النتائج 1 إلى 14 من 14
  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Nov 2002
    المشاركات
    4,192

    افتراضي السحر من منظور اثنولوجي: لمجموعة من الكتاب / مترجم

    تـقـديـــم





    ليس من المبالغة القول إنَّ البحث في ظاهرة السِّحر - والخفي عموما - من المنظورين الاجتماعي والنفسي، باللغة العربية، شبه مُنعَدِم في الوقت الرَّاهن؛ فإذا استثنينا ما يُنجَزُ من بحوث جامعية، تبقى أسيرة جدران الكليات، لا يمكن إلا الذهول أمام الفراغ الكبير الذي تعرفه ساحة النشر في هذا القطاع. ويغدو هذا الفراغ مبعثا للسؤال بالنظر إلى كوننا ما أن نغير وجهة اللغة حتى نصادف عددا لا يستهان به من المؤلفات في الموضوع نفسه، كُتِبَت وتُكتَبُ، منذ مستهل القرن الحالي إلى اليوم، بأقلام باحثين عرب وأجانب على السَّواء[1]، دون أن يُكتَب لأي منها - في حدود ما نعلم - أن يرى النور باللغة العربية حتَّى اليوم. أي ممنوع تنطوي عليه اللغة العربية في شأن السِّحر - والخفي عموما - بحيث يتعذر داخلها كل كلامٍ «علم - إنساني» عنه؟ أهوَ ممنوع اللغة، باعتبارها عالما رمزيا مُحمَّلا بالأوامر والنواهي، أم هوَ ممنوع الحَداثة، باعتبارها نمطا في التفكير والسُّلوك يضع بينه وبين «اللاعقلانيات» مسافة متَعذرَة الاختزال؟ إذا كان الأمر كذلك، فلماذا لا ينسحب هذا الممنوع نفسه على اللغات الأجنبية التي تُنجـزُ بداخلها تلك الدِّراسات؟

    مُقابل هذا الوضع تعرف ساحة النشر العربية نفسها غزارة غير مسبوقة في طبع وإعادة نشر مؤلفات عديدة تتعلق بالسِّحر وما حَولَه، يمكن تصنيفها ضمن خانتين: أولاهما تشجُبُ السحر وما يُحيطُ به من معتقدات وممارسات. والثانية قد «تدعُو» إلى السحر و«تبرر» وجودَه من خلال ما تَضَعُ بين يدي الفضوليين والسَّحَرة المبتدئين والحرفيين، على السَّواء، من عناوين لا تحصَى، تتعلق بالسِّحر والتنجيم والعرافة بكل أصنافها وإخراج الجنّ والعفاريت من أجساد المرضى[2].

    ويترتب عن ذلك - ضمن ما يترتب - أن القارئ باللغة العربية وحدها، متى أراد معرفة بالسحر والخفي عموما، لا يجد سوى كتابات تصادِرُ موضوع معرفتها مسبقا باعتباره مخالفا للشرع، كفرا وردَّة، ومن ثمة تحرمه أو تعتبره مظهرا للتخلف، أكاذيب وترهات فتدعو إلى عدم الاهتمام به، أو يجد كتابات أخرى تدعوه إلى ولوج هذا العالم من غير أن تزوده بأدوات الفهم العقلاني للظواهر المعنية، من موضوعية وحتمية وقوانين وعلية، الخ - كما ترسَّخت في ذهنه من قبل - لأن هذه الأدوات للفهم «غريبة تماما» عن عالم السحر (وها نحن نعود إلى المسافة نفسها متعذرة الاختزال الفاصلة بين الظواهر العقلانية وغير العقلانية).

    يكاد السحر يماثل الدين في كونه تجربة داخلية تتعالى عن كل تعميم أو تقنين؛ فالله موجود، لكن التحقق من وجوده لا يتم إلا باطنيا وبشكل فردي. ومن تنكشف الحجب بينه وبين الماوراء يعسر عليه أن يشرك الآخرين في ما يراه ويسمعه هناك لأن تلك الرؤية والكلام لا يمنحان نفسيهما إلا للفرد وللفرد وحدَه. وبكلمة واحدة، مثلما يعسُرُ على المؤمن إقناع الملحد (المتمادي في إلحاده) بوجود الله عن طريق استدعاء براهين حسية ملموسة دامغة ويعسر على الملحد إقناع المؤمن (الغارق في الإيمان) بعدم وجود الله؛ كذلك يشق على عديم الإيمان بالسحر أن يقنع الساحر والمسحور - خصوصا - ببطلان ما يؤكدانه. وحدَه المؤمن يعرف الله حقَّ المعرفة، ووحدَه من تعرض لمصيبة السحر يعرف حقيقة وجود هذا النشاط.

    لهذا السَّبب ارتأينا تجاوز البعد الأنطولوجي لظاهرة السحر (مسألة وجوده أو عدم وجوده)، علما بأنَّ في هذا الجانب كتابات غزيرة جدا، باللغتين العربية والعجمية على السَّواء، وهنا أين تمَّت الترجمة بشكل كبير.

    خارج المواقف السابقة، اخترنا أن نضع بين يدي القارئ نصوصا تتناول الظاهرة المعنية من زوايا متعدِّدَة؛ لغوية، أنثروبولوجية، إثنوغرافية، إثنولوجية، طب عقلية، تحليل نفسية، وتاريخية، كتبها باحثون ينتمون إلى مدارس مختلفة ضمن الحقول السابقة، وانطـلاقا من معطيات ميدانية تنتمـي إلى مجالات ثقافية متنـوعـة: إفريقيا السوداء، أمريكـا الجنوبية، الجزائر، وأوروبا. وهي نصوص من شأنها أن تشكل مدخلا لدراسة السحر...

    والنصوص التي يضمها هذا الكتاب، فضلا عن كونها تقع فيما وراء الرقابتين الدينية والحداثية، تشترك في نقطتين: تتمثل الأولى في ابتعادها عن الإغراق في عرض الطقوس السحرية على غرار ما كان يفعله الإثنوغرافيون الكولونياليون، الذين كان يتحدد انشغالهم الأول في جمع أكبر عدد من الملاحظات الغرائبية، لينتهوا من ذلك إلى إثبات وجود عقليـة بدائية أو ما قبل منطقية[3]؛ أقول: بدل ذلك تضع الدراسات الحالية نصب عينها إظهار مصدر الفعالية السحرية الكامنة أساسا في سلطة الكلمـة. أما النقطة الثانية، فتتحدد في ابتعاد النصوص المذكورة، في معظم الأحيـان، عن التجريـد والخوض في القضايا النظرية بما يفترض في القارئ عمـق الإلمـام بقضايا الإثنولوجيا والتحليـل النفسـي.

    وبالفعل، ما نعتقد القارئ - وقد أنهى قراءة الكتاب الحالي - إلا واقفا على الطابع الكوني للظاهرة، بما يجعل تسمية الإنسان الساحر(Homo-magicus)[4] التي لم يتردد البعض في إطلاقها على الكائن البشري (على غرار أسامي الإنسـان المفكر أو العاقـل [Homo-sapiens] والإنسان السياسـي [Homo-politicus]، والإنسان الصانـع [Homo-Faber]، والإنسان الأكاديمي [Homo-académicus]، الخ.) تأخذ معناها الممتلئ.

    أما إذا لوحظَ شبه تركيز على إفريقيا السَّوداء، فذلك لكون مجموعة من الممارسات السحرية والعلاجية التقليدية في المغرب الراهن تتأصل في قسم منها في تلك المعاقل. ذلك أن الخفي في المغرب، كما في مجموع بلدان حوض البحر الأبيض المتوسط العربية، يتكئ على إرث مزدوج: الأول وثني والثاني «عربي - إسلامي».

    لقد بتنا مقتنعين أكثر من أي وقت مضى بأنَّ عمل المترجم لا يعدو - في أحسن الأحوال - مجرد توسط بين طرفين يُفترض في أحدهما (القارئ) عدم معرفة لغة الآخر (المؤلف)، وإلا فلا امتياز يحظى به المترجم - بالمقارنة مع القارئ - سوى توفره على وثائق (هي الأصول الأعجمية) ليست في متناول المتلقي. ولهذا القسم من القراء تمَّ إثبات العناوين الأصلية للدراسات المترجمة ومصادِرها في نهاية الكتاب. أرجو منهم مسبقا الصفحَ عما قد يقفون عليه من هفوات. فما حثني على تعريب هذه النصوص - قبل كل ما ذُكِرَ أعلاه - سوى البقاء على صلةٍ بهذا الموضوع الذي لا تنضب خصوبته.

    محمـد أسليـم

    مكناس في 30 ينـاير 1998.

    --------------------------------------------------------------------------------

    [1] القائمة طويلة جدا، ونذكر منها على سبيل المثال:

    - Edmond Doutté, Magie et religion en Afrique du Nord,(Alger, 1908), Paris, J. Maisonneuve & Paul Geuthner, 1983; - Idriess Shah, La magie orientale, Paris, Payot, Coll. Petite Bibliothèque Payot, 1978; Aïssa Ouitis, Magie Possession et prophétisme en Algérie, Paris, Arcantère, 1984; - Ndjima Plantade, La guerre des femmes. Magie et amour en Algérie, Paris, La Boîte à Documents, 1988.

    [2] نذكر من المؤلفات القديمة، على سبيل المثال: - أحمد البوني، شمس المعارف الكبرى، بيروت، المكتبة الثقافية، (بدون تاريخ)؛ - أحمد البوني، منبع أصول الحكمة، بيروت، المكتبة الثقافية، (د.ت)؛ - الإمام الغزالي، الأوفاق، (بدون مكان النشر)، (بدون اسم الناشر)، (د. ت)؛ محمود نصار، غايـة الحكيم اللأستاذ المجريطي، (د. م)، دار الفكر، (د.ت)؛ - السيوطي، الرحمة في الطب والحكمة، بيروت، دار الكتب العلمية، (د.ت)؛ - أحمد الديربي، مجربات الديربي الكبرى، بيروت، المكتبة الشعبية، (د. ت). ومن مؤلفات المحدثين، نذكر على الخصوص كتابات المصري عبد الفتاح الطوخي الفلكي، وهي غزيرة جدا، نكتفي بذكر بعضها (والاختيار هنا عشوائي): - سحر الكهان في حضور الجان؛ - البداية والنهاية في علوم الحرف والأوفاق والروحاني (2 ج.)؛ - منبع أصول الرمل المسمى الدرة البهية في العلوم الرملية؛ - نهاية العمل في علم الرمـل؛ - الأصول والوصول في علم الرمل؛ - بلوغ الأمل في علم الرَّمل؛ - الزايرجة الهندسية في كشف الأسرار الخفية؛ - علم الكـف؛ - الكباريت في إخراج العفاريت؛ اسم اللـه الأعظـم؛ - النور الرباني في العلم الروحاني؛ - السحر الأحمر؛ - تسخير الشياطين في وصال العاشقين؛ - السحر العجيب في جلب الحبيب... وقد صدرت منها طبعات عديدة ببيروت، عن المكتبتين الثقافية والشعبية بالخصوص، وكلها بدون تاريخ النشـر، ومؤخرا صارت تطبع بأعداد وفيرة في المغرب.

    [3] سيقف القارئ على مثال عن هذا النوع من المقاربات، في دارسة إدموند دوتيه «السحرة والعرافون بشمال إفريقيا».التي ارتأينا إضافتها. (هامش أدرجناه للتو، قبيل سحب الكتاب).

    [4] انظـر:

    - F. E. Lorint & J. Bernabé, La sorcellerie paysanne. Approche de l'Homo Magus, avec une étude sur la Roumanie, Bruxelles, Editions A. De Boek (Univers des sciences Humaines), 1977.
    "أن تشعل شمعة خير من أن تلعن الظلام"
    كونفوشيوس (ع)

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Nov 2002
    المشاركات
    4,192

    افتراضي

    جـان بــران

    الرَّمـــز والسِّحــــر[1]





    لقد فتح فرويد بكتابه الطوطم والحرام (1965)[2] طريقا جديدا لفهم الوظيفة الرَّمزية في حياة الذين اصطُلِح على تسميتهم «بالبدائيين». ومهما تعدَّدت الخلافات بين فرويد وتلميذه المنشق كارل جوستاف يونغ وتعذَّر تبسيطها، فإن هذا السبيل قد قاد يونغ إلى استكشاف، بطريقة إن لم تكن شاملة فهي على الأقل عميقة جدا، جميعَ هذه الرموز التي غمرت حياة «البدائيين» اليومية. وهي رموز سيجدها ثانية مسيخة، لكن متطابقة في الحياة الاجتماعية والسلوكات الفردية، بل وحتَّى في أحلام سكان البلدان المصنَّعة وعُصاباتهم. وبذلك وجَد يونغ نفسه منقادا إلى صياغة مفهوم النموذج الأصلي الكوني والخالد، الذي يوجد في قلب الميثولوجيات القديمة، كما في الميثولوجيات العصرية التي لا ندركها مع ذلك كما هي.

    لقد أصيب يونغ، خلال رحلاته إلى إفريقيا وأمريكا والهند، بالدهشة والفتنة في آن معا لدى اكتشافه أن الحياة الاجتماعية للشعوب التي التقى بها كانت عائمة كليا في عالم رمزي تتجلى فيه محتويات اللاشعور في الميثولوجيات والطقوس الاجتماعية والسلوكات الفردية والفنون، وخاصة في الأقنعة والتماثيل أو الرَّقص. وبذلك وجد نفسَه، إلى جانب التفسيرات بالسببية الطبيعية، أمام التفسير بقوة النماذج الأصلية والرموز التي تحيل إلى التَّجليات النَّهارية لقوة اللاشعور الليلية الخارقة. عندما ندرس المنحوتات والتماثيل الإفريقية أو الأمريكية أو الأوقيانية العجيبة التي كثيرا ما يُعاد إنتاجها برداءةٍ وغزارةٍ لأجل السياح الذين يبحثون عن ذكريات غرائبية، عندما ندرسها ونندهشُ لها في بيئتها الأصلية أو في المتاحف، فمن غير الممكن ألا نتأثر لهذا التكاثر والتراكب ذي الأشكال الغريبة المقلقة المغرَّبَة، حيث تجد كل نزعة أكاديمية ومثالية نفسيهما مُبعَدَتين.

    يسبَح «البدائي» كليا، فرديا واجتماعيا وفنيا، في عالم لا نصادف أي صعوبة في نعته بعالم رمزي. فحتى الأدوات المألوفة التي يستخدمها يوميا، من مزهريات وأقداح ومواعين وآلات وأسلحة، الخ. تكون مُحمَّلة بصور أو استعمالات طقوسية تجعل منها أدوات ترتبط بشيء آخر غير العالم العملي التابعة له. وكلّ من القطاف والزراعة وصيد السَّمك والقنص والحرب، تحدِّده هو الآخر انشغالات منفصلة عن تلك التي قد تكون كافية للحصول على النتائج المنتظرة من ذلك الضرب من الأنشطة. أخيرا، يكاد يكون من غير الضروري التذكير بأن جميع الأحداث والوقائع المتعلقة بالحياة، كالولادة والبلوغ والزَّواج والمرض والموت، تشارك في ماوراءٍ يُرمَزُ إليه بالطقوس التي تتصدَّر الحفلات.

    يمكن التفكير حينئذٍ، كما فعل ليفي برول أوَّلا، في أن «البدائي» يعيش في عالم منفصل يمكن فيه لأي شيء أن يكون السبب في أي شيء آخر، عالم ينعدم فيه معنى المستحيل ومعنى التجربة. وبذلك قد نترك كل ما يشتمل عليه هذا العالم من الدلالات الخفية يفلتُ من خلال تهميشه.

    لكن على العكس عندما نستسلم لسحر هذا العالم كله، والذي تبدو الرَّمزية فيه سيِّدَة الموقف، فإننا نجد أنفسنا أوَّلا أمام مشكلة معرفة لماذا تُجهل الكتابة جهلا تاما في تلك المجتمعات التي لا تعرف سوى التقليد الشفهي وإيصال الميثولوجيات بلغة غير كتابية؟

    بعد ذلك، نجد أنفسنا مساقين إلى التساؤل: لماذا لم تطوّر مثل تلك المجتمعات أية تقنية متقدِّمَة وجهلتْ كل أشكال «المحرِّك»، فأفلتتْ، بذلك، مما يسمَّى بالتقدم؟ كيف استطاع مثل هذا العالم من الرموز أن يكون، علميا وتقنيا واجتماعيا، عالما متحجِّرا بينما تعتَبرُ هذه الرموز - فيما يبدو - غزيرة المعنى، غنية ومفتوحة على عالم من شأن الإنسان أن يستمد منه ما يتيح له التجدد رأسا على عقب إذا ما أنصت للغتها؟

    سيقودنا فحص مثل هذه الأسئلة إلى اكتشاف لغة الرمز على أساس ما ليس هذا الرمز إياه، وعلى أساس الملحمة التي استطاع الإنسان خلالها إتلاف الرمز وهو يريد تدجينه.

    إذا كان «البدائي» يعيش في عالم من الرموز، فإنه طبعا لا يشعر بها باعتبارها رموزا لأنه مسجون - إذا صحَّ القول -بين ما هو سماوي، من حيث تأتي قوى رهيبة، وسطح ما هو أرضي، حيث تسود قوى أخرى تشكل هي الأخرى تهديدا، والتي يجب الانتصار عليها للتمكن من البقاء. لكن السَّماوي والأرضي يبدوان أيضا بمثابة حِجابين تختفي وراءهما القدرات التي تطلق هذه القوى من معاقلها: آلهة كوكبية أو تحت أرضية، غير مرئية لكنها كلية الحضور، تحمل على الاعتقاد بأن «الكل مملوء بالآلهة». وباختصار، فإن «البدائي» الذي نصادفه، الذي كنا إياه وسنظل إياه، يعيش داخل كراطوفانيا، أي داخل عالم يتجلى فيه دوما لعبُ القوى التي تفلت من رقابة الإنسان.

    أمام مثل هذا الوضع الذي يشكل تهديدا لوجود الإنسان، أي تهديدا لجسده أوَّلا، لا يستطيع الإنسان نفسه أن يجد سوى ملاذٍ واحدٍ يشكل في آن واحدٍ تقنية حياتية وإجراء إنقاذٍ وجودي. هذا الملاذ هو ملاذُ مُشاركةٍ في سلسلة الكائنات، مشاركة تنطوي على تفكيك للجماعة مزيلٍ للنزعة الفردية وعلى تماهٍ مع القوى الخارجية قصد التوصُّل إلى إغوائها واستمالتها بالتحوُّل إلى مثيل لها. وبذلك ينمو السحر الذي هو تقنية مرموزة ولغة كوسموبيولوجية تضمها أساطير تتحدَّثُ عن اتصال الممالك الطبيعية وممالك الكائنات المركبة لها، في حكايات تصف أشكال هذا العبور من فردية إلى أخرى، ممثَّلة بالنِّسابات والتحولات وظواهر المسِّ بالجنّ أو الأرواح.

    ترتكز أحكام فريزر وليفي برول وسوسيولوجيين آخرين، وجميع هؤلاء ينقضون الاستدلالات «المغلوطة» في فكر ما قبل منطقي غير مُؤَسَّس على مبدأ الهوية، ترتكز على تنظيماتٍ تصنيفية تجعل من المستحيل فهم ما تدرسه. عندما نجد أنفسنا إزاء إجراءات للتماهي تحاول إجراء محاكاة حقيقية قادرة على الإفضاء إلى انتقالات وجودية مستمرة تضمن المرور عبر الكائنات والصيرورة الكونية، عند ذاك لا يمكننا أن نأسف لجهل مبدأ الهوية. يشكل كل من المشاركة والمسارَّة[3] والطوطمية والسحر كذلك إجراءات لاستبدال سلسلة من الموجودات - حيث يجد كل فرد نفسه منفصلا جذريا عن الأفراد الآخرين لأنه ليس بشيء آخر عدا نفسه - بدائرة للوجود يُشِّعُّ بداخلها الكل من مركزٍ يمكن دائما العودة إليه انطلاقا من أية نقطة من محيط هذه الدائرة.

    منذ ذلك الوقت، ظهر معنى هذا العالم من الرموز الذي يعيش فيه «البدائي». الرمز فيه هو المركبة التي تنقل من المركز إلى المحيط ومن المحيط إلى المركز. إنه مفكك للجماعة بقدر ما يفسخ جزئيا، تقريبا، بنيات الأشياء والأجسام ومكوناتها كذلك؛ إنه خلاصي بوصفه يدمج أشكالا، بحسب فرديات جديدة، تكسر أطر كل الصنافات الطبيعية. والاصطناعي لا يكرس فيها انتصارا أحرزه الأدائي على الطبيعي، وإنما يُبرزُ غزو المتخيَّل للواقع، المتخيَّل الذي يقدم نفسه باعتباره رجفة حقيقية للفرد من أجل القفز خارج الذات والإفلات من كل الفوريات التي تحاصره.

    ليست الأرواحية والإحيائية[4] والطوطمية أو السحر على الإطلاق شعوذاتٍ من شأن وصفها أن يكفي لدحضها كليا. إنها منافذ لسلوكات الشدَّة[5]. شدة غير قابلة للاختزال إلى ما قد توحي به الحيوانات المتوحشة أو العناصر الهائجة، ولكنها تنطوي كذلك على شدة أساسية لدى الإنسان تجاه عَرائه الجوهري. والرموز التي تجري عبر ما كان يبدو مفترقا، والتي تكسر كل التصنيفات، هي كذلك إجراءات للهروب، هي وثْباتٌ أو إقلاعات تطلب من المستحيل أن يجعل بالإمكان تحقيق انتصار ما على الواقع. والفكر التحليلي عند السوسيولوجي أو المحلل النفساني سيفكك هذه الرموز كأنها أجزاء مربكة[6] ليستخرج منها اللامنطق المنطقي الخفي. وبذلك سيقضي على نفسه بألا يرى فيها التعبير عن الوجود الذي يبحث عن منفذ للخروج، والذي - لأجل ذلك - يتدخل ويختلط بكل ما يحيط به، يدمج المغاير أملا في العثور على الفصَّال الذي سيفتح، من الجانب الآخر لجميع المشاركات، قفل هذا العالم الذي تجري فيه هذه المشاركات نفسها.

    في الواقع، يرى الوجود نفسه، في عالم الشدة، محاصرا بالتدقيق المنتظم الموجود هنا أو هناك، الذي يقطع الطريق أو يقترب: بذلك فهو يضحى سجين فضاء مربع وصيرورة مبرمجة. وعالم الرموز يستبدل مثل تلك الشبكات بنوع من مجرَّة يكون الوجود داخلها - إن صحّ التعبير -، في (حالة دوران)، وحيث يضمن الرمز فيها وظيفة تَنَافُذ وجودي وأنطولوجي؛ بفضل هذه المجرة لا يعود الـ هـو والـ أنـا محاصرين حتما بعالم الـ هـذا الذي لا يُقهَر، إنهما يصيران نقطتين بؤرتين تتلاقى فيهما وتتفرَّع عنهما إمكانيات مُعاش لا متناهية. كان ليفي برول في البداية يقول: إن «البدائي منغلقٌ للتجربة»، ولا يملك معنى المستحيل. والواقع أن البدائي شفاف جدّا للتجربة، للتجربة المعاشة وليس لتجربة المختبر التي لا تعدو مجرد مخلَّفة[7]؛ إنه يحاول الانفتاح على حقل الممكنات وراء التكثفات المجمدة التي يفرضها الواقع. وإذن، فالرمز يتكلم لغة الإنسان الذي يحاول امتلاك كلام كل ما يحيط به من أجل الوصول إلى هذه اللغة السامية التي ليست الميثولوجيات جميعها سوى ترجمانات لها ومعبرة عن لسان حالها.

    وبصفة الرمز والأسطورة، كذلك، فهما يشكلان أداتين أنطولوجيتين حقيقيتين لا تعملان في المادة، وإنما في الوجود وفي الأشكال التي يتخذها هذا الوجود بمثابة ملابس يمكن تجريده منها، وإعادة تفصيلها أو تجديدها على الدوام في سبيل انتزاعها من لباسِ أناً شخصي ومن جيوش الـ هذا التي تحاصرها.

    ذلك هوالسبب في كون مسألة الكتابة المنظمة لا يُطرح في مثل تلك المجمعات؛ فظهور علامة الحرف ينطوي، في الواقع، على تحول جذري في رؤية العالم. والرمز عند «البدائيين» يعبر عن نفسه داخل الشكل الخطي للصور وليس داخل الشكل الخطي لأبجدية ما؛ إن شئنا الحديث عن كتابة ما، فيجب الحديث عن كتابة الوشم، والأقنعة، والتوكيلات، والمانضالات، والأنسجة، والتماثيل، والجدرانيات الصخرية، وكتابة أشكال القرى، وأشكال تسلسل الطقوس؛ أي كل كتابة ينتصر فيها هذا الدوران التبادلي للأشكال الذي تحققه الرموز، ناقلات الوجود هذه تحدث عن نفسها في القبول المزودج للتعبير؛ أي تتكلم بنفسها وتتحدث عن ماهيتها.

    إن مثل هذه الرموز والأساطير التي تدمجها بصفتها أدوات وجودية وأنطولوجية، تتلاقى وتتكرر في الزمان والمكان، وليست تنوعاتها بشديدة التباعد بعضها عن بعض بحيث يتعذر علينا تحديد نماذجها الأصلية. إلا أن همَّ استخراج هذه النماذج الأصلية، عبر تعدد مظاهر الوظيفة الرمزية، يمكن أن يسقطنا في فخاخ التصورية العاجزة عن رؤية الرموز باعتبارها تكثيفَ إجراءاتٍ وجودية تسعى لمواجهة شدة أساسية. ومع ذلك، فاكتشاف مثل تلك النماذج الأصلية يشهد على سرمدية كونية الوضع البشري الذي - وراء الحالات التي تشكل أطرا له - يجدُ دائما أمامه السؤال الأساسي: من أنا؟

    أما الأنظمة التي تريد تصنيف هذه النماذج الأصلية وفق تنظيمات، فليس لها من نظامية سوى عدم فهمها وزعمها اختزال السلوكات الإنسانية إلى مجرد ظواهر طبيعية تـحُلّ من الحتمية الكونية. إلا أنها يمكن أن تحثنا، رغما عنها، على التساؤل: لماذا «تنفر الأسطورة بعمقٍ من التاريخ مع أنها تحاكيه؟ (هنري بلوشيه، 1959: 157). أكيد أن الميثولوجيات غنية بالحكايات التي تريد إعادة رسم أصول العالم وأصول الشر لكي تعرض المآسي التي يتخبط فيها إنسان الأمس واليوم. لكن مثل تلك الحكايات تبقى إجرائية أساسا بقدر ما تنشغل بتعيين خطوط السير التي ستصل اللغة بفضلها، في ما بعد، إلى القوى المهيمنة، الخيرة والشريرة، التي تشع في القوى الطبيعية والتي يتكبدها الإنسان. بهذا المعنى، فالأساطير حكايات كشفٍ تزعم الاطلاع على سر ما هو فوق أرضي وتحت أرضي، وتعليم اللغة الوصفات الطقوسية القادرة على التدجين والهيمنة، وباختصارٍ القادرة، بواسطة تقنية الكلمة، على استخدام القوى الخيرة أو الشريرة التي تكشفها الأسطورة أوَّلا.

    هنا، إذاً، لا نجد أنفسنا أبدا أمام تاريخ الوضع البشري وإنما أمام حكايات تتخِذُ فيها اللغة من الرموز نقطة الارتكاز هذه التي كان أرخميدس يطالب بها ليرفع العالم برافعته. فالرموز تحقق أوَّلا مراحل إجراء تصاعدي سيكو-أنطولوجي للاقتلاع من الشدة. وتشكل بعد ذلك، مختلف الدرجات التي تمكن المرء من النزول ثانية فوق الأرض وبحوزته الكلمات المكلفة بإعادة توزيع أشكال العالم والفرديات التي تحكمها تلك الكلمات.

    إن الكشوفات والأساطير المسارية والرموز العملياتية تشكل كذلك وجوه لغة يتألَّه الإنسان من خلالها ساعيا نحو التطابق مع اللغة التي تجري عبر الكتابة للحياة كلها، مع لغة يحاول التحكم بها لكي يستعمل فيها السلطة الأمرية للـ «كُـنْ».

    ــــــــــــــــــ

    الهوامـــش والمراجـــع

    Blocher, Henri.

    1979, Révélation des origines, Lausanne, P.B.U.

    Freud, Sigmund,

    1965 ]1913[, Totem et Tabou, Paris, Payot.





    --------------------------------------------------------------------------------

    [1] سبق أن نشرنا هذه الدراسة في مجلة العرب والفكر العالمي، ع: 13 / 14، (1. من نص البلاغة والبيان؛ 2. من نص السحر والإثنولوجيا)، ربيع 1991، صص. 173-176.

    [2] ترجمه جورج طرابيشي إلى العربية، وصدر ببيروت عن دار الحداثة، الطبعة الأولى 1983، كما صدرت ترجمة أخرى للكتاب نفسه تحت عنوان: التوتم والتابو، دار الحوار، اللاذقية، سورية 1983 [عثرنا على إحالة إلى الترجمة الثانية، بدون ذكر اسم المترجم، في: د. عبد المعطي سويد، التناقض الوجداني في الشخصية العربية المعاصرة، اللاذقية، دار الحوار للنشر، ط. I، 1992، هامش 43، بالصفحة 76] (م).

    [3] المسارة (initiation): يترجمها البعض بـ «التدرب» أو «التأهل» (راجع ترجمة حسن قبيسي لكتاب ك. ليفي ستروس، الإناسة البنيانية، البيضاء - بيروت، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى 1995، ص. 192 وما بعدها، وكذلك ترجمته لكتاب جاك لومبار، مدخل إلى الإثنولوجيا، البيضاء - بيروت، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى 1996، ص. 374). والكلمة تطلق على «الطقوس والاختبارات الموجهة لإلحاق مرشحين إلى جماعات مغلقة كالجمعيات السرية، والطوائف، الخ. (...). وتشكل هذه الشعائر عموما مناسبات لإقامة حفلات كبرى يشارك فيها جميع أعضاء المجتمع الكبير، لكن يلعب فيها المسارون أو المسارون الجدد دورا أهم...». عن Michel Panoff et Michel Perrin, Dictionnaire de l’ethnologie, Paris, Payot, 1973. (م).

    [4] الإحيائية أو المذهب الحيوي (animisme): نظرية صاغها تايلور، ويقصد بها أن «ينظر الإنسان إلى كل مظاهر الطبيعة حوله (حيوانات - نباتات - جماد) على أنها مليئة بالحياة الشخصية. فالأنيميزم هي الاعتقاد في وجود الأرواح في كل شيء». عن د. منال عبد المنعم جاد الله، الاتصال الثقافي، دراسة أنثروبولوجية في مصر والمغرب، الأسكندرية، منشأة المعارف بالأسكندرية، 1997، ص. 101.

    [5] Stresse: مصطلح كنا نترجمه آنفا بـ «الضيق»، ونتبنى حاليا الترجمة التي يقترحها كل من «معجم الثقافة النفسية لمصطلحات علم النفس»، الصادر ضمن مجلة الثقافة النفسية، مركز الدراسات النفسية والنفسية - الجسدية، بيروت، العدد الثاني عشر، المجلد الثالث، تشرين الأول، 1992، صص. 122-137، و«معجم الثقافة النفسية لمصطلحات الطب النفسي»، الصادر في المجلة نفسها، العدد الحادي عشر، المجلد الثالث، تموز 1992، صص. 117-152. (م).

    [6] المربكـة (puzzle): نوع من لعب الورق معقَّد. (م).

