تحديد موضوع البحث (تحرير موضع النزاع)
للبحث في هذه المسألة عدة فروض: .
الأول:.
أن نفترض أخذ الرؤية في لسان الأدلة الشرعية جزءً في موضوع الحكم الشرعي(وجوب الصوم)، وأخرى لا نفترض ذلك، بل تكون الرؤية طريقاً محضاً لإحراز الشهر والعلم به، وعلى الأول لا يبقى ثمة مجال لبحث المسألة، وذلك لأن موضوع الحكم الشرعي مما يحدده الشارع، ومما يرجع تشخيصه إليه، وما لم يدل دليل من الشارع فلا مجال لتنزيل العلم بقول الفلكي منزلة الرؤية بعد افتراض موضوعيتها. وعلى الثاني-أي الطريقية- ينفتح مجال للبحث، وذلك لأن الرؤية طريق لإحراز الشهر، فمن أي طريق أُ حرز الشهر وعلم بتحققه كان علم المكلف حجة عليه، ولزمه ترتيب الأثر الشرعي من الصيام أو الفطر. .
الثاني: .
أن نفترض كفاية قول الفلكي على نحو مطلق، وبكلمة أخرى: يمكن التعويل على قول الفلكي بصدد تحديده لوقت ولادة الهلال وخروجه من المحاق وهو ما يعرف بالولادة الفلكية، وأخرى نفترض عدم كفاية ذلك، بل يعتبر قوله فيما إذا أثبت إمكانية رؤية الهلال وموقعه. .
الثالث: .
أن نفترض لقول الفلكي دوراً إيجابيا في المسألة، وأخرى دوراً سلبياً فيها. أما الإيجابي فالمراد به أن يثبت بقول الفلكي دخول الشهر وتحققه، على نحو يكون إحراز الشهر والعلم به حاصلاً من قول الفلكي نفسه، وأما السلبي فالمراد به أن يكون لقول الفلكي دور ما للتحقق من صدقية بعض الإمارات وصحتها مما دلّ الدليل على شرعيته، كما لو شهد عدلان أو شاعت الرؤية بين قوم وأثبت الفلكي استحالة الرؤية أما لعدم ولادة الهلال أصلاً، أو لعدم اكتساب القمر الضوء الكافي، لجهة قصر المدة الزمنية التي أعقبت الولادة. .
وكما لم يبحث الفقهاء الدور الإيجابي، فإنهم لم يبحثوا الدور السلبي أيضاً، إلا ما ذكرناه من دور ريادي للسيد الشهيد الصدر، والإسهام العلمي الذي أشار إليه السيد الأستاذ. .
الرابع: .
أن نفترض إفادة قول الفلكي العلم بتحقق الشهر تارة، وأخرى عدم إفادة العلم به. وعلى الافتراض الثاني لا يبقى مجال للبحث بعد افتراض عدم إفادته العلم فلا يكون حجة و لا يسوغ التعويل عليه عندئذٍ، وأما على الأول فلا إشكال انه مما ينفتح به البحث وتظهر به الثمرة، إلا إذا ثبت دليل ينهى عن حجية مثل هذا الطريق العلمي، وهو غير صحيح كما لا يخفى. .
الخامس: .
ويقع البحث في التعويل على علم الفلك على نحو مستقل، كما لو أثبت الفلكي إمكانية الرؤية وموقع الهلال أو عدم إمكانيتها واستحالتها، ويقع البحث تارة أخرى في التعويل عليه كمساعد لإثبات الرؤية، كما لو تم اللجوء إلى بعض المناظير لتحديد موقع الهلال ثم التصدي لرؤيته بالعين المجردة. .
وعلى الثاني لا ثمرة كبيرة للبحث بعد افتراض تحقق الرؤية بالعين المجردة، وعلى الأول يدخل الفرض في البحث وينفتح به مجال واسع. .
ومهما يكن من أمر، فيقع البحث على مستويين: في الدور الإيجابي لعلم الفلك، وفي الدور السلبي له أيضاً. .
المستوى الأول: ثبوت الهلال بقول الفلكي.
ويُمكن أن نصنف الموقف الفقهي-عموماً- إلى اتجاهين، اتجاه يميل إلى منع اعتبار(حجية) قول الفلكي في إثبات الهلال، والآخر إلى اعتبار قوله وجواز التعويل عليه. .
الاتجاه الأول: (اتجاه المنع) .
