التاريخ: 29 رجب 1434 هـ الموافق: 08/06/2013 م

تحقيق..
في الآونة الأخيرة، بتنا نسمع عن ترك كثير من المراهقين لمنزل الأسرة، دون التّفكير في العواقب، ولا شكَّ في أنَّ هناك أسباباً مؤرقة أدّت إلى أن يفكّر الطّفل بهذه الطّريقة.
في استطلاعنا لآراء البعض حول هذا الموضوع، قال جاسم إنَّ التّربية المنزليّة الّتي تقوم على أسس المحبّة والاحترام وعبادة الله عزّ وجلّ، هي أجمل وأعلى مراتب التّربية لو تحقَّقت في أسرنا، مشيراً إلى أنَّ خروج الطّفل من بيت والديه، رُبما يكون بسبب المشاكل المتواصلة في البيت، وشعوره بعدم الاستقرار الأسريّ، لذا يجب على الأبوين توفير جوّ هادئ للطّفل، بعيداً عن الاضطراب.
أمّا أفنان الحلو، فتُرجِّح أن يكون السّبب في بعض حالات هروب الفتيات، هو التَّقليد لما يشاهدنه من أفلام ومسلسلات تبثّ السمّ، وتروّج لأفكار العنف والاستقلاليّة والمغامرة. وتُبرهن عن رأيها بقصَّة حدثت قبل عام تقريباً ـ كما تروي ـ حيث إنَّ إحدى الفتيات كانت تقول لكلّ زميلاتها ومعلّماتها إنها مخطوبة، وتخبرهم عن قصصها مع خطيبها. وفي آخر يوم امتحانات، جاءت ومعها حقيبة، وقالت لرفيقاتها إنها سوف تذهب مع خطيبها، وسيأتي ليأخذها من المدرسة. وبالفعل ذهبت، وعندما جنَّ جنون الأهل، وذهبوا ليسألوا النّاس عن ابنتهم، قيل لهم: ألم تسافر ابنتكم مع خطيبها؟ فقال الأهل: أيّ خطيب؟ هي لم تخطب أصلاً! وتتساءل الحلو: إلى أيّ مرحلة وصل تغييب الأهل عن حياة فتياتهم وابتعادهم عنهنَّ؟
وتُلقي نور عودة بالسَّبب على نمط التّربية الذكوريَّة في الأسر، والَّتي تسمح للذّكر "الأب" أو "الأخ الأكبر" بممارسة كلّ أساليب القمع والاستعباد مع الأبناء، وبخاصّة مع الفتيات، والتّعامل مع الفتاة على أنها "الآلة" الّتي خلقت لأجل خدمته، ولا شكّ في أنّها بحاجة إلى إعادة "فرمتة"، أي ضرب، إن قصَّرت في أمرٍ من الأمور الَّتي يوكلها إليها.
في هذا السّياق، يوضح مستشار التّوعية الأسريّة الدّكتور منذر زيتون، أنَّ الطّفل يهرب من منزله عندما يعتبره ضيّقاً لا يتّسع لفكره وطموحه وأهوائه، وهو قرار صعب، لا شكَّ في ذلك، فشعور الولد المستمرّ بالضّيق، يجعله مرّة تلو مرّة يؤمن بفكرة الهرب، ويسعى إلى تذليل عقباتها تحت ضغوط التّمنيات والأحلام وتوقّع الأفضل.