    [7] البقية أو المخلفة أو الراسب (survivance): «عنصر من ثقافة يعتبر بمثابة شاهد على حالة أقدم للثقافة، أو بمثابة أثر لاتصالات تاريخية بين مجتمعات مختلفة..». عن ميشال بانوف وميشال بيران، معجم الإثنولوجيا (بالفرنسية)، م. س. (م).
    "أن تشعل شمعة خير من أن تلعن الظلام"
    كونفوشيوس (ع)

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Nov 2002
    المشاركات
    4,192

    افتراضي

    تزفـتان تـودوروف

    بعض التأمـلات العـامة في السِّحـر





    لقد أصبح السحر منذ البدايات الأولى للإثنولوجيا واحدا من الموضوعات المفضلة في هذا الحقل المعرفي، فحصل لتوه على وضع اعتباريّ غامض لا تعود المسؤولية فيه إلى السحر، وإنما إلى ما يمكن تسميته بإحساس الإثنولوجيا بخطئها التكويني. ذلك أن الأهمية التي أولاها للسحر جميع الإثنولوجيين الكبار، من فريزر إلى ليفي ستروس، مرورا بمارسيل موس ومالينوفسكي وإيفانس بريتشارد وآخرين عديدين، تلك الأهمية ترسم، كما في العمق، الطبيعة الاستثنائية للظاهرة السحرية. فظاهرة كهذه لا يمكن أن تستغني عن تفسيرات، ولكَمْ هي غير قابلة للتفسير! لكن من جهة أخرى، وفي الوقت نفسه، إن جميع منظري السحر، وكأن الندم قد استحوذ عليهم لكونهم وجدوا الآخرين شديدي الاختلاف عنَّا، حاولوا إظهار أن السحر على كل حال لا يختلف اختلافا كبيرا عن الأنشطة المألوفة لدينا، بل وحتى عن أكثرها جدارة بالاحترام مادام سيُدمَجُ أخيرا في العلم. هكذا استطاع ليفي ستروس أن يكتب ما يلي في معرض تلخيصه لتقليد طويل:

    «من الأفضل إذن بدل أن يقام نوعٌ من التقابل بين النظامين أن يوضَعا كمتوازيين أي بوصفهما نسقين معرفيين غير متساويين من حيث النتائج النظرية والعملية (إذ لابد من القول إن العلم ينجح من هذا المنظور أكثر من السحر، علما بأن السحر يسبق تكون العلم بمعنى أنه ينجح أحيانا هو أيضا). ولكنهما يتساويان من حيث نوع العمليات الذهنية التي يقومان عليها وهي لا تختلف في طبيعتها بل انطلاقا من الظواهر التي تطبق عليها» (ليفي ستروس، 1962: 21)[1].

    هكذا فبعدما يعري الإثنولوجي طبيعة السحر الغريبة بيد يعود فيُلغي هذه الحركة بيد أخرى لشعوره بالندم، فيؤكد لنا أن السحر يشبه بما فيه الكفاية ما نحن عليه، أي ما نقدره. ونرى ثمة، كما في منمنَمة، الحركةَ المزدوجة المؤسسة لكل إجراء إثنولوجي: الاعتراف بغرابة الآخر، ثم تعظيم هذا الآخر الغريب واختزاله إلى الذات وكأنه يُرادُ تجنب كل شك في وجود تمركز حول الذات العرقية.

    بـدل أن أستخلـص نظـرية جديدة في السحر انطلاقا من قناعاتي الشخصيـة أودُّ الآن أن أسلك طريقا معكوسا فأرى انطلاقا من واقعة سحرية كنتُ شاهدا عليها، بل وحتى ممثلا فيها، ما هي الظروف الضرورية والكافية لوجود تلك الظاهرة. الحدث عادي جدا. فقد كنتُ ذات يوم في الريف أحاول عبثا إصلاح نافذة مركبة بشكل رديء، فأدت حركة جسورة إلى حصر إبهامي في فتحة النافذة. تأهبت لإطلاق بعض الترنحات، غير أن جارة لي، وهي ريفية من المنطقة، كانت هناك فاقترحت علي أن تداويني من ألمي على الفور. أمسكت يدي، وقامت بحركة حول أصبعي، وتلت بصوت خفيض كلمات لم أتبينها، ثم التفتت إلي وقالت: «انتهى، لقد انصرف». وفعلا، كان الألم قد زال. كان قد انتهى.

    قد يعترف الجميع، فيما أعتقد، بهذه الواقعة باعتبارها حدثا سحريا يدخل ضمن السحر العلاجي تحديدا. ولذا سأحاول وصفه الآن بذكر خاصياته. طبعا، أنا على استعداد لتركه عند الاقتضاء كي أستبدله بوقائع سحرية أخرى أكثر وضوحا وأكثر تعبيرا.

    أولا، يتجلى السحر على شكل أفعال سحرية، أي أعمال يقوم بها الساحر ويتبعها - كما في حالتي - تحول في الحالة عند المرسل إليه بالنسبة لهذا العمل[2].

    تتيح هذه المفاهيم العامة جدا، وبكيفية مسبقة، صياغة تعريف أول للأعمال السحرية، وهو الآتي: إنها أعمال يؤثر بها الساحر في موضوع السحر لكي يؤثر، في الواقع، في المرسَل إليه.

    لنقارن العمل السحري بعملين أبسط يمكن توضيعهما - إذا صح القول - بتفكيكهما انطلاقا منه. فمن جهة، يكتفي عمل تقني خالص، كالتدخل الجراحي، بالتأثير في الموضوع. ومن جهة أخرى، يرتكز فعلٌ مثلَ المرافعة القضائية على التأثير في المخاطَب دون أن يزعم أنه يؤثر في موضوع الحديث. وبذلك فنحن أمام صنفين من الأعمال: ففي حالة يتم التأثير في المرجع، وفي حالة أخرى يتم التأثير في المخاطَب. فلنسمهما «مرجعيَّات référentiels»، و«خطابيات allocutoires». والسّحر عمل للمخاطبة يقدم نفسه باعتباره عملا مرجعيا.

    ويحسن بنا أن ننظر الآن في جملة من الاعتراضات التي يمكن أن توجه إلينا:

    أوَّلا: قد يبدو من باب الإسراف الحديث عن «مرجع» أثناء الكلام عن الموضوع مادام هذا المصطلح ينتمي إلى الإطار المفهومي للسانيات، والحال أن السحر لا يكون بالضرورة لُغَويا، وهو لم يكن لغويا في مثالي إلا بشكل نسبي جدا، حيث شاهدتُ العمل جيدا لكنني لم أسمع الكلمات التي رافقته. وإذا كنت مع ذلك قد سمحت لنفسي بإجراء هذه المقارنة، فذلك لأن الأعمال السحرية إنما تتبعُ لمقولات السلوكات الرمزية التي لا يعدو الخطاب مجرد مثال واحدٍ عنها، وهو حقا يكون في أغلب الأحيان الأكثر سهولة للتحليل. وبهذا الصدد، يُعتبر مارسيل موس السباق إلى تأكيد وجود قرابة بين مختلف قنوات نقل السحر:

    «تتضمن كل حركة (geste) سحرية جملة لغوية، ذلك أنها تتضمن دائما حدا أدنى من التمثل، وفيها يتم التعبير عن طبيعة الطقس وغايته، بلغة داخلية على أي حال. ولذلك، نقول إن الطقس الصامت الحقيقي لا يوجد على الإطلاق. ومن هذه الوجهة للنظر، ليس الطقس اليدوي بشيء آخر غير ترجمة هذه العزيمة الصامتة. فالإشارة علامة ولغة» (مارسيل موس، 1960: 50).

    ثانيا: يمكن الاعتراض علينا بأن المرسل إليه في بعض الأحيان يكون هو موضوع السحر. إذ توجد وصفات سحرية، كما رأينا[3]، يقال فيها مثلا: «عزَّمتُ عليك أيها المرض كي تغادر جسم ن...، الخ.». إلا أن مثل هذا الاعتراض يخرجنا من دائرة السحر إلى مجال المعاناة منه. فما التلفظ الحالي سوى الجزء غير المرئي من جبل الجليد العائم، والأدوار التي تهمنا لا تنكشف في أغلب الأحيان إلا بفحص الجزء الذي تمَّ حجبُه منذ البداية. فلو كنتُ ساحرا وخاطبتُ المرضَ بدل المريض لكنتُ حينئذ أستعمل نهجا بلاغيا، مجازا نحويا. مما لا شك فيه أنني أؤثر في المريض، ومـا الفصـل الذي أقمته بينه وبين المرض سوى فصل ظاهري. وعليه فالحوارُ مهمـا يَقُل عنه السَّحَرَة، إنما ينعقد بين بَشَر حتى إشعار آخر.

    أخيرا: يمكن لاعتراض آخر أساسي جدا أن يجادل في كون العمل الحقيقي لا يتعلق دائما بالمرسل إليه. ولنأخذ حالة أخرى من السحر، وهي حالة مألوفة: يتدخل الساحر لفائدة فتاة كي يساعدها على غزو قلب شاب مَّا. فحسب ما يبدو للوهلة الأولى، لا يوجد هنا عمل في المخاطب وإنما في موضوع السحر فقط. وأجيب بأن مثل هذا العمل لا يكون فعالا - وإذن لا يكون سحريا - إلا إذا أصاب، رغم كل المظاهر، المحادَثَ الواقعي وهو الفتاة في هذا المثال، اللهم إذا لم يكن هناك حوار ثان فيصير الفتى في العمل هو مُحَادَثُ الساحر. وهنا أيضا ربما يجب مكابدة السحر للتوصل إلى إعطائه وصفا آخر.

    يتطلب أحد المصطلحات الواردة في ردنا على الاعتراضات الممكنة بعضَ التفسيرات الإضافية. ونعني به مصطلح العمل الرمزي. فهذا المفهوم الذي طبقناه على السِّحر يمكن، في الواقع، أن يفهَمَ منه على الأقل ثلاثة أشياء مختلفة:

    - فبالبقاء، أوَّلا، داخل الصورة التي يريد السحر فرضها عن نفسه، وهي صورة عمل في موضوع الكلام، نلاحظ وجود علاقة رمزية هامشية إلى حدٍّ ما بالنسبة لطرحي الحالي. إن العمل السحري يرجع بالضرورة تقريبا إلى سلسلة من الأحداث غير الأحداث الحاضرة: إنه يُشَبِّهُ الحالةَ الراهنةَ بحالةٍ شرعيةٍ تشكل جزءا من لائحة مغلقة ومعروفة جدا بكيفية مسبقة. وتأخذ هذه الإحالة في أغلب الأحيان - وقد رأينا ذلك[4] - شكل تشبيه واضح: يقول الساحر: «فلتُشْفَ كما تخلص يسوع المسيح من ألمه على يد الطبيب». فوظيفة هذا التشبيه وهذه الرمزية لا تتمثل في إطلاعنا جيدا على العمل الحاضر (بهذا المعنى ليس السحر نمطا من المعرفة)، وإنما في تدجين المفرد والحادث وجعله مألوفا من خلال ربطه بصنف من الوقائع المنظمة تنظيما جيدا. فللرمزي دور تنظيم المادة المدرَكَة. إن الحادثة التي وقعت لي تبدو للوهلة الأولى غير متطابقة مع هذا الوصف، لكن لنحاول أن نتمثل الأشياء بشكل أفضل: فبوضعي يدي بين يدي جارتي التزمتُ مسبقا بميثاقٍ غير معبَّر عنه، بمقتضاه وضعتُ ثقتي في المطببة. والحالة هذه، ألم أفترض أن لساحرتي دراية بمعالجة حالتي الخاصة، ومن ثمَّ أن لها معرفة بكيفية إدخالها في إحدى فئات الوقائع التي تدخل ضمن كفاءتها العلاجية؟ إن التزامي نفسه في هذا العمل يقتضي أن الحادثة التي جرت لي لم تعد مجرد حدث شاذ ومنفرد، بل صارت تندرج ضمن صنف قائم من الوقائع رغم جهلي بطبيعتها.

    لننتقل الآن إلى المظهرين الرمزيين الآخرين للفعل الرمزي:

    أولا: يمكن إقامة العلاقة الرمزية بين العمل السحري المزعوم، أي العمل في المرجع، والعمل السحري الواقعي، أي العمل في المخاطب. هذه العلاقة علاقة رمزية لأن الواحد يثير الآخر دون أن يكون هذا الأخير واضحا. فالانشطار (dédoublement) (على مرأى مُلاحِظٍ خارجيّ على الأقل) هو الذي يخلق الرمز.

    ثانيا: العملُ السحري عمل رمزي بالمعنى الذي قصده موس لأنه يتألف من كلمات أو إشارات يمكن قلبها إلى كلمات. وهذا الشكل من الرمزية يعتبر تكميليا للشكل السابق بمعنى ما. فإذا سلمنا بأن العمل السحري يريد أساسا أن يؤثر في المخاطب، صار بهذه الصفة فعل كلام كأي فعل آخر ينفذ في وجوده الخاص ويكف عن الإحالة إلى أي شيء آخر غير نفسه. العمل السحري يتألف من رموز، غير أن هذا لا يعني على الإطلاق أنه عمل خيالي أو غير جِدِّي. فـ «جدِّيُّ» الأعمال الرمزية يفرض تحديدا أن يُصَاغَ برموز. وذلك يتيح إبعاد العديد من سوء التفاهمات المتعلقة بالفعالية السحرية. فالسحر العلاجي، مثلا، ليس بفيزيولوجيا رديئة (لأنه يحاول علاج أمراض بواسطة حركات وأقوال غريبة)، بل هو سيكولوجية جدية لأنه يجد الوسائل الملائمة للتأثير في الغير: بدلا من أن يكون عملا مرجعيا فاشلا، فإنه يغدو بالأحرى عملاً خِطابيا (allocutoire) ناجحا.

    متى ركَّزنا على العمل المرجعي كانت العلاقة الرمزية من نوع استبدالي (substitutif)، ومتى وضعنا العمل الخطابي في المقام الأول كانت العلاقة نفسها من نوع المشاركة. وإذن، فالسحر علامة وصراع في آن واحد.

    يتيح هذا التحليل للعلاقة بين الرمز والسحر الإحاطةَ بطبيعة هذا الأخير عن كثب.

    أولا: لا يتكون العمل السحري من الملفوظ (énoncé) وحده، كلاميا كان أو غير كلامي، وإنما من التلفظ (énonciation) في كليَّتِه. فهو لا يحتوي الجمل الملفوظة أو الحركات المنجزة فحسب، بل يحتوي أيضا أبطال هذا العمل، وظروف إنتاجه، وعلاقة مجموع العناصر فيما بينها. إنه يتحقق بفعل تظافر سلسلة من الشروط - لن أسترسل في عرضها - التي، دون أن تُكَوِّنَ السحر، هي وحدها تجعله ممكنا.

    ثانيا: إن النوعي في السحر هو تحديدا إمكانية هذا التطور المزدوج: كونه علامة وصراعا في آن واحد، وكونه يحاول التأثير في الغير زاعما أنه يؤثر في موضوع خطابه.

    بوسعنا الآن المقارنة بين السحر وأنشطة أخرى مجاورة له سعيا إلى تحديد طبيعته:

    في البداية، يمكن مقارنته بوصف معنِي بما يصفُه من أشياء كأن نثيرَ، مثلا، حدثا ما لإقناع مُحَاوِرنا واستقطابه. هنا أيضا يوجد عملان: أحدهما موجه نحو المرجع، والآخر نحو المخاطَب. إلا أن الاختلاف يكمن أولا في طبيعة العمل المرجعي. إنها هنا وصفية، ومن ثمة فهي تتمثل في الحفاظ على المرجع. أما هناك، في السحر، فهي طبيعة تحويل. بالإضافة إلى ذلك، فالعلاقة بين العملين ليست واحدة. في الوصف الإقناعي يخضع العمل المرجعي للعمل الخطابي: من السهل، على الأقل، إثبات نية التأثير في الغير وإن لم يتم الإعلان عنها صراحة. وعلى العكس، فما يتراءى في العمل السحري هو العمل المرجعي وحده بحيث إذا أثرت مباشرة في المخاطب لم يعد هناك سحر على الإطلاق.

    ونرى الآن كم هو شاسع الفرق بين العلم والسحر، دون أن يعني ذلك بالضرورة أن الثاني أحط قيمة من الأول. فالعمل العلمي هو قبل كل شيء عمل يريد لنفسه أن يكون مرجعيا خالصا (هذه على الأقل نية العلم المحض). علاوة على ذلك، فالعالِمُ لا يُقِرُّ بأنه يبحث في نشاطه العلمي نفسه، عن تغيير الواقع إلى ملفوظ خالص، إلا بمحو طبيعة السحر الإنجازية.

    كثيرا ما جرت المقارنة بين السحر والدِّين. والاختلافات هنا من طبيعة أخرى. فبين الإثنين شَبَهٌ بوصفهما عملين خِطَابيين (إلا أنه يتعين علينا التمييز هنا بين الخطاب الذي نوجهه إلى الله وبين الخطاب الذي يمكن أن يتبادله عضوان من جماعة واحدة). وفي المقابل، لا يؤدي الخطاب الديني أي عمل مرجعي: إنه يحَوِّلُ علاقة الإنسان بالله ولا يحول علاقة الإنسان بالأشياء (وإلا فسيكون هذا الدين ملطخا بالسحر - وهو ما تخلو منه الممارسة)[5].

    كثيرا ما تم التساؤل عن الأشكال التي يأخذها السحر (إن كان يأخذ شكلا) في حضاراتنا العصرية التي تعتبر الشفاءات الخارقة، كتلك التي كنتُ موضوعا لها، ضربا من ماضٍ ولَّى إلى غير رجعة. هل يوجد في ظروف حياتنا اليومية سحرٌ عصريٌّ يتم بلا أشباح وبلا وصفات؟

    بهذا الصدد، كثيرا ما يُستَحضَرُ الإشهار. ونودّ الآن أن نرى أين تكمن الاختلافات والتشابهات بين السحر والإشهار. يؤثر الخطاب الإشهاري في مخاطبه، بل إن هذا التأثير يشكل جزءا من تعريف هذا الخطاب نفسه. ولتحقيق هذا التأثير، يمكنه أن يحاول تعديل طبيعة موضوع حديثه (ولكن ليس هذا سوى أحد أشكال الإشهار)، كأن أقول - مثلا - عن جهاز أريد بيعه: إنه «سيشتغل مدة خمس وعشرين سنة دون أن يصيبه أي عطب». لكن هذا الخطاب لن يفترض أبدا أنه يحوِّلُ ما يتحدث عنه، كما أنه لن ينادي بهذا التغيير كتعريف لكينونته. فلو كشفتُ عن العمل المرجعي للتحول لكان عملي الخطابي للإقناع محكوما بالفشل.

    يتميز جميـع آباء السحر العصريين - الذين ليست بعض أشكال الإشهـار سوى أحد أمثلتهم - عن جَدِّهِم الكلاسيكي بهذه الخاصية النوعية المتمثلة في كونهم يُخفُونَ طبيعة تأثيرهم في المرجع بدل المطالبة بها. السحر العصري سحرٌ خجولٌ. فبتجميلي الموضوع الذي أتكلم عنه إنما أبحث عن إقناع مُحَادِثي. وذلك ما هو متماثل من الجهتين. غير أني في إحدى الحالتين أخفي التجميل، وفي الأخرى أحجب محاولة الإقناع. وبذلك فالسِّحران «العصري» والكلاسيكي تناظريان بشكل تام: كلاهما يدَّعي أنه بسيط. أحدهما لا يبوح بتأثيره المرجعي، والآخر لا يكشف عن عمله الخطابي.

    وعن هذا الاختلاف تتفرع اختلافات أخرى: فمنتج السحر الكلاسيكي شخصٌ محترف يعترف به الجميع، وتضمنُ له فعاليته الشهرةَ. أما الساحر العصريّ، فلا يقرُّ أبدا بكونه ساحرا مادام يخفي تحديدا الطبيعة السحرية لعمله بدل إعلانها. وفي أيامنا هذه، لربما كان الساحر الوحيد الذي يشبه الساحر القديم هو ذلك الفنان الذي يعلق قماشه البالي على الحائط، ويسميه «Composition BX 311»، ثم يبيعه بما يفوق عشرة ألف دولار. مع أن تحول المرجع يكون نتيجة إقناع المشتري بَدَلاً من إثارته. فالتحول تناظُريٌّ من جهة المرسل إليه الذي يكون في حالة السحر الكلاسيكي فردا مُحَقَّق الهوية يلتمس من تلقاء نفسه تدخل الساحر. أما اليوم، فهذا المرسل إليه غير معروف، لا مُسمَّى ومتعدد: إنه الرأي العام، إنه «الإنسان المتوسط» الذي يتعذر الإمساك به، وهو لا يعرف أنه ضحية للسِّحر أو مستفيدٌ منه.

    تُظهرُ هذه القرابة التي من الهام أيضا رؤية جوانبها المتشابهة والمختلفة، أن النشاط السِّحري متى نظرنا إليه في شموليته، ظلَّ أبعد ما يكون عن تلك الصورة التي يراد تقديمه لنا بها في أغلب الأحيان، وهي صورة حيوان غريب وملغز. إن الأعمال تعرض نفسها بأشكال متنوعة، ولكن وراء التمويهات المختلفة تنكشف بنية مشتركة. فقابلية السحر ليست في حاجة لأن يُبحَثَ عنها بعيدا جدا في الزمان - في العصر الوسيط المعتِم[6]، مثلا - ولا في المكان (عند برِّيي القارات البدائية). إنها حاضرة في كل واحد منا حتَّى وإن اختلفت أشكالها، لأن ما من أحد منا إلا ويحاول، وهو يمارس نشاطا رمزيا، كأن يتكلم مثلا، أن يُنَظمَ الأمر بالطريقة التي تناسبه في سبيل ذلك الحوار المستمر الذي ينخرط فيه مع أمثاله.

    ولربما كان النشاط الوحيد الغريب حقا - إن كان موجودا - هو عمل الوصف المحض، هو تسمية العالم التي تفلح في عدم تغييره وعدم إخضاع عمل التسمية نفسه لهدفٍ إقناعي ما، لربما كان هو ذلك العمل الذي تطلق عليه بضعة شعوب متاخمة للجزء الغربي من القارة الأوروبية اسم عِلـمٍ.

    ــــــــــــــــــ

    الهوامـش والمراجـــع

    Austin, J. I.,

    1970, Quand dire c’est faire, Paris, Le Seuil.

    Castiglioni, A.,

    1951, Incantation et magie, Paris, Payot.

    Levi-Strauss, C.

    1962, La pensée sauvage, Paris, Plon.

    Malinowski, B..

    1923, «The problem of Meaning in Primitive Languages», appendice à C. K. Ogden & I. A. Richards, The Meaning of Meaning. London, International, Library of Psychology, pp. 296-336.

    1966, The Language of Magic and Gardening (Coral Gargens and their Magic, II). 2nd., London, George Allen & Unwin.

    Mauss, M.

    1960, Sociologie at anthroplologie, Paris, Les ةditions de Minuit.

    1968, Œuvres, I: Les Fonctions sociales du sacré, Paris, Les ةditions de Minuit.

    Todorov, T.,

    1970, L’Enonciation (Langages 17), Paris, Didier-Larousse.

    1972, «Introduction à la symbolique», Poétique 3 (II), pp. 273-308.

    1973, «Analyse du discours: l’exemple de devinettes», Journal de Psychologie 70 (1-2), pp. 135-155.






    --------------------------------------------------------------------------------

    [1] أو ترجمته العربية: كلود ليفي ستراوس، الفكر البري، نقله إلى العربية وقدم له وعلق عليه: د. نظير جاهل، بيروت، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، ط. / I، 1984، ص. 34. ومنه نقلنا نص الإحالة. (م).

    [2] آثرنا ترجمة «destinateur» بـ «مرسل إليه» بدل «متلقي»، من جهة لأن صاحب النص لم ينعته بـ «récepteur»، ومن جهة ثانية لأننا لو فعلنا ذلك لجعلنا الذي يؤثَّرُ لصالحه هو المتلقي الفعلي للوصفة السحرية، والحال أن هذه الكلمات قد تُوَجَّهُ إلى كائنات خفية فتكون هذه الأخيرة هي المتلقي الفعلي. (م).

    [3] يشير المؤلف إلى أحد الأمثلة التي تناولها ضمن قسم سابق من هذه الدراسة، عدلنا عن إدراجه ضمن الكتاب الحالي لكوننا نعتزم إصدار نص البحث كاملا في كتاب مستقل تحت عنوان: اللغة والسحـر. (م).

    [4] انظر الهامش السابق. (م).

    [5] بهذا الصدد يشرح البعض رأي ليفي ستروس، في الموضوع، على النحو التالي: «... "فأنسنة" الطبيعة وهي ماهية الدين (أو ما يتكون منه)، و"تطبيع" الإنسان أو تشييئه (وهو ما به نحدد السحر) يشكلان معطيين متلازمين في مزاج واحد لا يطرأ التغيير إلا على معاييرهما ومقاديرهما فقط. وكما مضى وأوضحنا فإن كل واحد يستدعي وجود الآخر. فالدين لا يقوم بدون سحر والسحر لا يخلو من "ذرة" دين». محمد بن احمودة، الأنثروبولوجيا البنيوية أو حق الاختلاف: من خلال أبحاث ك. ل. ستروس، البيضاء، مطبعة النجاح الجديدة، ط. II، 1990، ص. 99. (م).

    [6] إشارة إلى ملاحقة الساحرات في أوروبا، خلال القرون XV، XVI وXVII، من قبل محاكم التفتيش التي انتشرت في مجموع أنحاء أوروبا، والتي سنقف على مختلف تفسيراتها في دراسة خوليو كارو باروخا «عن بعض تأويلات السحر العصرية» المترجمة ضمن الكتاب الحالي. (م).
    "أن تشعل شمعة خير من أن تلعن الظلام"
    كونفوشيوس (ع)

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Nov 2002
    المشاركات
    4,192

    افتراضي

    أ. م. هوكارت

    المُسَـارَّة، الرّجُـولـة والعِـلاج





    I. الـمُسَـارَّة والرجـولـة[1]

    حاول عدد كبير من المؤلفين أن يحللوا طقوس البلوغ، بيد أننا لا نعرف جيدا نظريات «المسارِّين» أنفسم. في فيجه[2]، لا يحصل الطفل على اسم «رجل» إلا بعد أن يُختَّن. ويذكر هويت Howit أن بعض البالغين، عند قبائل الكورينغا Kuringa، كانوا يُقصَون من حفل المسارَّة لأنهم لم يجتازوا المسارَّة، أي لم «يُجعَل منهم رجالا».

    ويمكننا مُضاعفة الأمثلة إلى ما لا نهاية، ولكننا سنتوصل من خلالها إلى خلاصة أن المرء يكون «رَجُلَ» الاحتفال، وهو أمر نعرفه سلفا. أريد من جهتي أن ألح على أنَّ الأمر هنا لا يتعلق بمجرد مواضعة اجتماعية، ولا بمجرد تحول أخلاقي حتّى.

    فعند اللوريتجا (Loritja)، وهي قبلية تقع في وسط أستراليا، يملك المراهق المسارّ الحق في الاستفادة من خدمات ومساعدات طفل غير مسار، ذلك أن هذا الأخير لا يُعتبر بعد رجُلا. وعند الأوماها[3]، يدخل الشباب في عزلة يقضونها في الصوم والزهد، خلالها إذا رأوا نفسهم في الحلم يتلقون الأحزمة التي تستخدمها النساء لنقل الأحمال الثقيلة شعروا بأن عليهم من الآن فصاعدا أن يرتدوا ملابس المرأة ويعيشوا مثلها من جميع النواحي. إنهم [فئة] الميكسوغا (Mixuga).

    وبذلك يبدو من الواضح جدا أن السِّنَّ لا يكفي ليجعل من شخص ما رجلا، ولأجل ذلك يجب عليه أن يجتاز طقسا. ولكن لا يجب الاعتقاد بأن هذه الشعوب تمنح للاحتفال دورا ما في التشريح؛ فهي تعلم علما تاما ممَّ يتكون الأطفال الصغار! وإذا كانت تعتقد أن البلوغ يتوقف على إنجاز هذا الطقس أو ذاك، فإن الطبيعة قد تتكفل جيدا بمعاكستهم. ففي فيجه، كان الختان يؤخر أحيانا لوقت طويل بحيث يجد الأطفال أنفسهم قد بلغوا جسديا ولم يمروا بهذا الطقس بعد، بل إن بعضهم يكون قد ارتبط بعلاقات جنسية مع بنات. وفي الحالة التي يذكرها هويت Howitt، كان هؤلاء الرجال الموضوعون على أرصفة المجتمع، مع ذلك، أزواجا وآباء عائلات. ويذكر ميس فلتشر Miss Fletcher مثال [رَجُل] هندي من قبلية أوماها أجبرته إحدى النبوءات على أن يحيا حياة امرأة، ولكنه مع ذلك ربى أسرة بكاملها.

    وإذن فما جدوى الحفل مادام لا يأتي بأي تحول جسدي؟ يجيب أهالي الأوماها بأن المراهق يسعى، عبر الصلوات والصيام، إلى الحصول على «حياة سعيدة، وعلى الصحة، والنجاح في الصيد؛ كما يريد الإفلات من أعدائه؛ والقفول من غزواته الحربية محمَّلا بعدد كبير من فروات رؤوس الأعداء». ومؤكد أن هذه الصلاة ليست طقوسا للمسارة، ذلمك أن كل طقس في الواقع هو صلاة لطلب الحياة la Vie (بحرف استهلالي كبير) وكل ما هو ضروري لها. ينذر أهالي الأوماها مواليدهم الجدد لـ «تطول طريقهم في الحياة» إلى أن «يروا طلوع النهار زمنا طويلا». والمعنى العام لطقوس الطفولة وخلوة البلوغ هو نفسه. لا تختلف القرابين إلا بشكل ودرجة الحياة المفترض أنها تمنحها. بيد أننا لا نحتاج إلى الذهاب عند الأوماها كي نعرف هذا، إذ يمكننا العثور في أي كتاب على تصنيف للقرابين القدسية، يحدِّد طبيعة كل منها والرعاية القدسية المنالة على إثره، علما أن هذه الرعاية القدسية هبة فوطبيعية بواسطتها يمنحنا الله «الحياة» الخالدة.

    يمكن القول في نهاية المطاف إنَّ المسارَّة عند الأوماها تمنح للشابِّ «الرعاية القدسية» الطقوسية بامتياز - أي الحياة - ولكن بشكل ذكوري تخصيصا. بالحفل المسارّي ينال الطفل حياة طويلة، وبعد ذلك ينال بالصيام الحق في الحياة رجلا، ومزاولة المهام الخاصة بالرجل كالصيد أو الحرب. من الآن فصاعدا، سيشارك في الاحتفال حيث سيلعب دوره، وهو دور الذكر، وسيُرَخَّص له بحمل الشارات الخاصة بوضعه الاعتباري. وهذا طبعا، إذا اجتاز الامتحانات الطقوسية بنجاح، تبعا للحلم الذي رآه (في هذه الحالة). إذا صار كل شيء على أحسن ما يرام أظهر له هذا الحلم أنه صار رجلا، إلا أنه يحدث أيضا أن يُظهِرَ له الحلم أنه لم يبلغ درجة «الرعاية القدسية»، إن صح التعبير، وأنه غير جدير بالعيش عيشة الرجل وارتداء ملابس الرجل.

    وبذلك، فهذه العادة المدهشة ليست في الواقع سوى تطبيق خاص لقانون عام بمقتضاه يُلقي القربان بركته على كل الجديرين بها ويلقي لعنته على كل الذين ليسوا جديرين به.

    ونجد مثالا آخر في طقوس تكريس الملِك، إذ ليس في استطاعة أي كان أن يتلقى هذه الوظيفة المباركة ما لم يمتلك خاصيات محدَّدة. والمنتحلون لقوا - جزاء اعتدادهم وافترائهم - عقابا أخذ شكل لعنٍ تسبب مرارا في هلاكهم وزوال مُلكهم. كذلك إن لم يُشمل الشاب بالرعاية القدسية، فإنه لا يستطيع أن يدعي بحقه في ارتداء ملابس ذكورية ولا أن ينتحل دور رجل لأن نجاحَ القنص والحرب يتوقف إلى حد كبير على الإنجاز الجيد للطقس. وإذا رَفض هذا الشاب أن يأخذ بعين الاعتبار النبوءة التي تضمنها حلمه، تعرض للهلاك. يذكر ميس فليشتر: «حصل أن الشابّ التعس لم يستطع، رغم مساعدة أبواه، أن يمحو بداخله تأثير حلمه المشؤوم، فانساق تدريجيا إلى الانتحار، إلى المخرج الوحيد لوسواسه».

    قد يكون من السهل جدا القول إن [أفراد فئة] الميكسوغا ينتمون إلى حقل علم المرض. لا، إنهم ليسوا لوطيين تجدُ ضروبُ كبتهم ترجمتها في الحلم، لأن هذه الوضعية تثير نفور غالبيتهم بشكل جلي. إلا أنهم لا يملكون خيارا آخر، ذلك أن العين الشريرة تلاحِق الذين يعقدون أن باستطاعتهم تجاوز تبريك الآلهة. ويذكر مس فلشتر أيضا حالة هذا الميكسوغا الذي كانت الطبيعة [الرجولية] عنده من القوة بحيث كان من حين لآخر يكف إطلاقا عن التمسك بوضعه الاعتباري [كميكسوغا]، فيرتدي ثياب الرجل ويتبع المحاربين إلى حلبة القتال، حيث يبدي شجاعة ملحوظة، ثم يعود بعد ذلك ليستأنف حياته باعتباره «امرأة».

    لا، مرة أخرى لا يتعلق الأمر بحالة مرَضية، وإنما بتطبيق صارم للعقيدة الطقوسية. لن نتعجب من هذه الصرامة إن نفهم جيدا أنَّ الأمر يتعلق بمسألة حياة أو موت.