وقد يستدل للقول بمنع اعتبار قول الفلكي والتعويل على نتائج أبحاثه بأحد الوجوه التالية:
*الوجه الأول: أن التعويل على أقوال الفلكيين مما يتعارض و دلالات الأدلة التي أُخذ في موضوعها إحراز الشهر بطريق عرفي، كما في قوله تعالى: ويسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس ، وفي عدد غير قليل من الروايات، التي أُخذت الرؤية فيها كطريق لإحراز الشهر على النحو المتعارف، وليس منه التعويل على نتائج علم الفلك والاعتماد على أربابه. .
ويرد على هذا الوجه:إن ما ذكر صحيح لأن الشهر الشرعي يتوقف على ثبوت الولادة - ولادة الهلال - وخروج القمر من المحاق على نحو تمكن رؤيته، غير أن الإشكال المشار إليه آنفاً إنما يرد لو قيل بكفاية قول الفلكيين واعتماد آرائهم مطلقاً. وبكلمة أخرى: لو قيل بكفاية ولادة الهلال وإحرازها من طريق علمي بناء على معطيات علم الفلك صحّ الاستشكال المذكور، ولكن البحث-كما هو المفروض-خارج هذه الدائرة، ولا يتوقف التعويل على أقوال علماء الفلك في هذه الدائرة، بل يتعدى الى بحثنا أيضاً، وهو مورد ما إذا كان قولهم موجباً للعلم والاطمئنان بإمكانية الرؤية. .
ولهذه الجهة عدل السيد الأستاذ من القول بكفاية التوليد لتحقق الشهر إلى القول باشتراط إمكانية الرؤية، وان كان ذلك من طريق قول الفلكي.
على أنّ مسألة كفاية ولادة الهلال في تحقق الشهر نفسها لم تبحث كما يجب، وهي لا زالت تفتقر إلى بحث جاد وعميق، خاصة بلحاظ عدم موضوعية الرؤية، أو المناقشة في اشتراط الرؤية الليلية(1) –لو صحت المناقشة، أو بلحاظ المناقشة في دلالات الأدلة التي أخذت الرؤية فيها لإحراز الشهر، كما في الآية الكريمة:"ويسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس…"أو روايات الرؤية التي يمكن أن يقال إنها مأخوذة على النحو المتعارف، فيمكن المناقشة فيها أما بلحاظ عدم تصدي الآية الكريمة لبيان طريقة إحراز الشهر،لأن أقصى ما تدل عليه أن الأهلة مواقيت للناس، ولم تتعرض إلى كيفية حساب هذه المواقيت- بل يتأكد ذلك بناء على تفسير البعض للأهلة - كما عن السيد الطباطبائي في الميزان - وإنها الشهور، فتكون الآية بصدد بيان أنّ الشهور مواقيت للناس ولم تتعرض إلى كيفية حسابها. .
وكذلك بالنسبة إلى الروايات فانه يقال: إن الرؤية المأخوذة في ألسنة الروايات هي الطريق المتيسر يومذاك، فإذا صح طريق آخر لإحراز الشهر وجب الأخذ به وجاز الاعتماد عليه. .
على أن كل ما ذكرناه من هذه المناقشات لا يتعدى الاحتمالات وان كان له وجه، وتبقى المسألة في هذا الإطار محلاً للبحث والدراسة. .
*الوجه الثاني: ويمكن أن يستدل على المنع من التعويل على أقوال الفلكيين بما أستظهره بعض الفقهاء(2)، وربما المشهور كما نقله السيد الخوئي(3)، من أدلة اشتراط الرؤية في الصوم والفطر على نحو تكون فيه الرؤية جزءً وقيداً في موضوع الحكم فتكون الرؤية مما له دخل في ترتب الحكم واقعاً، وموضوع أي حكم مما يحدده ويشخصه المشرع نفسه، فيحتاج التعويل على أقوال الفلكيين إلى حجة شرعية كما هي الحجة الشرعية على اعتبار البينة وقيامها مقام رؤية المكلف نفسه، والصحيح عدم الحجة. .
ويرد على هذا الوجه: أنّ الصحيح هو طريقية الرؤية لا موضوعيتها، إذ لم تؤخذ الرؤية في الأدلة إلا كطريق محض لإحراز الشهر ليس إلاّ، أما موضوع الحكم بوجوب الصيام فهو شهر رمضان، والرؤية لإحرازه والعلم به. .
