| العلاقة المعرفية التاريخية بين العراق ولبنان |
لقد حفزني بيان مكتب المرجعية العليا للإمام السيد السيستاني دام ظله الأخير حول أوضاع لبنان وشجب المعتدين عليه والدعوة الى التفاعل الإيجابي مع ضحايا العدوان : " نطالب ببذل كل جهدٍ ممكن لوقف هذا العدوان الهمجي المستمر وحماية الشعب اللبناني من آثاره المدمرة، ندعو المؤمنين إلى القيام بما يساهم في تخفيف معاناتهم وتأمين احتياجاتهم الإنسانية" .
حفزني هذا البيان المبارك من جهة وذلك التجاوب الإيجابي اللافت من الحوزة العلمية بالنجف الأشرف من متولي العتبات المقدسة ووكلاء المرجعية ومعتمديها والمساجد والحسينيات والمواكب الحسينية وكافة اطياف الشعب العراقي وطبقاته ، ثم التوظيف الهادف لمنصات مواقع التواصل الاجتماعي دعما للبيان وحثا على التبرّع والدعم من جهة أُخرى ، حفزني كل ذلك على تسليط الضوء واستنطاق جذور التاريخ المعرفي المجيد الذي شدّ جبل عامل (لبنان) بالحواضر العلمية ببغداد والحلة والنجف الاشرف على التوالي ، حينما كانت عواصم المرجعية الدينية الشيعية في أوائل عصر الغيبة الكبرى .
1 - بغداد : التي شهدت أول مرجعية دينية شيعية في عصر الشيخ المفيد محمد بن محمد بن النُعمان (ت : ٤١٣ هج) . حيث نجد أن أول رقم سجِّل في هذه الشراكة المعرفية قصيدة لعبد المحسن بن غليون الصوري(ت : ٤١٩ هج) من مدينة صور اللبنانية في رثاء الشيخ المفيد ومطلعها :
ياله من طارق من الحَدَثان
ألحَقَ ابن النُعمان بالنَعمان
ثم خطت خطوات عملية تاسيسية علمية مع تلميذه السيد المرتضى
(ت : ٤٣٦ هج) في قضيتين لافتتين :
● ارسل السيد المرتضى وكيلين من بغداد الى لبنان ؛ الأول وهو الشيخ عبد العزيز القاضي ابن البرّاج الطرابلسي (ت : ٤٨١ هج) الى مدينة طرابلس عاصمة دولة بني عمّار الشيعية ، والثاني وهو الشيخ ابو الفتح محمد بن علي الكراجكي (ت : ٤٤٩ هج ) الى مدينتي صور وصيدا ، وقد ألف كتبا هناك منها : المتمسك بحب ال الرسول ص ، وتلقين أولاد المؤمنين .
● الرسائل الفقهية العلمية المتبادلة بين أهل صيدا والشريف المرتضى ، مما يؤشر على تفاعل جماهيري مع بغداد ومرجعيتها ، وقد طبعت حاليا بعنوان : المسائل الصيداوية .
2 - الحِلّة : وقد كانت المقر الثالث للمرجعية الدينية الشيعية بعد بغداد و النجف الأشرف ، فمع استقرار الشيخ ابن إدريس الحلّي (ت : ٥٩٨ هج ) بها .
● وهنا تسجّل أول حالة انفتاح لبناني على مراكز العلم بالعراق عبر هجرة أول طالب علم من جبل عامل الى حاضرة الحلة وهو الشيخ اسماعيل بن الحسين العَودي الجزيني (ت : ٥٨١ هج) الذي درس على ابن إدريس .
● وقد فتحت هذه المبادرة المعرفية الباب لنخبة من طلبة العلم العامليين القدامى للتوجه الى مقر المرجعية الدينية والدراسة العلمية ، كأول هجرة جماعية من لبنان الى العراق سجلت أسماء سبعة منهم ، اللافت منهم الشيخ مكي العودي (والد الشهيد الأول) بن محمد الجزيني(ت : أواخر ق ٨ هج) .
● وكانت الانتقالة العلمية الأبرز مع حوزة الحلة ومرجعيتها في رحلة الشاب المتقد ذكاءً وعلماً ذي الستة عشر عاما ومن سيعرف لاحقا بالشهيد الأول الشيخ محمد بن مكي العاملي (ت : ٧٨٦ هج) ، الذي لم يدرك العلّامة الحلي (ت : ٧٢٦ هج) فدرس على ولده فخر المحققين (ت : ٧٧١ هج ) ونال درجة الاجتهاد سريعا وعاد لجبل عامل بعد خمس سنين دراسة ومتابعة .
( وكمعلومة فإن للشهيد الأول مسجدا صغيرا بكربلاء لايزال قائما بمحلة (العچيسة) بباب السلالمة في الطريق بين باب السدرة ومقام المهدي (عج) ، ادعو المؤمنين لاسيما اللبنانيين للصلاة فيه والتعريف به وإحياء أمره ) .