    إن المسارة لا تصنع الذَّكَر، ولكنها تصنع الرجل بمعنى أنها تجعل المرء قادرا على امتلاك امرأة وأطفال والمشاركة في الحرب، الخ.

    يعتبر هنود الـ Eddystone بأرخبيل سليمان[4] أن الصَّيد عملٌ من اختصاص الرجل، ولذلك يعتقدون أن الرجلَ الذي يخاف خوفا شديدا مثل امرأة لا يملك حق المشاركة في الصيد. فمثل هذا الرجل، في الواقع، هو «امرأة صغيرة»، وقد لا يعرف كيف ينجز بنجاحٍ المهامَّ الخاصَّة بالرجـل.

    والصيد برمي الصنارة نشاط مقصور على الرجال، فلا تقبَلُ النساء في القوارب المسخرة لهذا الاستعمال. في الإديستون لا توجَد طقوس للمسارة بالمعنى الدقيق، ولكن هناك احتفالات خاصة بكل مناسبة: بصيد سمك الطون، بالحرب، الخ. وفي الظاهر، لم يعد الإستونيون يؤمنون بأن الاحتفال يمنح الرجولة بشكل عام، بل صاروا يرون أن المرء لا يحتاج إلى الطقس لكي يصير رجلا بإمكانه أن يتزوج. وعلى العكس، تبقى التكريسات الطقوسية ضرورية للمرء نفسه لكي يصير صيادا أو قناصا ماهرا. ومع ذلك، يحدث ألا تتطور هذه الرجولة على ما يرام وأن يظل الشاب خوافا مثل امرأة. آنذاك، يطلق التعيسُ رائحة تجعل السمك نفسه يفر. لحسن الحظ أن الحالة تتوفر على علاج وأن وصفات سحرية مناسبة ستضع حدا لهذه العاهة؛ وقد التقيت برجل سبق أن خضع لهذا العلاج، فلم يعد يشكو من شيء، في الظاهر، بما أنه تزوج في أعقاب ذلك الحفل، وصار يشارك في جميع عمليات الصيد.

    وبحوزتي النص الكامل لوصفة سحرية من قبائل الـروفيانا Roviana تُستعمل في مثل هذه الحالات، وهو: «ضربتُ هذا الرجل؛ طردت منه ضعف المرأة؛ طردت منه الرائحة... فليبرأ هذا الرجل، وليسعد في الصيد؛ فليصر بمقدرته أن يحمل القعفات[5]، ويقبض على أعداد كبيرة من سمك الطون. فليتزوج امرأة. ولتكن الأمور على هذا النحو مع الرجل الذي أصبته. امنحوه حمايتكم، آه أيتها الأرواح».

    يتعلق الأمر هنا بوصفة ذات طبيعة أعم من وصفة الطب أو صلاة صياد الرؤوس أو صياد سمك الطون. فهي تجعل من الرجل رجلا فحلا. ويمكن أن نفكر في أن الأمر يتعلق بوصفة للمسارة، بقية طقس سقط في الإهمال ولكنه يستعيد كامل قيمته في حالة معاكسة الطبيعة.

    II. المسـارَّة والعــلاج

    أعرف فتاة لم يعمِّدها والداها بعد ولادتها، ولكن بعد ما اتضح لهم أن المولودة كانت ذات صحة ضعيفة غيروا رأيهم، فأنجزوا طقس التعميد، ومنذ ذلك الحين وهي في صحة جيدة «كأنها شفيت بقوَّة سِحْـر».

    نحن هنا أمام حالة تمارَس فيها المسارَّة عمليا لغاية طبية. وإليكم كيف يتم التوصل إلى ذلك: كل احتفال طقوسي يجب أن يكون خيِّرا، وطقس المسارَّة لا يخرج عن هذه القاعدة، ولكن التهاون أو نزعة الشك المتزايدة لدى العامَّة تفضي إلى نسيان التعميد في بعض الأحيان. وإذا لوحظ أن الطفل لا يعاني صحيا من ذلك الإهمال، فإن المثال يحتذى ويتزايد تدريجيا عدد الذين يعفون أنفسهم من ذلك الطقس. وعلى العكس، ما أن تسير الأشياء ليس على ما يرام حتى يحس الآباء بأنهم أذنبوا عندما خالفوا العادة، ويسارعون إلى إصلاح إهمالهم. وبما أن هذا الإهمال صار شائعا بشكل متزايد، فإن الطقسَ ينحو إلى أن يُختزل إلى ممارسة يتم اللجوء إليها في حالة الضرورة القصوى، كالمرض الخطير مثلا، أي يصير [الطقس] عِلاجا طبيـا.

    وهذا يفسر لنا لماذا «يلجأ مايا الهندوراس البريطانية إلى إقامة حفل للقضاء على المرض» (غان وتومسون، 1931: 139). للأسف أننا لانعرف جيدا العادة القديمة لنقارنها بالممارسات الحالية، ولكن من الواضح أن المبشرين الذين نجحوا في إضعاف إيمان الهنود بطقوسهم المسارِّية القديمة لا يستطيعون منعهم من الرجوع إليها بمجرد ظهور أعراض المرض الأولى.

    رأينا في الفصل السابق[6] أن سحر الإيدِسْتونيين ضد ضعف المزاج يمكن أن يرتبط أيضا بطقوس المسارَّة.

    وبالمثل، يُفهم لماذا يمارس الفيجيون عمليات طبية تشكل جزءا من طقس المسارة لدى سُود أستراليا. يمارس السكان الأصليون، في الواقع، مسارة على مرحلتين: الختانُ أوَّلا، ثم الختان الجزئي بفاصل وقت وطويل. والفيجيون لا يعرفون في الواقع إلا الختان، ولكن يبدو أن في فيتي ليفو Viti Levu، تعرف قبائل التلال الختان الجزئي الطبي. إذا صدَقَ الشخص الذي زوَّدني بالمعلومات[7]، فإن العملية نفسها قد تكون أقل حسما من ختان جزئي حقيقي، ولكن يحُتمل أن الأمر يتعلق بعملية من النوع نفسه. قد يكون الفيجيون تخلوا عن القسم الثاني من الطقس المساري، وبقي - ربما - مع ذلك في بعض الحالات الخاصة.

    يمكن أيضا دِرَاسَة تطوّر الفصد[8]، الذي يُعرف شيوعه في الممارسات الطقوسية وفي حفلات المسارة على الخصوص. [أما] عندنا فيقتصر على علاج بعض الأمراض. وسيرورة التطور تظل هي هي في الحالات السابقة، باستثناء أن هذا الفصد لم يكن يُمارس على القضيب (pénis).

    رأينا للتو أن المسارَّة يمكن أن تظهر من جديد، في حالات استعجال قصوى، متخذة شكلَ عِلاج طبي. بيد أن هذا التطور يمكن أن يتم في ظروف أخرى: إذا ما دعت حاجة للإسعاف، فإن المرء يستدعي أولا طقوسه الخاصة، ولكن إذا تبدت كلها - الواحد تلو الآخر - عديمة الفعالية، فإن اليأسَ يدفعه إلى البحث عن شخص يحتفظ بوصفات جدية، على نحو ما كانت تُجرَّب العلاجات الآتية من الخارج. هكذا، انقل فويتازو Vuestasau، وهو أحد الأعيان الفيجيين، إلى الديانة المسيحية، وتبعه سائر سكان لاكيمبا Lakemba. كان لفويتازو فتاة مرضت طويلا إلى أن يئس من شفائها. تضرع في البداية طبعا إلى جميع آلهة أجداده، ولكن صلواته ظلت بدون جدوى. ولما رأى أن الإله المسيحي نجح في شفاء ابنته، تنصَّر هو وجميع شعبه. وهذه القصة هي قصة العديد من الذين تخلوا عن ديانتهم القديمة ليعتنقوا دينا جديدا.

    يذكر البروفيسور م. أ. كاني M. A. Canney حالة رجل إسرائيلي استعاد صحته بواسطة تعميد عبراني، بعد أن تبدت جميع طقوس بلاده عديمة الفعالية.

    يمثل تاريخ الختان في الغرب خطاطة ثالثة. نعرف حاليا أن هذه العادة كانت تدخل في إطار طقوس المسارَّة. واليوم لا زال يُعتبر الختان أحد المراحل التي يتكون منها الاحتفال المساري، ولكنها طبعا المرحلة الأكثر إثارة لدهشة سائر الذين لا يمارسون أي شيء مماثل. ناسين كل الباقي، يفتتنون بهذا الطقس الغريب الذي يتعين عليهم أن يجدوا تبريرا له بثمن غال؛ والمنظرون يبحثون عن تفسيرات «عقلانية»، أي مطابقة للمبادئ الفلسفية للعصر وللطبقة المهيمنة. إن فلسفات القرن XVIII لم تكن تقسم إلا بالوقاية الصحية، ومن تمَّ رُدَّ الختانُ إلى حكمة مُشرِّع ما قد يكون وَجد في هذه الممارسة وسيلة لتحسين المستوى الصحي لشعبه. أما الأساطير والطقوس التي كانت ترافق العملية، إذا ما تمَّ التلميح إليها فذلك للتشديد على مهارة المشرع المذكور الذي - عبر هذه الوسيلة - عرف كيف يجعل الإصلاح يحظى بالقبول من لدُن شعبٍ قليل الانشغال بالوقاية الصحية، ولكن له دائما حَساسية تجاه العجيب. لقد انتشر هذا التفسير بما جَعَل عددا كبيرا من المسيحيين يتبنون الختان، ولكنهم كانوا يهملون طبعا جميع الطقوس التكميلية مع أنها في الأصل لا تنفصل عن العملية ذاتها. بما أنها ليست ذات طبيعة «وقائية صحية»، فإنها كانت بالتالي ليست ذات فائدة.

    يُظهر هذا المثال جيدا كيف يتحوَّل طقسُُ مَّا إلى علية جراحية، و - بكيفية أكثر تحديدا - كيف يجدُ كل طقس مُسارِّي مرتبطٍ بهذا القدر أو ذاك بالرجولة، (يجد) نفسَه مختَزلا نهائيا وبكيفية حصرية إلى «شعيرة للوقاية الصحية».

    والسيرورة هنا تختلف عن نظيرتها في الحالة الأولى. الخوفُ هناكَ هو ما أحيا الطقس القديم، أما هنا فشعبُُ أجنبي عن هذه العادة هو الذي لاءَمَها مع سياق لا قيمة له في نظره، أو مع سياق ناء جدا عن ذهنيته. وحدها العملية استجابت لذوق اليوم.

    بعد تجريد حلقة طقوسية مَّا من كل ما كان يمنحها معنى، و(بعد) إعادة تفسيرها، فإنها تصير في أعين مكيِّفيها «فعلا عقلانيا» بالتقابل مع العمل السحري، وهو ما ليسوا بمخطئين فيه ماداموا - لإدماج هذه العادة - اضطروا لإعادة تفسيرها على ضوء نظام من القيم مختلف تماما عن النظام القديم. إذا بدت لهم عادة من العادات خيِّرة، فلأنها لن تكون إلا عقلانية. عندما يتخصص حفلُُ طقوسي مُوجَّه في الأصل إلى منح الرعاية القدسية بكيفية عامة، عندما يتخصص في علاج علةٍ خاصة، فإنه يصير في هذا النظام الجديد منتميا إلى «الطب العقلاني».

    تـُعَدُّ هذه الطريقة في تحديد الأشياء طريقة شقية على الخصُوص. إنها نتيجة سيكولوجية مَغلوطة تريد تقسيم العقل إلى خانتين محكمتي الإغلاق، إحداهما لما هو عقلاني والأخرى لما هو سِحري. إنها تفترض أنَّ فكر الإنسان كان في السابق مشغولا كليا بالخانة العقلانية، ولكن الخانة السحرية تطوَّرت بإفراط إلى أن اجتاحت حياة العقل بكاملها: سيقال بلغة بعض علماء الاجتماع: «جاء الدين ليتدخل حتى في أقل تصرفات العقل». منذ ذلك الحين، طبعا، دفعَ الإنسانُ المتطور حدودَ ما هو سحري إلى تلاشيه التام، لدرجة أن عقولنا اليوم لم تعد تتصور إلا ما هو عقلاني!

    ولكن كفى فلسفة! لنعد إلى الوقائع منذ البداية. في الأساس، هناك الإنسان الذي يطلب الحياة في صلاة ردئية الصياغة، عامة جدا، لا يتمنى منها أي شكل محدَّد من النجاح، ولكنها تتبدى على العموم خيِّرة. في نهاية التطور، نجد تقنيات شديدة التخصص لا تعالج إلا حالات خاصة: الانتصار على الأعداء، النجاح في الصيد، بل وحتى في صيد نوع محدَّد من السَّمك دُونَ غيره، علاج أوجاع البطن، الخ. ينتج عن هذا التخصص المتطرف أن منهجا مَّا يمكن أن يتضح فعالا في إطار تخصصه المحدود، ولكن عديم الفعالية خارجه. في فيجه، يحقق طقسُ التكريس الأكبر أثرا منعشا للشعب بكامله، بيد أنه لا يشفي الاحتقان. أما الفصد، فعلى العكس، ليس له أيّ حمولة اجتماعية ولكنه يُحتمل أن يكون فعالا في مداواة الاحتقان.

    في الواقع، تكون أفكارنا حول الظواهر الثقافية دائما مُشبَعة بالفلسفة وقليلة الارتكاز على الملاحظة. نعود دائما إلى هذا التمييز بين الشأنين السحري والعقلاني. حديثا، أكد الدكتور هوغو هوروتز Dr Hugo Horwitz، في مقال حول التكنولوجيا (أنثروبوس، 1933) - وهو أجود ما كتب إطلاقا في المادة - أكَّدَ أنه لا يمكن لتدخل تقني ما أن ينشأ من مفاهيم ميثولوجية - طقوسية. وهذا تأكيد مدهش على الأقل عندما نضع الختان نصب أعيننا.

    من جهة أخرى، يعتبر مفهوم «السحري» أو «العقلاني» مفهوما ذاتيا خالصا، وبالتالي أجنبيا عن عِلم كالبيولوجيا، إذ يتحدث البيولوجي عن التعميم أو التخصص، وهما مفهومان موضوعيان. يُطوِّرُ الاختصاصُ المردوديةَ على حساب الكونية والليونة. في وقتٍ لا يقع فيه التأكيد سوى على المردودية، يبدو هذان الشكلان من التخصص عقلانيين تماما، ولكن من يدري؟ ففي غضون بضعة قرون، قد يبدوان لاعقلانيين كليا. ليس دور الباحث هو أن ينصِّبَ نفسه حَكما، وبالمقابل عليه أن يكتفي بملاحظة مراحل للتطور يمكننا تمثيلها إجمالا على النحو التالي:

    طقـُوسٌ عامَّـة للنجَـاح

    ربـح أخـلاقـي

    طقس أخلاقـي

    «متخصـص»

    طقـوس احتفاليـة
    تـراتيــل

    أدب
    بتـر الأعضاء

    جِراحَـة
    تنـاول القـربان، الخ.

    الطـب


    لما كنتُ أحرِّرُ هذه السطور اطلعتُ على حكاية وددت إدراجها هنا لأنها تبين بكيفية جيدة كيف يمكن بعثُ القربان لغايات علاجية. يتحدث [رجلُُ] شاوني[9] قائلا: «أهملنا العادة أولا لما سمينا أطلقنا على ابننا اسم أرثور، إذ اكتفينا بتكليف امرأتين بالسَّهر ليلة بكاملها، ثم مَنح المولود اسم أرثور... ولكن عندما سقط أرثور مريضا، فهمنا أنه كان الأفضل القيام بالأشياء حسب الأصول، ومن ثمَّ عقدنا بَيتولا[10] وأطلقنا على المولود اسما جديدا» (الأنثروبولوجيا الأمريكية، 1935).

    III.خـواص الوشـم العلاجيـــة

    ليس من النادر ممارسة ماكياجات عالمة في إطار احتفالات طقوسية، أما عمليات حزّ الجلد فهي شائعة جدا وتتخللُ طقوسَ البلوغ والموت بالخصوص. والوشم تأليفُُ بين هذين الإجرائين ولا يتدخل مبدئيا إلا في سن البلوغ. موضوعُه في الأصل كان موضوعَ كل ممارسة طقوسية، ونعني به جلب الحياة.

    في مصر يستعمل الوشم لغايات خاصة جدا، في علاج أمراض محدَّدة كشفاء التوعكات التي تتسبب فيها رائحة السمك المقلي، مثلا، ويضيف ميس بلاكمان (بلاكمان: 23) أنّه قد يكون للوشم فعالية في القضاء على وجع الرأس، وسُعار الأسنان، والضعف البصري، ومسّ الجن أو الأرواح.

    لكن على ماذا ترتكز قناعتي بأن جميع هذه التطبيقات الخاصة يجب ربطها بطقوس المسارة؟ أولا، على كون الوشم يمارَس أيضا في مصر، كما في الدول المجاورة، بنيَّة المُسَارَّة. ينتاب بلاكمان إحساسُُ بأن أشكال الوشم في مصر تُعتبر دائما علامة رجولة، أي على علامة الـ «sex appeal» (ويلمور: 365). وتظهر لنا دراسة مقارنة للمسارَّة أن هذا الطقس يكرس صاحبه باعتباره رجلا أو امرأة، أي يمنحه - ضمن ما يمنح - قوة جنسية أو خصوبة. ليس هذا سوى جانبٍ واحد من «القوة الحيوية» التي يُغدقها التقرب القدسي، ولكنه يمكن أن يقترن اقترانا كبيرا بالوشم على الخصوص. وهذه القيمة الجنسية واضحة جدا في إحدى عادات مصر العليا: عندما تموت فتاة بكر في سن الزواج، يرسَم على وجهها ويديها زخارف تصطنع وشما - «على هذا النحو تكون مزيَّنة أو جاهزة، لأنها إذا استحقت أن تحظى بالقبول بين حور الجنة نالته» (وينكلر: 133). بعبارة أخرى، يتم إجراء غسلها الزفافـي.

    في العراق يُقال إن الوشم يساعد على الحمل (الأنثروبولوجيا الأمريكية، 1937). وهنا أيضا نعود إلى طقوس المسارة، أي إلى الطقوس الأساسية للتفتح الجنسي للـرجل والمرأة على حد سواء.

    في العراق دائما، إذا فقدت المرأة أطفالا عديدين أملتْ في إنقاذ مولودها الأخير باللجوء إلى وشمه. وهو تصرف منطقي مادامت المسارة، بالصفة نفسها التي لسائر التقربات القدسية الأخرى، هي «مصدر للحياة». هنا يتدخل معتقد آخر يمكن أن يعدل كليا معنى العملية. ففي إحدى القرى يحمل الشباب أشكال وشم خاصة بالبنات: بهذه الحيلة، يُأمل أن تصرَف عنهم العين الشريرة التي قلما تنشغل بالجنس الضعيف. ومثل هذا الإجراء يمضي كليا ضد روح الطقس الأولى، وهي رفع الطفل إلى حالة الرجل بمنحه كل ما يختص به الرجل.

    بين أتباع سان توماس من يرفضون الإيمان بما سبق لأنهم لا يفهمون كيف تمَّ الانتقال من الوشم - طقس مسارَّة - إلى التطبيقات الضيقة الموصوفة أعلاه. لكن للأسف إني لأخاف ألا تمسهم الرعاية القدسية أبدا، لأنهم إذا كانوا يأملون مباغثة التطور في غمرة اشتغاله، فإنهم يجازفون بالانتظار الطويل! التطور؟ هم يؤمنون به بقوة لدرجة أنهم انتهوا بجعله مفهوما ملموسا، جليا. في الواقع، إنهم لا يرون سوى تعددية من التطبيقات الخاصة التي تفترض ضمنيا وجود قاعدة. وذلك كل ما يجب انتظاره من الدراسات الإنسانية: نظرية تنطبق على جميع الحالات وتصاغ بأبسط طريقة دون ذكر أي سيرورة لم تبينها الملاحظة سلفا.

    نعرف أن موضوعَ المسارة تمكينُ النضج من الوصول إلى كمال نموه. من جهة أخرى، رأينا في الختان أنه يتم أحيانا عزلُ عنصر من طقس المسارة ليُستخدَمَ استخداما خاصا. ربما كان الأمر كذلك بالنسبة للوشم. وفي جميع الأحوال، من المباح لنا ان نصوغ هذا الافتراض. ومذ ذاك، نرى جميعا أجزاء المربكة[11] تجتمع لتكوِّنَ جدولا بسيطا ومفهوما. يمكننا الآن الحصول على أفكار حول المسألة.

    يصنف الأنثروبولوجيون جميعا أمثلة الوشم المذكورة أعلاه تحت علامة واحدة هي كونها «أعمالا سحرية»، ومعناه ضمنيا أنها بدون فائدة. وإذا ما أنتجت مفعولا ما، فإن الحديث يتم طبعا عن «الطب التقليدي». ولكن تخيلوا أن يُكتشفَ - وهذا يمكن أن يحصل - أنَّ الوشم يمكن فعلا أن يهدئ وجع الرأس. سنضطر آنذاك للاعتراف له، على الأقل في هذه الحالة المحدَّدة، بتوفره على قيمة «علاجية عقلانية»، فيما تظل قيمه الأخرى مُدرَجة ضمن مجال «السحر»! ليس لنا الحق في إجراء تصنيف انطلاقا من مجرد حكم قيمة، بيدَ أنَّ التمييز بين ما هو سحري وما هو عقلاني لا يعدو مجرَّد مسألة تقدير ذاتي؛ فالمصريون يرون أن الوشم ممارسة شديدة الفعالية. علاوة على ذلك، هم مستعدون للبرهنة على ذلك بأمثلة ملموسة تماما، فيما لا يسعى الطبيب الأوروبي ولو إلى تبرير رأيه. ولا شك أن له من الأسباب الوجيهة ما يجعله يتصرف على هذا النحو. فهو برفضه فحص المسألة إنما يتحاشى تضييع وقته في أبحاث يقدِّرُ سلفا أن لا طائل من ورائها وأنها عقيمةكليا. ولكن رأيه لا يعدو مجرَّد رأي يمكن أن يتغير في كل لحظة. هناك معايير أخرى غير معايير كلية الطب.

    ثمة فرق ملموس بين تصورنا للختان المبني على الوقاية الصحية، من جهة، والقيمة العلاجية التي يمنحها المصريون للعلاج من جهة ثانية. فبعد عزل الختان عن النظام المسمَّى مُسارَّة، أدمجناه في نظام آخر من القيم مرتكز على الوقاية الصحية. في مصر، انفصل الختان عن النسق دون أن يسترجعَه نظامُُ آخر. لا ننسَ أنَّ لا أحد - في حدود علمي على الأقل - سعى في يوم من الأيام إلى معرفة هل هذا النسق، هو الآخر، طاله الإهمال. ومختلف تطبيقات الوشم ربما لم تعد اليوم بالفعل سوى des disjecta membra.

    إذا كان الحال على هذا النحو بالنسبة لمصر، فإننا في العراق، على العكس، عثرنا على نسق آخر أسميناه مذهب العين الشريرة. هذا التصور الجديد ربما يبدو لنا هو الآخر «سحريا» مثل الأول. على الأقل، تبقى السيرورة هي نفسها تماما في حالة الختان؛ تم إعادة تفسير عادة قديمة على ضوء نظريات جديدة. إن مثل هذه السيرورة شيء موضوعي، وذاك ما يجب أن يكون القاعدة الوحيدة لأي تحليل علمي.

    ـــــــــــــ

    الهـوَامِـش والمـراجــع

    - Anthropos, 1933.

    - American Anthropos, 1935.

    - American Anthropologie, 1937.

    - Blackman (W.),

    The Fellahin of Upper Egypt.

    - Gann (T.) et Thompson (J. E.)

    1931, History of Maya, Londres.

    - Wilmore (J. S.),

    The Spoken Arabic of Egypt.

    - Winckler (H. A.),

    Bauen zwischen Wasser und Wüste.

    الرجوع إلى فهرست محتويات كتاب السحر من منظور إثنولوجي





    --------------------------------------------------------------------------------

    [1] تشكل العناصر الثلاثة التي تتألف منها هذه الدراسة، في الأصل، فصولا مستقلة، وقد ارتأينا ضمها إلى بعضها وإخراجها بالشكل الحالي نظرا لتقارب مضامينها ومواقعها في الكتاب الأصلي. انظر قائمة العناوين الأصلية للدراسات ومصادرها في مستهل الكتاب الحالي. (م).

    [2] فيجـه: «أرخبيل يقع في المحيط الهادي، من أصل بركاني ومرجاني، يتألف من أربع جزر كبرى، ومئات الجزر الصغرى. تبلغ مساحته حوالي 274 18 كلم2 كانت فيجه مستعمرة بريطانية من 1874 إلى 1970. يتألف سكانها من أعراق متعددة، أهمها الهنود الذين استوردت الإدارة البريطانية أعدادا كبيرة منهم، منذ 1879 وإلى 1916 بإيقاع 2000 مهاجر في كل سنة، وذلك بهدف تزويد مزارع قصب السكر بعمال منتظمين. عن موسوعة Universalis، ط. 1995. (م).

    [3] les Omaha: «سكان هنود من الولايات المتحدة، يتكلمون لغة من عائلة السيو، كانوا في بداية القرن XIX يقيمون في الضفة اليمنى من نهر ميسوري، ثم انزووا محتشدين في محمية تقع في هذه المنطقة من نبراسكا. يمثل تنظيمهم الاجتماعي نموذجا مرجعيا في النمذجة التي وضعها مردوخ عام 1949». ميشال بانوف وميشال بيران، معجم الإثنولوجيا (بالفرنسية)، م. س. (م).

    [4] Salomon: جزر جبلية، بركانية في معظمها، تقع في غرب بابوازيا - غينيا الجديدة. كانت من بين أولى جزر المحيط الهادي التي اكتشفها الأوروبيون. اكتشفها عام 1568 ملاح إسباني انطلق من البيرو بحثا عن جزر النبي سليمان العجيبة، ثم تعاقب على اكتشافها ملاحون فرنسيون وإنجليز، لتصير بعد ذلك مستعمرة إنجليزية ابتداء من عام 1898 إلى سنة 1978. دارت فيها معارك شرسة إبان الحرب العالمية الثانية بين الحلفاء واليابانيين. وقد تعرض أهالي جزر سليمان لتصدع نفسي، من جراء لقائهم القوي والمباغث مع التقنيات العصرية والرخاء الأمريكي، الأمر الذي ترتب عنه ظهور ما يسمى بـ «عبادات السفينة الشاحنة»، تتوقع عودة العصر الذهبي. عن موسوعة Universalis، ط. 1995. (م).

    [5] ج. قعفة: آلة حربية تشبه قحف السلحفاة كان المحاربون يدخلونها ويتقون بها النبال. (م).

    [6] تحت عنوان «المسارة والرجولة»، وقد أدرجناه ضمن الدراسة الحالية. (م).

    [7] الـ informateur: اسم يطلق على الشخص (أو الأشخاص) الذي يزود الإثنوغرافي الأجنبي عن مجتمع دراسته بالمعلومات التي يحتاج إليها بصدد موضوع بحثه، والتي يدونها في ما يسمى بـ «يوميات البحث Journal d’enquête» تمهيدا للعمل التحليلي (الإثنولوجي) الذي يبدأ عادة بعد عودة الباحث إلى مجتمعه الأصلي. (م).

    [8] الفصـد: علاج تقليدي، يستخدم عادة للوقاية ولعلاج بعض الأمراض. وتتم العملية عموما (في المغرب على الأقل) على النحو التالي: «يشد رباط على الموضع المطلوب حتى يظهر العرق من خلال نبضه، ثم يخرق العرق أو يقطع فيرسل من الدم القدر المناسب، وبعد ذلك يوضع على العرق قطن ويشد حتى يشفى». عن نادية بلحاج، السحر والتطبيب في المغرب، الرباط، الشركة المغربية للناشرين المتحدين، ط. I، 1986، ص. 65.

    [9] نسبة إلى الـ Shawnee: أحد شعوب هنود أمريكا الشمالية. حوالي عام 1700 كان أهاليه يعيشون في أوهايو الحالية، ولكنهم تعرضوا للطرد من قبل الإيروكوا، ومنذ ذلك الحين افترقوا، فهاجر بعضهم إلى فلوريدا، ثم إلى الطيكساس، فيما التحق آخرون بجورجيا... كان أوائلهم يعيشون صيفا في قرى منازلها مغطاة بلحاء الأشجار، وكانت النساء تشتغل بالزراعة فيما كان الرجال يشتغلون بالصيد. أما في الشتاء، فكانوا ينقسمون إلى معسكرات صغيرة للصيد. كما كانوا ينتمون إلى عشائر وعائلات ذات نسب خطي أبوي. واليوم يزاولون الزراعة والتربية في المزارع الكبيرة. بعضهم صار بروتستانيا، ولكن العديدين منهم لازالوا يعتنقون ديانات تقليدية. عن موسوعة Encarta، ط. 1997. (م).

    [10] Peyotle: «اسم يطلق على صبَّار صغير من المكسيك وجنوب الولايات المتحدة الأمريكية (...) وعلى المخدر المثير للهلوسة والهذيان المستخلص منه (la mescaline). مثل الكوكا، يستعمل البيتول بمثابة منشط مخفف للجوع والتعب، أو باعتباره دواء، ولكنه معروف على الخصوص بخاصياته المثيرة للهلوسة التي توجد في أصل ممارسات طقوسية تجمع تحت اسم «عبادة البيتول» (...) وبما أن استهلاك البيتول يقود إلى حالات نفسية خاصة، فإن بعض الإثنيات اعتبرته تجسّدا لألوهية معينة، ومن ثم اختلفت استعمالاته. فبعض القبائل تأكله طقوسيا، بينما يعمد هنود أمريكا الشمالية إلى تدخينه طوال احتفالات طقوسية مخصَّصة للرجال، تتضمن جلسات تطهيرية وأغاني ورقصات». عن: م. بانوف وم. بيران، معجم الإثنولوجيا (بالفرنسية)، م. س. (م).

    [11] المربكـة (puzzle): نوع من لعب الورق معقَّد. (م).
    "أن تشعل شمعة خير من أن تلعن الظلام"
    كونفوشيوس (ع)

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Nov 2002
    المشاركات
    4,192

    افتراضي

    ألفـرد ميتـرو

    الشَّامَانية عندَ هُنود الشَّاكو الأكبـر[1]





    غالبا ما تكون شهرة الشامان نتيجة نداء فوق طبيعي يتجلى عبر لقاء مع أحد الأرواح. وبحسب قول أحد المخبرين الذين التقيت بهم في منطقة الطوبا Toba، فإن الشخص الذي يتجول في الدغل يمكن أن يجد نفسه فجأة وجها لوجه أمام جني مجهول، يكون في الواقع روحا، يسلمه عصا وريشا وهو يقول له: «يمكنك الآن أن تغني. بمجرد ما تعود إلى بيتك غنِّ من أجلي».

    كما يمكن للوحي الماورائي أيضا أن يُترجم بارتعاش مزمن يستحوذ على المرشح عندما يكون وحيدا في الغابة. وتلك علامة على كون أحد الأرواح يوجد بداخله. تحت تأثير هذا المس يأخذ الشخص - الذي سيصير شامانا فيما بعد - في تسلق الأشجار وتناول لحوم الطير أو الكلاب طازجة. كما أكد لي المخبر الطوبي نفسه، رغم أني أشك في صدقه، أنه هو نفسه تستحوذ عليه هذه الارتعاشات. وأضاف أن جميع الأشخـاص الذين تستحوذ عليهم الارتعاشات لا يصيرون بالضرورة شامانا، وهو ما يبدو لي أكثر صحة.

    من المحتمل أن تكون إوالية النداء الباطني الماورائي واحدة عند هنود الماطاكو Mataco، رغم غياب الدقة في المعلومات التي تلقيتها بهذا الصدد. فهي معلومات تقتصر على النساء اللواتي لا يصرن شامانا إلا في حالات قليلة جدا. واللواتي يعينهن أحد الأرواح للقيام بهذه المهنة يُعرَفن من خلال تصرفاتهن. فهن يمكثن ساعات كاملة مُقعيات فوق الأرض، يتأرجحن دون توقف. وأخيرا فهن يحاولن الهروب في الدغل بقوة تكون من الشدة بحيث يعسر على جماعة كبيرة من الرجال أن يمسكوهن. فهن يمزقن ثيابهن ويتسلقن الأشجار حيث يمكثن أياما عديدة وهن يغنين ويتأرجحن.