ولا يكفي أخذ العلم بالشهر وإحرازه برؤية الهلال في لسان الأدلة للدلالة على موضوعية الرؤية أو العلم(4)، فهو نظير لقوله تعالى: حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود الذي لا إشكال في أن موضوع وجوب الإمساك فيه هو نفس طلوع الفجر لا علم للمكلف به، وكذلك الحال في قوله تعالى:"كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم…فمن شهد منكم الشهر فليصمه…"فان المستفاد من الآية والأخبار أن موضوع الحكم هو الشهر الذي أُنيط الصيام بتحققه ولا دخل للرؤية أو العلم بالشهر موضوع الحكم. بل ولو أُريد من قوله تعالى"فمن شهد منكم الشهر فليصمه" المشاهدة لا حضور الشهر، فانه ليس لمشاهدة الهلال دخل في وجوب الصوم ، ولذا يجب الصوم على من علم بدخول الشهر أو قامت عنده الحجة على ذلك ولو لم يشاهد الهلال(5). .
وعلى القول بطريقية الرؤية عدد من الأعلام فقد اختاره السيد الخوئي(6)، والسيد السبزواري(7)، والسيد الأستاذ(8)، وظاهراً السيد الشهيد(9)، والسيد الحكيم(10)، والشيخ الخزعلي(11)، والشيخ مغنية(12)، والشيخ الفضلي(13)، والشيخ محمد تقي الآملي(14). .
وقد ذكر السيد الخوئي في مقام رده دعوى جزئية الرؤية للموضوع أنه:
""يدفعها ظهور أخذها طريقاً إلى ما هو تمام الموضوع-أعني دخول الشهر، فإن الذي يستفاد من الكتاب العزيز وجوب الصوم به حيث قال: كتب عليكم الصيام إلى قوله شهر رمضان، وكذلك من السنة، وكأن الأمر بالصوم للرؤية لأجل لزوم إحرازه لخصوص شهر الصيام، وعدم الاكتفاء بالامتثال الظني أو الاحتمالي، كما يشهد للأول ذيل صحيحتي ابن مسلم والخزّار وموثق ابن عمار، وللثاني رواية القاساني. ويشهد لطريقية الرؤية-أيضاً- أمور: الأول اعتبار البنية مقامها، فلو كانت جزء بنحو الصفتية لما استقام قيام البينة مقامها. الثاني:عدُّ الثلاثين إذا لم تتيسر الرؤية والبينة، حيث انه يوجب العلم بخروج السابق ودخول اللاحق.الثالث: وجوب قضاء يوم الشك الذي أفطر لعدم طريق إلى ثبوته، فتبين بعد ذلك بالبينة أو بالرؤية ليلة التاسع والعشرين من صومه وجود الشهر يوم إفطاره، ففات عنه الواجب الواقعي، وهذا ثابت بالنص والفتوى و لا خلاف فينا. الرابع: إجزاء صومه إذا صامه بنية شعبان أو صوم آخر كان عليه، فتبين بعد أنه من رمضان معللاً في النصوص بأنه يوم وفِّق له، ولا يخفى أن الإجزاء فرع ثبوت التكليف. وبالجملة لا مساغ لأجل الجزئية فضلاً عن الصفتية، وإنما أخذت طريقاً لأنها أتم وأسهل وأعم وصولاً لكل أحد الى إحراز الهلال المولّد للشهر الذي هو تمام الموضوع""(15). .
على أن اعتبار الرؤية ليس من الحصر في شيء وان بدا في بعض النصوص ذلك، كما في "ليس على أهل القبلة إلا الرؤية، وليس على المسلمين إلا الرؤية" لأنه حصر إضافي وليس حقيقياً، فيلزم وجوب الصوم في حالة تحقق وإحراز الشهر من أي طريق آخر يفيد العلم أو مما قامت على اعتباره الحجة الشرعية.
*الوجه الثالث: ويقوم على دعوى شمول روايات المنع من التعويل على قول المنجمين لأقوال الفلكيين، فتكون أقوالهم غير معتبرة لجهة سلب الشارع حجيتها واعتبارها. .
ولم نجد من الفقهاء والأعلام-فيما نعلم- من ادعى هذه الدعوى، إلاّ ما ورد في "كراس" صادر عن إدارة التبليغ الديني التابعة للمجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في لبنان، وهو بصدد الدفاع عن الحكم بعيد الفطر من شهر شوال للعام 1419هج. .
