حديث النفس - الشك بالله تعالى
سماحة العلامةالشيخ حسين الخشن (حفظه الله )
وهو الشك الطارئ الذي يفرض نفسه على المرء حتى لو كان في أعلى مستويات الإيمان، بيد أنه شك عابر وغير مستقر، وتعبر عنه بعض المأثورات بتعبير جميل وهو "حديث النفس"، وربما كان منشأ هذا الحديث الداخلي هو الوساوس والشكوك الفكرية التي تطرح على المؤمن بعض الأسئلة التشكيكية ، ما قد لا يجد له جواباً مقنعاً لأول وهلة، من قبيل السؤال عن وجود الله تعالى أو مكان تواجده؟ ولماذا لا نراه؟ وإذا كان هو خالقنا فمن الذي خلقه إلى غير ذلك من الأسئلة التي تواجه المؤمنين الموجدين.
وهذا النحو من الشك لا يؤاخذ عليه الإنسان، وذلك من مظاهر رحمة الله بعباده، فهو قد رفع تبعات هذا الشك عنهم، بل إن رفع المؤاخذة هو من مظاهر عدله تعالى وليس من مظاهر رحمته فحسب، على اعتبار أن هذا الشك أمر يفرض نفسه على الإنسان ولا يستطيع - في الغالب - تجنبه وتلافيه، فتكون مؤاخذتهم عليه مؤاخذة على ما ليس بالاختيار، وهي قبيحة ويتنزه عنها المولى عز وجل، والأهم من ذلك بالنسبة لمقامنا أن المستفاد من الأخبار الآتية أمر آخر، وهو أن هذا الشك لا يخرج الإنسان عن دائرة الإسلام ولا الإيمان، وقد وردت في ذلك عدة روايات من طرق الفريقين:
أما من طرق الشيعة، فتكتفي بما ذكره الشيخ الكليني الذي عقد لها باباً خاصاً تحت عنوان "الوسوسة وحديث النفس"، ومن هذه الروايات :
1- رواية مُحَمَّدِ بْنِ حُمْرَانَ قَالَ: "سألتْ أنا عَبدِ الله (ع) عَنِ الْوَسْوَسَةِ وَإِنْ كَثُرَتْ فَقَالَ: لَا شيء فيها، تَقُولُ لا إله إلا الله "
2 صحيحة جميل بن دَرَّاج عن أبي عبد الله (ع) قال: "قلت له: إِنَّهُ يَقَعُ فِي قَلْبِي أَمْرٌ عَظِيمٌ! فقال: قل: لا إله إلا الله، قال: جَميلٌ، فكلما وقع في قلبي شيء قلت: لا إله إلا الله فيذهب على..
-3 صحيحة مُحَمَّد بن مُسْلِمٍ عَن أبي عبد الله (ع) قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ ص فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله هَلَكت! فقال له (ص): أَتَاكَ الخبيث فقال لك من خلقك؟ فَقُلْتَ: اللَّهُ فَقَالَ لَكَ اللَّهُ مَنْ خلقه فقال: إي والذي بعثك بالحق لكان كذا! فقال رسول الله (ص): ذاك والله محض الإيمان قَالَ ابْنُ أَبِي عُمَيْرٍ : فَحَدَّثْتُ بِذلِكَ عَبْدَ الرَّحْمَن بن الحجاج، فقال: حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (ع) أنَّ رَسُولَ الله (ص) إنما على بقوله: "هذا والله مخص الإيمان" خوفه أَنْ يَكُونَ قَدْ هَلَكَ حَيْثُ عرض له ذلك في قلبه. "
4 صحيحة علي بن مهريار قال: كتب رَجُلٌ إلى أبي جعفر ع يشكُو إِلَيْهِ لَمَمَا يَخْطُرُ عَلَى باله فأجابه في بعض كلامه إن الله عز وجل إن شاء تبتك فلا يجعل لإبليس عليك طريقاً قد شكا قوم إلى النبي ص لمما يعرض لهم لأن تَهْوي بهم الريح، أو يقطعُوا أَحَبُّ إِلَيْهِمْ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمُوا بِهِ
فقَالَ رَسُولُ الله ص اتجدون ذلك قَالُوا نعم فقال والذي نفسي بيده إنَّ ذلك تصريح الإيمَانِ فَإِذا وَجَدْتُمُوهُ فَقُولُوا آمَنَّا بِالله ورسوله ولا حول ولا قوة إلا بالله . إلى غير ذلك من الأخبار.
والمضمون نفسه نجده مروياً عن رسول الله (ص) من طرق السنة، وهذه بعض الروايات الواردة من طرقهم
-1 -2 أخرج مسلم في صحيحه :
سئل النبي (ص) عن الوسوسة؟ قال: تلك محض الإيمان "
وعن أبي هريرة قال: جاء" ناس من أصحاب النبي (ص) فسألوه: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به؟
قال: وقد وجدتموه،
قالوا: نعم،
قال: ذلك صريح الإيمان .
3 وفي مسند أحمد بسنده إلى ابن عباس قال: جاء رجل إلى النبي (ص)
فقال: يا رسول الله إني أحدث نفسي بالشيء لئن أخر من السماء أحب إلي من أن أتكلم به،
قال: فقال النبي (ص): الله أكبر الله أكبر الله أكبر، الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة. "
وهذه الروايات وغيرها تتوافق مع ما جاء في الحديث الشهير والمعروف بـ "حديث الرفع" والمروي عن رسول الله (ص):
"رفع عن أمتي تسعة أشياء، السهو والخطأ والنسيان.. والتفكر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطق الإنسان بشفة . "
وفي حديث آخر عنه (ص) أنه قال: "إن الله تجاوز عن أمتي عما توسوس به صدورهم ما لم تعمل أو تكلم به وما استكر هوا عليه ".
وفي نص آخر عن أبي هريرة عنه (ص): "إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها بما لم تعمل أو تتكلم.
إن هذه النصوص وسواها تؤكد أن حديث النفس وأسئلتها بشأن الخالق وبعض صفاته مرفوعة عن الإنسان، ولا يؤاخذ بها.
وهذه الروايات لا تتنافى مع قوله تعالى: { وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ } البقرة: 284)، لأن هذه الآية ناظرة - حسب الظاهر - إلى النوايا السيئة المبينة التي تكون عن سابق عزم وإصرار دون ما يكون خاطراً عابراً لا إرادياً يزول بالتفكير المعمق على أن قضية المؤاخذة على النوايا السيئة محل إشكال، لأنه قد ورد العفو عنها في بعض الأخبار التي عدت العفو عنها مظهراً من مظاهر رحمة الله، وهو ما قد يدفعنا لتفسير الحساب على النوايا السيئة بمعنى وقوعها موقع السؤال يوم تبلى السرائر، ثم يسامح عليها ويتجاوز عنها، وتحقيق الأمر في ذلك موكول إلى محله.
من كتاب "من هو الآخر الديني ؟" المجلد الأول من موسوعة فقه العلاقة مع الآخر الديني