قصة إنقاذ بث تلفزيون المنار ليبقى 24 على 24 ساعة متواصلة بعد استهدافه العدواني وضرب مبناه حيث سواه بالأرض.. هي قصة يغلفها الحس الإنساني المرهف والذكاء العادي للمقاوم الإعلامي في صفوف حزب الله.
الحاج محمد عفيف خلق الباب البديل لاستديو الأخبار البديل
يروي هذه القصة المثيرة مدير الأخبار الحاج محمد عفيف لجريدة السفير التي أجرت معه مقابلة مطولة ولكنها كانت سؤالا واحد، كيف استمريتم بالبث رغم كل المخاطر؟!...
"يبدو محمد عفيف زاهداً في الكلام. لكن زهده ليس نابعاً من رفض الإطناب في مديح المقاومة، أو من تقييم سلبي لقصة يتوق الجميع لسماعها بالتفاصيل، اي قصة نجاة «المنار»، بمعنى المهمة والجسم البشري، من القصف الإسرائيلي الذي لاحقها كهدف عسكري، بقدر ما هو نابع من نفور من اعتاد العمل الجماعي من التباهي كفرد، كونه كان قائد تلك العملية. لذلك يبدو مدير الأخبار والبرامج السياسية كمن يفضل لقب الرجل الصامت. وهي صفة لاذ بها سنة كاملة ، قبل أن تقرر المقاومة البوح، وسرد الوقائع المثيرة لنجاح «المنار» في متابعة بثها خلال الحرب، على الرغم من الضربات الجوية الهائلة التي وجّهت إليها وتدمير مبناها بشكل كامل. في مثل هذا اليوم من السنة الماضية، فجر السادس عشر من تموز الماضي. إضافة إلى التصدي لعمليات اختراق البــث التـي نجح فيها الإسرائيليون مرة. لذلك، كان الرجل يخفض صوته أو يغمغم عنــد سـرده وقــائع يعـود الفضل فيها إليه. أو، وهذا ما يفعله غالباً، يحكيها بلهجة حيادية سردية كمن يقص شيئاً عادياً.
وحشة
«كنا بمبنى المنار، وكان الوضع في الضاحية صعباً للغاية: أصوات قصف مهولة.. لا كهرباء ولا ماء، لا سكان وأنا منذ عشرين يوماً لم أخرج فعلياً لوحدي. ضاق خلقي فقررت الخروج. احتفظ دائماً بضوء جيب صغير. أخذته وخرجت: كان الوقت ليلاً، ولم يكن هناك قصف. لا صوت. لم يكن هناك حتى هرة شاردة. فقط عتمة ووحشة قاتلة. لم تكن هذه الضاحية التي أعيش فيها وأعرفها... مشيت بضعة أمتار ثم اجتاحني ذلك الإحساس بالوحشة. كان المبنى المهدّد بالقصف، الخطر أخفّ وطاة من تلك الوحشة التي أحسستها في الخارج. لذلك عدت أدراجي». هكذا يختار محمد عفيف أن يبدأ كلامه. من هنا. من «نيجاتيف» الصورة المطبوعة في ذهنه لقصة بقائه 33 يوماً في الضاحية، في مبنى أو على الأصح «مباني» المنار، محاولاً تنفيذ مهمة وضعت خطتها منذ «ما بعد التحرير كوننا كنا نعلم أن إسرائيل ستنتقم». كانت المهمة متابعة البث كجزء من حرب معنوية إعلامية. فالقناة التي حصلت على ترخيصها الاستثنائي كقناة للمقاومة، كانت شباك السيد الذي يطل منه على العالم، ومنبر بيانات المقاومة.
يحكي عفيف على عادة أهالي القرى بصوت عالٍ، جذل، ثم يقول «أحكي لك هذه القصة لأصل لقصة ثانية. ففي الحرب كنا نبدل المناوبين على العمل عند التاسعة ليلاً، كانت هذه العملية تخضع لضوابط أمنية، ولحركة الطيران الإسرائيلي المبرمجة على قصف الناس، فكنا دائماً نخفف عدد المناوبين حتى إذا أصبنا تكون الخسائر قليلة.. وفي يوم، وكنت قد صرفت النوبة الأولى، عدت وفوجئت بأحدهم في المبنى. فسألته: يا مصعب؟ ألم أقل لك أن تنصرف؟ فقال: الشقة المعتمة التي سأذهب للنوم فيها، تقع في بناية معتمة، في حي معتم لا أحد يسكنه غيري. على الأقل هنا أنا والشباب. يسواني ما يسواهم».