وقد ورد في الكراس المشار إليه تحت عنوان (إجماع الفقهاء على عدم ثبوت الهلال بقول علماء الفلك ما نصه): ""وقد اجمع الفقهاء في كتبهم الفقهية الاستدلالية-وفي كتب الفتوى"الرسائل العملية"" على القول بأنه ""لا يثبت الهلال بقول المنجمين"" ، والمقصود بالمنجمين عندهم علماء النجوم المصطلح عليهم الآن بالفلكيين، كما صرح بذلك الفقهاء في كتبهم الاستدلالية، وعبر بعضهم عن هذا الموضوع بقولهم ""ولا عبرة بالجدول""، والمقصود بالجدول هو الجداول الفلكية التي يضعها علماء الفلك لبيان أحوال الشمس والقمر وسائر الكواكب، وليس المقصود بالمنجمين-كما قال البعض -المشتغلين بالشعوذة والسحر"ضرب المندل".وقد استند الفقهاء في ذلك إلى الروايات المتواترة بين المسلمين، بأعلى درجات التواتر، التي تأمر بالصوم للرؤية والفطر للرؤية، وبرواية صحيحة السند خاصة صريحة الدلالة في هذه المسألة هي رواية محمد بن عيسى التي أوردها الحر العاملي في وسائل الشيعة (ج10/ص297) في الباب الخامس عشر من أبواب أحكام شهر رمضان،الحديث رقم1 وهذا نص الحديث: ""قال محمد بن عيسى كتب إليه أبو عمر:أنه ربما أشكل علينا هلال شهر رمضان فلا نراه، ونرى السماء ليست فيها علّة، ويفطر الناس ونفطر معهم، ويقول قوم من الحسّاب قبلنا:أنه يرى في تلك الليلة بعينها بمصر وأفريقيا والأندلس،هل يجوز يا مولاي-ما قال الحسّاب في هذا الباب - حتى يختلف الفرض على أهل الأمصار، فيكون صومهم خلاف صومنا وفطرهم خلاف فطرنا؟ فوقّع: لا تصومنّ الشك، افطر لرؤيته وصم لرؤيته"".
والمقصود بالحسّاب علماء الفلك. وقد بنى على ذلك كبار فقهاء المسلمين، لاحظ كتاب (الحدائق الناضرة) للمحدّث الشيخ يوسف البحراني (رضوان الله عليه)/ج 13ص 246-247، وراجع كتاب (جواهر الكلام) للفقيه والمحقق الكبير النجفي ج16/ص363، ولاحظ كتاب (مدارك الأحكام) للفقيه المحقق محمد العاملي ج6/(ص175-176)، وكتاب (جامع المقاصد) للفقيه المحقق الكركي ج3(ص93) وغيرها. فاتضح من هذا ما قلناه من أنه لا يجوز شرعاً ولا عقلاً الاعتماد على قول الفلكيين (المنجّمين/الحسّابين) بصورة عشوائية في إثبات الهلال أو نفيه(16). .
وجواب هذه الدعوى يتوقف على تحقيق أمور: .
أولاً: بيان مصطلح التنجيم-وما هو المراد من المنجّم. .
ثانياً: بيان حقيقة التنجيم في الروايات. .
ثالثاً: حقيقة علم الفلك ومدى دقة دعوى انطباق عنوان التنجيم-اصطلاحاً-عليه. .
الأمر الأول: .
أما بالنسبة لبيان مصطلح التنجيم، فان التنجيم -اصطلاحاً-هو معرفة الغيب، ويعتمد على النظرية القائلة بتأثير النجوم في شؤون الإنسان، وهو علم قديم جداً، ويعتبر أساس علم الفلك القديم.
وكان علم التنجيم في العصور الوسطى مختلطاً بعلمي الكيمياء القديمة والسحر، ثم انفصل عن علم الفلك بعد ظهور(كوبر نيكوس). وكشف الطالع عبارة عن خريطة للسماوات وقت الولادة تستخدم خريطة إيضاحية لدائر البروج ، فيقال إن المنزل أو الرمز في حالة الصعود وقت ولادة الشخص هو الذي يحدّد طبعه، ومدى استعداده للمرض، وتعرضه لبعض الحظوظ أو الكوارث(17). .
وعليه فان المنجّم هو الشخص الذي يمارس النظر في النجوم ثم يصدر عنها بعض النبوءات والأخبار محاولاً أن يستشف من وراء معرفته أخباراً بالأمور الغيبية(18). .
