بين التّكفير الفكريّ والتّكفير الإجرامي


بقلم : السيد/ جعفر فضل الله


إنّ الدراسة الموضوعيّة للسلوك الإجرامي لجماعات التكفير، قد تخلص إلى أنّ هذا السّلوك يقوم على أمرين :

الأوّل: المنحى التكفيري ضدّ ذات الآخر، وليس ضدّ أفكاره وآرائه.
الثاني: عوامل داخليّة وخارجيّة لعبت دورًا في بناء الشخصيّة، بما سمح لذلك المنحى بالتعبير عن نفسه في سلوكٍ وحشيّ إجراميّ منقطع النظير في هذا العصر.

ونحسبُ هنا أنّ وعي هذين الأمرين مهمّ من أجل التخطيط لعلاج منابع هذه الظاهرة في نظمنا التعليمية والتربوية، سواء في المعاهد الدينية أو المدارس، وكذلك في نظُمنا السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة وما إلى ذلك؛ لكون هذه الأخيرة ذات أثر في إيجاد مناخات ملائمة لسلوكٍ عنفيّ أو غير عنفيّ، تبعًا لطبيعة الضّغط الذي تمارسه على المجتمعات.

في البُعد الفكري للتكفير، نقول إنّه لا مفرّ من وجود تكفيرٍ فكريّ في صراع الأفكار؛ لأنّ قناعتك بفكرةٍ ما على أنّها الحقيقة، ستُنتج - حُكمًا - أنّ الفكرة المضادّة هي الزيف والباطل أو الضّلال أو ما إلى ذلك، واعتبارها زيفًا وضلالًا نوعٌ من التّكفير؛ وإذا حدّدتَ أمرًا ما على أنّه شرطٌ للانتماء إلى الإسلام، فإنّ فقدان هذا الشرط سيخلّ بهذا الانتماء، وما إلى ذلك، وهذا يعني أنّ الكفر بالشّرط كفرٌ بالإسلام، إلى غير ذلك من الأمثلة على حالة التضادّ بين القناعات والأفكار المخالفة لها، انطلاقًا من مبدأ أنّ الحقّ لا يتعدّد.

ولقد مارس القرآن الكريم نفسُه هذا اللّون من التعبير، كما في قوله تعالى: {لقد كفر الذين قالوا إنَّ اللهَ ثالثُ ثلاثةٍ}[1]، أو {لقد كفر الذين قالوا إنّ اللهَ هو المسيحُ ابنُ مريمَ}[2]، وغير ذلك من الموارد الّتي كانت تتحرّك في إطار النقاش العلمي لأفكار الآخرين وعقائدهم. وإذا أردنا أن نضرب مثالًا من تعابيرنا الحواريّة، فقد نستطيع تصوير الكفر هنا على أنّه من قبيل أن يقول القائل إنّ فكرتي هي الحقيقة، وفكرتك هي الخطأ، ويردّ الآخر بعكس ذلك، ونحو ذلك ممّا يدور في حواراتنا الفكريّة أو العقدية.

هذا كلّه، بغضّ النظر عن نسبيّة مفهوم الكفر في عالم الأفكار أيضًا، بمعنى أنّه قد يعبّر بالكفر عمّن كفر بفكرةٍ ما، في الوقت الّذي يُعتبر فيه مؤمنًا قياسًا بفكرة أخرى، وقد استخدم القرآن الكريم هذا المنحى حيث قال: {إنّ الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصّابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحًا فلهم أجرهم عند ربِّهم ولا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون}[3]، حيث أثبت لهم الإيمان بالله واليوم الآخر، ولكنّهم كفروا - في نظرهم - في تصوّرهم لله؛ وهذا ما يؤكّد استخدام القرآن لمصطلح الكفر نسبةً إلى أفكار معيّنة في حالة المناقشة العلميّة لها، وليس على إطلاقه.

