ترددت سنوات طويله قبل كتابه هذا الموضوع رغم اني كنت اردده كثيرا امام معارفي وعشاق فكر الشهيد السعيد (محمد باقر الصدر) قدس الله روحه الزكيه ,اشعر احيانا ان الموضوع لم تعد له قيمه تستحق الاعلان , خصوصا ان مرقده الشريف بات معروفا للجميع وفيه رفاته الطاهر,لكني احيانا اعود فاشعر ان الامر يستحق الكتابه ولو للتوثيق اذا كانت تلك المعلومه تستحق التوثيق ...اما الذي شدني اكثر للكتابه فهي ما يشعر به كل انسان حين تكون هناك معلومه تتلجلج في صدره ولا ترتاح حتى تنطلق الى فضاء الناس وتصير مثل (الهم وانزاح ) بدل تأنيب الضمير بين حين واخر لحبسها.
المعلومه ببساطه اني وفي منتصف الثمانينيات من القرن الفائت واثناء تقلبي من هذا السجن لذاك ساقني الحراس( بعد ما اخبرني امر السجن بصدور امر تنفيذ الاعدام بحقي مع بعض السجناء) من سجن الخاصه في ابي غريب الى سجن اخر قيل هو سجن (رقم واحد) ,وقيل (بعض الحرس) هو سجن قريب منه , ولم استطع رغم خبرتي في استراق النظر من خلف العصابه التي تربط العين من الاستدلال على معالمه ..لأن الحرس كما يبدو كانو خبراء بفن التملص من هذه العصابه حيث امرني المكلف بربطها باغماض عيني بشده او يغمضها هو لي بطريقته الخاصه فاذعنت له شاتما (في نفسي طبعا) وكان الخزر بالعين قبل الربط هو مفتاح التبصص, وهوشئ لم يحدث لي من قبل في كل السجون التي دخلتها فأنا و(عين الحاسود بيهه عود) لم يبقى سجن يعتب عليّ ولله الحمد ..ويبدو ان هذا السجن والذي يطلق عليه احيانا (المحاجر) يوجد داخل سجن اخر كبير حيث سمعت الضابط المكلف بنقلنا وهو يزمجر على بعض الحرس لأن هناك سجناء من السجن الاخر كانوا متواجدين في الباحه الكبيره اثناء فتح باب هذا السجن وهو امر مخالف للتعليمات والتبليغات كما كان يعربد ويهدد .في مدخل السجن يوجد سلــّم ينزل للاسفل -يعني ان السجن هو تقريبا تحت الارض- وفي نهايه السلم يوجد بهو صغير,لصقت على حائطه المقابل للسلم لوحه ورقيه مزخرفه وفي وسطها عباره (الله نور السموات والارض) , وايضا دولاب فولاذي كبيرلاستخدامات الحرس ,وعلى يمين البهو ويساره يوجد بابان على شكل قفيص فولاذي يؤديان الى ممران تتوزع الزنزانات فيهما ,ولا اظن ان عدد الزنزانات في هذا السجن يتجاوز ال14 زنزانه فقط ,حيث ان الممر الايمن الذي تم توزيعنا عليها كان يحوي سبع زنزانات فقط , والممر الاخر هو بنفس المساحه . وقد علمنا ان في هذا السجن يحجز وزير النفط الايراني الذي تم خطفه او (أسره ) اثناء الحرب العراقيه الايرانيه , وكانت زنزانته في الممّر الاخر وقد شاهدته مره حين خروجنا للحمام وهو بملابس النوم (البجامه والقميص) وكانت نظيفه كما ان معاملته كانت جيده من قبل الحرس ,وايضا كان فيه عدد من قاده الحرس الثوري الايراني (حرس خميني ) كما كانوا يلقبون , وقد حذرنا الحرس من الحديث معهم ,لكنا خالفنا ذلك ورحنا نتبادل الاحاديث معهم بغياب الحرس الذي كان لاينزل للسجن الا نادرا , وكان اسم احدهم عباس كاظمي من مدينه قم , وفي هذا السجن ايضا تمت تصفيه احد هؤلاء في الزنزانه المقابله لنا , وامرنا الحراس في حال قدوم اشخاص مدنيين وسؤالنا عنه ان نجيب بانه انتحر بضرب رأسه في الحائط !! كما توفي احدهم نتيجه الاضراب عن الطعام كما يقول الحراس ايضا ...ابواب الزنزانات كانت من الفولاذ الصلد والسميك (صنع انكليزي ) كما يردد بعض السجناء , الجدران بين الزنزانات كانت بينها وبين السقف فتحه صغيره ومن خلالها نستطيع التحدث مع الاشخاص في الزنزانه المجاوره .