والقدماء كما عرفوا الفلك الصحيح عرفوا التنجيم الخرافي أيضاً، ولعل في مقدمتهم الكلدانيين الذين وصلت جداولهم في علم الفلك، والتي تبدأ من عام (568ق.م)، وتتسم بالدقة لتجمعها على مدى فترة طويلة جداً بلغت (300عام) بما لم يتح للفلك في العصر الحديث اختباره(19). .
ويعرف مما تقدم أن (التنجيم) فن مستقل عن علم الفلك، وان كان على صلة به لجهة من الجهات، ولذلك كان التقسيم لعلم الفلك عند القدماء - ومنهم العرب - ولوقت متأخر إلى:نظري،وعملي،وتنجيم(20). .
وإذا كان قد روّج بعض السلاطين من أمثال المنصور العباسي لفن التنجيم وقرَّب المنجمين(21) - ومنهم عدد من غير المسلمين -فان حكماء المسلمين وعلماء الفلك-أيضاً-لم يألوا جهداً في محاربته وكشف زيفه وأنه نوع من أنواع الهراء والدجل، كما هو موقف الكندي وابن سينا والفارابي والبيروني(22). .
ولا إشكال عند فقهاء المسلمين عامة وفقهاء المذهب الإمامي وفقاً لمدرسة أهل البيت (ع) في عدم حجية قول المنجّم-إلا عند بعض منهم(23) - في ثبوت هلال شهر رمضان. .
وإذا كانت كتب الفتاوى المجرّدة عن الاستدلال وهو ما يعرف ب(الرسائل العملية)قد نصت على عدم ثبوت الهلال بقول المنجمين، فإنها لم تحدد مصطلح (المنجّم) تحديداً واضحاً، وأنه هل يشمل جميع المتعاطين بعلم النجوم وبما يشمل علم الفلك أو لا؟بل لم يتصد الفقهاء-من المنتمين إلى مدرسة أهل البيت (ع) –إلى بيان المراد منه في كتاب الصوم من كتبهم الاستدلالية أيضاً، وان كانوا قد تطرقوا إلى ما يسمى ب(الجدول) أو (العدد) أو (الحساب). .
ولكنهم – وللإنصاف - بيّنوا المراد من (المنجم) في كتاب (المتاجر) أو (المكاسب)،وأنه: الذي يتعاطى فن النجوم باعتبار تأثيرها في الحوادث السفلية وفي حياة الناس، على اختلاف في تقييده باعتقاد التأثير مطلقاً أو لا، أو تقييده بالإخبار الجزمي القاطع أو لا على هذا النحو. .
ولا يخفى أنّ مصطلح الفقهاء لا يغير ما عليه غيرهم، إذ ليس لهم اصطلاح خاص في التنجيم وكما هو صريح عباراتهم. .
قال المحقق الكركي في (جامع المقاصد): ""والمراد من التنجيم الإخبار عن أحكام النجوم باعتبار الحركات الفلكية والاتصالات الكوكبية التي مرجعها إلى القياس والتخمين، فان كون الحركة معينة والاتصال المعيّن سبباً لوجود ذلك،إنما يرجع المنجمون فيه إلى مشاهدتهم وجود مثله عند وجود مثلهما، وذلك لا يوجب العلم بسببيتهما له، لجواز وجود أمور أخرى لها مدخل في سببيته لم تحصل الإحاطة بها، فان القوة البشرية لا سبيل إلى ضبطها، ولهذا كان كذب المنجمين وخطؤهم أكثرياً. وقد ورد من صاحب الشرع النهي عن تعلّم النجوم بأبلغ وجوهه حتى قال أمير المؤمنين صلوات الله عليه: ((إيّاكم وتعلم النجوم إلاّ ما يهتدى به في بحر أو برّ ،فإنها تدعو إلى الكهانة والمنجم كالكاهن، والكاهن كالساحر، والساحر كالكافر، والكافر في النار)).إذا تقرر هذا فاعلم:إنّ التنجيم-مع اعتقاد أنّ للنجوم تأثيراً في الموجودات السفلية ولو على جهة المدخلية حرام، وكذا تعلّم النجوم على هذا الوجه، بل هذا الاعتقاد كفر في نفسه، نعوذ بالله منه.أمّا التنجيم لا على هذا الوجه مع التحرز من الكذب فإنه جائز، فقد ثبت كراهية التزوج وسفر الحج والقمر في العقرب، وذلك من هذا القبيل. نعم هو مكروه لأنه ينجر إلى الاعتقاد الفاسد وقد ورد النهي عنه مطلقاً حسماً للمادة، وتحريم الأجرة وعدمه تابع للفعل. وحكي في الدروس عن بعض الأصحاب القول بتحريمه لما فيه من التعرض للمحظور ولأن أحكامه تخمينية لا تخلو من الكذب، وأما علم الهيئة فلا كراهية فيه، بل ربما كان مستحباً، لما فيه من الإطلاع على عظم قدرة الله تعالى… ""(24). .