وقد نلمح هنا أنّ منظومة القيم في نظر الإسلام تفصيليّة، بمعنى أنّها تؤخذُ واحدةً واحدةً، وليست مرتبطةً بمجرّد الانتماء إلى جماعةٍ، وهذا هو الّذي جعل القرآن يذمّ المسلمين على سلوكٍ خاطئ، ويمتدح "الكافرين" على سلوكٍ صحيح؛ وهذا هو الّذي دفع القرآن إلى ذمّ اليهود، لا لأنّهم كافرون، بل لأنّهم مستكبرون {ويقتلون النبيّين بغير حقّ}[4]، ويؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، وغير ذلك، ومدح النصارى لأنّ {منهم قسّيسين ورهبانًا وأنّهم لا يستكبرون}[5]، {وترى أعينهم تفيض من الدّمع ممّا عرفوا من الحقّ}[6] وغير ذلك، حتّى دعا أهل الكتاب إلى {كلمة سواء}[7].

ولذلك، فإنّ تكفير الأفكار قد يُعتبرُ تجلّيًا لحرّية النّقد، والّذي يتحمّل أن يعبّر فيها كلّ فريقٍ أو إنسانٍ أو جهةٍ عن قناعته وما تمثّل، وعن قناعة الآخر وما تمثّل بالنّسبة إليه.

وهنا، وتحديدًا في تعبيرنا "بالنّسبة إليه" ينبع الفرق بين تكفير الفكرة وتكفير الذات؛ لأنّ تكفير الفكرة إنّما حصل بالنّسبة إلى قناعة الأنا، وحتّى عندما تعبّر هذه الأنا عن فلانٍ أنّه كافرٌ، فإنّ المقصود أنّه كافرٌ بالنّسبة إلى الفكرة التي تعتقد أنّ الحقيقة تدور مدارها.

طبعًا، هذا لا ينفي أنّ مصطلح الكفر نفسه قد أصبح يختزن الكثير من الأفكار والصّور السلبيّة، حتّى أصبح إطلاق الكفر موجبًا للتقييم السلبي للّذي يطلقه، مع أنّه - في أصله - مصطلحٌ علميٌّ تصنيفيّ إذا بقي في حدود عالم الأفكار، وبقي منضبطًا في إطار قواعد الحوار والجدال بالّتي هي أحسنُ.

وتلك النسبيّة ستجعلني - بالبداهة - أعتبر أنّ ما هو واضحٌ بالنّسبة إليَّ أنّه يمثّل الحقيقة، قد لا يكون كذلك بالنّسبة إلى الآخرين؛ بل من وجهة نظر الآخرين، قد أكون أنا الكافر وليس هم؛ ولا يؤثّر في ذلك فكرة أنّ الحقّ لا يتعدّد، وأنّ الناس إنّما تصيبه وتخطئه، وأنّه ليس هناك إلّا الحقّ والباطل، كما قال تعالى: {فماذا بعد الحقّ إلّا الضّلال}[8]؛ ذلك لأنّ ما نتحرّك به كبشرٍ غير معصومين عن الخطأ إنّما هو القناعات، أي قناعة أنّ فكري هو الصّواب وفكر غير هو الخطأ؛ أمّا أنّ قناعتي مصيبة للحقّ بالضّرورة، فليس كذلك؛ إذ ما المانع أن تكون قناعتي مخطئة أو غير دقيقة! ألسنا نغيّر كثيرًا من قناعاتٍ سابقة نتيجة اطّلاعنا على معطيات جديدة، أو نتيجة تغيّر وجهة نظرنا في الموضوع، في الوقت الّذي لو سُئلنا سابقًا عن تقويمنا لأفكارنا، لأجبنا بالجزم واليقين أنّ قناعتنا هي الحقيقة؟!
من هنا، فإنّ المشكلة هي عندما يتحوّل التّكفير من صراع الأفكار إلى صراع الذّوات؛ لأنّ صراع الأفكار ينضبط عادةً في حدود الأدلّة والبراهين على ما تعتقده الأنا وما يعتقده الآخر أنّه الحقّ، بينما صراع الذّوات يتحرّك عبر آليّات الإلغاء والإقصاء من الواقع والميدان.