الذي يشرف على جلب الطعام لنا سيد موسوي من المعتقلين في السجن الكبير بانتظار محاكمته المدنيه ..وقد سأله احدنا عن شائعه تقول ان هناك سيد كبير قد تمت تصفيته في السجن بقطع رأسه فقال هذا صحيح لكنه لم يعرف من هو ذلك السيد وسألته انا عن غرفه تقع في ركن الممّر لا يوجد فيها احد يسميها السجناء ب(الغرفه السوداء) فهمس لي بحذر: سمعت من احد الحراس ان الشهيد محمد باقر الصدر(قدس سرّه) اُعدِم في هذه الغرفه .وتمنى مني عدم اذاعه ذلك لبقيه زملائي كي يستمر هو بخدمتنا , وبعد اسابيع حيث شعر بالاطمئنان لنا راح يصرح لنا بما عرفه من بعض الحراس ان الشهيد السعيد تم اعدامه فعلا بهذه الغرفه وانه يقوم (دون علم الحراس ) بتبخيرها يوميا وقراءه بعض الايات كلما سنحت له الفرصه ..كما جلب لنا يوما ورقه قال انها مكتوبه بخط السيد محمود الهاشمي وهي عباره عن قصيده هاشم الرفاعي (ابتاه ماقد يخط بناني) والتي كانت تصويرا دقيقا لما نمر به في هذا السجن..ولأني (لحوحي) جدا وفضولي اكثر في كل ما يخص اخبار الشهيد الصدر الذي لولاه لكنت غارقا بوادي التشائم مع البكائيه الماديه على الكادحين ,والمتزمتين للايمان بالحتميه التاريخيه لكن الله تعالى هداني الى كتابه (فلسفتنا) الذي يعد ثوره فكريه , فتفرغت له مبهورا اقرأه واعيده واعيد ما اقرأه , واقرأ وانا امضغ الطعام فاغص من الضحك والبهجه لهذه الاراء النافذه للصميم فلا يستقوي امامها جدل ولا تصمد بوجهها مقوله متمنطقه ..حتى جعل من الجدليه الماديه لا تجاوز حدود السفسطه قيد شعره ..وجعل من صبيان الفكر خصوصا في عالمنا العربي العوبه يأرجحها بين قلمه وانامله ويعلمها كيف تبني ادلتها بصوره منطقيه بعيدا عن الطفرات الفكريه التي لا تستقيم مع بديهيات العقل الانساني ...هذا التعلق الانساني والفكري والارتباط الروحي بالشهيد هو ما جعلني (رغم اني كنت منتظرا تنفيذ الاعدام بين فجريه واخرى ) لجوجا في طلبي من السيد الموسوي للتأكد من صحه اعدامه في هذه الغرفه السوداء ,حتى ولو بسؤال الحرس الذي اخبره بهذا حيث ذكر انه مازال موجودا وهو رئيس عرفاء من اهالي الرمادي واسمه (شياع) ومعروف عنه انه (درويش)... واخيرا استجاب لي ووعدني انه سيكلم الحرس كي يأتي لي واسأله ما اريد لانه( يمون )عليه وهو طيب القلب وبالفعل تم ذلك بعد ايام ..وبعد الاسطوانه المعهوده بمثل هذه الاحوال حيث راح يسألني ما علاقتي (بالخائن) وعن قريب ساكون مقبورا مثله ..لكني لمست في عينيه تعاطف مع الشهيد فقد كان يرسل الكلام كمن يقرأ بيان مكتوب امامه ..لذلك حاولت فقط ان اعرف حقيقه قصه الاعدام وهل شاهدها بنفسه دون التطرق لشخصيه الشهيد رضوان الله عليه ..فقص علي ما جرى حيث قال انه كان برتبه عريف وكان مسؤلا عن التموين في هذا السجن ..وفي احد الايام جاءهم بلاغ بأخلاء المحجر من كل النزلاء وارسالهم الى اعلى ( السجن الكبير) وغلق كافه ابواب السجن الكبير ومنع اي سجين (حتى الجريذي) على حد قوله من الخروج للباحه ..ثم امره الضابط بالنزول الى المحجر مع بعض الجنود وتنظيفه بالماء والمواد المعقمه واخراج كل محتوياته حتى عود الثقاب ثم قام الضابط بالنزول بنفسه للتأكد من العمل الذي استمر لساعات وقال انه سأل الضابط عن سبب ذلك فقال له انهم سيأتون بالخائن الصدر الى هنا (وعذرا لتكراري وصف -الخائن - لاني احاول نقل الكلام كما سمعته واتذكره ) وقال انه في عصر ذلك اليوم وصلت اول دفعه من الحمايه وامروا الجميع بالدخول الى غرفهم حتى الضباط ..