قصة نجاة المنار
«قبل الحرب، كنا نعلم أنه لو وقعت الحرب لسبب من الأسباب، فالمنار هدف. وكنا نعلم منذ سنة 2000 أن إسرائيل ستشن حرباً. وكما تحضّر العسكر، كان مطلوباً أن يتحضر المنار، أن يعمل خطة. وهكذا كان. كل شيء كان جاهزاً: خطة ألف وخطة باء.. ثم يضيف «عندما وقعت عملية أسر الجنود، كنت بالمبنى، فرحنا كثيراً. ثم اتصل بي أحد المسؤولين قائلاً: لا تترك التلفزيون. كانت الساعة التاسعة صباحاً، و«كنت بجو شي». عندها فهمت أن الأمور ترتبت. بعد نصف ساعة تلقينا اتصالاً: صار فيك تذيع الخبر». لا يحاول محمد عفيف كثيراً التذكر، فالأحداث حاضرة كانها حصلت للتوّ. «مشكلتي الوحيدة بالتواريخ» يقول وهو يتصل بأحدهم ليتأكد: زياد؟ قصف المنار الخميس بالليل؟». ثم يعود إلينا: «الأربعاء 12 صارت العملية، 13 تموز الفجر ضربت صحون «المنار» على سطح المبنى الرئيسي. كانت تلك الضربة الاولى. طلعت إلى السطح لأتفقد الصحون.. رأيتها مجعلكة مطحونة.. وأنابيب المياه كأنها مثقوبة بالإبر. ولولا العناية الإلهية لانفجر خزان المازوت الذي كنا ملأناه قبل يوم، ولاحترقت المنطقة». ثم يتابع روايته «عرفنا أن الضربة الاولى هي بمثابة إنذار شديد اللهجة. فأخذنا احتياطاتنا، وابتدأ فريق الهندسة يجهز هذا الاستديو الذي نحن فيه الآن كاستديو احتياط، أو مركز رقم واحد: بشكل يكون لدينا إمكانية للبقاء على اتصال بالوكالات العالمية، وأن نكون قادرين على البث. نظمت نفسي إدارياً: عملنا فرق مناوبة في كل طاقم منها عشرة محررين. إضافة إلى عامل كومبيوتر وعامل «نيوز بار» أي شريط الشاشة، وكلفنا رئيس تحرير هو علي عبادي أن يبقى هنا، ومعه مذيع هو عبد الحسن الدهيني وفريق هندسي. بين أول ضربة وليل 16تموز (التي دمّر فيها الطيران الإسرائيلي المبنى بالكامل) كنا لا زلنا نبث من الأستديو الرئيسي في المنار، لكن كانت تتنازعنا عواطف: نترك أو لا نترك؟ أنا كنت أريد البقاء. ثم أن في المبنى تسهيلات تقنية هائلة، وكان الاستديو الجديد قد كلفنا حوالى المليون دولار. لكن الإخوان في أمن المبنى ومسؤوليهم ضغطوا عليّ لأخرج فاتصلت بالسيد. هذا تفصيل لا يعرفه إلا القلّة. قلت له: أنا مرتاح هنا، لا أرغب في الخروج. لكنهم يضغطون عليّ لأخلاء المبنى. قال لي: أنت المسؤول عن هذه العملية، خذ قرارك». ثم قال «جيد أنك ضغطت العدد قدر استطاعتك»، وسألني «إلى كم شخص تحتاج؟». ففي النهاية نحن نتحدث عن هندسة وصيانة وإضاءة وصوت وتنظيفات الخ.. عن 25 إلى 30 روح. أجبته، فقال: خذ قرارك. لا تخافوا الله حاميكم».
