ما رأيكم بأسبوع البراءة؟ وما هو الموقف من التقية المداراتية؟


السؤال: ما رأي جناب الشيخ في قضيّة أسبوع البراءة المعلن عنه في التاسع من ربيع الأوّل كلّ عام، من قبل جماعات لا تتبنّى فكرة التقيّة المداراتيّة، بحيث يلزمون أنفسهم اللعن لرموز السنّة في الملأ العام وعلى شبكات التواصل الاجتماعي، فضلاً عن اتّهام عائشة بالفاحشة، حتّى ألّف أحدهم فيها (الفاحشة الوجه الآخر لعائشة)؟ ومن الجدير أن توضحوا لنا موقع التقية المداراتيّة في المنظومة التكتيكية الإسلاميّة في التّعامل مع المخالفين؟ وهل من الصحيح أنّ المشهور من الفقهاء يرون التقيّة المدراتيّة بحكم الوجوب بحيث يزول حكم الوجوب في عصر صاحب العصر عجل الله فرجه كما في اعتقادات الشيخ الصدوق؟ (حسن البحراني).

الجواب: في عقيدتي الشخصية التي أدين الله بها أنّ كلّ عمل لم يرد فيه بعنوانه نصّ خاصّ ثابت شرعاً أو دليل معتبر علميّاً في قواعد الاجتهاد الشرعي الرصينة، لا يصحّ القيام به، بل يحرم، إذا كان يوجب تفرقة المسلمين ونشر البغضاء والكراهية بينهم، لاسيما في مثل عصرنا الذي بات يعدّ من عصور الفتن المذهبية التي مرّت على المسلمين، وأمّا إذا ثبت بالنصّ الصحيح العلمي ـ لا بالاستحسانات والمنامات والحكايات والمرويّات الضعيفة المتهالكة ـ أنّ أمراً ما مستحبّ، وكان يوجب في زمنٍ ما تفرقة المسلمين، فسوف ينقلب الاستحباب إلى حرمةٍ قطعاً؛ لتقدّم ملاك التحريم على ملاك الاستحباب، ولا ينفع في ذلك تحويل بعضنا المستحبات إلى أصول المذهب عبر كلام شاعري في الغالب. وإذا ثبت أنّه واجب شرعاً، وأوجب تفرقة المسلمين في مرحلة زمنيّة معيّنة، ففي هذه الحال يُنظر فيما هو الأهم ملاكاً ومصلحةً، فقد يقدَّم الواجب وقد يؤخّر فيقدّم عليه مفسدة التفرقة، كلُّ ذلك حسب اجتهاد المجتهد وقراءته لنظام الملاكات والأهميّات في عالم المصالح والمفاسد.
وأمّا أسبوع البراءة، فلا هو ولا أسبوع الوحدة بالأمور المنصوصة شرعاً، فإذا كان في واحدٍ منهما المصلحة كان أمراً حسناً في نفسه، وما أراه بنظري القاصر أنّ مثل هذه المشاريع (أسبوع البراءة) تحمل أشدّ المفاسد اليوم على المسلمين. ومع احترامي الكامل لكلّ من يؤمن بمثل هذه المشاريع لكنّني أختلف معهم أشدّ الاختلاف، وأرى أنّ المسلمين اليوم ـ والشيعة بالخصوص ـ بحاجة للوحدة مع سائر المذاهب، وأنّ مشاريع السباب والشتم والتوهين لمقدّسات الآخرين على شاشات التلفزة وفي مواقع الشبكة العنكبوتية وغير ذلك، تعدّ أكبر معيق لنشر فكر مذهب أهل البيت عليهم السلام، وأدعو إخواننا الذين يرون الصلاح فيما يفعلون أن يعيدوا النظر فيما يرونه ويدرسوا الأمور بعيداً عن الانفعال الطائفي وحسّ الانتقام والتشفّي، وأن لا يعمّموا أزمةً طائفية في بلد، على الشيعة والسنّة في جميع البلدان في العالم.
