تحقيق..
جاءتني فتاة تبلغ من العمر عشرين عاماً، وهي صديقة ابنتي، وفي حالة نفسيّة سيّئة، تعرض عليّ مشكلتها، فقالت: أنا الابنة المتوسّطة بين أخت هي الكبرى وأخ هو الأصغر، والفرق في السنّ بيننا سنة واحدة لكلّ منهما، ولكن أعاني أنا من الإهمال العاطفيّ من ناحية أبي وأمّي، فلا أجد منهما إلا المعاملة الجافّة والقاسية، في حين أنَّ إخوتي مدلّلون وطلباتهم جميعها مؤمّنة. هذا الأمر يجعلني أحياناً أكره نفسي، وتغلب الحالة النفسيّة السيّئة على حياتي، وأتساءل بيني وبين نفسي: لماذا يعاملانني هكذا ولا يكترثان لي، وكأنني لست موجودة في حياتهما، مع أنَّ أيّ شيء يتم فعله من جانب أخوتي، يكون حديث السّاعة والشّكر والامتنان، فهل ذنبي أنّني أنا الوسطى!؟
تقول هدى رمّال إنّه لا يجب أن يميّز الأهل بين الأولاد، فمن الضّروريّ معاملة جميع الأولاد معاملة واحدة، لأنَّ التّمييز بينهم سيخلق مشاكل نفسيّة عند المضطهدين، ومن هنا، يجب على الأهل أن يتداركوا هذا الأمر، وإلا وصلت الأمور إلى مرحلة لا تحمد عقباها.
أمّا عدنان نعمة، فيرى أنَّ الأهل لا يميّزون بين الأولاد بطريقة مقصودة، فربما يكون هناك أولاد كبار، ويرزقون بطفل صغير يصبح هو محلّ اهتمام الأهل، فعندها يشعر الطّفل الآخر بأنّه مضطهد، وأنّ أهله يميّزون بينه وبين إخوته.
وتقول عفاف الحاج حسن إنَّ هناك حالات كثيرة نراها في مجتمعنا، فيها إجحاف بسبب التَّمييز في المعاملة بين الأولاد، وهذا ما ينشئ حقداً وغلاً في نفوس الأولاد، ومثالاً على ذلك، نرى أنَّ كثيراً من الأمَّهات والآباء يورّثون أحد الأولاد أكثر من أخيه، أو يدخلونه إلى الجامعات الخاصَّة، في حين يدرس الآخر في الجامعة الرّسميّة، فهذه الحالات كثيرة، وأنا أعرف منها كثيراً.
وفي هذا الإطار، تشير الاختصاصيّة الاجتماعيّة، ليندا السيّد، إلى أنَّ "التفرقة في المعاملة بين الأبناء من المبادئ المرفوضة تربويّاً، والتي يقع فيها الوالدان، ويكون لها العديد من السلبيات، ولا بدَّ من أن ينتبه الوالدان إليها ويبتعدا عنها، نظراً إلى ما لذلك من تأثير في نفسيّة الطّرفين المميّز لصالحه والمميّز ضدّه، إضافةً إلى ترك آثارها على طبيعة التعليمات المتّبعة في الأسرة، والتّنشئة الأسريّة للأبناء، حيث يظهر التّمييز علاقة سلبيّة تنافريّة بين الأبناء، فيميل الطفل المميّز ضدَّه إلى كره أخيه والغيرة منه، كونه مقرّباً من والديه، ويحسده على الحنان والرّعاية الّتي يحظى بها، والّتي جاءت على حسابه. وعلى النّقيض من ذلك، ينشأ الولد الّذي يشعر بالمساواة مع أخوته نشأة صحيّة نقيّة بعيدة عن الحقد والحسد والغيرة، وقد يؤدّي الإحساس بالتّمييز إلى الإصابة بأمراض نفسيّة عديدة، ويكون من نتيجة ذلك، فشل الطّفل في تحقيق أهدافه المستقبليّة، وإشباع حاجاته الجسميّة والنفسيّة والاجتماعيّة بشكل سويّ، وضعف معنويّاته، وشعوره بالفشل والإحباط، ووقوعه تحت وطأة التوتّر والصّراع النفسيّين".
وتضيف: "كما قد يعاني الطّفل المفضّل هو الآخر من نظرة إخوانه العدائيّة، والكره الممارس ضدَّه على مستوى السّلوك اليوميّ، وقد يصل الأمر إلى مستوى إلحاق الضّرر به والتّجريح والمقاطعة والضّرب في بعض الحالات".
وتلفت إلى أنّ "المساواة بين الأبناء تنمّي قدرات الأطفال، حيث نجد أنَّ التّعامل مع الأبناء بالمساواة بينهم، يخلق أبناءً أسوياء قادرين على مواجهة مشكلات الحياة بصورة أفضل، وتقويمها بواقعيّة، وكذلك تقبّله لذاته، فتنمو قدراته الخاصّة، وتتولّد لديه الثّقة بالنّفس، ما يساعده على الاستقلاليّة في التّفكير والسّلوك القويم وحبّ الاستطلاع، والرّغبة في الإنجاز واكتساب الخبرات والبحث عنها بصورة إيجابيّة.