    إذا صدقنا الأشخـاص الذين أخبروني من قبائـل الطوبـا والماطاكـو، فإن ما من شخص رغب في الانخراط في مهنة الشامان إلا وأمكنه التهيؤ لذلك عبر اختلاء في الغابة حيث يتيه في مغامرة متعاطيا فيها للـزهد الموصوف أعلاه. بمعنى أنه يتعين على الشامان المرشح أن يتسكع عاريا، ويتأرجح فوق الأشجار ويأكل اللحوم النيئة والكريهة مثل آذان الكلاب، والثعابين والضفادع. يجب عليه أن يخضع لضروب من تقتيل الجَسَد بالتعذيب الذاتي أو بكبح الشهوات إلى أن يحصل على نشيد سحري. وقد زوَّدني شيخ قبيلة الماطاكا المسمى بيدرو، والذي تم اغتياله فيما بعد، حول مسارة[2] الشامان معلومات إن لم تترجم حقيقة الممارسات التي يحترمها ويزاولها الأهالي فهي تترجم على الأقل وصفات مثالية من أجل الحصول على أغاني سحرية. وها هي تلك المعلومات: يجب على الشامان المبتدئ أو المتعلم أن يقتل طيورا بواسطة أغنية شجية، أن يحول الطيور إلى فحم وأن يبتلع مسحوق الفحم هذا ممزوجا بالدم المستخرج من يده. خلال تدريبه داخل الدغل، يؤمَرُ بقرع الطبل وإطلاق ساقيه للـريح. والويل كله لمن يستيقظ قبل أن يُتمَّ الطائرُ نشيده، لأنه إن فعل استحال عليه أن يتذكر النشيد الذي استمع إليه. وأحيانا تلتحق بالغابة جماعات من الشبان كي يحصلوا على نشيد سحري. وفي اليوم الموالي ينشدون بالتناوب الأغنية التي تلقوها أثناء نومهم. وهكذا فهم يرددونها باستمرار على امتداد أيام عديدة خشية نسيانها. ولا أحد يستطيع أن ينشد أغنية تنتسب إلى غيره. وأضاف شيخ القبيلة بيدرو: «إن الطيور التي يراها المرء في الحلم ليست طيورا عادية، بل هي كائنات فوق طبيعية». بعض الأحلام تكون شؤما وتحطم تأثيرات الأحلام سعيدة الطالع. فمثلا، من المشؤوم أن يشاهد المرء في الحلم إغوانة[3]، لأن في ذلك علامة على أنه لن يصير أبدا مغنيا جيدا - أي شامانا جيدا.

    وتلتقي أقوال بيدرو مع المعلومات التي جمعها المبشر و. باربروك غروب W. Barbrooke Grubb لدى هنود اللينغوا Lingua. فقد أكدوا له أن الشامان المبتدئ كان يتغذى بالطيور التي نُتِفَ ريشها وهي حية، وذلك لكي يَبتَلع قدراتها الموسيقية.

    في جميـع هذه الحكايات، لا يتعلق الأمر بمدرِّب رغم ما ينتابنـا من إحسـاس بأن المرء لا يمكن أن ينال الفن السحري دون توجيه معلم. وقد وصف لي أحد الأشخاص من قبائل الطوبا مشهدا - أكد لي أنه كان شاهدا فيه - يوحي بتدخل معلم صاحب حنكة وتجربة. وقد كان الحفل الذي وصفه لي يهدف إلى تكريس مجموعة من المبتدئين باعتبارهم شامانا. فبعد أن انتهى شامان - يحظى بشهرة - من الرقص والغناء دسَّ في صدر كل مرشح عصا «كانت تغيب في اللحم دون أن تترك أي أثر». وكان المعلم يكرر العملية نفسها بعصا مماثلة لا يعلم أحد من أين كانت تجيء. وقد فُسِّرَ لي أنَّ «تلكَ العصا كانت تَمنَحُ القوة، وأنها تحتوي على الدم لأنَّ المرءَ متَّى عضَّها سال منها دم. وهذه العصا نفسها هي ما يستخلصه الشامان من جسد المرضى الذين يعالجهم». وليس هناك أدنى شك في أن هذه العصا السحرية هي المعادل لبذور الكوارتز، وهي شبه مسامير أو أشواك ينحشي بها شامانُ قبائل الغويا والأمازون ومريدُوهم. وما أن يصير هؤلاء شامانا بقوة القانون، حتى يستعملون هذه الـشظيات التي يحملونها بدواخلهم لتسليط المرض والموت على أعدائهـم.

    لا شك أنَّ مرحلة المسارَّة[4] هي الفترة التي يقيم الشامان خلالها علاقة مشاركة روحية مع شجرة غريبة تنبت في جزيرة تتوسط بحيرة عاجَّة بالقواطير[5] والضارات[6]. وقد تحدث لي أشخاص كثيرون من الماكاطا، بمن فيهم شيخ القبيلة بيدرو، عن هذه الشجرة بكلمات غامضة جدا. غير أنهم يتفقون، مع ذلك، في النقط التالية: تأتي الأرواح وتحط كالطيور فوق أغصان هذه الشجرة التي تُخَضُّ خضّاً مستمرا ينشأ عنه وضع خطيرُُ، هو: ويلُُ للروح الذي يسقط في البحيرة، إذ فور سقوطه يتعرضُ للالتهام في رمشة عين. يجتاز الشامان هذا الامتحان بالتحول إلى عظاية[7] أو حيوانات أخرى تسكن الأشجار. وبهذه الهيأة ينجحون في الالتصاق بالشجرة وتجنب السقوط القاتل. وطبيعة العلاقة بين الشجرة والشامان ليست واضحة تماما، غير أني سمعت في مناسبات عديدة أن الشامان ليس له ما يخشاه طالما ظلت هذه الشجرة - أو أحد أغصانها - خضراء. وعندما يرى الشامان في الحلم هذه الشجرة قد تصلبتْ وجفَّتْ، فإنه يَعلم أن أجله قد حـان.

    لنقارن الآن هذه المعطيات بالمعلومات التي نتوفر عليها حول التَّرَهـبُن الشاماني في قبائل أخرى من منطقة الشاكو. فعند هنود الكاسكيها Kaskihل (أو الغوانا Guana) الذين يقطنون منطقة الشاكو الواقعة في الباراغواي، يصوم الشامان المبتدئ ما يناهز ثلاثة أشهر. وهذا الاختبار يُقسم إلى فترات متعاقبة من الصوم الكامل تتخللها فترات قصيرة يباح فيها للمرشَّح أن يشرب الماء ويأكل بطاطة حلوة (هاسرل، 1894: 356-367).

    لقد ترك لنا رحالة سويسري جدولا أكثر شمولية بصدد مُسَارَّة الشامان الكاسكيها، لكن، للأسف، لا يمكن التحقق من دقته. قد تكون مهنة الشامان وراثية في هذه القبيلة. عندما يصل ابن شامان ما إلى سن تعاطي المهنة العائلية، يبني أبوه كوخا صغيرا، ثمَّ يضع في كل ركن من أركانه أوعية تحتوي على بخور سحرية تتنوع طبيعتها بحسب جهاتها الأصلية. خلال خمسة أيام يكون الكوخ محرما على الجميع، باستثناء الشامان. وفي اليوم الخامس يُساق الشامان المبتدئ إلى داخل الكوخ في غمرة صراخ النساء وزعيقهنَّ. يجد في الوسط وعاءً احتفاليا سبق وأن تعرَّض للتعديل حسب قواعد صارمة جدا. يملؤه الأب بمحتوى الأوعية الأخرى مبتدئا بالوعاء الموجود في الركن المتجه نحو الغرب، وآنذاك يشرب المبتدئ هذه العصيدة المقرفة. وعندما ينتهي، يكسِّرُ أبوه الوعاء فوق رأسه. يمكث المسارُّ عدة أيام معتزلا داخل الكوخ وهو موصدُُ عليه، ويصوم فيه صياما قاسيا. وتكمن قدرة الشامان بالخصوص في لعابه الذي سبق إشباعه بالقوة السحرية للمشروب الذي تناوله خلال مُسارَّتِه. والشامان الذين يسعون إلى التخصص في علاج لسعات الأفاعي يتعين عليهم أن يمتصوا أفاعي ويأكلوا لحومها.

    يبدأ تعلم الشامان من أهالي الطيرينو Tereno منذ الطفولة. خلال السنة الأخيرة من خُلوته، يجب عليه أن يمتنع عن أكل اللحم، والشحم، والملح، والمنهيوت[8] والفواكه. وفي يوم معين، ينتزع الأستاذُ من فم الشامان المبتدئ ضفدعة، وثعبانا صغيرا، ورُثيلاء[9] ويقدمها له كي يأكلها. أخيرا يجب على المبتدئ أن يغني ليلة بكاملها إلى أن ينكشف له روح شامان ميت (هـ. أ. راتراي، 1928: 126-127).

    نفتقر إلى تفاصيل حول خُلوة الشامان مبايا Mbayل. إلا أننا نعرف، بفضل سانشر لابرادور (1910-1917، مج. II: 33)، الحفل الذي يطبع نهاية مسارته. عندما كان يُقبَل شامان ما لمزاولة فنه كان جميع زملائه الذين سيصيرون بدورهم شامانا في المستقبل يجتمعون في كوخه حيثُ يقضون الليلة بكاملها وهم يغنون أغنيات خاصة بهذه المناسبة. واليوم الموالي كان يُخَصَّصُ لمباهج وتسليات على نفقة المرشح. وبينما يكون الشامان الآخرون بصدد شرب النبيذ، لا يكف هو عن الغناء بصوت خشخيشته (maraca)[10] ليظهر عِلمَه. ويستمر على هذا النحو إلى صبيحة الغد، مبرهنا على يقظته وعلى جَلَدِه بالخصوص.

    [I] نســاءٌ شامــان

    نادرا ما صادفتُ نساء شاما خلال رحلاتي في الشاكو الأكبر. حقا لاحظتُ امرأة تقوم بتمريرات سحرية على جسد طفل لدغه ثعبانٌ، لكن العلاج بمعنى الكلمة لم تقم به هي وإنما قام به شامان محترفُُ. وفي كل مرَّة كنتُ أغادر قرية البيلاغا Pilaga للـنزهة، كانت عجوزتان تأتيان للرقص والغناء من حوالي لضمان سعادة حظي. وتشير حالات التجلي فوق الطبيعي التي تعرفها بعض نساء قبيلة الماطاكو إلى أنهن يمكن أن يُدعين لكي يصرن شامانا. غير أنني لم أعرف أبدا نساء ماطاكيات يمارسن الطبّ أو وظيفة أخرى خاصة بالشامان. غير أن حضارة هؤلاء الهنود توجد في حالة من التقهقر بحيث قد يكون من باب المخاطرة تفسير الماضي بالحاضر.

    يحدثنا دوبريوهوفر Dobrizhoffer في مناسبات عديدة عن نساء شامان لدى قدماء الأبيبون Abipon ويصفهن لنا وهنَّ يعملنَ. لكني أعتقدُ أنَّ الأب اليسوعي قد غالى في موضوع الساحرة، لأن اللواتي يعتبرهُنَّ ساحرات يُحتَمَل جدا أن يكنَّ عجائز كان لإنشادهن ورقصهن بالتأكيد أثرٌ علاجي على غرار الممارسات المماثلة التي كانت تتعاطى لها النساء البيلاغيات. وتلك الوظائف لا تعني أن «الساحرات» المزعومات كنَّ شامانا بنفس صفة الرجال. بحسب الشهادة الشفهية لسانشس لابرادور (م. س، مج. II: 32)، فإن الشامانية عند سكان قبائل المايا Maya كان يمارسُها الرجال والنساءُ على حدٍّ سواء. يتحدث هاي (م. س.: 127) عن شامان من الجنسين لدى سكان طورينو Toreno.

    [II] مصادر قـدرة الشـامـان

    ليُنجز الشامان الماطاكو المهام التي تُطَلبُ منه، فهو يغرقُ في حال عصبي من الـفُتُور أو فرط تناول المنشطات باستخدام مسحوق «الهاطاكس»، وهو عبارة عن سُعُوطٍ تُستَحْضَرُ من مسحوق بذور السَّبخة. طالما يكون فيه تحت تأثير المخدِّرات، يُصْدِرُ أصواتا حادة من صفارة مصنوعة من ساق طائر اليولو عموما. وهو بهذه العملية لا يفصل روحه عن الجسد فحسب، بل ويحولها كذلك إلى طائر يحلق نحو بلاد الأرواح أو نحوالشَّمس.

    ويخدُم شامانَ الطوبا رُوحٌ مُساعِدٌ، رغم أنهم قادرون بدورهم على إرسال أرواحهم في مهمة فوق طبيعية. وفي الحقيقة، يكون أحيانا من غير السهل التمييز بين الروح المتحررة من الشامان التي تنجزُ إرادَته والرّوح الخادم الذي يفعل الشيء نفسه، لكنه ينتمي إلى فئة أرواح مختلفة.

    أما شامان اللينغوا Lengua، فيأخذون وضعا غير مريح مُثَبِّتِين البصر ساعاتٍ في شيء بعيد، وينتهون بإثارة حالة مغناطيسية يفسرونها باعتبارها تسكعا لأرواحهم.

    وليثير الشامان من أهالي الطيرينو أرواحهم المساعدة والتي غالبا ما تتجلى على شكل طيور، فهم يصرفون ليلة بكاملها في صبغ خشخيشاتهم يساعدهم في ذلك آباؤهم.

    في الشاكو، كما في مجموع أمريكا الجنوبية الاستوائية تقريبا، تعتبر الخشخيشةُ أداةَ الشامان الأولى، وهي مجرد كرنيبة يشكل ساقُها كُمَّها ويُدخِل فيها الهنود بذورا تتمتع بخاصيات فوق طبيعية. وتمنحُ الخيُوطُ الحديدية التي تولَجَ بين الجوانب الداخلية من الكرنيبة، هذه الخيوط التي عوضت أشواك الصبار، للصَّوتِ جودة معدنية. يرتدي شامان الماطاكو نوعا من الصَّدرية أو سترة صغيرة مفتوحة من الصوف الأحمر ويضعون فوق رؤوسهم عمامة حمراء مُزيَّنةٍ بريشٍ من اللون نفسه، والذي يقولون إنه يروق الأرواح ويساعد على جذبها.

    [III] وظائــف الشامــان

    هُنا أيضا يعدّ التطبيب وظيفة الشامان الأساسية. وعلاج الأمراض هو أساسا كفاحٌ ضد الأرواح التي تبيدُ البشر باختلاس أرواحهم أو حشو أجسادهم بحشرات أو أفاعي أوعسالج[11] من الخشب. ويبدو أن هذه الأشياء المسبِّبَة للمرض ترتكز على تصور يضفي طابعا ماديا على الروح الشرير، وذلك رغم شدة غموض تصورات الهنود بخصوص هذه النقطة. فقد أكَّد لي هنود الماطاكو والطوبا في مناسبات عديدة، أنَّه متى لدَغ ثعبانٌ شخصا مَّا، ولجَتْ روحُ الثعبان جسد الضحية وتحولت بداخله إلى ثعبان، وأنه يتعين على الشامان، كي يشفي مريضه، أن يستخلص بالمصِّ عظامَ الثعبان وأحشاءه.

    وبذلك تتعايشُ نظريتا المرض الموجودة في أساس الممارسات الأكثر شيوعا لدى الشامانية الأمريكية الجنوبية. تتعايشُ في الشاكو، كما في عدد من القبائل الأمريكية الجنوبية. وتناقضهما لا يشعر به بتاتا الهنود الذين يزاوجون في الحصة العلاجية الواحدة بينَ ملاحقة الروح المفقودة واستخلاص الشظايا السحرية التي أصابت المريض. والعلاجاتُ السحرية لدى الماطاكو بالخصوص مُعقَّدَة، رغم صعوبة الحسم في ما إذا كان الأمر يتعلق بِطَيرةٍ خاصَّة بهذه القبيلة أم أنَّ غياب الملاحظة المفصَّلة في جماعات أخرى يخلق وهم الاعتقاد ببساطة طقوسية كبيرة جدا.

    يمكن للمريض من الماطاكو أن يتلقى علاجا على التوالي من قبل شامان عديدين أو من قبل شامان واحد تساعده جماعة من الأعوان. وكل الذين يشاركون في الحفل الطقوسي، بما فيهم المريض، يعصبون رؤوسهم بوضع عُصابات على الجبين حمراء اللون مُزركشة بأسطوانات مَحارية، ويرتدون صدريات من البونشو[12] حمراء أو ذات لون آخر ساطع. وهذه الحلة الجميلة تروق روح المرض، ويمكن أن تجعله أكثر تساهلا. ويربط مساعدو الشَّامان أنفسهم بالحزام وبأوتاد الخشخيشات التي صارت اليوم معدنية وبالأمس كانت تصنع من حوافر الأيليات والتابير[13]. يكون المريض في أغلب الأحيان جالسا أو نائما تحت خيمة قرب سارية تزينها أحزمـة وتعتليها راية. كل هذه الممتلكـات الثمينة جدا تُنشر فوق الأرض رفقـة الطعام في الغالب. وأحيانا يحيط حاجزٌ بالمكان الذي يجري فيه الطقس العلاجي.

    يتمثَّلُ العلاج بمعنى الكلمة في رقصة يقوم بها كل من الشامان ومساعدوه والمريض إذا سمحت له حالته الصحية بالمشاركة في الرقص. والضجيج الذي يحدثونه يكتسي أهمية قصوى في العلاج. بل إن المريض نفسه غالبا ما يزوَّدُ بناقوسٍ يحَثُّ على استعماله. أحيانا، يدنو الشامان منه ويـصبغ خشخيشاته على امتداد جسده. وبحسب ما قاله لي الهنود، فإنَّ الرقصَ يُرغم روحَ المرض على الالتحاق بالراقصين ومشاركتهم رقصهم، فيفعلُ فينهكه عنفُ هذا التمرين وينتهي بطلب العفو.

    ثمة طقوس أخرى لا تُفَسَّر إلا باعتبارها عمليات تطهير للمريض من الجراثيم. يُجَرَّد من ملابسه التي تنقَلُ إلى مكان بعيد، فتُنفَض وبالتالي يسقط منها المبدأ المؤذي العالق بها. وفي بعض الحالات، يُغسَلُ المريضُ بماء فاتر. وفي لحظة معينة من العلاج، تقع عموما في النهاية، ينفث شَامَانٌ في مريضه جُهْدَ ما استطاع. وفي نهاية الحصة العلاجية، يُطهِّرُ الأشياءَ المنشورة في الهواء الطلق. ولهذه الغاية يندسّ تحت الغطاء وينفث في هذه الأسقاط. وتعتبر هذه الـتزيينات، وأشياء أخرى ثمينة، هدايا مُقَدَّمة للمَرَض مُجاملة له بقدر ما تعَدُّ موجهة لروح الشر كي يكتفي بظل الأشياء. (ص. 111-112). يكفي أن يُشتِّت نَفَسُ الشامان الفوَحانات[14] النحيسة المحيطة بالأشياء فيصيرُ باستطاعة مالك هذه الأشياء أن يستعملها من جديد. أما الأطعمة التي تدخل ضمن «الهدايا»، فيستمتع بها الشامان وخُدَّامه بعد أن يطهروها من نَفَسِهم.

    يَسود الإيمانُ بفعالية هذه الظواهر الأرواحية أيضا بين أهالي الطوبا. فخلال جلسةٍ لعلاج طفل لسعه ثعبان حضَرتُها، وَضعَ أحد الحاضرين عقداً على المريض إرضاء لروح الثعبان الذي اعتُقِدَ أنه قد استحوذ على روح الطفل. كان الشامان ينشد عزائم على مسمع المريض حثا للروح على الخروج. وكان يتوقف عن الغناء كي ينفث في يديه وبُوَيقٍ صغير، ومن حين لآخر كان يمص بقوة عنيفة مختلفَ أجزاء جسم الطفل المريض. كان يبحث بيديه عن أجزاء المخاط التي يزعم أنها كانت شذرات من الثعبان.

    عندما ينتهى شامان من قبيلة اللينغوا امتصاصاته ونفثه، يُعلنُ طردَ الروح الشـريـر مغنيـا، ثم يـدعـو روح المريـض للعـودة إلى جسدهـا، مَازجا بذلك عـلاج التدخُّل بفقدان الروح.

    إذا كان هروبُ الروح يعدُّ، حسب تشخيص الشامان، سببَ المرض الذي يتعين عليه علاجه، فإن الشامان يُرْسِلُ روحه بحثا عن روح المريض ويحاول اكتشاف المكان الذي أخفاها فيه الروحُ المُغتَصِب. يخلصها، ثم يعيدها إلى غشائها الجسدي.

    يعالج شامان قبيلة المبايا المرضى داخل تحويطة مصنوعة من حصر نسيج قَصبي، لا يستطيع أي شخص ولوجها خشية أن يفقد بصره، بل وأن يتعرض حتى للموت. هناك يمكث الشامان قرب مريضه وينشد بدون توقف مرفوقا بدقات خشخيشته. خلال فترات الصمت تذهب روحه إلى المقابر كي تعيد منها الروح المتسكعة. ومهما تكن نتيجة عمليات البحث هذه، فإنها لا تكفي - فيما يبدو - لضمان شفاء المريض، ذلك أنه يتعين على الشامان، إضافـة إلـى ما سبـق، أن يدلك جسـد المريض بـ أصابعه ويمصه ليقتلع من بدنه مواد ممرضة مختلفة ثم يدفنها بسرعة.

    لدى أهالي التوميريها Tumerehم، يعالج الشامانُ المريضَ بأنْ يَبصق في يديه ويمسدَ أعضاءه المريضة. على غرار علاجات أهالي الماكاطو Macato يرافق العلاجات التوميريهية رقصٌ وغناءٌ يقلد سلوك حيوانات أو يقلد الشياطين الحيوانية بكيفية أدق (بالدوس، هــ.، 1931: 80).

    [VI] وظائـف أخـرى يؤديهـا الشـامــان

    رغم أنَّ ممارسة الطب تشكل الوظيفة العامة التي يؤديها الشامان، فهي مع ذلك لا تشكل نشاطه الوحيد، إذ يمكنه أن يبعد كل شر يتربص بعشيرته. وعندما تشعر جماعة من الهنود بالقلق، فإن الشامان ينشغل لذلك كثيرا، فيسعى لطمأنة ذويه، ويقضي الليلة بكاملها وهو يصبغ خشخيشته ويغني عزائم طاردة للأرواح الشريرة. وقد لاحظتُ كثيرا هذه الطقوس الليلية خلال الوباء الكبير للجدري الذي اجتاح أهالي البيلاغا Pilaga في عامي 1932-1933. ويصف لنا مارتان دوبريزهوفر Dobrizhofer مشاهد مماثلة لدى قدماء أهالي الأبيبون Abipon. فعندما كان يلم بالجماعة مُصابٌ، كانت النساء الشامان تجتمعن داخل كوخ حيث يمكثن الليلة بكاملها وهن يقرعن الطبول وينشدن عزائم مرفوقة بإحدى الرَّقصات.

    كـل شامـان الشاكو يقومون بطقـوس الاستسقاء. وعند قدماء المبايا واللـول Lule، كما عند الماطاكو، كان الشامان يرسلون أرواحهم بحثا عن المطر. ولم يكونوا يترددون في تحدي العاصفة، كما يشهد بذلك شامان المالايا الذين كانوا يلجؤون لدق خشخيشاتهم وإرسال صفير في اتجاه السحب كي يتبدَّد الإعصار..

    يُسْدِي الشامان خدمات لعشيرتهم بالتنبؤ بالمستقبل. وتتأتى له هذه المعرفة بالغيب عبر إرسال روحه إلى الشمس التي تعرف وترى كل شيء. والرحلة لا تخلو من مخاطر، ذلك أن الشمس كانيبالية[15] كبيرة تكره الإزعاج. وهي تنصب حواجز وعراقيل في الطريق المؤدي إليها. وبذلك يتعين على روح الساحر أن تقوَى على الحفاظ على توازنها في مساحة لزِجَة، وتمرَّ بين عارضتين متلاطمتين، وتنفذ من حاجز شائك قبل أن تتمكن من الدنو من الشمس. إذا كان الشامان ماهرا، تحوَّلَ على التوالي إلى قطعة شمع كي يجتاز المساحة اللزجة، وإلى طائر كي يحلق بين العارضتين، ثم إلى قارِضٍ كي يشق لنفسه طريقا تحت حاجز الأشواك. وقليلون هم أولئك الذين يجتازون جميع هذه الامتحانات، وفخاخ الشمس تسقط في كل يوم ضحايـا يتعرّضـون للالتهام. لكن متى تغلب الشامان على جميع هذه الصعـاب صارَ بوسعه ألا يخشى أي شيء من الشمس.

    يلجأ الشامان أيضا إلى الطريقة العتيقة جدا وهي طريقة إجراء حوار مع الروح المسؤول عن المرض، فيندسون تحت الغطاء، و يخضون خشخيشاتهم، وينشدون إلى أن يستحوذ عليهم الروح. وتسمع جماعة الحاضرين، من مسافة محتَرَمة، المحادثة الجارية بين شامانهم والروح الذي يتميز صوته برنة حادة.

    كان الشامان في القديم يقدمون مساعداتهم للغزوات العسكرية، لكن هذه الوظيفة تلاشت اليوم مع حروب القبائل فيما بينها. عند قدماء المبايا والأبيبون، وهما العشيرتان الأكثر حُبَّا للحرب في الشاكو، كان حضور الشامان يُعَدُّ أساسيا للانتصار في معركة ما. إذ كانوا يصنعون عدة حجب وطلاسم موجهة لتجسيد الخصم وتحطيم قوَّته.

    كانت حظوة الشامان - ولازالت - ملحوظة. يُخشى منهم لأنهم - فيما يُعرَف - قادرون على تسليط المرض والموت. ليس من النادر أن يتحول شامان ذو تأثير ونفوذ إلى رئيس جماعته، على غرار ما لاحظتُ لدى أهالي البيلاغا حيثُ كان بنجامين يُعَدُّ أقوى شخص بعد شيخ القبيلة لاغاديك Lagadic، وكان بنجامين هذا شامانا يحظى بشهرة كبيرة. وبعد مقتل لاغاديك على يد أعوانه، تقلد [بنجاميين] رئاسة قبيلته. كان مُهاب الجانب ولا يحبه الناس إلا قليلا. وكان يبرر سلطته مؤكدا للناس أن صلواته - أي أعماله السحـرية - ضرورية لإسعادهم، وأن خلاصهم يتوقف على قدرته السِّحرية.

    لا يتردد بعض الشامان في التعاطي لسائر ضروب الحيل لمضاعفة حظوتهم. ويقدم لنا غروب (1913: 156) بعض الأمثلة عن شعوذتهم. فقد كان أحد الشامان من قبيلة اللينغوا يؤكد أنه قادر على أكل حُديبة[16] تُسَبِّبُ مرض السُّلّ دون أن يتعرض لعواقب وخيمة من جراء ذلك. وكان شامان آخر يوهم الهنود بأن بذور القرع الكبير التي يلقيها فوق الأرض تتحول في رمشة عين إلى فواكه طيبة ناضجة. وكان الشامان من أهالي الطيرينو يوهِمون بأنهم ينتزعون ريشا من أنوفهم، ويبتلعون رماحا ويبترون أعضاءهم بمحض إرادتهم ثم يعيدونها إلى ما كانت عليه. ويمشي شامان الماطاكو فوق جمر مشتعل، في ما يبدو، دون أن يعانوا من الحروق.

    [V] مكافآت الشـَّامَـان

    هنا، كما في أماكن أخرى، تُدرّ المهنة على الشامان أرباحا طائلة لأنَّ العلاجات ليست مجانية. يبرر شامان الطوبا إلحاحهم على نيل مقابل بذريعة أنهم لو أبدَوا زُهدا لألحقت الأرواحُ عقابا بهم وبمرضاهم على السواء. ويقال إن شامان الأبيبون كانوا في قبيلتهم أغنى من مَلك الخيول وممتلكاتٍ أخرى.

    [VI] السحـر الأســود

    يمكن للساحر نفسه الذي يُدعَى لعلاج مريضٍ مَّا أن يتحول إلى كائن مخيف وشرير. وليحطم الشامان ضحاياهم، فهم يسلطون عليهم سهاما سحرية يوجهونها بواسطة طلسم. كما يختلون في جمعياتهم التي يتعاطون فيها ممارسات سحر المحاكاة والسحر المعدي من النوع الشائع.

    لازال أهالي الطوبا يعتقدون أن الشامان منهم يملكون قدرة التحول إلى فهود. هكذا فمنذ وقت ليس بطويل، كان هندي من بعثة الـ Sombrero Negro يُغَذِّي اعتراضا خطيرا ضد أحد القواد، كان يصبغ جسده بخطوط سوداء، ويردد داخل كوخه وهو يقفز: «إنَّني فهدٌ». ومثل هذه المشاهد كانت شائعة بين قدماء هنود الأبيبون، كما وصفها لنا بدقة كبيرة دوبريزهوفر (1822، مج. II: 7).

    خـلاصــات

    تقدم لنا الظواهر التي لخصناها هنا، وهي ظواهر بعضها مستمد من ملاحظات شخصية وبعضها الآخر مستمد من أدبيات الموضوع، تقدم لنا صورة للشامان في قبائل الشاكو لا تختلف إلا قليلا عن نظيرتها في المناطق الاستوائية من القارة. ونداؤه ذو صبغة فوق طبيعية، لكنه يمكن أن يثيره بزهده. وتكمن قدرة الشامان في امتلاكه نشيدا، يوحي به إليه روحٌ، هو ثمرة للعلاقة التي يقيمها مع الأرواح. وظيفته الأساسية هي علاج المرضى، ويؤدِّيها بالنفث في المريض ومص جسده. وللعلاج عند هنود الماطاكو طبيعة احتفالية، يشارك فيه عددٌ غفيرٌ من الشامان، ويُرفَقُ بالرقص والطقوس التطهيرية. ويلج شامان قبيلتي الماكاطو واللول حالات ذهولية انتشائية خفيفة عن طريق استنشاق سعوط مسحوق بذور السَّبخَة. وبما أن المرض ينجم عن فقدان الروح، فإن الشامان يسافر بحثا عنها ثم يعيدها إلى جسد المريض.

    كما يسهر الشامان على صحة الجماعة، ويصرفون عنها الشرور والحوادث المتربصة بها، ويضمنون النصر في الحروب. بالإضافة إلى ذلك، فهم يملكون القدرة على علم الغيب، إما باستشارة الشمس أو باستدعاء روحهم المألوف. وباختصار، لقد كان الشامان، باعتباره طبيبا مستشارا ومرشدا، الشخصية الأكثر تأثيرا في جماعته ومن شأن اختفائه أن يعجل بانهيار جماعتها.

    ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

    الهوامـش والمــراجـع

    Grubb, W. Barbrooke.

    1913, An unknoun people in an unknown land..., Londres.

    Baldus, Herbert,

    1931, Indianerstudien im nordِstlichen Chaco, Leipzig.

    Hassler, Emil.

    1894, Die Bewohner des Gran Chaco, Paraguay, Memoirs of the International Congress of anthropology, Chicago.

    Hay, Alexander Rattray,

    1928, The Indians of South America and the Gospel, New York.

    Sanchezi Labrador, José,

    1910-1917, El Paraguay calَlico, (3 vol.), vol. II, Buenos Aires.

    Dobrizhoffer, Martin,

    1822, An account of the Abipones, an equestrian peopole of Paraguay, Londres.







    --------------------------------------------------------------------------------

    [1] الشاكو: مساحة شاسعة جدا من أمريكا الجنوبية (علما بأن في أنغولا هي الأخرى منطقة تدعى الشاكو)، تتقاسمها دول بوليفيا، والأرجنتين، والباراغواي، ثم المسكيك. وجميع أسماء الأماكن الواردة في الدراسة تنتمي إلى هذا المجال الجغرافي؛ الطيرينو والتونيريها والماكاطو توجد في البرازيل، والطوبا والبيغالا في الأرجنيتن، والمايا في المسكيك. أما الأبيبون والكاسكيلا (أو الغوانا) فلم نتمكن من تحديد موقعيهما اعتمادا على الخرائط التي تتضمنها موسوعة: Atlas Mondial Encarta 97، ط. 1995-1996.

    [2] initiation: سبق شرحها في الهامش رقم 3 من دراسة جان بران «الرمز والسحر»، المنشورة ضمن الكتاب الحالي. (م).

    [3] عظاية أمريكية عاشبـة. (م).

    [4] سبق شرحها في الهامش رقم 3 من دراسة «الرمز والسحر» المنشورة ضمن الكتاب الحاالي». (م).

    [5] جمع قاطور: تمساح أمريكا. (م).

    [6] ج. ضارٍ: سمك ضار صغير بجنوبي أمريكا. (م).

    [7] جنس حيوانات زحَّافة من فصيلة السَّقَّايات. (م).

    [8] المنهيوت: جنس جنيبات يستخرج من جذورها دقيق نشوي (كما سبق شرحها في الهامش 1 من دراسة السحر-الأنثروبوفاجيا...» المنشورة ضمن الكتاب الحالي. (م).