وقد ذكر السيد الخوئي على هامش حديثه عن التنجيم: ""…لا إشكال في جواز النظر إلى أوضاع الكواكب وسيرها، وملاحظة اقتران بعضها مع بعض والإذعان بها والإخبار عنها،كالإخبار عن سير الكواكب حركة سريعة من المشرق إلى المغرب في يوم وليلة التي بها يتحقق طلوعها وغروبها، ويتحقق الليل والنهار،كما حقق في الهيئة القديمة، والإخبار عن الخسوف والكسوف، وعن ممازجات الكواكب ومقارناتها، واختفائها واحتراقها، ونحوها من الأمور الواضحة المقررة في علم معرفة التقويم وعلم الهيئة فان الإخبار عنها- نظير الإخبار عن طلوع الشمس في أول اليوم وعن غروبها في آخره - مبني على التجربة والامتحان والحساب الصحيح الذي لا يتخلف غالباً، ومن الواضح جداً أنه لا يرتبط شيء منها بما نحن فيه، بل هي خارجة عن النجوم "(25)
وكلامه -رحمه الله - ظاهر في المغايرة بين علم التنجيم وعلم الهيئة. .
على أن انتسابهما معاً إلى قاسم مشترك وهو النظر في النجوم لا يضر بعد افتراض استقلال كل واحد منهما عن الآخر وتغاير حقائقهما، ولذلك فرّق الفقهاء بين حكميهما من الناحية الشرعية، فقالوا بحرمة تعلّم الأول (التنجيم) واخذ الأجرة عليه،وعدم حرمة الثاني (علم الهيئة) على نحو لا يلزم منه الإخبار بما يخالف الواقع إخباراً جزمياً باتاً. .
ذكر الشيخ المجلسي في (بحار الأنوار) في حديثه عن أقسام (علم النجوم) وحكم تعلمه: ""…ومنها علم الهيئة والنظر في هيئات الأفلاك وحركاتها، وجوازه لا يخلو من قوة إذا لم يعتقد فيه ما يخالف الآيات والأخبار كتطابق الأفلاك، ولم يجزم بما لا برهان عليه،…ومنها الحكم بالكسوف والخسوف وأوائل الأهلة والمحاق وأشباه ذلك فالظاهر جوازه وان كان الأحوط اجتناب ذلك أيضاً، فان الأحكام الشرعية فيها مبنية على الرؤية لا على أحكام المنجمين بذلك…""(26) بل نقل في (بحاره) عن الشيخ محمود بن علي الحمصي في حديثه عن الفرق بين (التنجيم) وما لا يرجع إليه: ""انّا لا نردّ عليهم فيما يتعلق بالحساب في تسيير النجوم واتصالاتها التي يذكرونها فانّ ذلك مما لا يهمنا ولا هو مما يقابل بإنكار وردّ…""(27). .
وعبّر بعض المعاصرين(28) عن الفرق بالتساؤل عن اعتبار قول المنجم في تعيين أول الشهر أو غيره من الحوادث المعلومة عنده بوسيلة علم النجوم، في إشارة واضحة إلى الفرق بين (التنجيم) بما مرّ بيانه وبين (علم الهيئة والفلك) الذي يتصل بعلم النجوم لكن لا من جهة القول بالتأثير واكتشاف الغيب كما هو المصطلح.
