في ايام زيارة الاربعين نرى مشاهد كأنّها من كوكب اخر.. مواقف رائعة ..انسانية لا مثيل لها.. قلوب متآلفة .. تسامح ..تنظيم عفوي ..سكينة .. ذوبان الولاءات.. عطاء غير محدود .. تسابق في الخيرات.. كمّ هائل من الطاقة الايجابية تجتاح مجتمعا بأكمله .. تكتسح بلدا من أقصاه الى أقصاه .. تحتضن الغرباء كالأهل .. ملايين يعيشون في مودة وسلام.. قلوب تهفو الى الرحمن"، بهذه العبارات وصف احدهم ظاهرة زيارة اربعين الامام الحسين بن علي بن ابي طالب عليهما السلام.ما كتبه هذا المراقب هو عين الحقيقة، فالذي يحدث في العراق ايام زيارة الاربعين، شيء لا يمكن حتى وصفه مهما كانت قابلية الكاتب على الوصف كبيرة، ما لم يشاهد الانسان بنفسه ما يحدث على الطريق الى كربلاء، وان كان لابدّ من ان نكتب شيئا عن ما يجري في العراق في ايام الاربعين فسنكتفي بالقول: ان كل اهداف رسالات السماء واهداف الانبياء والائمة والصالحين، في السلام والوئام والتآخي والتآلف والتعاضد والعدالة والحرية والرحمة والمساواة، تتحقق عمليا وبشكل لا يصدق، وهذا الامر بالذات هو الذي دفع كاتبنا ليقول ان ما يحدث في العراق في زيارة الاربعين لا يمت الى الارض بصلة، وكأنّ ما يحدث هناك يحدث على كوكب آخر غير الارض.
ان يمشي اكثر من 22 مليون انسان، بينهم الفقير والغني، المثقف والامي، الكبير والشاب والصغير، والعجوز والفتاة، السالم والمعوق، العراقي وغير العراقي، المسلم الشيعي والمسلم السني، المسيحي والإيزدي والصابئي، المتدين والعلماني، لا تفرقهم لغة ولا دين ولا قومية ولا جغرافيا ولا لون، على طريق واحد ونحو هدف واحد، هو ضريح الامام الشهيد الحسين عليه السلام، ويسهر على خدمتهم عشرات الالاف من الخدام، ليل نهار، كل هذه الصورة الانسانية الرائعة، دفعت المفكرين والعلماء، لسبر اغوارها والوقوف على اسبابها التي حيّرت العقول.
البعض حاول ان يضع يده على اسباب الظاهرة، فلم يجد سوى المعجزة والبعد الغيبي، سببا لها، ولكن وبالرغم من أنّه ليس هناك من ينكر هذا البعد لاسيما كرامة الامام الشهيد عليه السلام، ولكن هناك من رأى في شخصية وثورة الامام الشهيد، وتضحياته وإبائه ورفضه الضيم والفساد والاستبداد والطغيان والذل والعار، بأنّها المحرك لهذا السيل الجارف من البشر، فهذه الشخصية هي التي استخرجت كل الصفات الحميدة والخيرة، من داخل الانسان، وجعلتها تتجسد بأبهى صورها، فعندما لم يبخل الحسين (ع) بنفسه وبأبنائه وإخوته وأهله وأصحابه، فكيف من يعشق هذه الشخصية، أن يبخل بماله وراحته، على خدمة زوّاره، الذين جاؤوا من مختلف انحاء العالم، ليقولوا للحسين (ع) ‘نّنا على دربك ماضون، وبمبادىء ثورتك متمسكون، وهناك من الزوار من أراد أن يذكّر الجميع أنّهم لن ينسوا الشهداء الذين استشهدوا على نهج الحسين عليه السلام، عندما رفعوا صور الشهداء، من العراقيين وغير العراقيين، الذي ضحّوا بأنفسهم من اجل العراق واستقلال وسيادة العراق، ومن اجل الدفاع عن العتبات المقدسة، وفي مقدمتهم صور القائد الشهيد قاسم سليماني والقائد الشهيد ابو مهدي المهندس ورفاقهما الابرار.
ليس من هذا العام، بل من الاعوام السابقة أيضا، بدأ العديد من المبلغين والمثقفين، دراسة ظاهرة الاربعين، وتوقفوا كثيرا امام هذا الطراز من البشر الذي قرر وبإرادة وبوعي، أن يكون تعامله مع الاخر، في غاية الانسانية، ووفقا لمبادىء واهداف ثورة الحسين (ع)، فخلق بذلك اجواء للتعايش لا مثيل لها، يسودها الرحمة والاخاء والتسامح، ولا مكان فيها للشر والبغضاء والنفاق والكذب، وذلك من أجل ديمومة هذه الظاهرة واستمرارها وعدم حصرها بايام الاربعين فقط، وهي الايام التي قلصت المسافة بين العقيدة والاعتقاد القلبي، وبين المعاملة والسلوك، وهي غاية جسدها الامام الحسين وابنائه واصحابه في يوم عاشوراء افضل تجسيد، ويحاول خدام زوار الحسين (ع) تجسيدها، في ايام الزيارة.

يرى بعض من راقب ظاهرة الاربعين عن كثب، إنّ الاصلاح الذي خرج من أجله الامام الحسين عليه السلام، قد تجسّد في هذه الزيارة، فليس هناك من إصلاح، أفضل من إصلاح النفوس وبثّ الحياة والأمل فيها، وغرس الخير والصبر والكرامة والعزّة والجهاد والمقاومة ونكران الذات والإيثار في ثناياها، فهذه الظاهرة، التي تُفعّل قابليات الانسان الخيّرة، وتنتقل بها من الاقوال إلى الافعال، ليست سوى تباشير ولادة حضارة جديدة، تقوم على التعاليم الالهية والقيم الروحية، والمبادىء الانسانية السامية، وهي حضارة، تتناقض تماما مع الحضارة الغربية القائمة على الماديات والجشع والطمع والشذوذ، والتعتيم الذي مارسته وتمارسه وسائل الاعلام الغربية على زيارة الاربعين، مردّه الخوف من هذا البديل الحضاري الآتي من كربلاء..
// منقول من قناة العالم