ويُشير الدّكتور زيتون إلى أنّ هناك أسباباً أخرى خارجة عن منظومة البيت، وهي تتعلّق بأمرين:
الأوّل: تغيّر الخطاب الاجتماعي الأممي الَّذي يقوم اليوم على تقسيم المجتمع والأسرة، ومخاطبة الأفراد كلٌّ على حدة، فيخاطب المرأة وحدها، وكذلك الطّفل، والشابّ، والفتاة... وكأنّ هؤلاء ليسوا منظومة واحدة في إطار منسجم، إمّا الأسرة أو المجتمع، ويركّز الخطاب الاجتماعيّ الحديث على الحقوق دون الواجبات، فيصوّر للجميع فقط ما يقعون فيه من ظلم، وما ينقصهم من الحقوق، ويعطيهم المبرّرات حتّى يطالبوا بحقوقهم هم فقط، دون أن يذكّرهم بواجباتهم. ومعلوم أنَّ ميزان العلاقة، أي علاقة إنسانيّة، محكوم بمنظومة الواجبات والحقوق في آن، وأنّ التوغّل في الحقوق فقط هو بمثابة تضييع للواجبات، بمعنى تضييع حقوق الآخرين، ولذلك نرى اليوم تمرّد بعض النّساء تحت عنوان "حقوق المرأة وحريّتها"، وتمرّد الطّفل تحت عنوان "حقوق الطّفل وحريّته"، وتمرّد الشابّ تحت عنوان "حقوق الشّباب وحريّتهم". وبالتّالي، يصبح الفرد مرّة بعد مرّة مؤمناً بحقوقه هو، لاهثاً لنيلها بأيّ سبيل أحياناً، وها نحن نرى أطفالاً يتسبَّبون بعقاب آبائهم أو سجنهم، وقد عانى الغرب من ذلك أيّما معاناة، حتى لم يعد لأحد ولاية أو سلطة على أحد، ولو كان أقرب النّاس إليه.
الأمر الثاني: الخطاب الإعلاميّ الّذي يقوم هو الآخر على دغدغة الرّغبات والأهواء، وعلى التّركيز على الشّكل دون المضمون، وعلى المادّيات دون الرّوحانيات، وعلى تقديم قدوات فارغة للنّاس بحسب فئاتهم وأعمارهم، قدوات لا تتقن سوى الهوى، وما يؤول إليه أو منه، فأصبح النّاس يميلون إلى التشبّه بغيرهم أو تقليدهم، سعياً للوصول إلى ما وصلوا إليه، فبعض النّساء يردن أن يكنَّ مثل الممثّلة الفلانيّة أو المغنيّة العلانيّة، لأنّها جميلة، رغم أنَّ شكلها قد يكون تغيّر بعد عمليّات التّجميل أو بواسطة المكياج، ولأنها حرّة تفعل ما تريد، وتسافر من بلد إلى بلد، ومن حفل إلى حفل، لأنها غنيّة بالمال ولها حفاوة وطلاوة، وبعض الشّباب يريدون أن يصبحوا مثل المغني الفلاني أو اللاعب العلاني، فهو صاحب مال وشهرة، ويتنقّل بالطّائرات من مدينة إلى مدينة ومن دولة إلى دولة، واسمه على الملابس وعلى الإعلانات وفي المطاعم والصّالات. وكلّ ذلك، في ظنّ هؤلاء، لا يحتاج إلى مؤهّلات علميّة، ولا دينيّة، ولا يتطلّب بذلاً ولا تضحية، فالمهم هو الكلام المعسول، والشّكل الجميل، والمظهر الخادع، فهي كلّها توصل إلى تحقيق الأحلام والأهواء والرّغبات.
ويعتبر الدّكتور زيتون أنّ فشل الآباء في احتواء الأبناء، يكون بسبب ما يحقّقه الخطاب العالمي من نتائج، وهو القائم على قطع صلة الإنسان بأصوله، وإنهاء الولاية عليه، تحت عنوان التّمكين والدّعم والحقوق، وإرساء مبادئ الحريّة غير المسؤولة، والفردانيّة، والوحدويّة؛ لأنّ ذلك كلّه يمكّن أصحاب القوى من السّيطرة على الأفراد وعلى المجتمعات وعلى الجهود.
ويضيف: كما أنّ التقدّم العلميّ المادّيّ تحديداً، أوجد فجوة كبيرة بين تفكير الآباء وتفكير الأبناء، وهذا التقدّم ليس منقطعاً عن الحياة، فهو أدّى إلى فجوة حقيقيّة في القناعات، وفي العادات، وفي القيم والمبادئ.
وتابع: أضف إلى ذلك أنَّ كثيراً من الآباء غير مؤهّلين لتربية الأبناء؛ لأنهم هم ابتداءً يفتقدون إلى مقوّمات التربية السليمة والالتزام الأخلاقي، فلا يكونون قادرين على أن يمنحوا أبناءهم مثل ذلك، فـ"فاقد الشّيء لا يعطيه"، فمن لا يعلم الحوار لا يستطيع أن يجريه، ومن افتقر إلى الحبّ لن يكون قادراً على منحه لغيره ولو كان ابنه، ومن افتقد إلى العقل والمنطق لن يكون عقلانيّاً مع أولاده، ومن تربّى على السّخط والعنف، فلن يجد غير ذلك ليكون سبيلاً لتعامله مع أبنائه ومع جيرانه وأقاربه وزملائه وغيرهم، ولذلك يكون لزاماً أن يخضع جميع المقبلين على الزّواج لدورات حقيقيّة مؤهّلة للزّواج.