ثم يقول: «بقينا. ثم ، فجر الأحد، ونحن نذيع نشرة الأخبار بالليل سقط علينا الصاروخ الأول. مبنى المنار مكوّن من مبنى طولي وآخر عرضي ملتصق به: قصف الطولي بكامله.. المبنى العرضي هو الاستديوهات. مكتبي عند نقطة التقاء المبنيين، لكني كنت بمكتب الحارس. وإذ بالسقف يقع علينا. انبطح الشباب فوراً تحت الطاولة، ورمى أحدهم بنفسه فوقي. تفقدنا بعضنا ثم نزلت إلى الاستوديو لتفقد الشباب . الحمدلله لم يصب أحد: فقط بعض الخلل وسقوط بعض القطع من السقف وأحد المذيعين خلع كتفه أيضاً، من قوة الاهتزاز. قلت لهم: إهداوا الآن، وصرخت لمسؤول الأمن ليبدأ بإخلاء الشباب من المبنى. صرفت من باستطاعتي الاستغناء عنه، وأبقيت مجموعة وقلت لهم: أنتم استشهاديون.. أريد مهندس صوت، مسؤول عن الـ«ميكسر»، مذيع، محررين وعامل «نيوز بار» وأنا. أقل من عشرة». لكن لحظة.. هل يستطيع من اختارهم استشهاديين أن يرفضوا؟ يجيب «بالطبع.. أثناء ذلك كنت اتصلت بالمسؤول عن الاستديو الاحتياط، أي حيث نحن الآن. قلت له: جهّز نفسك، نحن أُصبنا، على الأرجح سننتقل بعد نصف ساعة لعندك. وانتبه: ابق تسجيلات الأناشيد وفلاشات على الشاشة فهناك احتمال ألا نصل لعندك. استلم الشغل الى ان يصل اليك احد وإن لم يصل خذ القرار: المهم ألا ينقطع الهوا». يتابع «في هذه اللحظة ونحن متجمعون لنناقش من يبقى استشهادياً ومن يمشي، طلع الصاروخ الثاني، وسقط على المبنى. فصرخت بأحد الشباب أن يأتيني بأوراق هامة من مكتبي، فذهب وعاد ليقول: ما في مبنى أصلاً. على الفور أخذت قرار إخلاء الجميع. حكيت مع السيد هاشم صفي الدين، قلت له: الخطوط بيني وبين السيد مقطوعة، رجاء اتصل فيه واعتذر له لأني خرجت، فلم يعد هناك من مبنى. بعد ذلك خبرت في الكواليس أن السيد عندما علم أن فلاناً يقول إن المبنى دمّر وهو يطلب الإذن لخروج، دمعت عيناه.
يعود محمد عفيف إلى الحكاية «في هذا الوقت كان الطيران قصف الجسر المحاذي لنا هنا، ثم قصفوا المبنى الثاني. خرجنا من الباب الاحتياطي وتجمعنا فوق. قال مهندس الإرسال إنه يقترح تشغيل الاستوديو على «يو بي اس» وأن يضع اسطوانة مدمجة سجلت عليها أناشيد تبث على الهواء إلى أن نصل ونشغل الاستوديو هناك. قلت له ليفعل، ثم اتصلت بمسؤول الاستديو الاحتياطي. وأبلغته: لديك ساعتان على الهواء من الأناشيد المسجلة، لكن هناك احتمال أن ينقطع البث لو قصفنا مرة بعد. لم نذع خبر تعرّضنا للقصف. طلبت سيارات لنقل من صرفتهم إلى بيوتهم كون فريق استديو الاحتياط جاهز ولا عمل بالتالي لهم. ومشينا تحت الجسور لأربعمئة متر تقريباً ثم أخذتنا السيارات المرسلة إلينا. أحكي عن السبت بالليل او بالأحرى فجر الأحد 16 تموز. وصلت الى الاستديو ومعي نشرة الأخبار محفوظة على «فلاش ميموري».
خدعة الكروما
تبدو الغبطة على وجهه حين يستعيد تلك اللحظة «أبلغوني حين وصلت أن جهاز «يو بي اس» توقف بعد قصف المبنى. لكن البث لم ينقطع إلا لدقيقتين عن الهواء». يغرق محمد عفيف في تفاصيل ليلة لا تمّحى «ولكن بما ان الضربة وقعت إثر تلاوة نشرة الواحدة والنصف فجراً، لم يظهر اي شيء غير طبيعي على الشاشة. كون البث عادة في هذا الوقت للبرامج المعادة، والنشرة التالية كانت على الثالثة والنصف، والتي اعتبرتها مسألة حياة أو موت. أعطيت «الفلاش ميموري» لرئيس التحرير. وبدأت إعادة تنظيم الوضع الإداري والمعنوي. جمعت الشباب وقلت لهم: المنار بح (يضحك)، اليوم هناك «المنار» جديدة بظروف أكثر تعقيداً. هذا المبنى الجديد من المحتمل أيضاً أن يضرب، يجب أن تعملوا حسابكم أنكم ربما لن تكملوا الليل هنا، أو أن تقضوا أياماً عدة قبل أن يكتشفنا العدو. ودخلت الاستديو: أولاً تأكدنا أن كل التجهيزات شغالة. ثم عملنا خدعة فوضعنا الكروما نفسها (الخلفية) القديمة التي كانت خلفية لمذيع الأخبار في المبنى الذي انهار ليظنوا أننا لا زلنا هناك! ولعشرة أيام كانت كل غارة تضرب الضاحية الجنوبية تختم جولتها بقصف كومة الدمار التي استحال إليها مبنى المنار!». يضحك المدير وهو يستذكر «لا بل إن التلفزيون الإسرائيلي تساءل في تقرير: إلى أي حدّ المنار محصنة تحت الأرض؟ مستنتجاً من الظهور المتكرر (في الكروما) لمحرر يعمل في غرفة الكونترول ، أنه «لم يعد هناك إلا شخص واحد في المنار»(يضحك).. لم يتنبهوا أنه المحرر نفسه على مدى 24 ساعة في غرفة التحرير! مع فنجان القهوة البلاستيكي نفسه ! هذه الخدعة البسيطة، ولم تكن كل عناصرها مقصودة، سمحت بحماية المبنى الفعلي الذي نبث منه لعشرة أيام إضافية». نسأله إن كانت الخدعة فكرته، فيجيب بالنفي: القرار كان مأخوذاً، ضمن الخطة الموضوعة»..