قد يقول قائلٌ إنّ إلغاء التكفير مطلوبٌ حتّى من عالم الفكر؛ لأنّ التّكفير كصراع بين الذوات إنّما يرتكز على التكفير في عالم الأفكار. وهذا الإلغاء يمكن أن يكون عبر القول بتعدّد الحقائق، وأنّنا نقبلُ بشرعيّة كلّ فكرٍ إنسانيّ موجود، وهذه هي الرّوح التي تنفح القرن الواحد والعشرين، حيث الحرّية الدينيّة تكفلها شرعة حقوق الإنسان في الأمم المتّحدة، وبات يُقاس مدى التحضّر والتقدّم بها.
ولكنّنا نرى ذلك مجرّد وهمٍ أو خيالٍ؛ لأنّ القناعات إذا كانت متّجهة إلى طرفٍ، فإنّ ما يقابلها سيأخذ الطرف السلبيّ بشكل قهريّ؛ إذ لا يمكن الجمع بين المتنافيين في طبيعتهما، فحتّى لو اعتبرنا كلّ الأديان حقّة، فهل نستطيع أن نلغي ذلك من أفكارنا! ونحن نعتبر أنّ المسألة في عمقها في الوجهة التي نعالجها.

وفي هذا المجال، نجد في الممارسة الإسلاميّة تاريخيًّا، أنّ هؤلاء "الكافرين" كانوا يعيشون مع النبيِّ محمّد(ص) في المدينة، وقامت العلاقة فيما بينهم وبين المسلمين على أساس الاحترام المتبادل والمساهمة الإيجابيّة في النقلات الحضاريّة لاحقًا، حتّى كان منهم الذين قاموا بترجمات الفكر الآخر إلى المجال العلمي الإسلامي، بما ساهم في تفاعلٍ علميٍّ بين المسلمين وغيرهم، وعاش الذين كفّروا الإمام عليًّا بن أبي طالب فكريًّا آمنين في المجتمع الإسلاميّ، وهم الخوارج، ولم يحاربهم لذلك، وإنّما حاربهم لإعادة الأمن بعد أن أخلّوا به، فقطعوا الطريق وبدأوا ممارسة القتل الوحشيّ، وصولًا إلى وقتنا الحاليّ، حيث لا يزال الوجود "الكافر" محتضَنًا في المجتمعات الإسلاميّة، في الوقت الّذي بقي كافرًا من الناحية العقائديّة في نظر المسلمين... وهذا كلّه يعني أنّ التكفير الفكريّ لم يتحوّل إلى تكفير عمليّ إلغائيّ للوجود على النحو الذي تبشّرنا به الجماعات التكفيريّة الإجراميّة.

وإنّنا نعتقد أنّ منهج التفكير القِشريّ، الذي يتمسّك بسطح الأحاديث المرويّة عن النبيِّ(ص) باسم التمسّك بالسُّنّة، والذي يبتعد عن التحليل العميق لمداليلها باسم التسليم لله وللرسول، ولا يعتمد آليّات العرض على قواعد القرآن والسنّة والعقل والمنطق السليم، يمثّل بيئةً فكريّةً خصبةً لتحوّل التكفير من منحاه الفكريّ إلى منحاه العملي الإجراميّ إذا ما تضافرت عواملُ تربويّة وثقافيّة مساعدة على بناء شخصيّة تستسهل القتل وتعيش التوحّش؛ لأنّ ذلك المنهج يجعلك أمام شخصيّات نصّيّة منفصلة عن المجتمع والحياة، وإنّما لها عالمـُها الّذي تعيشُ فيه، وهو عالـَمٌ يعتبرون أنّه العالم "الطّهوريّ" الذي لا ينبغي أن يدنّسه العالم "النجس" الّذي يعيش فيه الناس الانغماس في العقليّات والفلسفة، ويمارسون فيه الشّرك، وغير ذلك ممّا سمعناه وقرأناه في أدبيّات تلك الجماعات في حكمها على الواقع.

