هذه صور صغيرة من الحياة تدعو الى التأمل. . .

اليوم عندما اشتريت قالبا من الحلوى للاحتفال بعيد ميلادي الخامس والثمانين ادركت مرة اخرى كم افتقد زوجي.

اليوم توفي صديقي الجراح الذي اجرى لي عملية لاستئصال ورم من بطني قبل عشرة اعوام، وكانت عملية ناجحة، توفي بعد صراع دام ثلاثة اعوام مع النوع نفسه من السرطان.

اليوم لاتزال جدتني تلبس على معصمها السوارة من الخرز التي صنعها لها جدي عندما كانا في المدرسة الثانوية.

اليوم احتفلت جدتي التي تدخن بشراهة بعيد ميلادها التسعين. وكانت قد فقدت في حياتها زوجين توفيا بسرطان الرئة ولم يكونا مدخنين.

اليوم قال لي ابني وهو في الحادية عشرة من عمره: يا ابي اعرف انك حزين لانك خسرت عملك القديم وبدأت عملا جديدا لست فيه موظفا كبيرا. ولكني الان اراك اكثر في البيت، وهذا يشعرني بكثير من السعادة حقا.

اليوم دخلت الى دكاني امرأة فقيرة اعرفها تتسكع في الشارع وطلبت مني ان ازين لها قالبا من الحلوى بكلمات: اتمنى لك عيد ميلاد سعيد يا صديقي، وقلت لها اني لا اريد منها ثمنا، فاصرت ان تعطيني خمسة وعشرين قرشا فأخذتها. تناولت قالب الحلوى وخرجت من الدكان، ورأيتها تقدمه الى فقير كان جالسا على قارعة الطريق. ورأيتهما يضحكان كثيرا ثم تعانقا.

اليوم ركبت السيارة برفقة جدي متوجهين الى مدينة اخرى. بعد عشر دقائق اوقف السيارة وقال: نسيت شيئا مهما. لم اشتر لجدتك ازهارا اليوم. قلت: هل اليوم يوم خاص؟ قال: كل يوم هو يوم خاص. وجدتك تحب الازهار. والازهار تضع ابتسامة حلوة على وجهها. ثم عدنا الى بيت جدتي.

اليوم قرأت الرسالة الاخيرة التي كتبتها امي لابي قبل ان ترحل عن هذه الدنيا، وقد كتبت رسائل لكل منا بعد ان تعذر عليها ان تتكلم بسبب اصابتها بمرض السرطان. قالت في رسالتها لابي: احبك اكثر مما تعرف. وقد ظننت انه سيكون لي مزيد من الوقت لاعبر لك عن حبي.

اليوم احتفل ابي وامي، وقد طلق احدهما الاخر مرتين، بالذكرى الخامسة والثلاثين لعيد زواجهما.

اليوم لم اودع امي بقبلة كما افعل كل صباح طيلة حياتي. وقد فعلت ذلك عامدة لانها ازعجتي قبل خروجي. وقد فكرت: لا يبدو ان هذه ستكون آخر فرصة اقبلها فيها . . . توفيت بعد ظهر اليوم بنوبة قلبية.

اليوم تبرع ابي بكل ما وفره في حياته لجمعية ابحاث السرطان حيث اتلقى العلاج آملا ان تتمكن الجمعية بهذا المبلغ ان تعطيني املا جديدا بان اعيش اكثر من اثني عشر شهرا، وهي المدة التي قال الاطباء اني سأموت بعدها.

اليوم اجل اقرب اصدقائي عرسه بموافقة خطيبته ليتبرع بشكل طارىء بخزعة من نخاع العظم لانقاذ ابني الذي يصارع سرطان الدم في مراحله الاخيرة.

اليوم بلغ ابي الخمسين من عمره، ولكنه لم يكن تلميذا مجتهدا في المدرسة. انتسب الى الجيش. وبعد ذلك عمل في بيع السيارات لسنوات كثيرة. اليوم تخرج من جامعة هارفرد بعد نيله شهادة الاجازة في الهندسة. ابي رجل مثابر وقوي الارادة.

اليوم عثرت علي امي التي بحثت عنها طيلة حياتي بعد ان قال الاطباء انها لن تعيش اكثر من ثلاثة اشهر اخرى.

اليوم سألت امي: متى اقلعت عن التدخين؟ فقالت: منذ اليوم الذي احتضنتك فيه لاول مرة. في تلك اللحظة قلت في نفسي اني اريد ان اكون معك اطول مدة ممكنة.

اليوم اطلعني زوجي على رسالة كتبتها له عندما كنا في الصف الخامس.

اليوم اتصلت بي امي هاتفيا وكانت قد تخلت عني قبل عشر سنوات لانها لم توافق على طريقتي في الحياة. كانت على فراش الموت على بعد عدة ولايات مني. تحدثنا اكثر من ساعة على الهاتف قبل اقل من عشر ساعات من وفاتها.

اليوم كانت كلماتها الاخيرة: ارجوك ان تهتم باولادنا الثلاثة.

اليوم بعد اربعة اشهر من تحذير الاطباء لزوجتي بان حملها مجازفة كبيرة على صحتها وحياتها، واصلت حملها وولدت ابننا الاول. والام والولد بخير.

اليوم اكتشفت ان الورم الكبير في بطني ليس ورما خبيثا ويمكن التخلص منه بجراحة بسيطة.

اليوم سألت طلابي في الصف الخامس: ماذا تريدون ان تكونوا عندما تكبرون؟ اجاب ثلاثة منهم بصوت واحد تقريبا: اريد ان اكون معلما ماهرا مثلك.

اليوم اجري لامي التي التقيتها مرة واحدة فقط في حياتي عملية جراحية للتبرع باحدى كليتيها لانقاذ حياتي.

اليوم وبعد ستة اشهر من فقداني لحنجرتي بسبب السرطان سجلت في دورة لتعلم لغة الاشارة. وسجلت اسرتي كلها ورفاقي القدامى في الدورة نفسها. وقالوا: اننا جميعا مشاركون في هذا. وسوف نتعلم لغة الاشارة لنواصل احاديثنا كما كنا في الماضي.

اليوم في الذكرى الخمسين لزواجهما قال ابي (87 سنة) لامي (84 سنة): علاقتي بك هي اسعد انجاز في حياتي.

هذه المذكرات اختارها ونقلها الى العربية د. زياد الحكيم.
[email protected]