يعود إلى رواية الوقائع «الثالثة والربع فجراً راجعت النشرة. الثالثة والنصف إلا خمس دقائق دخلت الاستديو . العد العكسي، ثم بدأنا البث». يلقي محمد عفيف برأسه الى الخلف مستعيداً ما وصفه لنا « في تلك اللحظة أحسست بعميق الراحة والامتنان لله سبحانه وتعالى. عندما طلعت المنار بالنشرة، بمجرد أن قال المذيع: السلام عليكم ورحمة الله، وتلى العناوين.. تنهّدت وقلت للشباب هلق صار فيني روح نام».
أترأس اجتماع التحرير مرتدياً البيجاما
هذا بالنسبة لمديرية الأخبار.. ماذا عن البرامج والضيوف؟ ماذا عن المذيعين والمذيعات الذين كنا نراهم على الشاشة؟ كيف كانوا يصلون؟ يجيب «نقلنا مديرية البرامج إلى مبنى في رياض الصلح بسبب الضيوف السياسيين. كيف سنأتي بهم إلى هنا؟ بيحرقوا لنا المبنى (أمنياً)». ولكن من عادتهم تمويه الطريق على الضيوف. يجيب «كيف سأموّه الرئيس سليم الحص مثلاً! ومعه مرافقون. وفي الامر مشقة عليهم بالأصل!».
ويستدرك «يجب أن أمدح بضعة اشخاص لشجاعتهم مثل وليد سكرية تحديداً، الذي كان بعد تدمير المنار أول ضيف لنا في الصباح. ميشال سماحة أيضاً، فيها تحدٍّ سياسي. أما في رياض الصلح فهناك أمان. فأنت بقرب السنيورة! أما بالنسبة للإدارة واللوجستية والرواتب، فقد كانت من أماكن متفرقة. أدرنا الشغل عادياً، لكن ممنوع الخروج أو الدخول من هذا المبنى من دون الإجراءات الضرورية أي التمويه للوجوه المعروفة كالمذيعين والمذيعات». نمازحه بالقول إننا عرفنا بموجة حلاقة لحى ضمن عمليات التمويه. فيسألنا: للمذيعين؟ لا يستطيعون حلاقة ذقنهم». نقول له: لا نقصد المذيعين. فيردّ بسرعة بديهة وقد حبكت النكتة «من إذاً؟ المذيعات؟». السخرية وروح المرح أنقذت الكثير على ما يبدو في تلك الأجواء الضاغطة والخطرة. يقول «تذكرين أم كامل التي دمّر بيتها وكانت تطلع على «المنار» وتقول: «فدا إجرو للسيد»؟ أحد الشباب سأل أمه عن رأيها فيها؟ فأجابته: ممتازة. فقال لها: يعني ماذا تقولين لو راح بيتك؟ فقالت له: مثلها تماماً. فقال لها: أوكي. بيتك راح». يضحك ويستذكر زملاءه الذين يصفهم بـ«شيء بين مقاومين وصحافيين في المقاومة»، ويقول: «كانوا يستعملون أحدث الآلات وإذ بهم يعودون إلى عصر ما بعد الحجري بقليل تقنياً. كالمونتاج الذي عاد يدوياً.. ومع ذلك كانت الروحية ممتازة. كنت أحس أن وجودي معنوياً ضروري للشباب. كنت أنام على كنبة في الاستوديو عملياً بعد صلاة الفجر حتى التاسعة تقريباً، موعد رئيس التحرير المناوب. فكنت أغسل وجهي وأترأس اجتماع التحرير مرتدياً البيجاما.. (يضحك)». ويضيف «عندما لم أكن قلقاً كنت ألبس البيجاما وأتمدّد. ورويداً رويداً بدأت ألاحظ أن بعض المحررين يراقبوني: فإن كنت بالبيجاما ارتاحوا. من يومها بقيت بالبيجاما».
مقابلة: جريدة السفير ضحى شمس
قادة الحركة الإسلامية في (فلسطين عرب 1948) يتناولون الإفطار مع بيريز ومسلحوهم يجهاهدون في سوريا وقد احتفى الرئيس الإسرائيلي بهذه المناسبة على صفحته الخاصة بموقع تويتر ، ناشرا بعضاً من صور ضيوفه وإخوانه في الله و…الجهاد!