    [9] الرثيلاء: جنس عناكب سامة. (م).

    [10] سبق شرحها في الهامش رقم 5 في دراسة ساغي وبيولت، «الاعترافات الشيطانية»، المنشورة ضمن الكتاب الحالي. (م).

    [11] جمع عسلوج: غصن دقيق أملس ينتهي غالبا ببرعم ثمري. (م).

    [12] البونشو: معطف في أمريكا الجنوبية مصنوع من غطاء مثقوب الوسط لإخراج الرأس. (م).

    [13] التابيـر: حيوان أمريكي استوائي شبيه بالخنزير. (م).

    [14] ج. فوحان: تبخر غير مرئي وبخاصة رائحة كريهة. (م).

    [15] كانيبالية (أو أنثروبوفاجية): آكلة للحوم البشر. (م).

    [16] درنة صغيرة قد تحمل جراثيم السل وسواها. (م)
    "أن تشعل شمعة خير من أن تلعن الظلام"
    كونفوشيوس (ع)

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Nov 2002
    المشاركات
    4,192

    افتراضي

    إدموند دوتيـه:

    السَّحَـرَة والعَـرَّافـون بشمال إفريقيـا





    خلافا لمجموع الدراسات التي جمعناها في الكتاب الحالي، تتميز دراسة إ. دوتيه الحالية بنزعة تمركز عرقي حول الذات الأوروبية بشكل واضح وصريح. ويُفهَم ذلك إذا أخذنا بعين الاعتبار مسألتين:

    الأولى الزمن الذي نشر فيه مؤلفه «السحر والدين في إفريقيا الشمالية» (الذي تشكل الورقات الحالية فصله الأول)، وهو مستهل القرن الحال، حيث كانت الأنثربولوجيا حقلا معرفيا مُسخرا لخدمة الاستعمار أساسا، فكانت الأبحاث تسخر لمعرفة عقليات الشعوب غير الأوروبية تمهيدا وتسهيلا لإحكام السيطرة عليها.

    أما النقطة الثانية (ربما هي الأهم)، فتتمثل في المد الذي كان يعرفه الاتجاه التطوري آنذاك، والمتأثر بالداروينية ونظرية تطور الأجناس. وهو تيار ظهر في منتصف القرن التاسع عشر في أمريكا وأوروبا، من أبرز ممثليه مورغان، وتايلور، وفريزر. وقد كان أصحابه يؤكدون على فكرتين أساسيتين، هما: التطور، والتاريـخ.

    للتطور عندهم أهمية، بمعنى أن المجتمعات البشرية تنتقل من مراحل دنيا إلى مراحل عليا، وبالتالي فلفهم المؤسسات والظواهر الثقافية (الغربية) الحالية ينبغي الرجوع إلى تاريخها، إلى أشكالها البدائية، بمعنى أن الجنس البشري يتطور تدريجيا، وبالتالي يمكن تصنيف كل المجتمعات الموجودة بحسب مرحلة التطور التي وصلت إليها. كما كان أصحاب هذا الاتجاه يعتبرون المجتمع الغربي حقلا نهائيا للتطور. وهكذا قدموا خطاطات عديدة لتطور الإنسانية، فرأى مورغان أن المجتمعات البشرية تجتاز ثلاث مراحل على التوالي، هي: مرحلة الوحشية، ومرحلة البربرية، ثم مرحلة الحضارة. ورأى تايلور أن الديانات تتطور من مرحلة الإحيائية، إلى شعائر عبادة الطبيعة وتعدد الآلهة، فعقيدة التوحيد. كما رأى فريزر أن المجتمعات البشرية تتطور من السِّحر إلى الدين، فالعلم، الخ.[1]. ومن هذا المنظور كان يفد على المغـرب كمـا علـى سائـر الشعـوب غيـر الغربيـة، بما فيهـا تلـك التي تنعـت بـ «البدائية»، عددُُ من الإثنوغرافيين الأوروبيين والأمريكيين لجمع الملاحظات الميدانية بغاية تعزيـز هـذا الطـرح. ودوتيه هنا واحدُُ منهم.

    أما أهمية العنصر التاريخي عندهم فتتمثل في تأكيدهم على أنه لفهم المؤسسات والظواهر الثقافية الحالية ينبغي الرجوع إلى تاريخها، إلى أشكالها البدائية. وبما أن المجتمعات الغربية قد بلغت حدا كبيرا من التطور بشكل يتعذر معه معاينة مجموعة من السلوكات والظواهر، فإنه ينبغي الذهاب إلى المجتمعات التي لازالت توجد في أطوار بدائية من التقدم، ثم ملاحظة الظواهر نفسها المراد بحثها وهي لم تبارح أشكالها البدائية، أو وهي لازالت على شكل «بقايا».

    وباستحضار هذه المعطيات يُفهَم لماذا يدرج إ. دوتيه سكان إفريقيا الشمالية ضمن البدائيين، ولا يتردد في اختلاق أفكار غريبة، كقوله بوجود «محافل السبت في إفريقيا الشمالية»، واعتباره قبيلة «زكارة» منحدرة من الغجر اعتمادا على «فيلولوجيا» واهية... وترهات أخرى عديدة سيقف عليها القارئ لا محالة. وإذ ننبه إلى ذلك، نشير إلى أننا ما ترجمنا هذا المنتخب إلا لتمكين القراء المغاربة من الاطلاع على بعض الكتابات التي رسخت صورة معينة عنا في أذهان الغربيين. صورة لازالت تشتغل إلى اليوم...

    (المترجـــم)

    I. العرافـون والكهـان قبل الإسـلام[2]

    نطلق على السحر الاسم نفسه الذي يحمله لدى الإغريق، وهو magَs الذي يعني رهبان الديانة الزرادشتية (مانجو بالفارسية)[3]. في اللغة العربية احتفظ هذا الاسم بمعناه الحقيقي[4]، ويضع الرسول محمد السحرة (المجوس) بجانب اليهود والمسيحيين والصابئة (القرآن، الحج: 17)[5]، واضعا إياهم مجتمعين في تقابل مع الوثنيين. والساحر في العربية هو سحَّار أو ساحر، وقد عومل محمد على الدوام من لدن أعدائه تارة باعتباره ساحرا، وتارة أخرى بوصفه مسحورا[6].

    كانت الساحرات أكثر شيوعا من السحرة. وإذا كنا لا نملك سوى معلومات قليلة في شأنهن، فإننا نتوفر على وثائق أفضل حول العرافين الذين كانوا يسمون كهانا[7] (بالعبرية: كوهين)، والذين كان لهم آنذاك طبيعة شبه كهنوتية. كانوا يتنبئون بالمستقبل ويلقون نبوءاتهم بعبارات مسجوعة[8]، ومن ثم يكون الكاهن في صلة وثيقة بالشاعر[9]. ويبدو أن هاتين الوظيفتين الاجتماعيتين كانتا تختلطان بهذا القدر أو ذاك، على نحو ما نجد عند الشاعر المحارب زهير بن جناب الذي كان يقال إنه كاهن[10]. ولبعض هؤلاء الكهان طبيعة أسطورية، مثل سطيح، وهو عراف شهير عاش ستة قرون ومات في السنة التي ولد فيها النبي، بعد أن تبنأ بمجيء الإسلام[11].

    كان العرافون العرب يستشارون في جميع الظروف الصعبة[12]، وأحيانا كانت تتم استشارة العديد منهم علاوة على أنهم كانوا لا يتفقون في الرأي[13]، كما كانوا يُتخذون حكاما[14]، وكان يطلب منهم أن يكشفوا عن القتلة[15]. ومن هنا ارتباط العراف بالحَكَم، كما تظهر ذلك المعاني المختلفة للجذر حَكم (كاهن، حَكم، كاهن، ساحر، طبيب)[16].

    من ناحية أخرى، كانت الكاهنة أو الساحرة، على الأقل، أكثر عددا من العرافين. وعندما حفر عبد المطلب جدّ محمد بئرَ زمزم الشهيرة، نازعه القرشيون في ملكيتها، وأمام تعذر الوصول إلى أي اتفاق، تم الاحتكام - على نحو ما كان معمولا به آنذاك - إلى كاهنة بني سعد بسوريا، فرحلوا إليها لهذه الغاية، ولكن حدثا خارقا بدَّد نزاعاتهم وأعفاهم من الخضوع لتحكيم العرافة[17].

    ألزمت إحدى الكاهنات التنوخيين بالسفر إلى الحيرة حيث أسسوا المدينة التي ستقترن شهرتها باللخميين فيما بعد، في هذه المناطق من بلاد ما بين النهرين السفلى حيث تعاقبت العديد من العواصم[18]. واستشار الأزديون كاهنة أخرى عندما سافروا إلى اليمن، فقالت لهم إذا نحروا جملا أصيلا وغسلوه بدمه هزموا الجرهميين واستوطنوا بلادهم[19]. أخيرا، بعد وفاة الرسول ظهرت في قبيلة بني تميم كاهنة تسمى سجاح، فجمعت جيشا وتوغلت في المنامة لمحاربة النبي الكذاب مسيلمة الذي ستتزوجه عقب اجتماع بينهما[20].

    بجانب الكاهن كان هناك العرَّاف الذي لا يتنبأ بالمستقبل، لكنه يخمن مع ذلك أشياء تفلت عن معشر الأحياء، كمكان وجود الشيء المفقود أو المسرُوق[21]. وتخمينه يقع في دَرَجَةٍ من التخمين أقل من الكهانة. ثم هناك العائف الذي لا نملك معلومات جيدة عنه[22]، وكان القرشيون يزورونه مرفوقين بأبنائهم كي يتنبأ لهم بمصيرهم.

    II. الكاهنات والعـرافات عند البـربـر القدمـاء

    عرف البربر القدماء أيضا الكاهنات، وبل ويبدو أنَّ النبوءة نفسها كانت مقصورة على النساء أكثر مما كان عليه عند العرب القدماء، إذ نادرا ما يذكر المؤرخون عرافين مثل هذا الذي يُدْعَى عاصم بن جميل، زعيم ورفدجومة، وهو نبي وعراف[23] [توفي سنة] 140 قبل الهجرة. ولكن العرافات بالخصوص هن اللواتي اشتهرن بنيل حظوة كبيرة في القبائل، إذ يقول مقطع غريب من [مؤلف] بروكوب:

    «... عند المغاربة، يمنع على الرجال أن يتنبؤوا بالمستقبل. ولكن بعض النساء، بعد أن يجتزنَ طقوسا مقدسة، مستلهماتٍ الروح (الإلهي)، تتنبأن بالمستقبل مثل الكاهنات القديمات لا أقل ولا أكثر»[24].

    وتشتهر هذه الكاهنات أساسا بسبب بطولة إحداهن يُطلق عليها اسم الكاهنة لا غير، وكانت في حوالي الربع الأخير من القرن الأول الهجري تحكم جميع القبائل البربرية بالأوراس. ويقال إنها كانت تسمى داهية، وأنها من قبيلة جراوة التي كانت على الديانة اليهودية[25]. بيد أننا نستبعد أن تكون قد لقبت بالكاهنة بسبب تهودها، مادمنا لا نعرفها إلا عن طريق المؤرخين العرب الذين كان من الشائع عندهم، ومنذ وقت طويل، تسمية العرافات باليهوديات. ويظهر لنا مقطع بروكوب أن المتنبئات كن منتشرات بين جميع البربر، إذ «لما دخل حسان [بن النعمان] القيروان أراح بها أياما. ثم سأل أهلها عمن بقي من أعظم ملوك إفريقية، ليسير إليه، فيبيده أو يسلم، فدلوه على امرأة بجبل الأوراس يقال لها الكاهنة؛ وجميع من بإفريقية من الروم منها خائفون، وجميع البربر لها مطيعون. "فإن قتلتها دان لك المغرب كله، ولم يبق لك مضاد ولا مُعاند"»[26]. فقاد جيوشه إليها، إلا أنها هزمته، وظلت تحكم البربر سنين عديدة إلى هزمها حسان أخيرا، حوالي سنة 704 م، في معركة لقيت فيها حتفها.

    لن أتحدث عن الجميلة والنبيهة زينب النفزاوية التي كانت خليلة شخصيةٍ غامضةٍ، وصارت زوجة لآخر ملوك أغمات، أبي بكر اللمتوني، وبعده (صارت زوجة) ليوسف بن تاشفين مؤسس الدولة المرابطية[27]. فقد كانت تسمى الساحرة، بيد أن الأمر هنا قد لا يكون سوى مجاز. ولكنني لا أجد سبيلا للصمت عن عمَّة حميمٍ نبيِّ غمارة الزائف وعن أخته. الأولى اسمها تنكيت Tanguît، كانت عرافة وساحرة، والثانية اسمها دَادْجُو أو دُبُو، كانت ساحرة وعرافة وواحدة من أجمل نساء زمنها، وكان قومها يلجئون إليها في وقت الحرب وفي جميع الشدائد. زد على ذلك أن ابن خلدون يقول: منذ عصر حميم وبنات غمارة يتعاطين للسحر[28]. ولا زالت ذكرى أخت حميم قائمة في المغرب إلى اليوم عند بني حسان الذين يطلقون عليها اسم دبو ويَزُورُون قبرها. ومن العادة أن يُلقى عليه حصى، أثناء المرور، كما تحج إليه المغربيات اللواتي يتجهن إلى السحر[29].

    III. المـرأة والسحــــر

    وبذلك فالنساء على الخصوص، عند البربر كما عند العرب القدماء، هُن اللواتي يُعتبرن ساحرات. وتظهر لنا الإثنوغرافيا المقارنة أن الأمر كذلك عند العديد من الشعوب البدائية وحتى عند الشعوب المتقدمة في الحضارة. فالشرط الجسدي «للجريحة الأبدية» يشكل لدى البدائيين موضوع دهشة وخوف، إذ يُعتقَد أنها مختلفة اختلافا عميقا عن الرجل، فتعزَل عنه. إنها ذات طبيعة ملغزة أساسا، قدسية أو سحرية[30]. وبتقدم الدين وتميزه تحتدّ هذه الطبيعة، فلا تشارك المرأة عموما في العبادة[31]. بيد أن الدينَ ما أن يقصيها من التعاطي للأشياء القدسية أو الممنوعة حتى تعود إليها تحت غطاء السحر الذي يصير بالنسبة إليها شبه ديانة ذات طبيعة دونية[32]. والوجوه الأسطورية والخرافية الخاصة بالسحر تكون في أغلب الأحيان نساء أكثر مما تكون رجالا، مثل هيقاط، وسيلينيه، وسيرسيه، وميديس، والكاهنة، الخ. وللسبب نفسه تعتبر المرأة مُساعدا ثمينا للسحر، إذ غالبا ما يُشتَرطُ حضور فتاة بكر. فقد أكد لي ساحرُُ مغربي أجرى لي مندلا بالمرآة[33] أنَّ الجلسة قد لا تنجح إلا بحضور فتاة زنجية، لأن الزنوج عموما يُعتبرون في مجموع أنحاء المغرب العربي مؤهلين لمزاولة السحر بالخصوص[34].

    IV. السحــرة في المغـرب [العربـي] الحديـث

    وُجدَ السحرة والساحرات في المغرب العربي منذ الأزمنة البعيدة، ولكنهم فقدوا أهميتهم. فقد ترك لنا البكري صفحة غريبة حول سحرَة غمارة حوالي القرن العاشر الميلادي[35]، ونجد عند ليون الإفريقي جدولا لمختلف السحرة والعرافين والسحرة الذين كانوا يزاولون عملهم بمدينة فاس في القرن XVم، دون أن ينسى الساحرات أو الممسوسات، إذ وصف لنا عوائدهن التي لا يبحنَ بها إلا قليلاا[36]. كان للعرافين آنذاك نفوذ كبير مكنهم من الدخول إلى بلاطات الأمراء، إذ شاهد ليون (الافريقي) فلكيين وضاربي خط الرمل[37] يمارسون فنهم في قصور فاس وتلمسان وتونس[38].

    ومع أن هذا قد لا يُرى اليوم في بلاط عبد العزيز، فإن العرافين لازالوا موجودين والسحرة كذلك، إلا أن العجائز بالخصوص هن اللواتي يتعاطين للسحر. فقد وقفتُ في ضواحي موغادور[39] على العرافات اللواتي يتنبأن بالمستقبل بمحارات، واللواتي سبق لدييغو دي طوريس أن عاينهن عام 1553م[40]. هنَّ نساء بربريات يزعمن الكلام عن أحفوريات مثقبة[41]، يقلن إنهن يربينهن داخل علبة. وفي العديد من قبائل إفريقيا الشمالية لازال يوجَدُ صنف الساحرة المكروهة والمهابَة، بسبب عينها الضارة التي تقضي على الأطفال بالخصوص[42]، ولكن بكيفية عامة، صار المحترف نادرا والسحرُ منتشرا على الخصوص. والعراف المحترف أكثر انتشارا في إفريقيا الشمالية من الساحر الحقيقي: إنه دكاز التونسيين[43]. ويعود السَّبب في هذا التقلص إلى مُعَاقبة الشريعة الإسلامية السَّاحرَ بالقتل.

    1. علامـات السَّحــرَة

    يُعتقد أن الساحر يحمل علامات خاصة. ففي مراكش أكد لي أحد مُزوِّدي بالمعلومات[44] أنَّ الساحرات لا يغطسن تحت الماء، وهذا مُعتقد قديم جدا وواسع الانتشار لأن صاحب كتاب الأغاني سبق أن أشار إليه[45]، إذ بهذه الطريقة تعرف الخليفة الوليد الأول عن اللواتي يجب قتلهن من بين نساء بلاطه المتهمات بالتعاطي للسحر[46].

    غالبا ما تكون الساحرة ممسوسة؛ لأن حالات المس بين المسلمين لا تحصى، وفوق ذلك فجميع الأمراض عندهم تعتبر أشكالا من المسِّ. تكون الساحرة في الغالب مريضة، تقع فريسة لأزمات عصبية. ومعروف أن علماء مثل ليهمان يبنون نظرية السحر بكاملها على الهستيريا والتنويم المغناطيسي باعتبارهما ظاهرتين عصبيتين[47]. بيد أن هذه النظرية الطبية تبدو على كل حال غير كافية، بالخصوص لدى المسلمين إذ هيهات أن يكون السَّحرة كلهم عصابيين. ومن جهة أخرى، العصابيون بدورهم غالبا ما يُعتبرون أولياء أكثر مما يُعتبرون ممسوسين. صحيح أن التمييز بين هتين الحالتين هو بالأحرى [تمييز] دقيـق.

    2. السَّـاحــر المضــاد

    يُقابل السَّاحرَ الشرِّيرَ السَّاحرُ الخيِّرُ[48]؛ متى أصاب الضحية شر بسبب سحر استطاع سحرُُ آخر أن يخلصها منه[49]. وأحيانا تتمايز هاتان الوظيفتان مع الاحتفاظ بطبيعتهما السحرية. فساحرة القبيلة التعسة التي تحدثنا عنها، وهي السّحّارة، تقابلها الخوَّاية التي تشفي من سحر الأطفال باستعمال حديد أحمر[50]. لا يتعلق الأمر هنا بمداواة محوِّلة أو مُصرِّفة، وإنما بعمل سحري، إذ ما يُطرَد بالنار على هذا النحو هو التأثير الشرير، أي الروح أو الجن.

    3. الطـب ابن السِّحـر

    ليس الطبيب في الأصل سوى ساحر مُضاد. فكلمة طبيب في العربية الكلاسيكية تعني السحر والطب على السواء[51]. الطب ابن السحر. بالإضافة إلى ذلك، حتى في أيامنا هذه، لا يتم التمييز في إفريقيا الشمالية إطلاقا بين الطبيب والساحر كما لا يميز المـرض عن الجن[52] أو على الأقل بين الاثنين مراحل وسيطة غير محسوسة. تتضمن كتب الطب العربي المنتشرة في كل الأماكن، مثل الرحمة في الطب والحكمة للسيوطي، وصْفات سحرية وأخرى طبية على السواء. تتجاورُ فيها طرق صرع الجن مع المعلومات العلاجية، وطقوس السِّحر التعاطفي واستعمال وصفات بسيطة وجداول الأعداد والحروف مع العقاقير الصيدلية. في الواقع، غالبا ما يستحيل تمييز الطقس السحري عن الطقس الطبي. يعتقد العربي أن جميع ممارساتنا العلاجية هي سحرية، ونحن [الأوروبيون] أنفسنا ندرج - في كلامنا - ضمن السحر كل ما لا نفهمه.

    أكثرُ أنواع طب الأهالي شيوعا هو ذلك الذي يعرف ويستخدم الخصائص الغريبة للأعشاب. إنه مايسمى jarmacَs لدى الإغريق. فضلا عن ذلك، تعتبر jarmacَs مرادفا تقريبا لـ magَs، والصيدلة ليست سوى أحد تخصصات السحر. طبعا، يخلط المسلمون جميعا بين الصيدلي والطبيب، والكلمة الشائعة التي تطلق عليهما هي مُفرَدَة «طبيب»، ولكن غالبا ما تُستعمل أيضا كلمة «حكيم». ومن جهتي، سبق أن عوملتُ باعتباري حكيما خلال رحلة لي بالأطلس. وهذا التعبير، في نظر المسلمين، لا يخلو من مداهنة. ذلك أن الحكيم في العربية تعني، في الواقع، حكيم (sage)، وفلاسفة العصور القديمة يُوصفون بالحكماء ويشتهرون بأنهم سَحرة قبل كل شيء، مثل فرجيل في العصر الوسيط. وبينما ليس الطبيبُ سوى من يقوم بمهنة الحرب، فإن الحكيم هو من يمتلك التقاليد الغريبة المنحدرة من العصور القديمة، من تقاليد أفلاطون وأرسطو - دون نسيان السحرة المسلمين نصف الأسطوريين كجعفر الصادق - مرورا بهرمس المثلث الذي كان يعالج بالعزائم والعقاقير[53].

    أ) موقع الطبيب في العالم الإسلامـي

    غالبا ما يكون الطبيب طالبا أو شريفا (وهذا أفضل). لا ينبغي أن تخدعنا الحظوة التي ينالها الطبيب في بلاد الأهالي. فهو لا يتلقى نظير علاجاته سوى اعتبار هزيل، والطب يكاد يكون خارج الدين، إنه يفضي كثيرا إلى السحر. وإذا كان أطباؤنا يحظون بسمعة كبيرة، فذلك يعود إلى العلاجات التي يحققونها، ولكن أيضا - وبالتأكيد - إلى السهولة التي تُعزى بها قدراتُُ سحرية للأجانب عموما وللمسيحيين بالخصوص.

    نادرا ما لا يكون طبيب الأهالي طالبا حائزا على إجازة، أي على شهادة حررها له أستاذ ملحق بمسجد. إذا كان (هذا الطبيب) شريفا، أي منحدرا من الرسول محمد، فهذا أحسن، خصوصا في المغرب حيث يشتهر الشرفاء بكونهم أطباء أفضل من غيرهم[54]. بهذه الطريقة، يدخل الطب تحت غطاء الدين[55]. العديدُ من هؤلاء الأطباء حائزون على إجازة تذكر أنهم درسوا الطب[56]، ولكن بما أن تعليم الدين غير موجود تقريبا في إفريقيا الشمالية، فإن هذه الضمانة تظل وهمية كليا. ففي الحقيقة، لا يعرف جميع هؤلاء الأطباء أي شيء على طريقة وجهة النظر العلمية[57]، باستثناء بعض الأشخاص القليلين جدا الذين حافظوا على بعض تقاليد الطب العربي المجيدة.

    ب) انحطاط الطب الإسلامـي

    إذا كان الطبيب والحكيم - وهما طبيبان متجولان في أغلب الأحيان - موجودان منذ القدم ومرتبطان بالسحرة القدماء، فإنه لا يمكننا أن نغفل هنا أن المسلمين بدورهم عرفوا أساتذة للطب. يكفي ذكر أسماء ابن زهر، وابن رشد، وابن سينا وأبو القاسم [الزهراوي]، والرازي، الخ... ولكن هذا التفتح اللامع لعلم الطب لم يثمر إلا فوق الأرض الأوروبية، دون أن يُفيد إطلاقا المغربَ العربي الذي لم يلتق أبدا سوى أصداء الحضارة الإسلامية بإسبانيا أو المشرق. أي طبيب مغربي اليوم يعرف أبا القسيس مبتكر (la lithotomie)[58] كان مغربيا؟ وأي طبيب مغربي يعرف أن ابن زهر طبيب يوسف بن تاشفين هو مبتكر فكرة تشريح الشُّعب أو القصبة الهوائية في الغرب؟[59]

    4. الحـــــلاق

    ليس الطب هو المهنة الوحيدة التي لها طبيعة سحرية عند [الإنسان] البدائي. فقد أظهرت الإثنوغرافيا المقارنة أن الرأي العام ينسب هذه الطبيعة، بهذا القدر أو ذاك، لمهنٍ أخرى من بينها الحلاق، والجلاد، والحداد، وحفار القبور[60].

    فقدَ الحلاقون في إفريقيا الشمالية تقريبا هذه الخاصية التي كانوا يستمدونها من علاقاتهم المتواصلة بأشياء لها علاقة كبيرة بالسحر[61]، غير أن الحلاق يكون أيضا طبيبا يعالج الأمراض الخفيفة، كما أنه هو الذي يُكلف بعملية الختان، وهي ممارسة قديمة جدا، موروثة من المجتمعات البرية التي ندرسها على الخصوص. وهو يعلب أيضا دورا هاما في بعض الحفلات المنزلية المنحدرة من أصول قديمة، كحلاقة رأس المولود لأول مرة، وفيها يتلقى عموما علامات تقدير دون أن يطالب بأي مقابل. وكما في أوروبا، فالحلاق ينتمي إلى نمط الرجل الدسَّاس وصاحب اللسان الحلو[62].

    5. الحـــدَّادُ

    من المعرُوف أنَّ الحدَّادين في المجتمعات البدائية يشكلون طبقة معزولة. فأحيانا يُؤلَّه عُمال الحديد، وأحيانا أخرى يُعتبرون سَحرة، وعرافين، وأطباء. في الميثولوجيا الإغريقية يُعتبر الداكتيل، والكورتيس، والكوريبان، والسِّيكلوب كلهم صناع معادن وسَحرة بهذا القدر أو ذاك[63]. وحتى عندنا [في أوروبا] يختص الحداد في تقويم الالتواءات المفصلية وفي تجبير العظام.

    من أين يستمد هذه الخاصية؟ أوَّلا من كونه يستعمل الحديد، يقوم بكيّ سحري من النوع الذي تحدثت عنه أعلاه، وكل ما يمسّ الحديد هو سحري بهذا القدر أو ذاك، وهذا المعتقد شائع عالميا[64]. يتكلم القرآن عن النار بكلمات يمكن تفسيرها بمعنى سحري: «وأنزلنا الحديد فيه بأسُُ شديد ومنافع للناس»[65]. في حالات عديدة جدا، يعتبر البريون الحديد حراما أثناء إجراء حفل سحري أو ديني. فالمزابيون يمتنعون عن حمل الحديد أثناء الصلاة[66]، ولهذا السَّبب غالبا ما يوصى باستعمال سكين حجري بدل سكين حديدي. وهذا بقية (أو راسب)[67] من العصر الحجري[68]. واستنادا إلى نصّ ينحدر من القرن XVIIم، غامضٍ للأسف، يبدو أن الأمر كان كذلك بالنسبة للختان في مدينة الجزائر نفسها[69]. الحديد يُبعِدُ الأرواح[70]، وفي القديم كان يُحمل للتطهر، ونعل الفرس يجلب الحظ في اعتقاد جميع الشعوب، وأهالي إفريقيا الشمالية لا يشكلون استثناء في هذا الباب[71].

    أ) الحـديـــد

    من أين يستمد الحديد هذه الطبيعة؟ لاشك أن اختراع الحديد شكل أحد أكبر الأحداث التي عرفتها البشرية، والأوائل الذين استخدموه أثاروا إعجابا كبيرا وخوفا شديدا[72]، لأن ما من ابتكار جديد إلا ويفزع الإنسان البري. والذين كانوا يعرفون صنع الحديد بَدوا لغيرهم كائنات خارجة عن باقي الكائنات، ومن هنا ربما يأتي كون الحدادين يحتلون مكانة خاصة في سائر المجتمعات، ويكونون في أغلب الأحيان مُهابين ومُحتقَرين.

    ب) الحـدادون في المغـرب [العربـي]

    في الجزائر يُقال للحدادين بني نيات، وهم يشكلون نوعا من فئةٍ تقع خارج المجتمع، فئة لا نملك تحديد طبيعتها. فهم مُحتَقَرون[73]، إذ تعتبرُ صيغة «الحداد بن الحداد» شتيمة[74]، وهم لا يتزوجون عموما إلا فيما بينهم. غير أنَّ تعميمَ استعمال الحديد في أيامنا هذه ضاعَفَ عددَ العمال فيه، وبالتالي ساهم في تلاشي هذه القبْلية[75]. أما في جنوب المغرب، فتعاطي مهنة الحديد مقصور على الحرطانيين، وهم فئة اجتماعية محتقرة بشدَّة. وفي تونس وفي السواحل الجزائرية المتاخمة لها يشكل الحدادون نوعا من الفرقة المهنية المتنقلة، ينحدر جميع أفرادها من بعض القبائل التونسية، من الفراشيش والمادجر بالخصوص، ومن أولاد سيدي عبيد الذين يصنعون بدورهم الأسلحة والمجوهرات ويسمون أولاد بن نجلة[76]. ولدى الطوارق يشكل الحدادون موضوع ازدراء عام ومطلق، كما تروى أساطير عديدة حولهم، ويشتهرون بأنهم كانوا سَحَرة وكفارا لا نسب لهم، والشريف من الطوارق لا يتحارب أبدا مع حداد[77].

    6. الغجَــر الجـزائـريـون

    هناك فئة أخرى ذات طبيعة سحرية بهذا القدر أو ذاك، هي طبقة بني عادس. هكذا يُسمى ما يمكن نعته بالغجر الجزائريين[78]. وهم رحَّل مشتتون في جميع أنحاء الجزائر، يزاول رجالهم مِهَن الوشم، وتجارة الخيل، والسمسرة، وختان الأطفال في بعض الأحيان. أما نساؤهم فينطقن بالفأل الحسن، وذلك بأن يَفحَصْنَ في جوف أياديهنَّ السّكّرَ، وحبات الفول، وثفل القهوة. هنَّ اللواتي يُسمَع صراخهن في طرقات الجزائر: الكزانـة (الناطقة بالفأل).

    في محافظة وهران، يعوِّض العامريون بني عادس، والفئتان متشابهتان في المظاهر والسّلوكات، الفرق الوحيد بينهما هو أن الوشم لدى العامريين أمر مقصور على النساء وتجارة الخيل والسمسرة مقصورة على الرجال. وبحسب المسلمين، فقد لعن العامريين سيدي أحمد بن يوسف وَلي مليانة الشهير، إذ قال لهم: «يلا تطلبوا تصيبوا ويلا تفلحوا تخيبوا [إن شحذتم أصبتم، وإن زرعتم خبتم»[79]، ولهذا السبب يُقال إنهم يعيشون على الصدقة ولا يتعاطون أبدا للزراعة.

    بيد أنه يبدو أن بني عادس يعتبرون أنفسهم على عكس ذلك تماما، لأنهم جميعا خدامه الدينيين ويكثرون من زيارة ضريحه. أهم غجريون، أي سياحُ شعب الهند الفريد الذين انتشروا في أوروبا الغربية في القرن XVIم وأطلقتْ عليهم أسامي مختلفة؟ يبدو أن كلمة كزانة (guezzana) تؤكد ذلك. ففي العربية الدارجة هناك فعل كزن الذي يعني «كشف الحظ أو تنبأ بالمستقبل»، ويظن البعض أنه لم يكن موجودا في الأصل، وأنه إنما اشتق من كزانة[80]. غير أنه من المحتمل جدا أيضا أن تكون هذه المفردة مشتقة من الجذر العربي «جزل»، «être sage, avoir du jugement»[81]، بما أن تحوُّلَ الجيم إلى كاف (ga)، بحيث تنقلب جزل إلى كزن (قراءة الطالع)، أمرُُ عادي في اللهجات المغربية[82]. ولكن سيلاحَظ في هذا الصَّدد أن اسمَ العوالم[83] المصريات (العالمِه) اللواتي يبدو جيدا أنهن غجريات، يعني «عالمة، مثقفة، حكيمة» مثل كزانة. وإذا قرَّبنا هذه الأسماء من «كاهن» و «عراف» المذكورين أعلاه، فكرنا بدون شك في أننا هنا أيضا إزاء فئة يكتسي أفرادها طبيعة سحرية[84]. ومن جهة أخرى، يُعتبر الوشمُ علمية سحرية أساسا[85].