وعليه فالتنجيم إن أُريد به معناه اللغوي شمل كل من يتصل بعلم النجوم أو الفلك، ولذلك يعبر الفقهاء عن المنجّم بالفلكي، والفلكي بالمنجّم، وهو تعبير صحيح ولا غبار عليه من حيث المفهوم اللغوي، وإذا كانوا يعبرون به ويريدون المشتغل باكتشاف الغيب والحظوظ فهو تعبير اصطلاحي لأن المفهوم اللغوي لا علاقة له بما أضيف إليه من تنبؤات وعقائد باطلة كما هو (التنجيم) الاصطلاحي(29)، ولذلك اختلفت كلمات الفقهاء وغيرهم ومواقفهم من النظر في علم النجوم بين ما هو إيجابي وبين ما هو سلبي، وذلك لاختلاف النظر والبحث في كل من الحقلين المشار إليهما آنفاً. .
هذا فضلاً عن اشتغال بعض علماء الفلك في (التنجيم) –اصطلاحاً - مما يوجب الاشتراك، وقد انصرف بعض علماء الفلك إلى (التنجيم) كليةً كما هو الأمر مع أبي معشر البلخي [ت272هج] الذي قصر اهتمامه على (التنجيم ) وفن (الأزياج)(30). .
ولمزيد من الإيضاح يمكن الإحالة على "المصادر التاريخية" في الفقه، وتحديداً في إطار مدرسة أهل البيت عليهم السلام،لمعرفة ما إذا كان المراد من "المنجّم" هو"الفلكي" بمفهومه اليوم أو لا؟ .
فقد ذكر الشيخ الطوسي في كتابه (الخلاف): ""…فأما العدد والحساب فلا يلتفت إليهما ولا يعمل بهما، وبه قالت الفقهاء أجمع، وحكوا عن قوم شذاذ أنهم قالوا يثبت بهذين وبالعدد، فإذا أخبر ثقاة من أهل الحساب والعلم والنجوم بدخول الشهر وجب قبول قولهم، وذهب قوم من أصحابنا إلى القول بالعدد، وذهب شاذ منهم إلى القول بالجدول""(31) ولم يبين الشيخ الطوسي مراده من العدد والحساب وعلم النجوم والجدول، وما إذا كان ثمة فرق بين هذه الإمارات والطرق، لكن سنجد في المصادر اللاحقة لعصر الشيخ الطوسي توضيحاً وتحديداً لحقيقتها ومدى الفرق بينها. .
وفي (تذكرة الفقهاء) كتب العلامة الحلي: ""ولا يجوز التعويل على الجدول، ولا على كلام المنجمين، لأن أصل الجدول مأخوذ من الحساب النجومي في ضبط سير القمر واجتماعه بالشمس، و لا يجوز المصير إلى كلام المنجّم ولا الاجتهاد فيه - وهو قول أكثر العامة- لما تقدم من الروايات. ولو كان قول المنجّم طريقاً ودليلاً على الهلال، لوجب أن يبينه عليه السلام للناس، لأنه في محل الحاجة إليه، ولم يجز له عليه السلام حصر الدلالة في الرؤية والشهادة …وقد شدد النبي صلى الله عليه وآله، في النهي عن سماع كلام المنجّم، فقال (ع): ((من صدّق كاهناً أو منجّما فهو كافر بما أُنزل على محمد))(32)
وظاهر كلام العلامة أن المنجّم هو ما ذكرناه بالمعنى الاصطلاحي وذلك بلحاظ ما استدل به من كلام النبي (ص) والحكم بكفره ومساواته للكاهن.
وفي (الروضة البهية) كتب الشهيد الثاني: ""ولا عبرة بالجدول، وهو حساب مخصوص مأخوذ من تسيير القمر، ومرجعه إلى عدّ شهر تاماً وشهر ناقصاً في جميع أيام السنة مبتدئاً بالتام المحرم لعدم ثبوته شرعاً، بل ثبوت ما ينافيه، ومخالفته مع الشرع للحساب أيضاً، لاحتياج تقييده بغير السنة الكبيسية، أما فيها فيكون ذو الحجة تاماً""(33) وبهذا يتفق الجدول مع العدد بمعنى من معانيه. و لا يخفى أن هذا (الجدول) لا علاقة له بعلم الفلك لا القديم ولا الحديث. .
وقد ذكر السيد السبزواري في (مهذب الأحكام) أن للجدول محتملات عدة منها: ""…التقاويم المعروفة أو جدول أهل الحساب المشتمل على عد شهر تاماً وشهر ناقصاً أو جدول عبيد الله بن معاوية وعبد الله بن جعفر ونسب إلى الصادق (ع)…""(34) .
