«تجارة» خطف الرهائن في العراق.. هل هي مسؤولية الدعاة؟
بدور زكي محمد*

يزدهر في العراق اليوم سوقان: السلاح والرهائن. كل منهما يكمل الآخر، لكنهما ليسا متوازيين بالضرورة. فكلما نجحت الحكومة في فرض سيطرتها وقدرتها على جمع سلاح الجيش العراقي، الذي بعثره صدام حسين في كل انحاء البلاد، زاد عليه ما يرد منه من وراء حدود الاشقاء العرب والمسلمين، شعرت الجماعات المسلحة بالخطر، وأيقنت قرب نهايتها واستحالة هدفها بتمزيق العراق وتحويله الى امارات حرب مشابهة لما كانت عليه افغانستان سابقا. ما يدفعها الى تركيز جهودها في عمليات خطف الرهائن، التي لا تتطلب الكثير من الإمكانات، بالإضافة الى انها توفر موردا مضمونا، فلا بد ان مشاهد الرؤوس المقطوعة للمغدورين من جنسيات متعددة، تجعل ذويهم وحكوماتهم اكثر تفهما لضرورة دفع الفدية عنهم وشراء حياتهم. لذلك لا يتحمس كثيرون لتصديق ما أعلنه وزير الخارجية الايطالي، من ان بلاده لم تدفع ثمنا لتحرير سيمونا باري وزميلتها. كما لن تأخذ تصريحات مماثلة عن رهائن آخرين مأخذ الجد. هنا ينبغي التوقف عند كيفية التفاوض مع الخاطفين وتحركات الاطراف المعنية بالإفراج عنهم. فلم تعد سرا تلك اللقاءات بين ممثلين عن الخاطفين وشخصيات دينية ودبلوماسية وممثلي منظمات دولية. اذا الخاطفون ليسوا مجهولين بالقدر الذي يجري التعبير عنه، وبالتالي فإن امكانية الوصول اليهم ليست مستحيلة، غني عن الذكر دور (هيئة علماء المسلمين) في العراق بالتفاوض مع الخاطفين وما يربطها بهم من اواصر لم تعد خافية، كما تتناقل اخبار عن مفاوضات تعقد في بعض الجوامع. وآخر ما سمعناه في شأن الرهائن مساعي وسيط فرنسي معروف بالاسم، صرح في نهاية الشهر الماضي، بأنه اتفق مع خاطفي الصحافيين الفرنسيين على اطلاق سراحهما. هذا الهامش العريض من المفاوضات الا يوفر امكانية الاجهاز على عصابات الخطف والإجرام؟ ربما يكون الجواب سلبيا اخذا بالاعتبار الحرص على حياة الرهائن. ولا يخفى ان اسلوب الخطف لم يعد مغامرة، يتحمل مرتكبوها نتائجها لوحدهم، بل اصبح دعوة يتبناها دعاة اسلاميون واشهرهم الشيخ القرضاوي، الذي حقق انتشارا اكبر بعد حديثه في نقابة الصحافيين المصريين في شهر اغسطس (آب) الماضي، والذي دعا فيه الى وجوب خطف الاميركيين المدنيين، لأنهم، حسب رأيه، محاربون. ويلاحظ انه لم يذكر البريطانيين ولا القوات المتعددة الجنسية. وحسبه ان من سيتلقف دعوته سيكون اما من الاغرار المندفعين وراء الشعارات بلا عقل ولا رحمة، أو من الساعين الى المال. وبذلك يضمن ان يطال الخطف الجميع ويكون في غنى عن التصريح. هؤلاء الدعاة، يشكلون تحديا خطيرا لعلماء المسلمين ممن يشعرون بالمسؤولية ازاء انفسهم ومستقبل دينهم، أمام المسلمين.
وقد قال علماء عراقيون في النجف كلمتهم الفصل، برفض المقاومة المسلحة ضد القوات الاميركية وغيرها من القوات الاجنبية (البيان المشترك للمراجع: السيد علي السيستاني، والسيد محمد سعيد الحكيم، والشيخان بشير النجفي وإسحاق الفياض). وقد اعلنوا في هذا البيان ـ الذي اصدروه في اطار جهودهم لإنهاء المواجهات المسلحة في النجف ـ امكان اللجوء الى الاساليب السلمية لحل الازمات. وأثبتوا بتعاونهم مع الحكومة العراقية صدق ذلك. كما عبر علماء الازهر عن رفضهم لاستهداف المدنيين. ويبدو ان الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين (تأسس في لندن في يوليو (تموز) الماضي، ويرأسه القرضاوي)، أراد ان يتدارك ما ذهب اليه شيخه من التحريض. فأصدر بيانا في الشهر الماضي، تضمن اعتراضا متاخرا على عمليات الخطف ووصفها بأنها: «اعتداء على الغير، سواء كان مسلما او غير مسلم، وهو نوع من أنواع البغي الذي نهى عنه الله وحرمه.... وان الرسول (ص) لم يقر اختطاف سلمة بن الأكوع لأربعة من المشركين بعد صلح الحديبية..».