وإنّ هذا النهج يكشف عن ضعفٍ في البنية الفكريّة لأصحابها، بما يعزّز من نزعتهم التطهيريّة التي تتوقَّفُ محافظتها على طهارتها عبر إلغاء الآخر "النجس" من الوجود؛ لأنّ أصحاب ذلك النهج غير قادرين على الانخراط في الحياة مع المحافظة على نهجهم من أن يصيبه التغيّر أو التطوّر. وهنا تتحوّل فكرة التطوّر نفسها إلى "بدعة" ينبغي محاربتُها وحذفُها من حياة النّاس بالقوّة؛ لأنّها السبيل الوحيد لإلغائها بعد ضعف بنية الحِجاج والحوار لدى أصحاب ذلك النّهج.

ولعلّ من الضّروريّ اليوم أن يتوفّر الباحثون في علم الكلام والفرق والمذاهب على لونٍ جديد من البحوث، يستهدف الكشف عن مدى الارتباط بين التطوّر الفكريّ للفرقة أو المذهب الإسلاميّ، وبين عدم تحوّله إلى نهج قتلٍ وإقصاءٍ وتدمير للآخر؛ ليكون ذلك حافزًا للتفكير الجادّ في عمليّة تطوير البنية الفكريّة عمومًا، انطلاقًا من عمليّة نقدٍ واعٍ للبنى الفكريّة الضعيفة المسؤولة اليوم عن تشوّه في العقل الدّيني لدى مجتمعات بأسرها.
وانطلاقًا من معطيات علم الاجتماع، لا يتوقّعنَّ أحدٌ أنّ أيّ تطوير في تلك البنية ينطلق فقط من نقد منهج التفكير لدى تلك الجماعات، وإنّما يحتاج إلى تغيير في البنى الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة للجماعات؛ لأنّ واحدةً من المؤشّرات الهامّة على ذلك الارتباط بين الفكر والمجال المجتمعيّ الذي يعيش فيه أصحابه، هو أنّ ذلك المجال يقوم على الاستبداد السياسي والقطع الثقافي والتوحّش الاجتماعيّ، وكذلك على الفقر والحرمان والتأزيم الاقتصادي.

وقد نفهم هنا، أنّ كثيرًا من التعاليم الأخلاقيّة والتربويّة في الإسلام، إنّما كانت تستهدف إصلاح المجال الذي يعيش فيه الإنسان؛ لأنّ فساد المجال يؤثّر سلبًا في الذين يعيشون ضمنه، وهذا ما نفهمه من الأخلاقيّات المرتبطة بالتسامح والعفو والحلم وسعة الصدر والرحمة والحبّ وما إلى ذلك، إضافةً إلى البنى الّتي يقوم عليها الاجتماع الإنساني، كالعدل والقانون والتكافل الاجتماعيّ والعلم وحرّية التّعبير والحوار بالّتي هي أحسن وغير ذلك، كلّه لأجل أن لا تتحوّل البيئة المجتمعيّة إلى بيئة حاضنة لتحويل الإنسان إلى كائن مأزوم في إنتاج الفكرة، أو في تحويل النزاع من الأفكار إلى الذّوات.

هذا، مع إدراكنا أنّ كلّ تلك العناوين الأخلاقيّة الآنفة لا بدّ من أن تتحوّل إلى منظومات وشبكات تدخل في صلب عمليّة بناء المجتمع وإرساء قواعد حركته؛ فتمجيد العلم - مثلًا - لا بدّ من أن يعبَّر عنه بالمنهج التعليمي الذي يكفل للإنسان أن يفكّر باستقلاليّة، لا أن يكون عبارة عن أدلجة من دون معايير نقديّة، وأن يكون لدينا مؤسّسات ترعى البحث العلمي وتشكّل مجالًا لاختبار الأفكار، حتّى المتطرّفة منها، حتّى في ما يرتبط بعمارة المؤسّسة التربويّة وهندستها ومدى انفتاحه وانعكاس ذلك على الروح والنفس.


[1] سورة المائدة، الآية 73.
[2] سورة المائدة، الآية 17.
[3] سورة البقرة، الآية 62.
[4] سورة آل عمران، الآية 21.
[5] سورة المائدة، الآية 82.
[6] سورة المائدة، الآية 83.
[7] سورة آل عمران، الآية 64.
[8] سورة يونس، الآية 32.