● وقد أسس الشهيد الأول الحوزة العلمية الأولى بلبنان بعد عودته لبلدته جزين (شرق صيدا) والذي اعتبره المرجع الشهيد السيد محمد باقر الصدر (ق.س) أنه أول من جسد المرجعية الدينية وذهب شهيدا لها . "
وقد بلغ من شأن الشهيد الأول العلمي أن بعض فقهاء الحلة تركوها ليلتحقوا به في حوزته الجديدة بمدينة جزين اللبنانية ، وهنا حدثت هجرة هي الأولى لفقهاء عراقيين الى لبنان وحوزاته العلمية .
ان الشيخ محمد بن مكي الجزيني المعروف بالشهيد الأول خريج حوزة الحلة يعتبر أول مؤسس للحوزات العلمية اللبنانية في مرحلتها الأولى . .
3 - النجف الأشرف ، حينما عادت المرجعية اليها مرة أخرى بعد مكوثها بمدينة بالحلة (٦٠ كم عنها) لما يقارب من ثلاثة قرون .
● وبالنجف الأشرف يبرز اسم المحقق الثاني الشيخ علي بن عبد العالي الكركي (ت : ٩٤٠ هج) قادما من كرك نوح بالبقاع الاوسط اللبناني . ويعتبر الشيخ الكركي أسبق تاريخيا من المقدس الشيخ أحمد الأردبيلي (ت : ٩٩٣ هج) في الاستقرار بالنجف الأشرف وإعادة مركزية الحركة العلمية اليها ، وكان الكركي قد استقر بالنجف عام (٩٠٩ هج) ، وبها ألّف كتابه المعروف (جامع المقاصد) ، كما أسس مسجده الذي يعرف اليوم بمسجد الشيخ الطريحي بالنجف الأشرف .
وهو أول فقيه شيعي طبق اطروحة ولاية الفقيه عمليا في فترة حكم الشاه طهماسب الصفوي (ت : ٩٨٤ هج) .
● وقد فتح الكركي الباب على مصراعيه لهجرة طلبة العلم اللبنانيين الى النجف الاشرف ، حتى أستقر بعض طلبته بها وأحفادهم اليوم من الأسر النجفية العريقة المعروفة .
● وفتحت ابواب المعرفة مصاريعها أمام العديد من أبناء جبل عامل الراغبين في الدراسة العلمية ، فمع كل فقيه نجفي عدد كبير من الطلبة اللبنانيين .
ولا يمكن إحصاء كل العلماء اللبنانيين الدارسين في حوزة النجف الاشرف ، وقد صار السيد جواد الأمين العاملي (ت : بعد ١٢٢٩ هج ) أحد أربعة مراجع تقاسموا المهمات المرجعية في آن واحد وقد أوكلت اليه مهمة التأليف ، فيما تقاسم المراجع الثلاثة الآخرون السيد بحر العلوم والشيخ كاشف الغطاء والشيخ طه نجف ، مهمات الافتاء والتدريس والصلاة .
● واذا اختصرنا الزمن وعدنا الى لبنان وسرنا سريعا فإننا سنتوقف عند الحوزات اللبنانية المعاصرة وبداية تأسيسها بعد انقطاعها عن جبل عامل طويلا ، على يد أحد خريجي النجف الاشرف الشيخ موسى عز الدين العاملي (ت : ١٩٧٩ م) المؤسس للمدرسة الدينية بصور عام ١٩٦٠ ، وهي أقدم حوزة معاصرة لاتزال قائمة الى الآن . ومنها انطلقت حوزات علمية أُخرى في جبل عامل والبقاع وضاحية بيروت الجنوبية حيث ناهز عددها الخمسين حاليا .
● وطوال هذه المدة المديدة من ايام السيد الشريف المرتضى وحتى اواخر سبعينيات القرن المنصرم فإن الشراكة المعرفية بين لبنان والعراق لم تنقطع ، ولكن محنة فترة الحكم البعثي الجائر الذي كاد كيده وسعى سعيه وناصب جهده للقضاء على حوزة النجف الأشرف ومرجعيتها ، ومنهم علماؤها وطلبتها اللبنانيون فقتل من قتل منهم في الحقبة الصدامية سيئة الصيت ، وسجن من سجن وعذب منهم من عذب ، ثم أبعد وهجِّر من أُبعد منهم وهجّر ، حتى تحولت الدراسة بالنجف الى أمنية شائق يتمنى ؛ صعبة التحقيق بل مستحيلها .
ولا تزال بلبنان بقية باقية من أواخر خريجي النجف الأشرف بعضهم يعتبر ابرز علماء لبنان المعاصرين .
● وتشهد النجف الأشرف وحوزتها العريقة حاليا عودة ميمونة ، لطلبة العلم اللبنانيين وغيرهم الى حيث محط رحال سلفهم الصالح من العامليين المهاجرين الى جوار باب مدينة علم رسول الله (ص) مولانا أمير المؤمنين (ع) ، بعد زوال مرحلة الظلم والاضطهاد وعودة النجف وحوزتها لاستقبال طلبة العلم ورواد المعرفة .
ان الشراكة المعرفية بُعدٌ من أبعاد العلاقة التاريخية بين العراق ولبنان ، وربما لنا عودة أُخرى في بعد آخر والله الموفق ، مع الدعاء بنصر المؤمنين الصابرين على المعتدين الآثمين .
فيصل الكاظمي
النجف الأشرف
2024\9\25