فبقيت انا مع الضابط في غرفته نتفرج من فتحه صغيره من الشباك عما يجري ..وبعد ساعات وصلت عده عربات سوداء مضلله امتلأت بها باحه السجن وانتشرت جموع الحمايه في كل مكان ثم انزلوا رجلا مقيد بالسلاسل في يديه وقدميه وقد عصبوا عينيه ويقوده اثنان وهو يرتدي (دشداشه) بيضاء ورأسه معصب بشال طبي ابيض من اثر نزف كما يبدو فدخلوا به الى المحجر ..وبقينا هكذا حتى المساء حيث منعنا من الخروج الا الى دورات المياه وكانت العربات تروح وتأتي طوال الليل , وفي صبيحه اليوم الثاني جاء وفد كبير من القياده ومعهم اثنان مدنيين ملثمين ..ودخلوا عليه ثم خرج بعضهم خارجا وسمعنا اطلاقات ناريه داخل المحجر ثم خرج الوفد ودخل بعض الجنود واخرجوا الجسد (الطاهر) ملفوفا ..بالاكياس الخاصه لا يرى منه شيئا فوضعوه باحدى العربات وغادروا جميعا ..فأمرني الضابط بالنزول الى المحجر وتنظيف الغرفه السوداء من الدماء فنزلت وكانت هناك بقع كثيره من الدم في احد اركانها وعلى الحائط...... ثم ضرب على كتفي وقال ..(لا تخاف انت ما يعدموك هني انت يعدموك بالحصوه )..وغادر....بعد ايام طلبت من السيد مع صديقي الشهيد (سكران فاضل)وهومن اهالي (طوزخرماتو) و الذي كتبت عنه في هذه الشبكه السماح لنا بدخول الغرفه , وبعد تردد وعدنا انه سيسمح لنا شرط ان ندخلها منفردين ولمده دقائق اثناء قيامه بتوزيع الطعام ..ففرحنا وكان سكران هو اول من دخل ثم دخلت انا بعده , والغرفه هي تماما كأسمها حيث طليت جدرانها بالقير الاسود وهي مستطيله الشكل عكس بقيه الزنزانات عرضها ربما متران ونصف اما طولها فيتجاوز الخمس امتار وقد كتبت في احد اركانها كتابه صغيره جدا عن طريق الشخط على الحائط عباره (هنا اعدم الشهيد الصدر) وتحت العباره سهم صغير يشير للاسفل , ولا غرابه في ذلك فجدران المحجر من الداخل فيها الكثير من الكتابات التي تهاجم صدام وزبانيته ,لان جميع الداخلين للمحجر تكون نهايتهم الاعدام فلا يبالي احد بما يكتبون ..لذلك لم اكتفي انا بالدخول لمره واحده فقط حيث اديت الصلاه على روحه الطاهره في نفس المكان الذي يشير له السهم وقرأت سور عديده من القران وفي المرّه الاخرى اخذت معي ملعقه الاكل ثم رحت اخط سهما كبيرا يشير الى الموضع املا في ان تبقى تلك العلامه محفوظه لحين سقوط الصنم ..لكن بقيت تلك المعلومه غامضه عندي ويغلفها الكثير من الشك حتى سمعت من احد الاشخاص بعد سنوات عديده نقلا عن قريب له كان مسؤلا كبيرا في الامن العامه أواخر السبعينات ان الشهيد الصدر تم حجزه في الامن الخاص التابع للقصر وان اعدامه تم في سجن مركون قرب معسكر الرشيد العسكري ويقع تحت سجن (رقم واحد) الذي يعتقل به ذوي الجرائم الكبيره ,وان سبب نقله الى هناك وجود مؤامره لتهريبه من السجن قبل تنفيذ الاعدام , وكنت اتوقع ان تفتح ابواب هذا السجن كما فتحت ابواب السجون الاخرى بعد السقوط ..لكن بعد سقوط الصنم عرفت ان كل تلك المساحات الواسعه القريبه من معسكر الرشيد والتي كانت تضم الكثير من السجون السريه للنظام البائد قد تمت مساواتها بالارض اما الشهيد الصدر رضوان الله عليه فلا يذكر محل اعدامه الا بعباره (في احدى دهاليز الامن العامه )...والله تعالى العالم ...