مآذن من رمال !
• علاء الزيدي
06 Oct 2004

كنت أهمس لنفسي ، وأنا أستمتع بمطالعة كتاب " ميادة .. إبنة العراق " للمؤلفة الأميركية جين ساسون ، والذي أعتقد أنه لم يُترجم إلى العربية بعد ، مردِّدا التساؤلات ذاتها التي وُجَّهت إليَّ من قِبل د. البراق عبد الهادي ( "عراقيون" www.iraqun.com 3 / 10 / 2004 ) :

1- هل لي أن أقدم بعض التفصيلات عن تاريخ الوهابية ؟
2- وكما نعلم ، فليس كل الوهابيين في العراق قد أتوا من الخارج . إذ أن هناك تيارا وهابيا يشتد قوة كل يوم في الداخل . والسؤال : إذا كانت الوهابية سيئة وشريرة ، فلماذا يُقبل البعض من أبناء بلادنا على أفكارها ويدافعون عنها ؟
ثم قررت مع د. عبد الهادي ، أن التصدي لـ " التيار " الوهابي كما دُعِيَ من قِبَل د. البراق ، وإن كنت أُفضِّل تسميته بـ " الحزب الوهابي " ، يتطلب ، حقا ، أن ندرسه ، ونعرف أسباب شيوعه لدى البعض .
قبل التوغل في عالم عالَم الوهابية الشائك ، يتعين عليَّ العودة إلى حكاية " ميادة " ، وتبيان صلتها بالموضوع .
السيدة ميادة العسكري التي صارت محورا لكتاب :
Mayada , Daughter Of Iraq – Jean Sasson – Doubleday – 2003 – London .
هي حفيدة المفكر القومجي ( الطائفي ) ساطع الحصري ، مؤلف الكتب المدرسية العراقية ، حتى في عهد الحرية الحالي ، فهو جدها لأمها . أما جدها الآخر فهو الضابط المقرَّب من الإنكليز جعفر العسكري . ورغم علاقاتها الطيبة مع النظام البعثي المنهار ، لكنها واجهت ما واجهه سائر العراقيين من تعسف وظلم ، عقب اعتقال وإعدام فاضل البراك مدير الأمن العام الأسبق ، الذي كانت على صلة ما به .
كانت امرأة مطلقة تعيل ولدأ وبنتا ، من خلال مطبعة صغيرة كانت تمتلكها وتديرها . كانت المطبعة متخصصة تقريبا بطباعة ونشر الكتيبات الدعائية . حتى حلّ صباح أحد أيام عام 1999 ، حينما اعتـُقلت على عجل بأيدي الأمن الصدّامي السري ، وسُحبت إلى سجن البلديات سيىء الصيت ، بتهمة طباعة منشورات معادية للنظام السابق ( وهو مالم يحدث ) .
أُلقيت في زنزانة النساء المرقمة ( 52 ) حيث كانت تؤدي صلواتها الخمس متجهة إلى المرحاض ، الذي وضعه الصدّاميون في اتجاه القِبلة عامدين ، تنفيذا لتوصيات رئيسهم المدمن على الكفر والإجرام ، والذي فُرِض على العراقيين أن يتعايشوا مع خطـِّه الرديء وهو يلوِّث العلم الوطني ، ولو بلفظ جلالة جيىء به نفاقا . ما علينا …
و لخنق صرخات باقي السجناء ، والحيلولة دون اختراقها جدران الزنزانة السميكة ، تفتـَّقت أذهان " نساء الظل " كما تسمي ميادة زميلاتها السجينات ، عن خطة ، رحن وفقا لها ، يقصصن بصوت عال حكاياتهن على بعضهن بعضا ، مثل شهرزادات عصريات . نجحت خطتهن . وخفتت أصوات المعذبين ، ما عدا صوتا رخيما واحدا كان يتسلل عبر الحائط إلى آذانهن ، تالياً سورة يس . كان يشنّف أسماعهن فيتضرعن إلى الله أن يخفف عنه عذابه . إنه أحمد . الشاب الذي كان يواجه جلاديه بقراءة القرآن بصوته الجميل حتى يسأموا تعذيبه فيعيدوه إلى زنزانته ، ليواصل رحلته اليومية المتواصلة ، مع كتاب الله الكريم !