وتوضح السيّد أنّ المساواة الدّقيقة يجب أن تكون مساواة في الطعام وفي توزيع الكلام وفي توزيع الانتباه والاهتمام، ومساواة في توزيع النظرات والضّحك والمداعبات، كلّ هذا بقدر الإمكان، لذا يجب أن تحرص الأمّ والأب على تحقيق العدالة في هذا الجانب، كذلك المساواة في الهدايا والعطاء، والمساواة في اتخاذ القرارات، من خلال استشارة الجميع بدون استثناء، وأخذ القرارات بالأغلبيّة فيما يخصّهم، لافتةً إلى جانب مهمّ جداً، وهو المساواة في الإصغاء والاستماع، فالأبناء يتفاوتون في الجرأة والخجل.
ولعلاج هذه المشكلة، تقول إنّه لا بدَّ للوالدين من قراءة نفسيّة الأبناء، كمحاولة لفهم داخلهم ومعرفة احتياجاتهم وردود أفعالهم، وهو ما يتطلّب جهداً ودراية خاصّة، لترجمة المحبّة والشّعور الدّاخليّ إلى سلوكيّات وتصرّفات، ولا بأس من التصنّع لإبداء المحبَّة للجميع إذا كان هناك طفل مميّز في محبّة أهله له، ومن المؤكّد أنّ الأبناء سيرتاحون إلى هذه البادرة، لتطفو إيجابيّاتها إلى السّطح ولو كانت بسيطة.
أمّا بالنّسبة إلى رأي الشّرع في هذه المسألة، فيقول الدّكتور الشّيخ أحمد فارس: "إنّ الدّين الإسلامي هو دين العدل والإنصاف، فهو يمنع كلّ أنواع الظّلم، ومنه منع التّفريق بين الأبناء في المعاملة، وضرورة المساواة بين الأولاد جميعاً.
والأجدر بالآباء والأمَّهات أن يكونوا المدرسة الأولى للطّفل، وأن يكونوا المثل الأعلى له في عدلهم وتقيّدهم بالخلق القويم والمعاملة الإنسانيّة، حتّى ينشأ الطّفل على ما يتعلّمه من والديه، فمن شبَّ على شيء شاب عليه، لذا فالأولى أن ينتبهوا إلى ضرورة التّوازن في تربية أبنائهم، وأن يتّقوا الله فيهم، فيعدلوا بينهم في تربيتهم ومحبّتهم، ويظهروا لهم العدل وعدم التّفريق أو التّمييز في الحبّ والمعاملة...".
وتعليق..
أمرنا الله تعالى بالعدل والمساواة بين الأبناء، ذكورا ًوإناثاً، ونهانا عن الظّلم والتّفرقة والتّمييز بينهم، وقد تحدّثت الآيات والأحاديث عن ذلك في أكثر من موضع. قال تعالى: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ}[النّحل: 90].
وعن النبيّ(ص): "اعدلوا بين أولادكم في النُّحْل (أي العطاء)، كما تحبّون أن يعدلوا بينكم في البرّ واللّطف". وعنه(ص): "اتّقوا اللّه واعدلوا بين أولادكم".
ورغم كلّ هذه التّعاليم، إلا أنّنا نرى بعض الآباء والأمّهات، للأسف، يفرّقون بين أولادهم، ويجاهرون بهذا التّفضيل.
وعن أهميّة عدل الآباء بين الأبناء، يقول سماحة المرجع السيّد محمد حسين فضل الله(رض): "إنّ الأساس في الإسلام هو العدل، والمساواة هي مظهر من مظاهر العدل، فإنّ العدل قد يتمثّل في المسألة العاطفيّة، بحيث تعدل في عاطفتك، وهذا ما نرويه عن النبيّ(ص) أنّه رأى شخصاً يقبّل أحد ولديه، فقال له: "قبّل الآخر، حتّى لا يجد في نفسه شيئاً على أخيه أو أبيه".[دنيا الشباب، ص 160].
وفي موضع آخر يقول سماحته: "إنّ انشداد الأب أو الأمّ تجاه أحد أولادهما بشكل خاصّ، في حال كان هذا الولد أفضل في القيمة الدينيّة أو الأخلاقيّة أو العلميّة من غيره... أمر طبيعي، ولكن عليهما أن لا يعبّرا عن ذلك الإعجاب بالطّريقة التي يشعر فيها الولد الآخر، لو فرضنا أنّ العائلة مؤلّفة من ولدين، بالحرمان أو بالدّونيّة أو بالسّقوط وما إلى ذلك، بحيث يتصوّر أنّ ذاك الأخ هو المسؤول عن حرمانه من الجمال والقوّة والذّكاء وما إلى ذلك، فتتولّد لديه مشاعر الحسد، ولا سيَّما أنّ الأطفال يعجزون عن ردّ الأشياء إلى أسبابها الطبيعيّة. [دنيا الطفل، ص 180].
[مصدر التّحقيق الأصلي: جريدة اللّواء، منى توتنجي، بتصرّف وتعليق من موقع بيّنات].