٤/٧/٢٠١٥
/17 رمضان 1436هـ


خمسُ سنواتٍ مضت ولدى أيتامك بعضٌ من عتاب، وما زلت سيّدي في حضرة الغياب، حيّاً بشعرِك، بفكرك، بروحك، وحضورك حائمٌ بيننا... تمرّ بنا بعينيك اللّتين احتضنتا دموع الأيتام، ويديك اللّتين مسحتا رؤوسهم، فكنت وما زلت أباً رحيماً عطوفاً دخلت قلوبهم، وأدخلتهم مسكنك وبيتك الَّذي بنيته مؤسَّساتٍ رعائيَّة.
زينب طفلةٌ يتِّمت مرَّتين، اختارت باقة وردٍ تهديها لضريحك في مسجد الإمامين الحسنين لنجاحها في الشَّهادة المتوسّطة. امتلأت عيناها بالكثير من دموع الامتنان والحزن، وترفض أن يعلو صوتها أمام قبرٍ يحتضن والدها وكفيلها ومعيلها العلامة محمد حسين فضل الله، فتهمس كلماتها خجلاً من أفضالك، وتشرد في بهاء صورتك المعلّقة على لوحة رخاميَّة. تنهمر دمعتها بصوتٍ مهيب، وتكتفي بالقول: "هو سبب نجاحي".
لا ريب في أنّها تلميذةٌ تربَّت في كنف مؤسَّسات العلامة الرّاحل، بعدما أذاقتها الحياة المرارة منذ الصِّغر، وسلبتها أباها، فكان المرجع فضل الله والدها الَّذي وجدت فيه حنان الأب وعطف الأمّ، وكلَّما اشتاقت إليه، قصدت بيت الله الّذي يحفظ رائحته الّتي ما زالت تفوح في المكان.
ليتك تعلم سيِّدي كم يفتقد المسجد صوتك في ليالي رمضان المباركة، وكم يفتقد محبّوك دمعة عينيك في مجالس عاشوراء، ولمسة يديك الطّاهرتين، وجلال عمامتك المعطّرة بالياسمين. ومحراب صلاتك يبكي شوقاً إلى سجدة جبينك في كلِّ جمعة.. لكنَّك سيّدي تسكن معنا في رحاب المسجد منذ خمس سنوات، وطيفك لا يزال يظلِّل صلاتنا كلَّ يوم.
في غياب العلاّمة، كم يفتقد العالم اليوم إلى مرجعٍ مجدِّدٍ يقدِّسُ العقل قبل الخرافات، والعلم قبل الأساطير! ما أحوجنا إلى رأفته وعلمه وتواضعه! رجلٌ وهب ماله وحياته ووقته لأيتامه، وعاش بين الفقراء قبل الأغنياء، بين المحتاجين قبل المكتفين، عاش في قلوب الأيتام ودفن بينهم، ليهبهم آخر ما تبقّى منه في الحياة.
"يموت عمل المرء إلا في ثلاث: صدقة جارية، وولد يدعو له، وعلم ينتفع به". فكيف يقولون إنَّك ميتٌ سيِّدي، وأنت لك آلاف الأبناء الّذين يدعون لك كيفما رمشت أعينهم؟! كيف يموت من تجري من بعده صدقات يستقي منها من ليس لهم سند ولا معيل؟! وكيف يموت من ترك لنا بحاراً من العلم والمعرفة؟!
نرسم في مخيَّلتنا قصصاً جميلةً من بهاء صورك، ونحلم بغدٍ أفضل حين نسمع دروسك، فكلّنا ثقة سيِّدي بأنَّك تحرسنا في عليائك، لتبقى دائماً حاضراً في العقل والقلب والوجدان.