وبناء على ذلك، يضيف البيان: «لا يجوز خطف اي انسان في غير حالة الحرب الفعلية، وهو عندئذ يكون اسير حرب لا يجوز قتله...». حسنا فعل العلماء بتأكيدهم على ان الرهائن اسرى، وان خاطفيهم لا يملكون حق قتلهم، لأن ذلك من صلاحية القضاء وأولي الامر. لكنهم اضعفوا توجيهاتهم الاخلاقية بنصهم على: «ان الاسير لا يقتل الا استثناء». فما المانع من ان يستفيد الارهابيون من حكم الاستثناء، وهم الذين يتواجدون استثناء في العراق، وليس لهم اي وجود شرعي بعد كل ما سفكوه من دماء العراقيين والأجانب، وبعد معارضتهم المكشوفة لإعادة بناء الدولة العراقية للاستغناء عن القوات الاميركية وغيرها؟! كما ان العلماء لم ينسوا ان يصدموا الشعب العراقي بحرصهم على سمعة الخاطفين العتاة، وتنبيههم الى ان الخطف يسيء الى (مجموعات المجاهدين العاملة في نطاق المقاومة ضد الاحتلال في العراق) ولا يخدم قضيتهم. وهذا يعني ببساطة، ان اتحاد العلماء يتبنى قضية هؤلاء وما يقومون به ضد الشعب العراقي. ويلاحظ ان محرري البيان، أدركوا متأخرين بشاعة الجرم الذي اقترفه (المجاهدون) بحق الشباب النيباليين الاثني عشر، الذين قطعت رؤوسهم بغير ذنب سوى مساعدة الشعب العراقي، والسعي للرزق، فتأسفوا على ذلك. لكنهم لم يذكروا الشباب الاكراد الثلاثة، الذين ذبحهم (المجاهدون)، وأصغرهم كان في الخامسة عشرة. وفوق كل ذلك، فإن البيان الذي يستنكر الخطف في البداية، يعود ليناقش تفاصيله، مفسحا في المجال لاجتهادات امراء الحرب. وأكاد أجزم انه ما كان ليصدر لولا قضية الصحافيين الفرنسيين، كريستيان شينو وجورج مالبرونو.
ويذكر ان وزير الخارجية الفرنسي ميشال بارنييه، سبق ان قدم شكره للشيخ القرضاوي لإدانته الخاطفين. فلماذا كل هذا التقدير الخاص لفرنسا التي أذاقت العرب أشد انواع الظلم والإذلال، ولم يكسبوا في حاضرهم منها سوى تصريحات التعاطف المجانية والمراوغة. والمعروف ان القوانين الفرنسية هي الأكثر تشددا في معاملة كل من يمس بالمقولات الصهيونية الراسخة، في اطار ما يعرف بـ( معاداة السامية). بل ان كتابة شعار مؤيد لفلسطين على جدار، يمكن ان يهدد مستقبل طالب صغير، ويستوجب استدعاء الشرطة لمعاقبته، وهذا ما حصل فعلا في احدى المدارس الفرنسية. ولا حاجة للتذكير بقانون منع الطالبات المسلمات من وضع غطاء الرأس في المدارس الفرنسية، وهو ما لم يحصل في المدارس الاميركية والبريطانية. ان فرنسا تواصل التأكيد على موقفها المعارض للحرب الاميركية في العراق. وتمارس اعتراضاتها الدائمة على كل مشروع يصب في عملية بناء العراق، لا لشيء الا لأنها فقدت الكثير بسقوط صدام حسين، الذي اشتهر بصداقته للرئيس شيراك الى حد تمويله لأول حملة انتخابية أوصلته الى رئاسة فرنسا، بالإضافة الى الصراع على المصالح مع الولايات المتحدة. والآن تحاول فرنسا الاستفادة من ظروف الدعوة الى عقد مؤتمر دولي لمعالجة الوضع العراقي، لتقدم شروطها للتعاون، وأولها وضع جدول زمني للانسحاب الاميركي من العراق، لكن اهمها بيان حصتها من الاستثمارات في العراق ومن ثرواته. هذا بالإضافة الى انها دعت لإشراك (المقاومة) في المؤتمر. ويذكر ان لروسيا السبق في اقتراح مؤتمر يضم فرسان القتل والخطف، وكانت دعت اليه اثناء ازمة النجف.
وقد استذكر ذلك رئيس الوزراء العراقي الدكتور اياد علاوي، في حديثه الى عدد من العراقيين في لندن. وقال انه لم يجد جوابا افضل من الدعوة الى مؤتمر لحل القضية الشيشانية في بغداد، يحضره مسؤول روسي على مستوى عال. ووصل هذا الجواب الى القيادة الروسية، ما دعاها الى الاعتذار. لا شك ان الكثيرين يتعاملون مع العراق من موقع ضعفه. بل ويحاولون إدامة حالة الضعف، لكن ذلك لن يستمر طويلا.

* كاتبة عراقية