ليس رَبّاط الحكاية هنا . بل هو مختبىء في السطر اللاحق .
فأحمد ، المقاوم ، القرآني ، الصامد ، كان ليس سوى شاب شيعي ارتدّ إلى الوهابية ! كيف ولماذا ؟ ليس من المنطقي أن نسأل جين ساسون أو ميادة العسكري . بل ينبغي أن نضيف هذا السؤال إلى الأسئلة التي أُمطِرنا بها من قِبل د. البراق عبد الهادي ، محاولين توفير إجابة ما عليه .
لم أزر بلدي العراق منذ أربعة وعشرين عاما . لذلك فقد لا أستطيع ، بدِقـَّةٍ ، تقديرَ الموقف الحقيقي الذي يحدو بالناس هناك إلى الإقبال على الانتماء إلى الحزب الوهابي . لكنني أرى أن ثمة عاملين قد يكونان السبب في هذا الإقبال ، في ظروف مثل ظروف العراق الحالية ، أو التي سبقتها على مدى عقد التسعينات من القرن الماضي .
العامل الأول : هو الخواء الروحي الذي ساد البلاد خلال النصف الأول من عقد الثمانينات . بعد أن خلا الشارع من المؤمنين الحقيقيين بجميع رسالات السماء السمحاء . ذلك لأنهم راحوا بين مغيب في السجون أو شهيد تحت التعذيب أو في ساحات الإعدام ، أو هارب بدينه أو نافد بجلده إلى أرض الله المترامية الأطراف . لقد حورِب المؤمن العراقي ، وحورِب أهله وأصدقاؤه ومعارفه والجالسون معه في المقهى ! إلى درجة تكاد تقترب من الكوميديا السوداء .
وكاستطراد ملطف لحرارة الجو في بلاد الرافدين ، أذكر قصة صديقي الأستاذ محمد حسن جياد الذي يقرأ سطوري في بغداد الآن . كان " حسوني " كما كنت أحب أن أناديه من أعز أصدقائي . تركته ورائي حينما فررت من بطش صدام ، دون أن يخطر على بالي أن صداقتنا ستكون لعنة بالنسبة له . أمضى محمد حسن سنتين رهيبتين في السجن لمجرد صورة فوتوغرافية ظهر فيها ، بالكاد ، إلى جانبي وإلى جانب صديق نبيل آخر ، في مقهى من مقاهي مدينتنا الحبيبة " الشطرة " ! لم أفعل شيئا . لم أقتل أحدا . لم أخالف قانونا في العراق إلا قانون الهجرة اضطرارا . لم أنتم إلى حزب الدعوة الإسلامي ( وإن كنت وما أزال أتشرف بهذا الحزب المضحي ) بل لم أنتم إلى أي حزب إسلامي آخر حتى في هجرتي ، رغم اعتزازي بهم جميعا وعملي معهم في كثير من الميادين خاصة الإعلامية منها . ومع ذلك ، فقد ضاعت من عمر " حسوني " سنتان ، يطالبني بهما الآن ، فأقول له : أقبض حسابك من دبش ! فهل قبضت أنا قبلك شيئا ، سوى الشيب والضغط المرتفع والكحة وملحقاتها ! و ما عند الله المتعال ، بإذن الله !
المهم ، دعك من هذه الشقشقة . ولنعد إلى كلامنا .
إن من الطبيعي أن نظام صدام المقبور بإذن الله كانت له اليد الطولى في إبعاد الناس عن الروحيات والمعنى والدين ، من خلال الخطوط العامة لتدمير المجتمع روحيا ، تلك التي رسمها في كراسته البائسة " نظرة في الدين والتراث " . ثم جاءت أموال البترو – دولار التي أغدقتها عليه الشقيقتان المملكة العربية السعودية ودولة الكويت ، والتي تطالبان الشعب العراقي الآن بسدادها . فقد استثمر نظام صدام هذه الأموال ، بالإضافة إلى التسليح وتمويل حربه المفروضة على إيران ، في تمييع المجتمع وإغراقه في أوقيانوس من الرفاه الكاذب شريطة الابتعاد عن المعنى والروح والله …
وبعد أن ذهبت السكرة وجاءت الفكرة ومعها حرب تحرير الكويت وسنوات الحصار العجاف ، مثـُلت الحاجة أمام ذهن صدام لإلهاء الناس بلعبة جديدة كان طاقمها بالإضافة إلى أعضاء ورؤساء هيئة علماء السنة الحاليين بوجوههم الكالحة نفسها ، وبالإضافة إلى جماعات إخوان الصفا وخلان الوفا المتعاونة مع البعث والمزيِّنة لجرائمه ، وهابيون مستوردون أبدعوا أيَّما إبداع في تنفيذ " الحملة الإيمانية " التي رصد لها صدام ملايين الدولارات من الدخل الوطني العراقي .