وتعليق..
لا شكَّ في أنَّ تربية الأبناء عمليّة بناء طويلة وصعبة وشاقّة للوصول بهم إلى برّ الأمان، فطبيعة الحياة وما فرضته من سرعة ومغريات، جعلت عمليّة التّربية أصعب من قبل. من جهةٍ ثانية، فإنَّ التّربية الّتي تنبع من تعاليم الدّين وقيمه الحميدة، وتنفتح بوعيٍ على عقول الأبناء ومتطلّباتهم، تعطي ثمارها فيهم.
والأسرة هي الحضن الدّافئ للأولاد الّذي يحميهم من القلق والحزن والغربة، وإنّ أي اهتزاز يحصل في داخلها، له عواقبه الوخيمة على الأولاد. لذلك، يتطلَّب أن يكون الأهل على قدر من الوعي في كيفيَّة التّعامل مع أولادهم، كلّ بحسب عمره، فعن النبيّ(ص): "لأن يؤدّب الرّجل ولده، خير من أن يتصدّق بصاع".
وفي هذا السّياق، يقول سماحة العلامة المرجع السيّد محمد حسين فضل الله(رض): "علينا ـ كآباء وأمّهات ومربّين ـ أن نفكّر في أنَّ الأولاد يتحرّكون غالباً من خلال المناخ الّذي تعيشه العائلة في علاقاتها. ولذلك، فإنَّ المطلوب كإحدى الوسائل التّربويَّة، توفير المناخ الملائم بين أفراد الأسرة، لينعكس ذلك إيجاباً على تصرّفات سائر أفراد الأسرة الَّذين يتأثّرون بهذا المناخ بشكلٍ وبآخر". [حوار مع المرجع فضل الله بعنوان "العنف ضد الأطفال"، موقع بينات].
وفي سياقٍ متَّصل، يقول سماحته عن مسؤوليّة الأسرة التربويّة: إنّنا نعتقد أنَّ مسؤوليَّة الآباء والأمّهات عن أولادهم لا تقتصر على رعايتهم وتنميتهم جسديّاً، بل لا بدّ من أن تقوم بعمليّة الرّعاية عقليّاً وروحيّاً وعاطفيّاً وحركيّاً وما إلى ذلك، ولا بدَّ للأهل من أن يفرّغوا شيئاً من وقتهم لمراقبة أولادهم، في ما يمكن أن يأخذوا به من خلال البيئة خارج البيت من مؤثّرات سلبيَّة أو إيجابيَّة، كما أنّنا نتصوّر أنّ دور القدوة هو دور مهمّ في هذا المجال، لأنَّ الأب والأمّ يمثّلان في انفتاح أبنائهم عليهما القدوة الّتي يتأثّر بها الأبناء سلباً أو إيجاباً، الأمر الّذي يفرض على الأبوين الانضباط في البيت، بحيث لا يتمثّل الأبناء إلا الجانب الطيّب الإنسانيّ في كلّ القضايا الأخلاقيّة الّتي لا بدَّ للإنسان من أن يتّصف بها. [نشرة "أجيال المصطفى"، العدد: 29، 2005م/1426هـ?].
وعن الأسلوب الأمثل للتّعامل مع الطّفل بطريقة تربويّة صحيحة، يقول سماحته: لنمنح أطفالنا المحبّة والعاطفة والاحترام والثّقة، كي نكسب حبّهم واحترامهم وثقتهم، وبذلك نستطيع أن نمثّل لهم القدوة الّتي يتمثّلونها، ويمكن بعدها أن نمارس سياسة اللّين من دون ضعف، والحزم مع الرّحمة، ونفرض هيبتنا الّتي تدعوهم إلى أن يسلكوا الطّريق الّذي نرغب بعفويّة وإرادة. [دنيا الطّفل، ص 69].
[مصدر التحقيق الأصلي: جريدة الغد الأردنيّة، بتصرّف وتعليق من موقع بيّنات].