كنا نظن أن العراقيين بعد 13 عام من سقوط دكتاتورية صدام قد فهموا أن الدكتاتورية تشكل وبالاً عليهم. وأن كل ما يحدث اليوم من فشل نجد جذوره في تلك الدكتاتورية التي خلفت هيكلاً عظمياً من البلد، وشعباً تعبث فيه نوبات الهستيريا والقلق والمؤامرات، وقادة سياسيين ودينيين يستعينون بتجارب دكتاتورية صدام في تحديد مناطق نفوذهم وسلطتهم.
كنا نتوقع أن ما أطلق عليهم العلمانيين، هم أكثر الناس فهماً لوضع عدم اعادة تدوير الدكتاتورية في العراق بأشكال مختلفة. فهم الأكثر انفتاحاً على الثقافات التنويرية في الغرب، وخالجنا الظن أنهم الأكثر تفانياً في الترويج لدولة مدنية في العراق تبتعد عن تعقيدات وتحكم الدين، والتقاليد، والايديولوجيات والشخوص في حياة البشر، وتضمن حقوق الناس بالمساواة والعدالة. وأنهم سيكونون الأحرص على الدفع بذلك الاتجاه، رغم انتكاستهم في انتخابات عام 2014.
كنا نظن أنهم، كما هو شأن أي تيار مدني في العالم، يمتلكون مقومات تأثير أيجابي في نشر الوعي لدى المواطنين لمعرفة حقوقهم المدنية ضد مؤشرات تزايد نزعة التفرد والدكتاتورية عبر المجتمع العراقي ومؤسساته الرسمية وغير الرسمية. وعلى الرغم من أن الدستور العراقي –نظريا- يضمن عدم صعود الدكتاتورية في مؤسسات الدولة، إلا أن الدكتاتورية أصبحت شبحاً يخيم على الجميع نظراً لضعف البنية الديمقراطية في المجتمع، وضعف وتضاؤل حضور الدولة في حياة الانسان العراقي اليومية، وبالتالي كانت النظرة الى ما يسمى بالتيار المدني أنه يستطيع أن يعبر عن تطلعات المواطنين بحريتهم، وحقوقهم، بما ينسجم مع القوانين المرعية. كما كانت النظرة إلى التيار أنه يستطيع، نظراً لتحرره من المحاور السياسية المختلفة أن يلعب دوراً في التأثير أو التأشير على الدكتاتوريات الشعبوية الناشئة كدكتاتورية مقتدى الصدر وغيره، أو الدكتاتوريات المتأصلة كدكتاتورية حزب البعث، أو دكتاتوريات بعض المتنفذين في هذا الموقع أو ذاك.
ولكن خروج جاسم الحلفي، الذي وصف بأنه "ناشط مدني" وهو يتلقى تعليماته من مقتدى الصدر، وظهوره وهو يلبس ثوباً أبيض بشكل مضحك في تظاهرة نظمها اتباع مقتدى الصدر، حيث بدا معممو مقتدى الصدر وهم يدورون من حوله، أثار الكثير من الاتهامات لما يسمى بقادة "التيار المدني" في العراق، الذي أصبح قادته يشيرون الى مقتدى الصدر بلقب "سماحة السيد". إذ أصبحوا وعن قصد جسراً لبناء وضع دكتاتوري، ثيوقراطي جديد في العراق، وتحت قيادة شخصية مقتدى الصدر غير المتزنة، المتعطشة للانتقام، والمؤدلجة بشكل ملفت للنظر. وينظر مقتدى الصدر وأتباعه بالازدراء الشديد إلى اي نشاط مدني-علماني، وينظر إليهم على أنهم كفرة وملحدون. وإن أصبحت المهادنة إجبارية في ظل هذه الظروف، إلا أن البعد الايديولوجي لمقتدى الصدر يتحرك في أفق محاصرة وإقصاء، إن لم نقل استئصال أي وجود علماني في المجتمع العراقي. ومن المستغرب أن يرضى ما يسمى بـ"التيار الديني" بفتح المجال واسعاً لدكتاتورية مقتدى الصدر في أن تتمدد في المجتمع العراقي، وأن تشكل دولة موازية ضد شرعية الدولة تمهيداً لانهائها. ويشير مقطع فيديو لمقتدى الصدر وهو يصف العلمانية بالالحاد، وأنه يعرب عن امتعاضه من أنها "متفشية" في المستويات الدنيا وأصبحت "تتفشى في المستويات العليا. وأنها وصلت الى الحوزة العلمية.
من المؤكد أن جاسم الحلفي وجماعته يدركون أن مقتدى الصدر يحمل في داخله عداء كبيراً لهم، ويشعر أنهم يمثلون خطراً على مشروعه السياسي الذي يستند على اجتهاداته الشخصية واحكامه التي تسمى شرعية. وأنه آجلاً أم عاجلاً ستتم ازاحتهم ان لم نقل تصفيتهم من قبل الدكتاتور الجديد حالما يشعر بالقوة والانتصار.
لا نريد أن نخوض في سيناريوهات المؤامرة، ولكن للعراق طبيعة جيوسياسية تجعلنا لا نعدم الشك بأن قادة "التيار المدني" الذين خسروا الانتخابات الماضية، جعلوا انفسهم جسراً للعبور لدكتاتور مقتدى الصدر، وايضاً لأجندات اقليمية تسعى لضرب الدولة في العراق. وهكذا وبقدرة قادر يصبح "التيار المدني" أحد أهم أدوات تنفيذ المشروع الدكتاتوري القادم في العراق أو جزء منه. ويعتبر مشروع مقتدى الصدر من أكثر المشاريع الدينية الدكتاتورية تطرفاً ويتحرك بوتيرة تشبه وتيرة تنظيم داعش، من حيث محاكمه الشرعية، وميليشياته، وأدوات التنكيل ووسائل غسيل الدماغ واحتكار العلاقة بين الناس والرب.
يذكرنا دخول جاسم الحلفي ومن هم على شاكلته في حلف مع مقتدى الصدربمناورات الشيوعيين القديمة في تحالفاتهم الخائبة مع حزب البعث، والتي جرت عليهم وعلى البلد الويلات تتلوها الويلات. ويظهر أن قادة التيار المدني وجماهيره الذين يتم استغفالهم بنفس طريقة استغفال جماهير التيار الصدري سيكونون حطباً لحقبة سوداء قادمة في تاريخ العراق يتم العمل على تأسيسها في ظل هذه الظروف.
شاكر محمود
https://m.youtube.com/watch?v=x9RARiCBy2s