كانت الحملة الإدمانية واستيراد الإرهابيين من أعضاء الحزب الوهابي من بقايا العرب الأفغان وغيرهم يستهدفان سدَّ حاجتين :
الأولى : نشر الفكر الوهابي العفن لتطويق مذهب أهل البيت الذي عاد – يومئذ - إلى الإنتشار مجددا ، منذرا بسنوات مواجهة أخرى شبيهة بسنوات أواخر السبعينات و مطلع الثمانينات .
و الثانية : الاستعداد لمواجهةٍ ، كان من المؤكد أنها ستحدث مع أميركا والغرب ، عبر توظيف عناصر تعرف مكامن الضعف في المعسكر الآخر ، خاصة وأنها تربّت في أحضانه ( في معسكرات المخابرات المركزية الأميركية في أفغانستان وغيرها من دول الطوق ضد الاتحاد السوفييتي السابق ) . ولعل أحد المعسكرات التي صورتها الأقمار الصناعية الدولية في منطقة " سلمان باك " هي أهم مناطق تجمع هؤلاء ومنطلق انتشارهم .
وأعود لإيضاح نقطة الخواء الروحي لأقول ، إن الشبان العراقيين الذين راعهم الإنهيار الأخلاقي لبعض جوانب المجتمع في عقد الثمانينات من القرن المنصرم ، لم يجدوا أمامهم تمظهرا واضحا للإلتزام الديني الذي تتوق له أنفسهم إلا لدى هؤلاء الوهابيين الذين يركزون عادة على الالتزام الشكلي الصارم رغم فراغهم الداخلي ! إن أبرز صورة لمثل هذه السطحية والقشورية هم اسلافهم من الخوارج . فهم يقتلون صحابيا جليلا مثل خبّاب بن الأرت ويبقرون بطن زوجته الحامل ، لكن أحدهم يترفـّع عن دهس نملة خشية من غضب الله !!
أما العامل الثاني في انتشار الحزب الوهابي في العراق ، فهو الهبات والأعطيات والرواتب وأموال البترو – دولار ذاتها . في عصر كان حسرةً على العراقي أن ياكل رغيف خبز دون معاناة شديدة لأقصى مديات الشدة .. عصر الحصار والجوع والدمار والعذاب وضيق ذات اليد .
هذه نظرة سريعة إلى الواقع الحالي في العراق ، الذي أدى إلى شيوع الوهابية هناك .
أما دراسة الحزب الوهابي تاريخيا وعقائديا وسياسيا ، فقد بادر إليها الكثير من الكتاب ، طوال القرن العشرين الماضي ، وهناك الكثير من العناوين المنشورة في هذا الاتجاه يمكن مطالعتها كاملة في المواقع التالية على الإنترنت :
www.aqaed.com
www.alwahabiya.org
www.rafed.net
http://haramaincenter.co.uk

وتتألف المساحات الخاصة بالوهابية في هذه المكتبات الكبرى من كل الكتب المتوفرة ، إلا كتابا لي صدرت طبعته الأولى قبل ستة عشر عاما ، حول الموضوع نفسه ، لكن ليست هناك أية إمكانية لإعادة نشره ، للعديد من الأسباب الموضوعية والذاتية !

و خلاصة القول ، فالحزب الوهابي مجرد مآذن منتصبة في صحراء ، مآلها إلى الزوال مع أول هبّة ريحِ حرية ووعي وتفتـّح ، على أوكارها المظلمة .