أمّا التقية المداراتيّة، فقد تكلّمت عنها سابقاً بشيءٍ من التفصيل والتوضيح، وخلاصة ذلك أنّها ليست سوى حُسن إدارة الأمور للتأثير على الآخرين، وممارسة علاقة حسنة غير متوتّرة معهم، فكما أنّك إذا أردت أن تهدي شخصاً للمسجد والصلاة والدين تتعامل معه بتدريجية وبأسلوبٍ يجذبه، دون أن تمارس الكذب والدجل والنفاق والتزوير، ودون أن تقول له منذ اليوم الأوّل بأنّ هناك ألف محرّم في الشرع كي لا يفرّ بعد الصلاة مباشرةً! فإنّ التقية المداراتية هي مبدأ عظيم في الأخلاقيات السلوكيّة، ليس مع المذاهب الأخرى فحسب، بل مع جميع الناس على اختلافهم، وهي التي تحوّل الإنسان المتديّن إلى إنسان غير وحشي وعدواني وصلف وجاف ويابسٍ في أخلاقه واختلافه مع الآخرين، بل هو قادر على التواصل والتعاطي بإيجابيّة قدر الإمكان وإيصال رسالته بشيء من الذكاء والفطنة والهدوء والتدريج والمراحليّة آخذاً بعين الاعتبار الظروف الزمكانيّة المحيطة، دون أن يخرج عن عنوان (لا يخاف في الله لومة لائم)، فليس هذا النوع من التقيّة في قناعتي المتواضعة شيئاً يتعلّق بعصر الظهور أو الغيبة، ولا شيئاً يتعلّق بأهل السنّة فقط، بل هو نمط عيش يحوّل المؤمن إلى إنسانٍ مرنٍ في التعامل مع عناصر الاختلاف مع الآخر ـ أيّ آخر كان ـ هذا هو فهمي لنظريّة التقية المداراتية وقراءتي لها، وهي التي تميّز متديّناً مرناً سلساً تواصليّاً عن متديّن صلف جاف صدامي، يجعل نفسه من الأجلاف القساة النابين في لغتهم وطرائق تعابيرهم، كما نرى عند بعض المتشدّدين اليوم من بعض المذاهب الإسلاميّة المختلفة هنا وهناك، ولهذا ورد في بعض النصوص أنّ رسول الله قال: (أمرني ربّي بمداراة الناس، كما أمرني بأداء الفرائض)، ولهذا تحدّث العلماء عن التدرّج في بيان القرآن للأحكام؛ لأنّ هذا التدرّج نوعٌ من المداراة والتقيّة بهذا المعنى الواسع، وهي تقيّة قد تتوقف ـ حتى بهذا المعنى ـ في بعض الحالات تماماً كأيّ موقف شرعي أو أخلاقي يتصل بالقضايا العمليّة.
فالقضية ليست مذهبيّة كما فهمها بعضنا، وإن كان الأئمّة أبرزوها في الفضاء المذهبي لكونه كان محلّ ابتلاء شديد في تلك الفترة، ولأنّ بعض الشيعة كانوا لا يمارسون هذا النوع من التقيّة بما يجلب عليهم المفاسد، فيقولون ما لا يتحمّله الآخرون فيلحقون الضرر بالحقيقة. والقضية ليست نفاقاً أو كذباً أو قولاً لغير الحقّ، فإنّ هذا لا يجوز إلا في تقيّة الخوف في بعض أحيانها، فينبغي التمييز بين الحالتين، وبالتمييز بينهما نُخرج الفضاء الشيعي من الالتباس في قضيّةٍ هي بنظري من أعقد القضايا الشائكة في العلاقة بين الشيعة والسنّة، وهي قضيّة التقيّة. والعلم عند الله، وللكلام تتمّة.