    يقودنا بنو عادس والعامريون طبعا إلى الحديث عن عدد معين من الفئات الاجتماعية الأخرى المعزولة أخلاقيا في إفريقيا الشمالية عن باقي السكان المسلمين، ولكنها تعيش في تجمعات كثيفة. لقد اكتشفَ هذه التجمعات م. مولييراس منذ سنتين، ووصف إحداها، وهي قبيلة زكارة التي تبعد عن وجدة بحوالي 25 كلم[86].

    7. زكـــارة

    كانت هذه القبيلة معروفة منذ وقت طويل، ولكن عاداتها مرت دون أن تفلت الانتباه تقريبا[87]. وإذا لخصنا ما جاء به أستاذ وهران [=مولييراس]، وجدنا الزكاريين يبدون بمثابة جماعة صغيرة مُنحرفة من وجهة النظر الدينية. فهم لا يعيرون الدين أي اهتمام، إذ ينكرون نبوة النبي ولا يؤدون الشعائر الإسلامية.

    أ) العـادات الغريبـة عند زكـارة

    والمسلمون يتهمونهم بجميع أنواع الفظائع، بيد أنه لازال من الصعب تبين نصيب الحقيقة داخل هذا النسيج من الأقاويل والشائعات [حولهم]. يقال إنهم غير مختنين، ولكن هذا لا يبدو صحيحا، ويقال إن لديهم حقّ سيِّدٍ حقيقي يمارسه نوع من الرهبان، وإن لهم عيدا سنويا يشيع خلاله اختلاط مطلق بين الجنسين (ليلة الغلطة)، وهو ما يحتمل أن يكون صحيحا[88]. إلا أن المؤكد هو أن لهم زعماء خاصين ذوي طبيعة قدسية يسمون رسَماء، ومعناه غير مَعْرُوف. وهم يحتقرون المسلمين احتقارا عميقا، ويمارسون بعض العادات الملغزة[89]، غير معروفة بشكل جيد، ويمارسون زواجا مغلقا، ويخدمون علنا ولي مليانة سيدي أحمد بن يوسف. ويقيم بينهم جماعة من أحفاد هذا الولي باعتبارهم صلحاء. بالإضافة إلى ذلك، ينادي الزكاريون بعضهم بعضا بخدام عامر بن سليمان، وهو شخصية خرافية لا نعرف عنها أي شيء اللهم كونه كان تلميذا لسيدي أحمد بن يوسف. أما المسلمون الورعون، فيقولون إنه كان يهوديا مرتدّا حظي بثقة الولي وأشاع في السكان مذاهب فاسدة تحت غطاء سلطة سيده[90].

    ب) تشتت الجماعات الزكارية: زكارة والغجـر

    من جهة أخرى، توجد جماعات هنا وهناك، في المغرب وفي الجنوب الوهراني، شبيهة بالزكاريين من حيث التصرفات. هناك المليانيون على ضفاف سبو، والذين يشير اسمهم إلى أن لهم زعيما شريفا مليانيا[91]، والغواثيون في منطقة الزكاريين نفسها[92]، وغنانمة وادي الصاورة المعروفون بهجراتهم الدورية التي يزورون خلالها ضريح سيدي أحمد بن يوسف في مليانة، ويشحذون ويزاولون حرفا صغيرة، ونساؤهم يلفتن إليهن الأنظار بحريتهن المطلقة في تصرفاتهن[93]. وأخيرا، أشار مولييراس إلى وجود جماعات شبيهة في الصحراء، في تافيلالت، وحول مراكش وحول مكينس[94].

    والخلاصة أنه يوجد عدد من الجماعات الصغيرة شديدة التفرق التي تتميز عن السّكان المسلمين المحيطين بها. إنها أساسا جماعات لا دين لها، يتظاهر أفرادها بخدمة سيدي أحمد بن يوسف، وينتسبون فيما بينهم لعامر بن سليمان. من جهة أخرى، إن الصورة الغريبة لسيدي أحمد بن يوسف، وهو ولي معروف بالخصوص بالأقوال الهجائية المنسوبة إليه، التي لا تحصى حول كل بلد، تلك الصورة مصنوعة بكيفية جيدة لإثارة الانتباه. بالإضافة إلى ذلك، تشير نصوص تاريخية، ليست غزيرة جدا، إلى أنه تعرض لتهمة الزندقة، وهو ما تستفيض كتب مناقب الأولياء المسلمين في مناقشته. ويبقى مؤكدا على الأقل أن طائفة زنديقة قد انتسبت إليه[95]، وكل ما نعرفه عنها على كل حال لا يعدو أنها تسمى شراقة. ويبدو أن هذا الإخلاص لسيدي أحمد بن يوسف يقرِّبُ سلفا بين الجماعات الزكارية من بني عادس والعامريين. واسم هؤلاء يمكن أن يثبت هذا التقارب، بما أن الزكاريين يدعون بأنهم حماة رجل يسمى عامر بن سليمان[96]. والسؤال يبقى مفتوحا، ومن شأنه أن يحسَم إذا تأتت البرهنة على أن «زكارة» ليست سوى اضطراب في النطق شبيه بـ «زنكاري» (Zingari) التي تعدّ واحدة من الأشكال العديدة لمفردة «غجـر».

    لنعد إلى السحرة، لأنه يمكن ألا يكون للجماعات الزّكّارية بهم سوى علاقات بعيدة. رأينا أن تسمية الساحر تنسبُ لبعض المهن التي تعتبر ممارستها قادرة على إثارة الدهشة والإعجاب.

    8. الغريـب باعتباره ساحــرا

    يرى البدائي أن كل ما هو غريب عنه إلا ويكون ساحرا. وفي المغرب العربي توجد فئتان من الناس يعيشون حياة خاصة، هم اليهود والمسيحيون، ويُعتَبرون سحرة في المقام الأول[97]، إذ يُعتَقد أنهم يحفظون عن المسيح الذي يعرفه المسلمون على الخصوص بأنه «كان يحيي الموتى»[98]، أو عن الأنبياء اليهود الذين صار بعضهم - كسليمان - سحرة ميثولوجيين حقيقيين في نظر المسلمين[99]، يُعتَقد أنهم يحفظون تقاليد من الممارسات السحرية. وهي المعتقدات نفسها السائدة في شبه الجزيرة القديمة حيث كان السحرة يهودا بالأساس ورهبانا مسيحيين[100].

    بصفة عامة، يعتبر الغريب ساحرا. وعلى نحو ما ترتبط في اللغة الفرنسية كلمتا étranger وétrange بالجذر نفسه، يُقصَد بكلمة غريب في اللغة العربية معنى étranger وétrange في آن واحد، ولاشك أن الأمر كذلك في العديد من اللغات الأخرى. لن أشدِّد هنا على الآراء الغريبة التي يكونها المسيحيون عن المسلمين الذين لم يروهم أبدا، لأنه سبق لي أن عالجتُ هذا الموضوع في مقام آخر[101]. لقد تسببت هذه الأفكار في فقدان أكثر من مُستشكف، كما أنقذت آخرين، ذلك أن الغريب ما أن يُعتبر ساحرا حتى يُتخذ إزاءه أحد موقفين: إما يُقتل أو يُسعى لاستمالته واتخاذه طبيبا[102]. وقد بلغ هذا الخوف من الغريب ومن جميع الابتكارات[103] كماله في الإسلام داخل نظرية البدعة: كل بدعة زندقة[104].

    وبذلك غالبا ما يكون السحرة غرباء. يرى الإغريق أنهم ينحدرون جميعا من طيسالي[105] وإتروريا[106]، ويرى المسلمون أن الساحر مَا لم يكن يهوديا أو مسيحيا فهو مغربي. ففي ألف ليلة وليلة، يكون السحرة عموما من أصل مغربي. وفي قلب الإسلام، في مكة، الساحر كلاسيكيا هو شخص مغربي[107]. ولكن في المغرب، وبكيفية طبيعية جدا، سيكون السحرة مشارقة. يقول ابن الحاج: «اعلم أيها الطالب أنني قضيت عشر سنوات في البحث عن هذه العزيمة (عزيمة الشمس)، ولم أجدها سوى ف يالعراق عند رجل من بغداد، وكان يصنع بها الأعاجيب»[108]. إنه المثل الخالد: «لا أحد نبي في بلده».

    هكذا يُنسب السحر للأشخاص الذين يزاولون مهنا قلما يزاولها الإنسان العادي، أو التي تجعل منهم فئة خاصة[109]، أو (ينسب) لفئاتٍ بكاملها تعيش معزولة عن المجتمع، إما مجموعات منحرفة، مثل بني عادس أو أعراق مختلفة (كلمة ساحر تعني رهبان الديانة الزرادشتية) أو الغرباء بكل بساطة. كذلك، ما أن يتشكل الدين حتى ينعت بالسحر أو الزندقة كل ما هو خارج عنه، وبذلك ينحَّى الساحر الذي ينتمي إلى هذا المجتمع، يبعَد، يعزل، ينبذ تقريبا من حضنه[110].
    "أن تشعل شمعة خير من أن تلعن الظلام"
    كونفوشيوس (ع)

  7. #7
    تاريخ التسجيل
    Nov 2002
    المشاركات
    4,192

    افتراضي

    10. التشابه بين الساحـر والولي الصـالـح

    مع أن هذا الجرد لقدرات الساحر بعيد عن أن يكون شاملا، فإنه يوضح نقطة ملحوظة وهي أنَّ هذه القدرات مماثلة تماما لنظيرتها لدى الأولياء والصلحاء، وأن لا شيء أشد تعقيدا من التمييز بين الولي والسَّاحر. هذه القدرة على التأثير في أشياء الطبيعة هي ما يسمى بالتصرف لدى الولي[119]، إذ مثل الساحر يحتجب الصالح عن الأنظار بمشيئته، ومثله أيضا يطوي الأرض ويسافر في العالم، ولذلك أطلِق اسم الطيار على عدد كبير من الأولياء. وحتى أكتفي بذكر مثال واحد، هناك سيدي أحمد الطيار الموجود على مقربة من هذه المدينة نفسها، وهي هيدرة[120]. أكيد أن الصلحاء لا يذهبون إلى محافل السبت، ولكنهم يلتقون بالجن، يعلمونهم، ويحفظوهم القرآن. وكتب مناقب الأولياء الإسلامية تزخر بتفاصيل من هذا النوع، إذ تذكر أن الصلحاء يتحولون إلى حيوانات بمشيئتهم، ويحولون بني الإنسان إلى بهائم، وأخيرا فإن لهم دائما حيوانات مفضلة، وأذكر هنا بأسود سيدي محمد بن عودة الموجود بزمُّورة، كما أذكر بجمعية دينية غريبة تسمى هداوة، أفرادها نصف شحاذين ومتسكعين، نصف أولياء، معروفون بمحبتهم للقطط والجديان[121].

    أ) الصـالح: أصله السحـري

    ما القول؟ أنتعمد صدم المسلمين عندما نقول إن الولي ساحرُُ أو الساحر ولي؟ لا، ولكننا نعتقد أنَّ أسلاف الصلحاء - الذين تابع الأولياء المسلمون تقاليدهم تدريجيا - كانوا رهبانا سحرة أي نوعا من الشامان أو نوعا من رجال الطب الذين ينتشر نمطهم بكثرة في المجتمعات البدائية[122]. وسواء أكانوا رجالا أو نساء أحيانا، فالمحتمل أنهم كانوا يحظون بالمكانة الأولى في القبيلة أو في العشيرة. هذا ما يمكن استنتاجه على الأقل من اسم المرابط في اللغة الأمازيغية، أكورام (agourrâm)، وهو كلمة تنحدر من جذر يفيد معنى «الأول»، وبالتالي «الأمير»[123]. بيد أن هؤلاء الأكورام لم يكونوا رهبانا ولا سحرة، لأن التمييز بين الشأن السحري والشأن الديني لم يكن موجودا آنذاك. فيما بعد، عندما ترسخ الإسلام تدريجيا وقبل السكان عقيدته وفهموا جوهرها صار كل ما يخرج عن إطار هذه العقيدة يُعتبر سحرا وعمل ساحر.

    ب) الفرق بين الساحر والصالح

    يتدخل الصالح دائما باسم الله، «تصرفه» شبيه جدا بقدرة الساحر ولكنه بركة من الله، وما يصدر عنه من أعاجيب وخوارق ليس سحرا، وإنما هو فضل من الله أو كرامات. والكرامة مفردة لم يتردد أكثر المستشرقين شهرة[124] في تقريبها من الكلمة الإغريقية smapa cari projhpica. فوق ذلك، لأعاجيب الصالح طبيعة أخلاقية، بمعنى أنها تنسجم مع بعض الغايات الاجتماعية، وليس فقط الفردية[125]. أخيرا فإنه ينشد من الله الرعاية دون أن ينالها ميكانيكيا وبالضرورة بقوة الطقس وحدَه، في حين يشكل هذا [النيل الميكانيكي...] خاصية للسحر. ولكن لاشيء من هذا كله يعتبر مطلقا، والفصل بين الصالح والساحر[126] يظل قائما بشكل رديء، ذلك أن السحرَ ما أن يُبعَد عن الدين حتى ينحو إلى الاندماج فيه ثانية، وعدَدُُ كبير من الممارسات التي لم يمكن القضاء عليها تأسملت. فالإسلام بمنحه الإيمانَ بالجن مكانة رسمية ومكان صدارة، يفتح الباب للسَّاحر. ثم لكون الممارسات الخارجة عن الإسلام تنعت بالسحرية، فإنها تُلوَّن بالنزعة الإسلامية، وهكذا تعوض أسماءُ الله أسماءَ الكواكب أو أسماء جميع الكائنات السحرية الأخرى، وتأخذ صيغ الطلسم حلة إسلامية، والمتطلعون إلى الصلاح والصلحاء أنفسهم يصيرون أحيانا صناعَ أحجبة، فلا يبقى خارجَ الدين إلا السحر الشرير، والساحرُ الحقيقي لا يعودُ سوى الكائن المهاب المعزول، والشقي المهدد بتلقي معاملة عنيفة[127]، وقد سبق أن حددنا خاصياته.

    V. أسلمَـة السحـــر

    غير أن سنقصد بالسحر، في دراستنا[128]، تلك الممارسات والمعتقدات المندمجة بشكل رديء في الشعيرة وفي العقيدة، والتي تشكل مُهمَّشات الدِّين إن جاز التعبير. من الغريب ملاحظة كل هذا العناء الذي يتجشمه مؤلفو كتب السحر ليزيدوا - بخلاف مؤلفي الكتب الدينية الخالصة - في الخلط بين الولي والساحر. فإذا قرأنا فصل التربية (السحرية)[129] في أحد هذه الكتب، لم نجد فيه إلا نصائح خالصة في الأخلاق، والزهد، وكأن الأمر يتعلق بكلام موجه إلى مريد أو مرشح للانضمام إلى إحدى الطرق الدينية. وفوق ذلك فنحن لا نتوفر إلا على معلومات قليلة حول المسارة[130] السحرية في إفريقيا الشمالية سحرية. كيف يصير المرء (وليا) صالحا؟ عند الشعوب البرية، تتضمن مُسارَّة الراهب الساحر (le prêtre-magicien) احتفالات في منتهى الطول والتعقيد، تستغرق أحيانا سنواتٍ وترافقها امتحانات جسدية مؤلمة في أغلب الأحيان[131]: ترمي إلى منح المرشَّح هذه القدرة السِّحرية التي تتوقف عليها حياة القبيلة، وهي (قدرة) تكون وراثية في الغالب. نجد مُعادِلَ هذه المسارَّات في نقل البركة لدى الصلحاء، ولكن سحرة المغرب العربي لم يحتفظوا بأي رواسب من هذه الطقوس، أو على الأقل إن هذه الطقوس لا توجد عندهم إلا مجزأة أو معزولة. وفي سائر الأحوال، يذكر مؤلفو كتب السِّحر سندَهم وسلسلة أساتذتهم الذين نقلوا لهم العلوم الخفية[132]، سلسلة شبيهة تماما بتلك التي يعتز بها مشايخ الطرق الصوفيـة.

    VI. مسألة صـدق السَّاحـر: الساحـر أمام المجتمع

    أخيرا لا بد من الإجابة عن سؤال لن نتوقف عنده طويلا مع ذلك. تحدثنا لحد الآن عن السَّاحر وكأن قدراته حقيقية أو على الأقل كأنه صادق في الإيمان بها، بيد أن الواضح فيما يبدو أنه سرعان ما ينتهي إلى الاقتناع ببطلان عملياته، ومن شأنه هذا أن يقود إلى الاعتقاد بأن جميع السحرة خداعون ودجالون. نعتقد أن الأمر بخلاف ذلك تماما[133]. عموما، نظنَّ أن المسعى الذي يفسر الممارسات السحرية أو الدينية بالخداع والغش يبقى مسعى تبسيطيا. الساحر ليسَ مشعوذا، زد على ذلك أننا لو كنا على هذا الرأي لما كتبنا مؤلفا في أصول الدين؛ لو افترضنا أن الدين ليس بشيء آخر غير الغش لشطبنا بهذا الافتراض نفسه على معطى بحثنا.

    لا شك أن الخداع والتدجيل طالما لعبا دورا ملحوظا في حقلي الدين والسحر، ولكن يجب ملاحظة أن بين الغش والخطأ هناك جميع الأطوار الانتقالية الممكنة. لا شيء يسلط الضوء جيدا على هذه الحقيقة سوى الأبحاث المتواصلة منذ ربع قرن حول ظواهر التنويم المغناطيسي[134]. بات من المتعذر إطلاقا الاعتمادُ على التفسير الفولتيري للدين باعتباره تدجيلا. في المجتمعات البدائية التي يعتبر وجودُ الساحر ضروريا للقبيلة، لا يغش هذا الساحر نفسه فحسب، بل ويدفع الرأي العام أيضا إلى الإيمان بفعالية الطقوس. وعلى كل حال، فالاحتفالات الطقوسية تكون جد معقدة، ومن ثمة إمكانية ردّ الفشل دائما إلى خطإ في إنجاز الطقس، ومنذئذ يقوي الخطأ الإيمانَ بدل أن يُعرضه للتصدع. وحتى إذا كان الساحر لا يؤمن بسحره، فإنه يظن هذا السحر ممكنا. ولا شك أنه يمزج غالبا بين قسط من الإثارة والإخلاص على نحو ما هو شائع في ظواهر التنويم المغناطيسي، ولكنه لا يكذب عموما، لأن إيمان الجميع بسحره يفرض نفسه عليه بالضرورة[135]. كذلك الأمر في المجتمعات التي يُعزل فيها الساحر ويُحتقر، إذ يشكل هذا العزل نفسه المفروض عليه، يُشكل دليلا على الخوف من شروره والإيمان بسحره. فوق ذلك يقصده الناس التماسا وتوسلا، وعنده دائما نصف إخلاص على الأقل. إن الإيمان الشائع هو ما جعله ساحرا في الماضي والدين هو ما يحدِّدُه ويؤهله اليوم من خلال إبعاده.









    --------------------------------------------------------------------------------

    [1] لمزيد من التفاصيل يمكن العودة لسائـر أدبيات مبادئ الأنثروبولوجيا. ويمكن أن نذكر منها، على سبيل المثــال، لا الحصـر:

    - (S. A), L'Anthropologie, Origines, Développement, concepts, Oeuvres, Théories, Paris, ED.MA, (S.D.); Evans Pritchard, Anthropologie sociale, Payot, P.B.P., 1967.

    أو: إ. بريتشارد، الإناسة المجتمعية. ديانة البدائيين في نظريات الإناسيين، ترجمة: حسين قبيسي، بيروت، دار الحداثة، ط. I / الأولى 1986.

    - Jean Poirier, Histoire de l’ethnologie, Paris, P.U.F., Que sais-je? (n° 133), 3ème édit., 1984; - François Laplantine, Clefs pour l'anthropologie, Paris, Seghers, 1987; Robert Lowie, Histoire de l'ethnologie classique des origines jusqu'à la 2ème guerre mondiale, Paris, Payot, 1971.

    أو: ر. لوي، تاريخ الإثنولوجيا من البدايات حتى الحرب العالمية الثانية، ترجمة: نظير جاهل، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر والتوزيع، 1992).

    - Jean-Paul Colleyn, Eléments d'anthropologie sociale et culturelle, Bruxelles, Edition de l'université de Bruxelles, 1988.

    - د. حسن فهيم، قصـة الأنثروبولوجيا، عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة، الكويت، 1986؛ جاك لومبار، مدخل إلى الإثنولوجيا، م. س.، 1996.

    [2] صيغة «بشمال إفريقيا» في العنوان الرئيسي من إضافتنا، وأرقام العناوين الفرعية من إضافتنا أيضا. أما عبارات هذه العناوين، فهي من صياغة المؤلف، وما تصرفنا فيها إلا بنقلها من رؤوس صفحات الدراسة إلى وسطها. (م).

    [3] Cf. Henry, Parcisme, p. 156 et passim (Voy. ind.)

    [4] إلا أن لفظ مجوس، ستستعمل فيما بعد للدلالة على الوثنيين وأتباع الديانات الأجنبية. وهو يستعمل بصفة خاصة للدلالة على النورمانديين، أو أيضا على الهراطقة مثل صالح، نبي البرغواطيين (القرطاس، طبعة تورنبرغ، ص. 82 من النص العربي). Cpr غرنباوم في Z.D.M.، 1877، ص. 248.

    [5] نص الآية هو: «إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد». (م).

    [6] القرآن، X: 2، XVII: 50، XXI: 3، XXV: 9، XXXIV: 42، XXXVIII: 3، XLIII: 29، XLVI: 6، LXXIV: 24 [والآيات هي على التوالي: «أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن آنذر الناس وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم قال الكافرون إن هذا لسحر مبين» (يونس: 2)؛ «نحن أعلم بما يستمعون به إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى إذ يقول الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا» (الإسراء: 47)؛ «لاهية قلوبهم وأسروا النجوى الذين ظلموا هل هذا إلابشر مثلكم أفتاتون السحر وأنتم تبصرون» (الأنبياء: 3)؛ «فلما جاءتهم آياتنا قالوا إن هذا لسحر مبين» (النمل: 13)؛ «وإذ تتلى عليهم آياتنا بينات قالوا ما هذا إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم وقالوا ما هذا إلا إفك مفترى وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم إن هذا إلا سحر مبين» (سبأ: 43)؛ «وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب» (ص: 4)؛ «ولما جاءهم الحق قالوا هذا سحر وإنا به كافرون (الزخرف: 30)؛ «وإذا تتلى عليهم آيتنا بينات قال الذين كفروا للحق لما جاءهم هذا سحر مبين» (الأحقاف: 7)؛ «فقال إن هذا إلا سحر يوثر» (المدثر: 24)]، ويرى القرآن أن موسى (XX: 66؛ XXVI، 33؛ XL: 25، الخ.) [على التوالي: «قال بل القوا فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى» (طه: 66)؛ «قال للملإ حوله إن هذا لسحر عليم» (الشعراء: 33)؛ «ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين، إلى فرعون وهامان وقارون فقالوا ساحر كذاب» (غافر: 23-24)] والمسيح (V: 110) [«إذا قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طائرا بإذني وتبرئ الأكمَه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين» (المائدة: 110)]) وصالح نبي عادٍ (XXVI: 185) [«قالوا إنما أنت من المسحَّرين» (الشعراء: 185)] قد تلقوا معاملة مماثلة من لدن معاصريهم. (نصوص الآيات من إثباتنا - المترجم -).

    [7] كان محمد يُعتبر مجرد كاهن، ويدافع عن نفسه في مكانين من القرآن LII: 29 [«فذكر فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون» (الطور: 29)] وLXIX: 42 [«وما هو بقول كاهن قليلا ما تذكرون، ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون» (الحاقة: 41-42)]. ابن هشام، السيـرة النبوية، ج. 1، ص. 171. وحول الكاهن، انظر على الخصوص:

    - Wellhausen, Reste ar. Heid., 2e éd. p. 134-138 et Goldziher, Abhandlungen, I, p. 18 seq.

    [8] ابن هشام، م. س.، حيث يَردُ أن محمدا لم يكن كاهنا، ولا مجنونا، ولا شاعرا، ولا ساحرا.

    [9] ابن هشــام، م. س.، راجـع أيضـا: Goldziher, Abhandlungen, I, p. 19 seq، (والمرجع الأخير أساسي لدراسة أصـل الشاعر).

    [10] الأغانــي، طبعة جديدة، ج. 21، ص. 21 وما يليها. انظر أيضا:

    - Caussin de Perceval, Essai hist. Ar. acant l’Isl., II, p. 263.

    [11] ابن هشام، م. س.، ج. 1، ص. 9 وما يليها. وابن كثير، السيرة النبوية، ترجمة: Desvegers، ص. 102، حيث يجد القارئ معلومات أخرى.

    - Caussin de Perceval, op. laud., II, 263.

    [12] الأغانـي، ج. 10، ص. 36. وCaussin de Perceval, op. laud., II, p. 480

    والكلمة مستعملة هنا لنعت العراف هي «قائف» [من قيافة، ويعرفها زكريا القزويني على النحو التالي: «القيافة على ضربين: قيافة البشر، وقيافة الأثر. أما قيافة البشر فالاستدلال بهيئات الأعضاء على الإنسان ويختص هذا الاستلال بقوم من العرب يقال لهم بنو مدلج، يُعرَض على أحدهم مولود في عشرين امرأة فيهن أمّه يلحقه بها (...) أما قيافة الأثر فالاستدلال بآثار الأقدام والخفاف. وقد اختص هذا الاستدلال بقوم في المغرب أرضهم ذات رمل فإذا هرب منهم هارب أو دخل عليهم سارق تبعوا آثار قدميه حتى يظفروا به. ومن العجب ما حكي أنهم يعرفون أثر قدم الشاب من الشيخ والرجل من المرأة والغريب من المتوطن». زكريا القزويني، عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات، تحقيق فاروق سعد، بيروت، دار الآفاق الجديدة، ط. I، 1973، ص. 344-345. (م)].

    [13] الأغانـي، ج. 15، ص. 70؛ Caussin de Perceval, op. laud., II, p. 582

    [14] Caussin de Perceval, op. laud., I, p. 337; p. 123.

    [15] الأغانـي، ج. 10؛ Caussin de Perceval, op. laud., II, p. 493. وبالنسبة لهذه الملاحظة كما لسابقاتها، سنجد إحالات على Frencel ومؤلفين آخرين في Caussin. بالنسبة لاستشارة العراف في موضوع مرتكب عملية اغتيال، انظر العادة الصحراوية كما يوردها ترومليت Trumelet في كتابه: Français dans le désert, 2e éd., p. 89

    [16] انظـر: Welhausen, Reste arab. Heid., p. 136،

    حيث يحيل على الأغاني، ثم راجـع: contrل, Lagrange. Et. s.l. rel. sém., p. 218, n.4

    [17] ابن هشام، السيـرة، ج. 1، ص. 92؛ وانظر أيضا:

    - Caussin de Perceval, op. laud., I, p. 261.

    [18] الأغانـي، ج. 9، ص. 155-156، وانظر أيضا: Caussin de Perceval, II, p. 6

    [19] الأغانـي، ج. 19، ص. 95، وانظر أيضا: Caussin de Perceval, I, p. 205

    [20] الطبري، تاريخ الطبري، طبعة ليدن، ج. 1، ص. 1911-1912، ص. 1930؛ ج. 2.، ص. 1287، و:

    - Caussin de Perceval, op. laud., III, p. 353; Sprenger, D. Lehre d. Mohammed, III, p. 305.

    انظر أيضا ظريفة، وهي عرافة شهيرة، في المسعودي، مروج الذهب، ترجمة Barbier وMeynard، ج. 3، ص. 378. للمزيد من التفاصيل حول الكاهن، والوقوف على إحالات عديدة على النصوص، راجع: Welhausen, Reste arab. Heid., loc. cit.

    [21] Gldziher, Abhandlugen, I, p. 25, n. 1.

    وقد استشار عبد المطلب عرافا بخبير: ابن هشام، السيـرة، ج. 1، ص. 98.

    [22] ابن هشام، ج. 1، ص. 114، ويبدو أن هذه الكلمة هي المفردة العبرية ‘ôb التي تعني «مناجي الأرواح».

    [23] ابن الأثير، [الكامل في التاريـخ]، ترجمة Fagnan، ص. 80.

    [24] Procope, De bello vandalico, II, p. 80.

    [25] نجد الإحالات في: Fournel, Hist. des Berbères, I, p. 251. وفي الإدريسي، ترجمة Dozy وGoeje، ص. 51 في الترجمة وص. 48 في النص الأصلي، يتعلق الأمر بكاهنة أخرى (ساحرة وليست كاهنة) كانت تقيم في ضفاف النيل وكانت تسمى أيضا داهية، ويبدو أن هذه الكلمة التي تفيد معنى «محتالة»، كانت تطلق على الساحرات بالخصوص.

    [26] فضلنا أن نسوق هذا المقطع [من: ابن عذاري المراكشـي، البيـان المغـرب في أخبار الأندلس والمغرب، تحقيق ومراجعة: ج. س. كولان وإ. ليفي بروفنسال، بيروت، دار الثقافة، ط. III / 1983، ج. 1، ص. 35] بدل ترجمة مقابله في نص دوتيه، وهو:

    «H’asan ibn No‘mân ayant demandé aux habitants de Cairaouan s’il restait quelque chef puissant dans l’Ifriqita dont il était gouverneur, ils lui répondèrent que la Kâhina était la reine des Berbères, que son pouvoir était absolu et que s’il parvenait à la vaincre, tout le Maghrib se soumettait». (م).





    [27] القرطاس، ص. 186، ابن خلدون، البربر، ج. 2، ص. 71؛ ج. 3، ص. 272؛ ابن الأثير، ترجمة Fagnan، ص. 514، الخ.

    [28] البكري، ترجمة Slane، ص. 229؛ ابن خلدون، البربر، ج. 2، ص. 143؛ القرطاس، ص. 135.

    [29] Mouliéras, Maroc inconu, II, p. 346, n. 3

    وهذه المعلومة تبرر درس «دبو»

    [30] Crawley, Mystic Rose, p. 206.

    [31] راجع، على سبيل المثال:

    - Fustel de Coulanges, Cité antique, 18e éd., p. 37-38.

    [32] Hubert et Mauss, Magie, in Ann. Soc., VII, p. 23, 120-1,

    وبالنسبة للعصور القديمة، راجع:

    - Hubert, in Dic. des Antiquités, art. Magia, p. 1510, n. 28,

    بالنسبة لآشور، راجع: Fossey, Magie assyrienne, p. 43، وبالنسبة لليهود، راجع: Blau, Altjüd. Zauberwesen, p. 23، وبالنسبة للعرب، راجع: Welhausen, Reste ar. Heid., p. 159

    [33] المندل هو ما يقال له بالعامية «المحلة»، وهي طريقة في قراءة الغيب، من الأوصاف التي قدمت له حديثا، بناء على معاينة ميدانية بمدينة الرباط، ما يلي: «المحلة بها يستطيع [الفقيه] الكشف عن السارق (...) وهو يشترط لهذه الغاية أن يكون (الناضور) وهو الشخص الذي سيرى الجن ليكشفوا له عن السارق، يشترط أن يكون صبيا صغيرا أو امرأة سوداء أو امرأة حاملا، بعد ذلك يرسم جدولا (...) في كف (الناضور)، ويرسم نقطة سوداء في نفس الكف، ثم يأمر (الناضور) بتركيز النظر على تلك النقطة ويأخذ هو في ترديد (...) عند ذلك يطلب من (الناضور) أن يصف له وجه السارق..»، عن: نادية بلحاج، التطبيب والسحر في المغرب، الرباط، الشركة المغربية للناشرين المتحدين، ط. I، 1986، ص. 166. (م).

    [34] E. Doutté, Magie et religion en Afrique du Nord, chap. VIII.

    [35] البكري، ترجمة Desparmel، ص. 177.

    [36] Léon l’Africain, in Ramusio, éd. de 1554, fol. 43.

    [37] هو ما يعرف في العامية بـ «الخط الزناتي»، نسبة لأحد أبرز أعلامه (محمد الزناتي المتوفى سنة 1298 هـ.). وخط الرمل (أو علم الرمل) طريقة في قراءة الغيب، يقوم فيها الفقيه بوضع أربعة سطور من النقط، ثم - انطلاقا من عمليات حسابية وتأليفات مختلفة - ينتهي باستخراج 16 شكلا رمليا، يقال لها البيوت، حيث لكل بيت اختصاصه (بيت المال، بيت الأولاد، بيت السفر، بيت الزواج، الخ)، فيقرأ ما بضمير السائل انطلاقا من دلالات تلك الأشكال والعلاقات القائمة بينها. ومع أن للعرب أسطورة ترجع بهذا «العلم» إلى النبي إدريس، وتقول إنه تعلمه من الملاك جبريل، فالراجح أنهم استمدوه من الصينيين. للمزيد من المعلومات حول الموضوع، راجع:

    - Robert, Ambert, La Géomancie arabe et ses miroirs divinatoires, Paris, Robet Laffont, 1984. (م).



