النبوة لطف

إن الانسان مخلوق غريب الأطوار ، معقد التركيب في تكوينه وفي طبيعته وفي نفسيته وفي عقله ، بل في شخصية كل فرد من أفراده ، وقد اجتمعت فيه نوازع الفساد من جهة وبواعث الخير والصلاح من جهة أخرى : فمن جهة قد جبل على العواطف والغرائز من حب النفس والهوى والأثرة وإطاعة الشهوات ، وفطر على حب التغلب والاستطالة والاستيلاء على ما سواه ، والتكالب على الحياة الدنيا وزخارفها ومتاعها كما قال تعالى : ( إن الانسان لفي خسر ) و ( إن الانسان ليطغى إن رآه استغنى ) و ( إن النفس لأمارة بالسوء ) إلى غير ذلك من الآيات المصرحة والمشيرة إلى ما جبلت عليه النفس الانسانية من العواطف والشهوات .

ومن الجهة الثانية ، خلق الله تعالى فيه عقلا هاديا يرشده إلى الصلاح ومواطن الخير ، وضميرا وازعا يردعه عن المنكرات والظلم ويؤنبه على فعل ما هو قبيح ومذموم .

ولا يزال الخصام الداخلي في النفس الانسانية مستعرا بين العاطفة والعقل ، فمن يتغلب عقله على عاطفته كان من الأعلين مقاما والراشدين في إنسانيتهم والكاملين في روحانيتهم ، ومن تقهره عاطفته كان من الأخسرين منزلة والمتردين إنسانية ، والمنحدرين إلى رتبة البهائم .

وأشد هذين المتخاصمين مراسا على النفس هي العاطفة وجنودها فلذلك تجد أكثر الناس منغمسين يفي الضلالة ومبتعدين عن الهداية بإطاعة الشهوات وتلبية نداء العواطف ( وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين ) على أن الانسان لقصوره وعدم إطاعة على جميع الحقائق وأسرار الأشياء المحيطة به والمنبثقة من

نفسه ، لا يستطيع أن يعرف بنفسه كل ما يضره وينفعه ، ولا كل ما يسعده ويشقيه ، لا فيما يتعلق بخاصة نفسه ، ولا فيما يتعلق بالنوع الانساني ومجتمعه ومحيطه ، بل لا يزال جاهلا بنفسه ويزيد جهلا أو إدراكا لجهله بنفسه ، كلما تقدم العلم عنده بالأشياء الطبيعية والكائنات المادية .

وعلى هذا فالانسان في أشد الحاجة ليبلغ درجات السعادة إلى من ينصب له الطريق اللاحب والنهج الواضح إلى الرشاد واتباع الهدى ، لتقوى بذلك جنود العقل حتى يتمكن من التغلب على خصمه اللدود اللجوج عندما يهيئ الانسان نفسه لدخول المعركة الفاصلة بين العقل والعاطفة .

وأكثر ما تشتد حاجته إلى من يأخذ بيده إلى الخير والصلاح عندما تخادعه العاطفة وتراوغه - وكثيرا ما تفعل - فتزين له أعماله وتحسن لنفسه انحرافاتها ، إذ تريه ما هو حسن قبيحا أو ما هو قبيح حسنا ، وتلبس على العقل طريقه إلى الصلاح

والسعادة والنعيم ، في وقت ليس له تلك المعرفة التي تميز له كل ما هو حسن ونافع ، وكل ما هو قبيح وضار . وكل واحد منا صريع لهذه المعركة من حيث يدري ولا يدري إلا من عصمه الله .

ولأجل هذا يعسر على الانسان المتمدن المثقف فضلا عن الوحشي الجاهل أن يصل بنفسه إلى جميع طرق الخير والصلاح ، ومعرفة جميع ما ينفعه ويضره في دنياه وآخرته فيما يتعلق بخاصة نفسه أو بمجتمعه ومحيطه ، مهما تعاضد مع غيره من أبناء نوعه ممن هو على شاكلته وتكاشف معهم ، ومهما أقام بالاشتراك معهم المؤتمرات والمجالس والاستشارات .

فوجب أن يبعث الله تعالى في الناس رحمة لهم ولطفا بهم ( رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ) وينذرهم عما فيه فسادهم ويبشرهم بما فيه صلاحهم وسعادتهم .

إنما كان اللطف من الله تعالى واجبا ، فلأن اللطف بالعباد من كماله المطلق وهو اللطيف بعباده الجواد الكريم ، فإذا كان المحل قابلا ومستعدا لفيض الجود واللطف فإنه تعالى لا بد أن يفيض لطفه ، إذ لا بخل في ساحة رحمته ولا نقص في جوده وكرمه .

وليس معنى الوجوب هنا أن أحدا يأمره بذلك فيجب عليه أن يطيع تعالى عن ذلك ، بل معنى الوجوب في ذلك هو كمعنى الوجوب في قولك : إنه واجب الوجود " أي اللزوم واستحالة الانفكاك " .

- عقائد الامامية - الشيخ محمد رضا المظفر ص 50