيران ذلك، لأن أمريكا مفلسة اقتصادياً وأمنياً.

هل نعيش اليوم حرباً باردة جديدة بين القوى الكبرى مسرحها الشرق الأوسط، وهل تتجه المنطقة إلى حرب إقليمية؟ ومع التطورات الأخيرة، هل يمكن أن نتحدَّث عن حرب عالميّة؟
هناك حرب باردة وقوية بكلّ معنى الكلمة، فبعد زيارة أوباما أستراليا التي أعلن خلالها رغبته بزيادة عديد قواته فيها، رد رئيس الوزراء الصيني بشكل علني وصريح داعياً البحرية الصينية للاستعداد للحرب، كما أن روسيا عملت على منعهم أيضاً من العمل في الشرق الأوسط، بفيتو وبغير فيتو، فروسيا لم تكن تتبنى مشروع إيران النووي حتى السلمي، كما أنها لم تشعر بالارتياح تجاه امتلاك إيران وقوداً نووياً، بينما الآن تجاوزت الموضوع، وهي تقول لهم إنَّ إيران لا تملك قنبلة ذرية، ولا تريد أن تصنيعها، ولها الحق بأن يكون لديها وقود نووي، حتى إنَّ هناك أسلحة لم تبعها لإيران من قبل، وقد باعتها إياها مؤخراً.

إذاً، هي حرب باردة، ولا يمكن لأمريكا وحلفائها أن يحكموا العالم بالقطبيّة الواحدة، يجب أن يكون هناك عدة أقطاب، ويجب أن نضع لهم حدوداً وأن نعيد رسم خريطة العالم، لذلك نجد أنَّ هناك حواراً استراتيجياً روسياً صينياً يتم خلاله التنسيق في كلّ صغيرة وكبيرة فيما بينهم ضد أمريكا والأوروب