    [38] Léon, op. laud., fol. 43, C; 65, D.

    [39] موغادور هي الصويرة اليوم.

    [40] Diego de Torrès, Histoire des Chérifs, trad. fr. de 1637, p. 312.

    [41] حيوانات بحرية من عضديات الأرجل ذوات صدفات بيضوية ملساء مثقوبة البطن. (م)

    [42] Doutté, Merrâkech, I, p. 346.

    [43] Vassel, Litt. pop. des Israélites tunis., in Rec. tun., 1905, p. 210, p. 242. Cpr la صراعة أو عرافة, id., p. 544.

    [44] informateur: سبق شرح المفردة في الهامش رقم 7 بدراسة أ. م. هوكارت «المسارة، الرجولة والعلاج» المنشورة ضمن الكتاب الحالي. (م).

    [45] Welhausen, op. laud., p. 160.

    [46] Welhausen, loc. cit.;

    يجب فهم التنبؤ بالماء البارد في العصر الوسيط بالغرب.

    [47] Lehmann, Aberglaube und Zauberei, p. 507 ad f.

    [48] حول خفال يهود تونس، راجع: Vassel, op. laud., in Rev. Tun., 1905, p. 220

    [49] «الرقية» سحر علاجي، من رقى «عوَّذَ ونفث في عودته» [ابن منظور، لسان العرب، بيروت، دار صادر (د.ت)، ج. 14، مادة: رقا (م)].

    [50] Doutté, loc. cit.; cpr. Hérodote, IV. 77, 2.

    [51] لنسجل مع ذلك أن المؤلفين العرب يقولون إن الطب والمطبوب لا يستعملان بالنسبة للسحر والمسحور إلا على سبيل التلطيف (القسطلاني، صحيح البخاري، VIII، ص. 603).

    [52] Cpr. Snouck Hurgronje, Mekka, II, p. 115.

    ولمزيد من التفاصيل حول الأطباء والطب في مكة، راجع: نفسـه، ص. 116-118. أما حول العلاقات بين الطبيب والساحر عموما، فراجـع:

    - Lehmann, Aberglaub, und Zaubercei, p. 18.

    [53] كل مؤلف لكتاب في السحر يجد نفسه مضطرا لذكر حكماء العهود القديمة: بل هناك من يمضي إلى الزعم بأنه اطلع على مؤلفاتهم! انظر مثلا مقدمة كتاب صغير واسع الانتشار، المختار في كشف الأسرار، لعبد الرحيم الجوباري. وحول الحكيم، راجع:

    - Delphin, Textes d’arabe parlé, p. 59, n 2.

    [54] Rohlfs, Mein erster Aufenthalt in Marokko, 1885, p. 134-135.

    [55] هناك ديانات عديدة مختلفة جدا فيما بينها، تحفظ فيها مزاولة الطب للرهبان. كذلك الأمر في التيبت. انظـر: Laufer, cité ap Mauss in Ann. Sociol., v. p. 225

    وحول الصراع بين الطب والسحر، راجع:

    - Ibn Khaldoun, Prolégomènes, trad. de Slane, III, p. 164.

    [56] Dr Raynaud, Hygiène et médecine au Maroc, p. 120.

    [57] Quendenfeldt, Kranheiten, Volksmedizin aberglaübische Kuren in Marokko, in Ausl., 1891, p. 76; Rohlfs, op. laud., p. 133-134; Raynaud, op. laud., p. 117-121.

    حول الطبيب الجزائري، راجع: Robert, L’Arabe tel qu’il est, p. 35

    [58] لم نتوقف في العثور على مقابل هذا المصطلح. علما بأن السابقة (lithos) من أصل إغريقي، تعني «حجرة»...

    [59] Rohlfs, loc. cit.

    [60] Hubert et Mauss, Magie, in Ann. Sociol., VII, p. 24-25.

    [61] وهي الشعر واللحية، راجع كتابنا السحر والدين في إفريقيا الشمالية (بالفرنسية)، م. س.، ص. 60.

    [62] راجـع: Desparmet, Arabe dialectal, 2e période, p. 140

    حول العلاقات بين الحلاق والطبيب في مكة، راجع:

    - Snouck Hurgronje, Mekka, II, p. 115-116; cpr. Lagrange, ةt. sur les rel. sém., 2e éd., p. 211-220.



    [63] Hubert, Magia, p. 1498, avec nombreuses références; Reinach, Cultes, mythes et religions, II, p. XIII-XIV.



    [64] حول المعتقدات الخاصة بالحديد لدى العبريين، انظـر: Blau A ltjüd. Zaub., p. 159

    [65] سورة الحديد، الآيـة: 25. (م).

    [66] Chronique d’Abou Zakariya, trad. Masqueray, p. 177, n. de p. 176.

    [67] البقية: سبق شرحها في الهامش رقم 7 من دراسة ج. بران «الرمز والسحر» المنشورة ضمن الكتاب الحالي. (م).

    [68] Frazer, Rameau d’or, trad. franç., I, p. 273.

    [69] Dan, Hist. de Barb., p. 349.

    [70] Frazer, op. laud., I, p. 377 et n. 2; Laurence The Magic of the Horse-shoe, p. 26-40.



    في إفريقيا الشمالية، غالبا ما يصلح الحديد، على شكل مُديَة أو سيف، لوقاية المخطوبة من العين [الشريرة]. راجع على سبيل المثال: Hanoteau et Letourneu, Kabylie, II, p. 219

    [71] Robert, L’Arabe tel qu’il est, p. 45; Tylor, Civ. prim., I, p. 146;

    ولكن بالنسبة لمختلف التفسيرات التي منحها لهذا المعتقد، راجع:

    - Rob. Means Lawrence, The Magic of the Horse-shoe, Boston, 1898.

    [72] في هذا الصدد، نحيل القارئ على دراسة جملية لألفرد ميترو، تحت عنوان «ثورة الفأس»، ترجمها: عبد اللطيف قطيش، ونشرها حسن قبيسي ضمن كتابه المتن والهامش. تمارين على الكتابة الناسوتية [=الإثنولوجية]، البيضاء-بيروت، المركز الثقافي العربي، ط. I، 1997، صص. 309-321. (م).

    [73] حول ازدراء الحدادين، راجع: Marçais, Dial. de Telemcen, p. 286

    وكذا المراجع التي يقدمها، وبالخصوص الإحالة على:

    - Goldziher. Aj. Hartmann, Lied. lib. Wüste, p. 35-36; Robert, L’Arabe tel qu’il est, p. 99.



    [74] Delphin, textes d’ar. parlé, p. 93.

    [75] Abderrahman Mohammed, Lectures choisies, 2e période, p. 38.

    [76] Levasseur, Une corporation de forgerons, in Bull. Soc. géogr. Alger, XI, 1906, p. 215-216.

    [77] Benhazera, Six mois chez les Touareg du Aggar, in Bull. Soc. Géog. Alg., 1906, 4e trim., p. 323-324.

    [78] حول القرابة المحتملة بين الغجر وإحدى فئات شبه الجزيرة العربية، راجع:

    - Oppenheim, Vom Mittelmeer z. pers. Golf, I, p. 720-221, et II, n. 3 de la p. 218.



    حيث توجد مراجع. وحول بني عادس، إحالة في روبرت، العربية كما هي (بالفرنسية)، م. س.، ص. 44 وكذلك الهامش 75 من البحث الحالي.

    [79] Abderrahman Mohammed, op. laud., p. 35.

    [80] Bataillard, Sur les Bohémiens ou Tziganes, part. en Algérie, in AFAS, 19881, p. 780, et Bull. Soc. Anthrop., Juillet 1873, p. 678.

    [81] «رجل جيد الراي وامرأة جزلة بينة الجزالة: جيدة الرأي. وما أبين الجزالة فيه أي جودة الرأي»، ابن منظور، لسـان العـرب، م. س.، ج. 11 (مادة: جزل). - م -

    [82] ذلك هو رأي م. و. مارسيه. ومن الملائم ملاحظة أن كلمة كزانة معروف في المغرب بمعنى «قرئات الطالع»، بحسب ميرسييه:

    - Mercier, Les mosquées et la vie religieuse à Rabat, in Arch. marocaines, vol. VIII, p. 141.

    [83] مفردها عالمة: راقصة مغنية من الشرق، ويطلق على الجماعة اسم العوالم (almées). (م).

    [84] قارن كلمتي شيخة وعريفة بمعنى «عالمة»، وهما تستخدمان في المغرب للدلالة، بالتتابع، على المغنيات والنساء المكلفات (الحريم، السجن، شرطة الأخلاق) بحراسة نساء أخريات (الطبيعة السحرية للنساء).

    [85] انظر كتابنا: السحر والدين في إفريقيا الشمالية (بالفرنسية)، م. س.، ص. 149-150.

    [86] Mouliéras, Une tribu antimusulmane au Maroc, in Bull. Soc. Géog. Oran, 27e ann. t. XXIV, p. 243, seq., et à part, Paris, 1905.



    [87]ومع ذلك فقد تمت الإشارة إليهم [زكارة] في بضعة أسطر من قبل الكونت Demaeght في: Bull. Soc. Géog. Oran, 19e ann., t. XXIII, p. 149-194

    [88] في ليون الإفريقي، ضمن Ramusio, I, fol. 61, A، نجد خبرا شبيها تماما بخصوص قبيلة مغربية أخرى.

    [89] مثل زواج المرأة بطفل في سن مبكرة، انظر مولييراس، م. س.، ص. 91.

    [90] Mouliéras, op. loud., p. 91.

    [91] Salomon, Les Bd’âd’oua, in Arch. Maroc., II, p. 358 seq.

    [92] Mouléras, op. loud., p. 167.

    [93] Doutté, Marabouts, p. 99; Mouliéras, op. loud., p. 51, 251.

    [94] Mouléras, loc. cit.,

    والمؤلف نفسه يذكر كذلك بعض جماعات غياثة، ص. 54، cpr في هذا الموضوع:

    - de Ségonzac, Voyages au Maroc, p. 215.

    وقد فحصت للتو (دجنبر 1906) الملاحظات الأساسية التي ذكرها مولييراس ودو سليمان فيما يتعلق بغنانمة مراكش. انظر:

    - Gognalons, Ouled Aïssa in Bull. Soc. Géog. Oran, 1906, p. 354 seq.

    [95] ابن عسكر، دوحة الناشـر، ص. 90؛ أحمد بن خالد [الناصري]، الاستقصا، III، ص. 23.

    [96] هذا وهو رأي جورج ماسيه في مؤتمر مستشرقي الجزائر، سنة 1905، وم. مونتيه، من جهة أخرى، يقربها للدروزية

    (Montet, in Rev. Hist. Rel., nov.-déc., 1905, p. 415-428)

    [97] Blau, Altjüd. Zaub., p. 36 et n. 1

    [98] تتضمن كتب السحر عموما فصلا حول الوسيلة التي كان عيسى يحيي بها الموتى. انظر كتابنا: السحر والدين في شمال إفريقيا (بالفرنسية)، م. س.، ص. 89، هامش 3، والفصل IV.

    [99] بالخصوص سليمان الذي كان يحكم الجن؛ انظر القرآن XXI، 81؛ XXVII، 17 وما يليها؛ XXXIV، 11 وما يليها؛ XXXVIII، 29، 38 [على التوالي: «ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها وكنا بكل شيء عالمين، ومن الشياطين من يغوصون له ويعملون عملا دون ذلك وكنا لهم حافظين» (الأنبياء: 80-81)؛ «وحُشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون» (النمل: 17)؛ «ولسليمان الريح غدوها شهرٌ ورواحها شهرٌ وأرسلنا له عينَ القطر ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه عذاب السعير» (سبأ: 12)؛ «ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب، قال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب، فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب، والشياطين كل بناء وغواص» (ص: 34-37». (م)]، و[انظر] مفسري القرآن حول هذه الآيات. كان الأمر على النحو نفسه في نظر القدماء. راجع:

    - Blau, op. laud., p. 31 et n. 1.

    [100] Welhausen, op. laud., p. 31 et n. 1.

    [101] Marrakech, p. 28 seq.

    حول الغريب بصفة عامة وفي المغرب بالخصوص، راجع كذلك:

    - Westermarck, Sociales relations, in Sociol. Pap., Kâfir ou mécréant exposées dans Snouck Hurgronje, Mekka, II, p. 48-49.



    [102] انظر على سيبل المثال:

    - Reinaud, Monuments arabes, et..., I, p. 66. Cpr. Duveyrier, Touareg du Nord, p. 418-419.



    [103] Frazer, Rameau d’Or, trad. franç., I, p. 274-275.

    [104] Goldziher, Die Zâhiriten, p. 18.

    [105] منطقة جبلية واسعة تقع وسط اليونان. (م).

    [106] Hubert, Magia, p. 1500-1501. [إتروريا: كانت تقع قديما غربي إيطاليا (م)]

    [107] Cf. Snouck Hurgronje, Mekka, II, p. 119; Goldzihzr, in ZDMG, XLI, p. 48 seq.



    [108] ابن الحاج، شموس الأنوار، القاهرة 1322، ص. 33، انظر كتابنا: السحر والدين في إفريقيا الشمالية (بالفرنسية)، م. س.، ص. 69.

    [109] ألأجل هذا تعتبر العاهرات أحيانا بمثابة ساحرات (Fossey, op. laud., p. 51) أم بسبب التجاوز الذي يقمن به من خلال المتاجرة بالجنس الذي يعتبر ذا طبيعة قدسية أو سحرية في أعين البدائيين؟ انظر كتابنا: السحر والدين في إفريقيا الشمالية، م. س.، الفصل XII؛ ص. 45، هامش 1.

    [110] والعزلة التي تفرض على الأرامل والعازبات توجههن، من بين سائر النساء، إلى السحر. راجـع:

    - Blau, op. laud., p. 25. Cf. Hubert et Mauss, op. laud., p. 129.

    [111] Fossey, op. laud., p. 47.

    [112] انظر كتابنا: السحر والدين في شمال إفريقيا، م. س.، الفصل V.

    [113] ابن الحاج، شموس الأنوار، م. س.، ص. 53-56 يحظى بكلام طويل من الجني دهموش الذي يخبره بنتظيمات الجن.

    [114] راجع كتابنا السحر والدين في شمال إفريقيا، م. س.، ص. 93.

    [115] يبدو أن «محفل السبت» (Sabat) يشكل النقطة الأساسية في جميع محاكمات السحر في أوروبا عهد الإصلاح الديني. وبحسب أقوال محاكم التفتيش، يتعلق الأمر في تلك المحافل باجتماعات ليلية يعقدها السحرة والساحرات سرا بحضور الشيطان وتحت سلطته قصد التعاطي لكل أنواع الأعمال المنافية للدين والأخلاق والأعراف. وقد كتب دو لانكر، بهذا الصدد، أن السحرة كانوا في تلك الاجتماعات «يرقصون ببذاءة، يحلفون بحرارة، يتضاجعون بشكل شيطاني، يمارسون اللواط بشكل لعين، يشتمون بفظاعة، ينتقمون بمكر، يجرون بفظاظة وراء كل الرغبات المرعبة القذرة المنحرفة، يمسكون الضفادع والثعابين والعظايات وسائر أنواع الحيتان بعناية كبيرة، يحبون حبا جما تيسا نتنا، يلامسونه بحنان، يخالطونه ويجامعونه بشكل شنيع ووقح...». نقلا عن:

    - Josane Charpentier, La sorcellerie en pays basque, Paris, Guénégaud, 1977, p. 144. (م).

    [116] Welhausen, op. laud., p. 159

    والإحالة علـى: Derenbourg; Kremer, Culturegesch de l’Orient, II, p. 263

    [117] Welhausen, loc. cit. et la référence à Doughty.

    [118] Hubert et Mauss, Magie, loc. cit., p. 31-23.

    [119] للوقوف على قدرة راعي الكنيسة في قرانا، راجع: Frazer, op. laud., I, p. 71

    [120] Hydra أو Haïdra: مدينة تونسية صغيرة، تقع على مقربة من الحدود الجزائرية التونسية الشمالية، اعتمدنا في تحديد موقعها على خرائط Atlas Mondial، باريس، هاتيي، 1980، وهي من إعداد الأستاذ André Journaux(م).

    [121] Mouliéras, Maroc inconnu, II, p. 61, 184 seq.

    [122] نرى أن الكاهن العربي والكوهين اليهودي هما الرجل الطبيب البدائي. أما لافرانج Et. s. l. rel. sém., p. 218، فيرى العكس، إذ يقول إن الكوهين اليهودي هو الراهب الذي انحدر منه الكاهن العربي.

    [123] يرى العرب أن هذه الكلمة تنحدر من الجذر (ك ر م)، مرتكزين على كون خوارق الأولياء تسمى كرامة: ولكن هذا الاشتقاق قليل الاحتمال. وسنرى أنّ موقعَ الأكورام في مجتمع الشلوح يؤكد فرضيتنا.

    [124] Goldziher, Muhamm. Studien, II, p. 273.

    [125] Blau, Altjüd. Zaub., p. 32.

    [126] انظر، مثلا، المجهودات التي يقوم بها ابن خلدون للتمييز بين المتصوفة والسحرة، المقدمة، م.س.، ج. 3، ص. 184.

    [127] انظر كتابنا: السحر والدين في إفريقيا الشمالية (بالفرنسية)، م. س.، الفصلين VI، VIII.

    [128] نفسـه. (م).

    [129] انظر ابن الحاج، شموس الأنوار، م. س.، ص. 40-43؛ ولاحظ كيف أن الوصفات المؤذية الموجودة بالصفحة 97 تنتهي كلها بعبارة «اتق الله».

    [130] initiation: سبق شرحها في الهامش رقم 3 من دراسة جان بران «الرمز والسحر» المنشورة ضمن الكتاب الحالي. (م).

    [131] انظر، على سبيل المثال، الوصف الجميل لمسارة الساحر الأستـرالي، في:

    - Marcel Mauss, Origine des pouvoirs magiques dans les soc. austral. (Ecole des Hautes Etudes, 1904), p. 14-50.

    [132] انظر مثالا جميلا، حوال تعداد البوني، في كتابنا: السحر والدين في إفريقيا الشمالية (بالفرنسية)، م. س.، IV، ص. 136 وما يليها (الفصل الأخير).

    [133] Tylor, Civil. primit., I, p. 158.

    [134] انظر التصنيف المفيد الذي أنجزه ماكويل، بخصوص الغش والأخطاء، في:

    - Maxwell, Phénomènes psychiques, p. 310.

    [135] Hubert et Mauss, Magie, p. 36, 92; Mauss, op. laud, in
    "أن تشعل شمعة خير من أن تلعن الظلام"
    كونفوشيوس (ع)

  8. #8
    تاريخ التسجيل
    Nov 2002
    المشاركات
    4,192

    افتراضي

    نجيمـة بلانطــاد

    السّاحِــرة: طـُرق الانتقـاء[1]







    تتوفر اللغة القبائلية[2] على عدة كلمات للدلالة على المرأة التي نطلق عليها هنا اسم ساحرة. ومع أن المعنى الدقيق لكل الأسامي لا يتوفر دائما، فإنه يمكن ترجمتها بمراعاة فوارقها الدقيقة ما أمكن.

    لقِبْلَـــة

    كلمة من أصل عربي مشتقة من الجذر (ق ب ل) الذي يعني «واجَه»، وتطلق على المطببة عموما والمولدة بالخصوص. وتتميز لْقِبْلَة عن غيرها من النساء بما امتلكته من معرفة بالأعشاب والتقنيات العلاجية. وتكتسب مهنتها بواسطة التجربة وغالبا انطلاقا من قيامها، وبشكل اضطراري، بأول عملية توليد. إنها امرأة في سن اليأس عموما، حبِلَت وَوَلَدَت عدة مرات، تحظى بهالة «تجعلها ستدخل الجنة مباشرة»[3]، كما أنها مُحتَرَمة ومندمجة تماما في المجتمع، وليس لكلمة قبلة نظير في المذكر.

    تَادرويشـت

    اسـم منحدر من الكلمة الفارسية «درويش» التي تعني الصّوفي المسلم المنتمي إلى زاوية ذات هدف مُسارِّي[4]. ومعنى كلمة تادرويشت في اللغة القبائلية هو «مجنونة». ويجب الإشارة إلى أن هذا المصطلح يتضمن إيحاءات أخرى كثيـرة، إذ يتعلق الأمر بكلمة عامة تغطـي عدَّة اختصـاصات. ولمذكرها، أدرويش، المعانـي نفسها.

    تـامـرابطـت

    لهذه الكلمة معنيان: الأول يُقصَدُ به امرأة ذات قرابة صلاحية، أي تنتمي إلى طبقة الأسياد والمرشدين الروحيين، وهي صفة وراثية. وفي منطقة القبائل يعتبر الصلحاء أنفسهم كأنهم غير قبائليين، لكنهم مندمجون استراتيجيا في المجتمع مع حقهم في نيل الاحترام والتقدير وحمل ألقاب تشريفية خاصة. وهم ينفرون من التحالف مع «القبائليين» ويمارسون زواجا طبقيا من الأقارب. ويقول ج. م. ضاليه إنهم «كانوا في الماضي مرشدين ومستشارين، وحكماء مسموعين. كانوا حكاما في النزاعات بين الجماعات والعائلات والقرى والقبائل. ففلانٌ أو فلان منهم قد أنقذ المنطقة من أضرار الفوضى. أرستقراطيتهم متميِّزَة وجد مُمَيَّزَة في لغة تراتبيات (وأعضاء) الزوايا الدينية ومشايخها» (ج. م. ضاليه، 1982).

    أما المعنى الثاني لكلمة تامرابطت، فتتضمنه علاقة غير مباشرة مع المعنى الأَّوَّل، ويقصد به امرأة لها مزايا خاصة من صنف فوق طبيعي. وهي تستمد اسمها من الولي الصالح الذي يسكنها ويعرف باعتباره صالحا، أمرابـط.

    لا تملك التامرابطت صفاتها بطريقة وراثية وإنما تحصل عليها خلال تجربة داخلية تربطها بصلة مَعَ مجموعة من الأولياء (أو ولي خاص). وتسمية تامرابطت نتيجة تغيير داخلي سيحول الشخص، من الآن فصاعدا، إلى «وليَّة» ويزودها بقدرات خاصَّة. ويقالُ إن سبب تسمية التامرابطت بهذا الاسم يعود إلى الروح الذي يسكنها، وهو روح خطير يُمنح هذا اللقب التشريفي لإظهار الاحترام له، وبالتالي فهو محاولـة لملاطفـة هـذا الـروح.

    ليس لقب التامرابطت في الواقع سوى بديل لاسم التادرويشت، أي مجنونة، الذي يطلق في البداية على كل امرأة تعيش أزمة نفسية تفسر باعتبارها مسَّا من قِبل روح. وانطلاقا من هذا الحدث، يمكن لتلك المرأة أن تتطوَّر بأربع طرق مختلفة:

    1 - يمكنها أن تُشفى طبيعيا؛

    2 - يمكن أن تظل مريضة عقليا، أي تادرويشت؛

    3 - يمكن أن تصبح عرافة - مطبِّبَة، أي تامرابطت؛

    4 - يمكن أن تصير ساحرة، تاسحَّارت.

    تادرويشـــت



    تادرويشت تامرابــــط تاسحارت







    وتبقى درجة الخطر الصَّادر عن الروح الذي يتملَّك المطبِّبَة هو ما يفرق بينها وبين الساحرة من حيث مصير كلتيهما. فبعض الأرواح يسهل تنشئتها اجتماعيا أكثر من أرواح أخرى. ومتى أمكن تنشئة الروح تنشئة اجتماعية صارت ضحيته مطبِّبَة. وعلى العكس، إذا رفض الروح قبول القيم الاجتماعية صـارت الضَّحية ساحرة.

    كيف يتصرَّف المجتمع لمعرفة صنف الروح الذي «يركب»[5] الضَّحية؟ إن الطقس الذي يحدد مصير التادرويشت بعد انصرام بضعة أسابيع من مرضها، وفيه يطلب منها هل تقبل بتقديم الذبيحة (كبش)، التي ستمكنها من مزاولة مهمتها مستقبلا باعتبارها مطبِّبَة. فإن هي قبلت ذبحت عائلتها الحيوان وأعدت مأدبة ثم وزَّعتها على أهل القرية، وبذلك يعلم هؤلاء، من الآن فصاعدا، بوجود عرَّافة - مطبِّبة جديدة. وبهذه العلامة القربانية للاندماج في المجتمع من جديد تعود التادرويشت إلى جماعتها بعدما كانت قد ابتعدت عنها مؤقتا. أما إذا رفضت هذا الطَّقس القرباني، فإن المجتمع سيفسر هذا الموقف باعتباره علامة لخطورة المرض. سيعتبره إعلانا عن أن الرُّوح الذي يملكها هو عدو معيَّن وأكيد يرفض الحوار مع الجماعة[6]. وفي هذه الحالة تتعذَّر إمكانية إعادة إدماج المريضة من جديد في الجماعة، وبذلك ستعيش تهميشا حقيقيا. ستصير إذن ساحرة مكروهة ومُهابَة، ما لم تبقَ في جنون عقيم.

    ورغم التقاء التامرابطت والتاسحارت في كونهما معا يملكهما روح، فإنهما تختلفان في مدى تعارض هذين الروحين مع الفكر السحري الديني. ففيما يتبدَّى الروح المالك للتامرابطت قديسا إسلاميا وليّا، ظهر روحُ التاسحارت باعتباره روحا شـريـرا. وهذان الروحـان اللذان يُوصَفان بالرجوع إلى الإسلام ليسا بلاشـك سوى الاستبدالات التي طرأت على أرواح الموتى خلال التاريخ الديني.

    هناك اختلاف آخر ملحوظ بين المرأتين يكمن في قدرة - أو عدم قدرة - كلتيهما على التحول. فبينما تستطيع التاسحارت أن تتحوّل إلى حيوان (ضفدع، قط،...) أو شيء (جرَّة ماء، قِدر)[7]، تعجز التامرابطت عن ذلك.

    رغم وجود هذه الاختلافات بين التامرابطت والتاسحارت، فإنهما لا زالتا تنعتان معا بتسمية تادرويشت الأكثر عموما، وهي أفضل طريقة لوسم حالتهما السابقة للجنون. ورغم أن اللغة تمنحهما أسماء جديدة والمجتمع يحدد لهما وضعا جديدا، فإنهما تظلان، رغم كل شيء، موسومتين مدى الحياة بمرحلة خللهما النفسي. وسواء أتطورت التادرويشت إلى تامرابطت أم إلى تاسحارت، فإنها تبقى دائما تادرويشت، أي مجنونة[8]. ويترتب عن هذا أن الجنون مرضٌ لا يداوى أبدا بالكامل، وأنه قادر على الظهور في أية لحظة. ويساهم في تقوية هذه الفكرة نوعُ الباتولوجيا العقلية نفسه السائد في المغرب العربي (وفي سائر المجتمعات البدائية عموما)، والذي تُكَوِّنُه الهستيريا والفورةُ الهذيانية.

    يوجد نوع آخر من التاسحارت (السَّاحرة) لا يُطلق على صاحبته أبدا اسم تادويشت، وسبب ذلك هو أنها لم تعرف خللا نفسيا، وإنما حصلت على هذه الصفة إما عن طريق النقل النَّسَبي أو بمحض الخاطر عبر إخضاع نفسها لمُسَارَّةٍ. في الحالة الأولى، نكون أمام مجرَّد امرأة تنقل معرفتها إلى ابنتها التي غالبا ما تخدمها باعتبارها مساعِدة في مهنتها. وفي الثانية، يتعلق الأمر بامرأة تجري مسارَّة سرية. ويَعرضُ م. دوفلدير (1951) المسارَّة مختصرا إياها في نوعين:

    - الأوَّل تقوم فيه التاسحارت بحزِّ رأس لسانها ثم تُلَحِّسُه لتلميذتها فتجعلها بذلك تبلع دمَها.

    - الثاني نوعٌ من المسارَّة الذاتية، تكتفي فيه التاسحارت بلحس ظهر سُرفُوتٍ من الرأس إلى الذيل ثم تبلع بعد ذلك ريقها الممزوج بإفرازات هذا الحيوان شديدة المرارة. وتشكل القدرة على ابتلاع المادة التي يفرزها السّرفوت باعتباره العنصر المساري الوحيد.

    أما أنا، فلم أصادف أية تاسحارت اجتازت مسارَّة، صادفتُ فقط تادرويشت. كما لم أتمكن من معرفة أي شيء عن المسارَّة، كما لم أسمع أي حديث عن مسارة من النوع الذي أورده دوفلدير.

    تاكـزَّانـت

    كلمة تُطلق، حسب ج. م. ضاليه، على العرَّافة التي تتنبأ بالمستقبل، وعلى الشحاذة أيضا. وقد سمعتُ شخصيا هذه الكلمة تُستعمل بمعنى العاهرة التي تراود الرجال في أزقة الجزائر لتتحكم فيهم بعد ذلك عن طريق أعمال سحرية لا تعرفها إلا هي. ولا يمكن أن تكون التاكزانت إلا امرأة عربية رحَّالة حسب ما يقوله القبائليون. إنها توحي بالفزع والجحود، ولذلك ينفر الناس من طلب خدمتها. والمذكَّر أكزان موجود كذلك.

    تَامْكاشْفْـتْ

    (مذكرها: أمكاشف) ويعرفها ج. م. ضاليه باعتبارها عرَّافة. والكلمة مشتقَّة من الجذر العربي (ك ش ف) الذي يعني تنبأ وألقى نبوءات.

    تاعزامـت

    (مذكرها: أعزَّام) مأخوذة من فعل عزَّمَ. يتعلق الأمر، إذن، بالمُعَزِّمَة أو المعوِّذَة.

    تامْسْنسِيـتْ:

    ليس لها مقابل في المذكر. والكلمة منحدرة من فعل نْسْ «قضى الليل»، صار السّنس «قضَّى الليلة»، ثم تامسنسيت بالتسمية.

    إن هذه الوفرة من المصطلحات[9] التي تطلق على الساحرة (واللائحة بالتأكيد ليست شاملة) تعكس المكانة التي يحتلها السحر في حياة القبائليين. وإذا لخصنا هذه التعريفات حصلنا على اللائحة التالية:

    1 - لقبلـة: المولِّـدة، المطبِّبَة؛

    - تامرابطت: عرافة - مطببة





    - تاسحَّـارت: ساحـرة





    2 - التادرويشت:





    3 - تاكزَّانـت: كاشفة الحظ أو المتنبئة بالغيب؛

    4 - تامكاشفت: عرافة، كاهنة؛

    5 - تامسنسيت: مناجية الأرواح

    ورغم تباين هذه الأسماء الثمانية لغويا، فإنها تظل بعيدة عن أن تشكل وحداتٍ منفصلة. ففي الممارسة لا تقف الشخصية المعنية بأحد هذه الأسماء عند «اختصاصها»، بل تزاول في أغلب الأحيان جميع الوظائف، مما يعيق عملية تصنيف نشاط هذه المرأة أو تلك ضمن الاسم المطابق لها ما عدا لقِبلَة التي تبقى أكثر قابلية للإحاطة. وهذا التعدُّد في المعاني هو ما قادني إلى إطلاق كلمة ساحرة عليهن جميعا بلا تمييز. فمفهوم السحر له معنى واسع بما فيه الكفاية للإحاطة بمختلف الأنشطة المذكورة. والقبائليون أنفسهم يجدون صعوبة كبيرة في إعطاء معنى دقيق لكل واحد من هذه المصطلحات.

    ميزاتٌ وعُـيُــوب

    تستمد الساحرة إذن خاصيتها من مرحلة سيكولوجية متميزة تجعلها تتطوَّر نحو وظيفتها الجديدة. وهذه هي الحالة الأكثر انتشارا بما أنه لا يمكن للمرأة، حتى ولو كانت تنتمي للطبقة المرابطية، أن تصير ساحرة إلا بعد مرورها بهذه التجربة الداخلية.

    في الواقع توجد نساء مرابطيات بشكل مزدوج، مرابطيات بولادتهن ومرابطات بالولي الذي يسكنهن. وهن ساحرات يحظين بامتياز أكبر من نظيره الذي تحظى به اللواتي ينحدرن من عائلة عادية كما لو أن الاصل الاجتماعي العالي يزيد من سلطتهن السحرية.