وفي (مدارك الأحكام) كتب السيد محمد العاملي: ""ولا اعتبار بالجدول وهو حساب مخصوص مأخوذ من سير القمر واجتماعه بالشمس، ولا ريب في عدم اعتباره، لاستفاضة الروايات بأن الطريق إلى ثبوت دخول الشهر أحد أمرين،أما رؤية الهلال، أو مضي ثلاثين يوماً من الشهر المتقدم، ولو كان الرجوع إلى المنجّم حجة لأرشدوا إليه، وأيضاً فان أكثر أحكام التنجيم مبني على قواعد ظنية مستفادة من الحدس الذي يخطئ أكثر مما يصيب، وأيضاً فانّ أهل التقويم لا يثبتون أول الشهر بمعنى جواز الرؤية، بل بمعنى تأخر القمر عن محاذاة الشمس ليرتبوا عليه مطالبهم من حركات الكواكب وغيرها ويعترفون بأنه قد لا يمكن رؤيته، والشارع إنما علق الأحكام على رؤية الهلال لا على التأخر المذكور""(35). .
وكلام السيد محمد العاملي في (مداركه) ظاهر في أن الجدول المشار إليه هو جدول المنجمين، وهو جدول أُعدّ لغرض ترتيب الأحكام والمطالب التي يدعون أنها على ارتباط بالكواكب، وهذا يعني أن (المنجّم) عند الفقهاء هو ما ذكرناه بالمعنى الاصطلاحي، لا عالم النجوم مطلقاً، سواء كان من علماء الفلك المتقدمين أم من المتأخرين والعصر الحديث. .
بل في قول السيد محمد العاملي ""فان أكثر أحكام التنجيم مبني على قواعد ظنية مستفادة من الحدس الذي يخطئ أكثر مما يصيب"" إشارة واضحة إلى أن التنجيم المراد هو بمعناه الاصطلاحي-اكتشاف الغيب- لأن التنجيم-بمعنى علم النجوم مطلقاً- مما يتصل بالخسوف والكسوف والأهلة فانه علم صحيح ذو قواعد وأصول سديدة كما يعترف به الفقهاء، وقد مرت الإشارة إلى ذلك في قول السيد المرتضى ومن تأخر عنه من الفقهاء المعاصرين أيضاً. .
وعليه فان (المنجّم) الذي لا يثبت الهلال بقوله لا يريدون منه الفلكي، بل ذكر السيد الخوئي – صريحاً - أن علم الهيئة خارج عن علم النجوم كليةً. .
وان كان ثمة دليل على النهي عن الأخذ بكلمات المنجمين بما يشمل علماء الفلك فهو لا يشمل علماء الفلك المتأخرين عن عصر النص(36). .
وبذلك يتبين عدم دقة ما ذُكر في (الكراس) الصادر عن إدارة التبليغ التابعة للمجلس الشيعي الأعلى في لبنان، من دعوى إجماع الفقهاء على عدم حجية أقوال الفلكيين لصدق عنوان (المنجمين) عليهم، إذ لا الإجماع المدعى صحيح، ولا دعوى تصريح الفقهاء في كتبهم الاستدلالية بأن المقصود بالمنجمين عندهم علماء الفلك المعاصرين (الآن بتعبير الكراس)، ولا دعوى أنّ (الجداول) غير المعتبرة عند الفقهاء هي جداول علماء الفلك المعاصرين، إذ تبين ما هو المراد من هذه الجداول، وهي لا صلة لها مع جداول الفلكيين المعاصرين فضلاً عن الفلكيين القدامى(37). .
وبذلك يتبين – أيضاً -عدم دقة ما ورد في الكراس المشار إليه: ""وليس المقصود بالمنجمين-كما قال البعض-المشتغلين بالشعوذة والسحر (ضرب المندل)"، "فان التنجيم-الاصطلاحي-ضرب من الشعوذة كما أشار إليه علماء الفلك أنفسهم وحكماء المسلمين، بل ورد في الروايات عن أهل البيت (ع) المنجّم في سياق الكاهن والساحر(38). .
ومما تقدم يعرف – أيضاً - عدم دقة التسوية - في هذا الكراس-بين الفلكيين والحسّاب أو الحاسبين، إذ بيّنا ما هو المراد من الحساب عند الفقهاء وانه عبارة عن"العدد" بمعنى من المعاني، ولا علاقة له بالحساب عند الفلكيين لا القدامى ولا المحدثين.على أن علم الفلك بصورته الحديثة مغاير- إلى درجة كبيرة جداً - لعلم الفلك القديم.