    تملك الساحرات هبات روحية ليست هي كل ما لديهن؛ فمن الشائع جدا أن تنضاف إلى هذه الهبات عاهات جسدية (الحدبة أو قوس الظهر، العمى...) أو خفة متميزة في تحريك الجسد. وقد كانت إحدى العرافات اللواتي زرتهنَّ تدهش حقا زبوناتها بجعلهن يضعن أيديهن في صدرها وهي تحركه. وأنا نفسي استحوذ عليَّ انطباع بلبلة وتشوش لا يمكن وصفه. وهذا التشوش في صدر الساحرة هو الذي يكشف عن السحر الذي يستهدف الزبونة. كما يذكر بالمعتقد القبائلي الطفولي الذي يرى في قرقرات البطن حربا بين الأمعاء الجائعة المتخيلة بمثابة أفعى. ففي هذا التمظهر لِغاز الأمعاء لا يمكن إغفال العثور علىالرابط الموجود بين السحر والثعبان.

    يعتبر تحريك الهواء داخل الجسم خاصية عامة عند الساحرات. ويشكل الجشاء أكثر مظاهره بساطة. وكلما كانت الجشآت هامة وكثيرة عند الساحرة علمت الزبونة أنها مصابة بالسحر السلبي. وكل النساء يعرفن تفسير هذا التجشؤ المطوَّل والجهوري بالخصوص.

    علاوة على العلامات والقدرات الجسمية، تملك الساحرة قدرات أسطورية ألصقتها بها «الأقاويل». ورغم أن هذه المزايا (أو القدرات) لا يتم التأكد منها بالتجربة، فإنها تبقى لاصقة في العقول. فهي تستفيد من هالة تمتد لتشمل حتى أقاربها وممتلكاتها. فمن الأدوات والأشياء التي تستعملها يفيض السحر القادر على تحقيق المشاريع الشخصية بسهولة. وكل أنشطتها، سواء النهارية أو الليلية، مَحْـبُوة بالسحر: تحضير الوجبات، وتدبير شؤون المنزل، وإقامة الصلاة، ما تتلفظ به من كلمات وما تراه من أحلام، الخ.، لكل تلك الأنشطة شأن أعظم من تلك التي تزاولها المرأة العادية. وعندما ترى حلما، فإنها ترويه لزائراتها اللواتي ينتظرن تفسيرها له وهن كالمعلقات في شفتيها. والمعنى الذي تقدمه يرضي دون أدنى شك المستمعات. ويمكن فتح قوس حول الأحلام لإعطاء بعض التوضيحات عن تفسيراتها حتَّى نتمكن بسهولة من ملاحظة كيف يتم إخضاع التفاؤل بالرؤى للقيم الاجتماعية. رغم أن التفاؤل موجود في القبائل، فإنه لا يوجد (أو لم يعد يوجد) مُفسِّرٌ اختصاصي للأحلام مثلما وجده ب. كيلبورن (1978) في المغرب. فالقبائليون يملكون «مفتاحا للأحلام» يتناقلونه جيلا عن جيل ويُمَكِّنُ كلَّ فردٍ من العثور فيه على دلالة حلمه. إلا أنَّ النساء العجائز هن الأشخاص المؤهَّلين اليوم لتفسير الأحلام.

    كما هو الشأن في المغرب، يفسر القبائليون الحلم دائما بالرجوع إلى القيم الاجتماعية حتَّى لو كان محتواه يعبِّرُ عن رغبة فردية ظاهرة. وفيما يلي مثالٌ عن هذا التفسير.

    · الحلـم: ترى امرأة متزوجة نفسَها زوجة لرجل آخر من القرية.

    - التفسير الثقافي: ستلد صاحبة الحلم عما قريب مولودا ذكرا.

    ونرى كيف «أعادت» الثقافة «تكييف» هذا الحلم حيث صار محملا بمعنى الخصوبة، بينما هو حلم في الزِّنَى إذ يعبر عن رغبات جنسية بشكل لا يقبل الجدل.

    إن تفسير الأحلام تفسير ذاتي يأخذ بعين الاعتبار، وفي آن واحد، علاقة عناصر الحلم بالواقع والوجدانات الشخصية الأولية لصاحـب الحلم حينما تكون هذه الأخيرة غير مقموعة ثقافيا.

    تشاهد المرأة حلما ترى فيه بقرةً تنظر إليها بإلحاح، نظرة تكشف عبرها عن نوايا عدوانية تجاه صاحبة الحلم. في الغد طبعا، تحكي المرأة حلمها المقلق لامرأة أخرى من البيت مع الإدلاء بتفسيرها الشخصي: ليست البقرة، في اعتقادها، سوى أخت زوجها التي تعتبرها منذ وقت طويل عدوَّة لها. فهذه الأخيرة بالضبط بدينة (كالبقرة)، وذات عينين كبيرتين. فمن قبل، كثيرا ما عَزَت صاحبة الحلم أمراض أبنائها إلى عين أخت زوجها هذه. وليس ما صادفته في الحلم سوى هذه العين الشريرة. إنها تشير إليها بأن عليها أن تضاعف الحذر وتراقب تصرفات أخت زوجها التي لا شك أنها تلقي عليها سحرا ما. ولا يبقى هذا الحلم، في اعتقادها، انعكاسا «صحيحا» لدواخل ومكنونات أخت زوجها فحسب، بل هو أيضا إنذار. وهكذا يمارس كل فرد العِرافة لحسابه بواسطة ما يراه من أحلام. وليس في ذلك ما يدعو للتعجب في مجتمع تظل ممارسة الحِضَانة فيه معروفة جدا. لقد كان الأمر يتعلق في هذه الممارسة بقضاء ليلة في مكان مقدَّس (ضريح، مغارة...) لرؤية أحلام مضيئة للواقع أو التزوُّد بتوجيهات للعلاج في حالة الحضانة العلاجية. ويرد ج. كامب (1961: 150) هذه الممارسة إلى المناخ المتوسطي الغربي: «كذلك يشير أرسطو إلى أنه طقس كان للصَّارديين في عصره (وبالتأكيد منذ وقت أطول بكثير) عادة النوم قرب قبور ابطالهم: إنه طقس الحضانَة كما يمارسه البربر حتَّى اليوم».

    تتصف مزايا الساحرة وقدراتها بالتعارض الوجداني: فهي تستطيع مساعدة زبونتها كما هي قادرة على معاكستها. وقد بدا لي من خلال الملاحظات العديدة التي تمكنت من إجرائها أن ما تبديه النساء إزاء الساحرة من احترامٍ وتقدير إنما يعود في معظمه إلى خوفهن منها.

    لا يخفى على الزبونات اللواتي تـلازمـن الساحرة الجانِبُ السَّقـوطُُ فـي شخصيتها. إلا أنهن لا يعزين إليها ما يشعرن به من خوفٍ، بل يعتبرنَه مِن تحريض الروح الذي يملكها. فهذا الروح شديد الحساسية والتأثر لا يتساهل مع أي انحراف: إنه كثير المطالب، يفرض أحيانا أعمالا مؤلمة، وسُلطوي لا يمكن إلا طاعته. وكثيرا ما يجد من المبررات ما يكفي للحقد على الساحرة[10]. إنَّ المرأة التي تنتمي إلى صنف التامرابطت لا تمارس مبدئيا السحر السلبي، على الأقل فيما تزعم، إلا أن الأمر يخالف ذلك تماما في الممارسة. أما أنا، فمن مجموع التامرابضين (وهذا هو الاسم الذي يطلقنه على أنفسهن) الأربع اللواتي زرتهن لم أسمع إلا واحدة تنفر فعلا من إبطال السحر السلبي، ولم أرها أبدا تستعمله. لكن هل بإمكانها فعلا أن تبطل السحر الذي تلقي به الأخريات ما لم تكن لها دراية دقيقة بهذا النوع من الأعمال؟ لقد كانت هذه التامرابطت تكشف جميع أعراض السحر التي تعاني منها زبوناتها لتصف لهن الأدوية بعد ذلك. إن كل امرأة قبائلية، حتَّى وإن كانت أكثرهن سذاجة، بإمكانها تصوُّر ما هو السحر الشرير وترياقه، وذلك بفضل الفلكلور الغني المتوافر عن هذا الموضوع.

    التاسحارت التي لم تمر بمرحلة التادرويشت هي التي تحمل عيوب الساحرة ونقائصها. فهي امرأة غير مريضة، وبالتالي فهي غير ممسوسة، تؤثر إراديا وبطريقة مسؤولة، ولذلك فأعمالها لا تغتفر. شرورها وآثامها شديدة الخطورة لأنها قادرة على القتل والتفرقة بين الزوجين وتحريض أفراد العائلة الواحدة بعضهم ضد البعض الآخر.

    رغم أن الممارسات السحرية المعاصرة تضطر أحيانا للاستجابة لطلبات جديدة، فإنها تعتمد دائما المرتكزات نفسها. فالعناصر السماوية والنباتية والحيوانية، الخ. تبقى متماثلة حتى وإن أضيف إليها أحيانا عنصر جديد. ويسمح هذا الثبات الشكلي بصياغة السؤال التالي: هل النساءُ مالكات القدرات فوق الطبيعية هن اللواتي يقاومن التحولات الثقافية أكثر مما يقاومها الرجال، مع أن هذه التحولات قد تبدو لهن قبليا لصالحهن؟ إن هذه المحافظة لا تعود بالتأكيد إلى وجود سيكولوجية أنثوية افتراضية خالصة، وإنما ترجع إلى النظام الاجتماعي نفسه الذي جعل منهن مؤتمنات على العالم فوق الطبيعي. إن التطابق امرأة = فوق الطبيعة هو الذي يبقيهن في موقعهن. ومن المعروف تاريخيا أن ما هو فوق الطبيعة يشكل الرائز النفسي الثقافي الذي يقاوم بشكل أفضل حتَّى أكثر التحولات عنفا. فهو لا يبقى على حاله فحسب، بل يتقوى ويتطور في المجتمعات التي تعاني وضعا فوضويا وغير نظامي.

    كما هو الشأن في المغرب، يفسر القبائليون الحلم دائما بالرجوع إلى القيم الاجتماعية حتَّى لو كان محتواه يعبِّرُ عن رغبة فردية ظاهرة. وفيما يلي مثالٌ عن هذا التفسير.

    · الحلـم: ترى امرأة متزوجة نفسَها زوجة لرجل آخر من القرية.

    - التفسير الثقافي: ستلد صاحبة الحلم عما قريب مولودا ذكرا.

    ونرى كيف «أعادت» الثقافة «تكييف» هذا الحلم حيث صار محملا بمعنى الخصوبة، بينما هو حلم في الزِّنَى إذ يعبر عن رغبات جنسية بشكل لا يقبل الجدل.

    إن تفسير الأحلام تفسير ذاتي يأخذ بعين الاعتبار، وفي آن واحد، علاقة عناصر الحلم بالواقع والوجدانات الشخصية الأولية لصاحـب الحلم حينما تكون هذه الأخيرة غير مقموعة ثقافيا.

    تشاهد المرأة حلما ترى فيه بقرةً تنظر إليها بإلحاح، نظرة تكشف عبرها عن نوايا عدوانية تجاه صاحبة الحلم. في الغد طبعا، تحكي المرأة حلمها المقلق لامرأة أخرى من البيت مع الإدلاء بتفسيرها الشخصي: ليست البقرة، في اعتقادها، سوى أخت زوجها التي تعتبرها منذ وقت طويل عدوَّة لها. فهذه الأخيرة بالضبط بدينة (كالبقرة)، وذات عينين كبيرتين. فمن قبل، كثيرا ما عَزَت صاحبة الحلم أمراض أبنائها إلى عين أخت زوجها هذه. وليس ما صادفته في الحلم سوى هذه العين الشريرة. إنها تشير إليها بأن عليها أن تضاعف الحذر وتراقب تصرفات أخت زوجها التي لا شك أنها تلقي عليها سحرا ما. ولا يبقى هذا الحلم، في اعتقادها، انعكاسا «صحيحا» لدواخل ومكنونات أخت زوجها فحسب، بل هو أيضا إنذار. وهكذا يمارس كل فرد العِرافة لحسابه بواسطة ما يراه من أحلام. وليس في ذلك ما يدعو للتعجب في مجتمع تظل ممارسة الحِضَانة فيه معروفة جدا. لقد كان الأمر يتعلق في هذه الممارسة بقضاء ليلة في مكان مقدَّس (ضريح، مغارة...) لرؤية أحلام مضيئة للواقع أو التزوُّد بتوجيهات للعلاج في حالة الحضانة العلاجية. ويرد ج. كامب (1961: 150) هذه الممارسة إلى المناخ المتوسطي الغربي: «كذلك يشير أرسطو إلى أنه طقس كان للصَّارديين في عصره (وبالتأكيد منذ وقت أطول بكثير) عادة النوم قرب قبور ابطالهم: إنه طقس الحضانَة كما يمارسه البربر حتَّى اليوم».

    تتصف مزايا الساحرة وقدراتها بالتعارض الوجداني: فهي تستطيع مساعدة زبونتها كما هي قادرة على معاكستها. وقد بدا لي من خلال الملاحظات العديدة التي تمكنت من إجرائها أن ما تبديه النساء إزاء الساحرة من احترامٍ وتقدير إنما يعود في معظمه إلى خوفهن منها.

    لا يخفى على الزبونات اللواتي تـلازمـن الساحرة الجانِبُ السَّقـوطُُ فـي شخصيتها. إلا أنهن لا يعزين إليها ما يشعرن به من خوفٍ، بل يعتبرنَه مِن تحريض الروح الذي يملكها. فهذا الروح شديد الحساسية والتأثر لا يتساهل مع أي انحراف: إنه كثير المطالب، يفرض أحيانا أعمالا مؤلمة، وسُلطوي لا يمكن إلا طاعته. وكثيرا ما يجد من المبررات ما يكفي للحقد على الساحرة[10]. إنَّ المرأة التي تنتمي إلى صنف التامرابطت لا تمارس مبدئيا السحر السلبي، على الأقل فيما تزعم، إلا أن الأمر يخالف ذلك تماما في الممارسة. أما أنا، فمن مجموع التامرابضين (وهذا هو الاسم الذي يطلقنه على أنفسهن) الأربع اللواتي زرتهن لم أسمع إلا واحدة تنفر فعلا من إبطال السحر السلبي، ولم أرها أبدا تستعمله. لكن هل بإمكانها فعلا أن تبطل السحر الذي تلقي به الأخريات ما لم تكن لها دراية دقيقة بهذا النوع من الأعمال؟ لقد كانت هذه التامرابطت تكشف جميع أعراض السحر التي تعاني منها زبوناتها لتصف لهن الأدوية بعد ذلك. إن كل امرأة قبائلية، حتَّى وإن كانت أكثرهن سذاجة، بإمكانها تصوُّر ما هو السحر الشرير وترياقه، وذلك بفضل الفلكلور الغني المتوافر عن هذا الموضوع.

    التاسحارت التي لم تمر بمرحلة التادرويشت هي التي تحمل عيوب الساحرة ونقائصها. فهي امرأة غير مريضة، وبالتالي فهي غير ممسوسة، تؤثر إراديا وبطريقة مسؤولة، ولذلك فأعمالها لا تغتفر. شرورها وآثامها شديدة الخطورة لأنها قادرة على القتل والتفرقة بين الزوجين وتحريض أفراد العائلة الواحدة بعضهم ضد البعض الآخر.

    رغم أن الممارسات السحرية المعاصرة تضطر أحيانا للاستجابة لطلبات جديدة، فإنها تعتمد دائما المرتكزات نفسها. فالعناصر السماوية والنباتية والحيوانية، الخ. تبقى متماثلة حتى وإن أضيف إليها أحيانا عنصر جديد. ويسمح هذا الثبات الشكلي بصياغة السؤال التالي: هل النساءُ مالكات القدرات فوق الطبيعية هن اللواتي يقاومن التحولات الثقافية أكثر مما يقاومها الرجال، مع أن هذه التحولات قد تبدو لهن قبليا لصالحهن؟ إن هذه المحافظة لا تعود بالتأكيد إلى وجود سيكولوجية أنثوية افتراضية خالصة، وإنما ترجع إلى النظام الاجتماعي نفسه الذي جعل منهن مؤتمنات على العالم فوق الطبيعي. إن التطابق امرأة = فوق الطبيعة هو الذي يبقيهن في موقعهن. ومن المعروف تاريخيا أن ما هو فوق الطبيعة يشكل الرائز النفسي الثقافي الذي يقاوم بشكل أفضل حتَّى أكثر التحولات عنفا. فهو لا يبقى على حاله فحسب، بل يتقوى ويتطور في المجتمعات التي تعاني وضعا فوضويا وغير نظامي.

    كما هو الشأن في المغرب، يفسر القبائليون الحلم دائما بالرجوع إلى القيم الاجتماعية حتَّى لو كان محتواه يعبِّرُ عن رغبة فردية ظاهرة. وفيما يلي مثالٌ عن هذا التفسير.

    · الحلـم: ترى امرأة متزوجة نفسَها زوجة لرجل آخر من القرية.

    - التفسير الثقافي: ستلد صاحبة الحلم عما قريب مولودا ذكرا.

    ونرى كيف «أعادت» الثقافة «تكييف» هذا الحلم حيث صار محملا بمعنى الخصوبة، بينما هو حلم في الزِّنَى إذ يعبر عن رغبات جنسية بشكل لا يقبل الجدل.

    إن تفسير الأحلام تفسير ذاتي يأخذ بعين الاعتبار، وفي آن واحد، علاقة عناصر الحلم بالواقع والوجدانات الشخصية الأولية لصاحـب الحلم حينما تكون هذه الأخيرة غير مقموعة ثقافيا.

    تشاهد المرأة حلما ترى فيه بقرةً تنظر إليها بإلحاح، نظرة تكشف عبرها عن نوايا عدوانية تجاه صاحبة الحلم. في الغد طبعا، تحكي المرأة حلمها المقلق لامرأة أخرى من البيت مع الإدلاء بتفسيرها الشخصي: ليست البقرة، في اعتقادها، سوى أخت زوجها التي تعتبرها منذ وقت طويل عدوَّة لها. فهذه الأخيرة بالضبط بدينة (كالبقرة)، وذات عينين كبيرتين. فمن قبل، كثيرا ما عَزَت صاحبة الحلم أمراض أبنائها إلى عين أخت زوجها هذه. وليس ما صادفته في الحلم سوى هذه العين الشريرة. إنها تشير إليها بأن عليها أن تضاعف الحذر وتراقب تصرفات أخت زوجها التي لا شك أنها تلقي عليها سحرا ما. ولا يبقى هذا الحلم، في اعتقادها، انعكاسا «صحيحا» لدواخل ومكنونات أخت زوجها فحسب، بل هو أيضا إنذار. وهكذا يمارس كل فرد العِرافة لحسابه بواسطة ما يراه من أحلام. وليس في ذلك ما يدعو للتعجب في مجتمع تظل ممارسة الحِضَانة فيه معروفة جدا. لقد كان الأمر يتعلق في هذه الممارسة بقضاء ليلة في مكان مقدَّس (ضريح، مغارة...) لرؤية أحلام مضيئة للواقع أو التزوُّد بتوجيهات للعلاج في حالة الحضانة العلاجية. ويرد ج. كامب (1961: 150) هذه الممارسة إلى المناخ المتوسطي الغربي: «كذلك يشير أرسطو إلى أنه طقس كان للصَّارديين في عصره (وبالتأكيد منذ وقت أطول بكثير) عادة النوم قرب قبور ابطالهم: إنه طقس الحضانَة كما يمارسه البربر حتَّى اليوم».

    تتصف مزايا الساحرة وقدراتها بالتعارض الوجداني: فهي تستطيع مساعدة زبونتها كما هي قادرة على معاكستها. وقد بدا لي من خلال الملاحظات العديدة التي تمكنت من إجرائها أن ما تبديه النساء إزاء الساحرة من احترامٍ وتقدير إنما يعود في معظمه إلى خوفهن منها.

    لا يخفى على الزبونات اللواتي تـلازمـن الساحرة الجانِبُ السَّقـوطُُ فـي شخصيتها. إلا أنهن لا يعزين إليها ما يشعرن به من خوفٍ، بل يعتبرنَه مِن تحريض الروح الذي يملكها. فهذا الروح شديد الحساسية والتأثر لا يتساهل مع أي انحراف: إنه كثير المطالب، يفرض أحيانا أعمالا مؤلمة، وسُلطوي لا يمكن إلا طاعته. وكثيرا ما يجد من المبررات ما يكفي للحقد على الساحرة[10]. إنَّ المرأة التي تنتمي إلى صنف التامرابطت لا تمارس مبدئيا السحر السلبي، على الأقل فيما تزعم، إلا أن الأمر يخالف ذلك تماما في الممارسة. أما أنا، فمن مجموع التامرابضين (وهذا هو الاسم الذي يطلقنه على أنفسهن) الأربع اللواتي زرتهن لم أسمع إلا واحدة تنفر فعلا من إبطال السحر السلبي، ولم أرها أبدا تستعمله. لكن هل بإمكانها فعلا أن تبطل السحر الذي تلقي به الأخريات ما لم تكن لها دراية دقيقة بهذا النوع من الأعمال؟ لقد كانت هذه التامرابطت تكشف جميع أعراض السحر التي تعاني منها زبوناتها لتصف لهن الأدوية بعد ذلك. إن كل امرأة قبائلية، حتَّى وإن كانت أكثرهن سذاجة، بإمكانها تصوُّر ما هو السحر الشرير وترياقه، وذلك بفضل الفلكلور الغني المتوافر عن هذا الموضوع.

    التاسحارت التي لم تمر بمرحلة التادرويشت هي التي تحمل عيوب الساحرة ونقائصها. فهي امرأة غير مريضة، وبالتالي فهي غير ممسوسة، تؤثر إراديا وبطريقة مسؤولة، ولذلك فأعمالها لا تغتفر. شرورها وآثامها شديدة الخطورة لأنها قادرة على القتل والتفرقة بين الزوجين وتحريض أفراد العائلة الواحدة بعضهم ضد البعض الآخر.

    رغم أن الممارسات السحرية المعاصرة تضطر أحيانا للاستجابة لطلبات جديدة، فإنها تعتمد دائما المرتكزات نفسها. فالعناصر السماوية والنباتية والحيوانية، الخ. تبقى متماثلة حتى وإن أضيف إليها أحيانا عنصر جديد. ويسمح هذا الثبات الشكلي بصياغة السؤال التالي: هل النساءُ مالكات القدرات فوق الطبيعية هن اللواتي يقاومن التحولات الثقافية أكثر مما يقاومها الرجال، مع أن هذه التحولات قد تبدو لهن قبليا لصالحهن؟ إن هذه المحافظة لا تعود بالتأكيد إلى وجود سيكولوجية أنثوية افتراضية خالصة، وإنما ترجع إلى النظام الاجتماعي نفسه الذي جعل منهن مؤتمنات على العالم فوق الطبيعي. إن التطابق امرأة = فوق الطبيعة هو الذي يبقيهن في موقعهن. ومن المعروف تاريخيا أن ما هو فوق الطبيعة يشكل الرائز النفسي الثقافي الذي يقاوم بشكل أفضل حتَّى أكثر التحولات عنفا. فهو لا يبقى على حاله فحسب، بل يتقوى ويتطور في المجتمعات التي تعاني وضعا فوضويا وغير نظامي.
    "أن تشعل شمعة خير من أن تلعن الظلام"
    كونفوشيوس (ع)

  9. #9
    تاريخ التسجيل
    Nov 2002
    المشاركات
    4,192

    افتراضي

    قلـب القيـم

    تتميَّز الأنوثة بانطلاق حركاتها من الخارج واتجاهها نحو الداخل، باتجاهها من الخارج إلى الداخل. ويمثل الحركات المتجهة نحو الداخل، أو الحركات الجاذِبَة، فعلُ جَمَعَ أو كدَّسَ. أما الحركات النابذة، فيمثلها فِعل أسْرَفَ وبذَّرَ، وهي تشارك أساسا في الذكورة. ويمكن تمثيل هذين الموقفين كالتالي:


    دينامية أنثويــة دينامية ذكورية

    يرتكز الانقسام الأسطوري للعالم على الانقسام الجنسي. وتأتي الساحرة من موقعها الاجتماعي الخاص لتخلط هذا النظام بتلاعبها بالحدود المقبولة. فرغم كونها امرأة فيزيولوجيا فهي تخفي وضعا جنسيا غامضا. وسلطتها في الحقيقة ليست ملكا لها وإنما للروح الذي يملكها. أيضا، ليست هي التي تتلفظ بعزائمها السحرية، بل يقوم بذلك رجلٌ يستعير فمَها ويرشدها فيما تقوم به من حركات. وعلى مستوى اللباس، سنرى أن للا فاضمة ترتدي البرنس أثناء ممارستها لبعض الطقوس. وعادة ما يمنح هذا اللباس للرجل شرفا وسيادة.

    بالإضافة إلى ذلك، فهي تكثر من العلامات الخارجية للديانة الإسلامية الأرثذوكسية (امتياز ذكوري) التي تمكنها، مثلا، من إقامة الصَّلاة ومرافقة الميت إلى المقبرة، الخ. وتقودها هذه الشرعنة الشخصية - بواسطة الدين الرسمي - إلى الوضع الاعتباري الذكوري والاستفادة من امتيازاته، فتصير شخصية عمومية وتذوق تجارة المال وهما وضعان اعتباريان مقصوران على الرجل. وهي نفسها تبرر استعمالها للنقود قائلة: «تُعطاني [النقود] لكنني أعيدها». والحالُ، إن الحركة السَّخية هي ما يعلي الشرف الـذكوري. إن السَّاحرة بجميع هذه السمات والسلوكات، تبدو كأنها تقول: «إنـي امرأة، لكنني رجلٌ أيضا»، وهو ما يمكن تمثيله على النحو التالي:













    دينامية ثنائية الجنسية

    بالنظر إلى العلاقات الموجودة بين الهستيريا والثنائية الجنسية، وبملاحظة أن الهستيريا هي الاضطراب النموذجي الأنثوي في هذا المجتمع، يمكن فهم ما تحققه النساء من إشباع عبر معاينتهن للازدواج الجنسي عند الساحرة. فهنَّ يتمكنَّ من إشباع، وبشكل «تفويضي»، غرائزهنَّ الجنسية الذكورية الكامنة مع تقوية قدرتهن الداخلية على كبح هذه الغرائز نفسها.

    مثـــال:

    إن أفضل طريقة للإحاطة بخصوصية الساحرة عن كثب هي، بالتأكيد، عرضُ مثال محدَّد. ولذلك سأختار مثال للا فاضمة التي سبقت الإشارة إليها في عدة فقرات من هذا البحث. ليس وراء هذا الاختيار أي باعث قبلي. لقد فرض نفسه لسبب وحيد، هو أن للا فاضمة كانت الساحرة الوحيدة التي قبلت مساعدتي «بصدق».

    لقب «للا» التشريفي الذي يسبق الاسم الشخصي ليس من إضافتي. إنه يرفَقُ دائما الاسم الشخصي للنساء التيمرابضين (وليات صالحات أو ساحرات)، ومعناه «سيدة» و«سيدتي». وبهذا اللقب يتم رفعهن فوق النساء العاديات. فاستعمال «للا» باعتباره نعتا أو صفة يميِّزُ إيجابيا المرأة كما في جملة «للاَّ - سْ تّلاوينْ» التي تعني «أفضل النساء». وأحيانا يتم استبدال «للا» بكلمة أخرى هي «نانَّا»، وهي لقب للاحترام معناه «أختي الكبرى»، كما يعني عموما كل امرأة أكبر سنا من الناطقـ(ة) به.

    للا فاضمـة امرأة يناهز عمرها 55 عاما، بشوشة الوجه، تحب الصحبة والدعابة. تزوَّجت في سن الثلاثة عشر، وهي أم لـ 12 ولدا بالإضافة إلى كونها حملت 12 مرة أخرى انتهت جميعا إما بوضع مولودٍ ميتٍ أو بالإجهاض. ومن بين أولادها الأحياء 7 متزوجون. أما الـ 5 الآخرون (3 بنات وذكران)، فلا زالوا يعيشون معها في بيت واحد. الذكران يعرضان اضطرابات سيكولوجية وسبق لهما أن دخلا مستشفى الأمراض العقلية. ومؤخرا، مات أحدهما في المستشفى في ظروفٍ مجهولة. زوجها يشتغل عاملا في شركة وطنية، ولا يأتي إلى المنزل سوى للأكل والنوم. هي التي تدير حياة البيت. أما هو فليس له أي كلمة يقولها، حسب ما يبدو؛ ففي حالة زوجية عادية، سيجد رجلٌ مثله من المبررات ما يجعله يقف ضد زوجته التي لا تملك أي وقت للقيام بواجباتها الجنسية نظرا لانصرافها كليا لأنشطتها. أما أشغال المنزل وتحضير الوجبات، فتقوم بها في أغلب الأحيان بناتها أو إحدى الزبونات المترددات على البيت. بالإضافة إلى ذلك، فهي تتمتع بحرية في التصرف والتحرك تحسدها عليها العديد من النساء.

    لقد أمدَّتني للا فاضمة بالعديد من عناصر حياتها الشخصية، وذلك بإبداعها الخاص. فقد حكت لي قصَّة مرضها وقَدَرها على شكل نشيد شعري. وقبل أن تشرع في إنشاد حكايتها بدأت بمناداة الأولياء:

    الله، أيها الأولياء

    أواهٍ يا مولاي علي موسى

    مسـاء ذات خميـس

    حلَّت بـي مصيبـة

    فسلكت سبيل العالم المتـوحش[11]

    مرضتُ 18 عاما

    لم يعثر الطبيبُ على أي دواء

    أما أنت، يا مولاي علي موسى

    فإني قصدتُك مضحية بأولادي

    ورطـتُ حتى إخوتي

    وبكـى زوجـي

    ولبستُ البرنس

    والمسبحة هي كل ما في حجـري

    الناسُ جميعـا يهرعـون إلـيَّ

    كل منهم يقـولُ قـولا.

    بمـرض إلهي أنا مصابـة

    في الأعشاب وجدتُ دوائـي

    كم رجوتُ الإله العالـي

    في ليالـي متواليـة

    إنه المعلم أحمـد بودربالـة

    قلت: «أواهٍ يا مولاي بلـوى»

    فجاء من [مسلك] العنـق

    قصدتك كل يوم

    أصبحتُ كسونونـو

    أعطاني رجال الله الدواء

    ثبتونـي في المركـز

    يا مستشفى س

    نظمت فيه قصيدة

    أمَّك، سأمضي إلى أن أصل إليها

    كان الجميع يبكي

    سألتُ سيدي علي موسى

    من الله يأتي دواؤه

    أنا الآن أمسك المسبحَـة،

    وبفضل الله نفسه أنطق [بالنبوءات]

    أواهٍ يا شجرة دائمة الخضـرة

    الآن انتهت سعادتي

    استيقظتُ ذات فجـر

    وأبوايَ عليّ يبكيــان

    وحتَّى زوجي أتـى

    ماذا بوسعي أن أفعل من أجلك يا أختي؟

    مشيتُ في الجبال،

    ذلك هو الدواء!

    من الخميس إلى الجمعـة

    الصَّـلاةُ دائما هنا،

    أبنائـي مرضـى

    في المستشفى نحـنُ

    أخرجـوا حبيبي من قلبي

    مولاي عمـر وفيٌّ للعادة!

    [كم] ناشدتُ ك...[12]

    احمني يا ولدي الحبيب!

    قال: يا ابنة بلـدي

    لا تخافي يا أختـي.

    أنا مع الحليم الحبيب الرؤوف

    عالي المقام (في تراتبية الأولياء)

    لما هرع هـ[13] إلـيَّ،

    لا تخافي يا أختي

    ابنك، منحنـاه أدوية

    هو الآن بخيـر

    اللـه، اللـه، شجـرة الحيـاة

    همومـي كثيـرة

    فليضع الله حدا للبؤس والشقـاء.

    لما كانت للا فاضمة تنشد قصيدتها هذه، كانت بضع نساء حاضراتٍ، فلاقَينَ صعوبة في إخفاء تأثرهن. هل كان ذلك هو سبب توقفها مدة قصيرة عن الإنشاد لتستأنف بعد ذلك عرض شعرها بلا ترنُّم؟

    انتظرن يا أخـواتي

    لما كنتُ مريضة طوال 18 سنة

    مات 12 من أولادي.

    ما من أحد إلا وقال قولا

    وفي تلك الأقاويل ساهمت حماتي

    وأضافت لي ضرَّة

    لما جاء زوجـي

    قال: لا تخافي يا أختي

    رجال الله أعطوني الذكر والأنثى،

    ولكن الآن، هو المَـسُّ

    أمسك السُّبحة

    كثرت الأقاويل من حولي

    أخالُ أنني مجنونة

    لم أجد دوائي عند أي طبيب

    تعلمتُ الأدوية جميعا

    من الأعشاب تعلمتها

    رجال الله أعطوني إياها

    أداوي الرّضّع، وأولِّدُ

    لقد جاء [الملوك/الأرواح]، فصرتُ للمسلمين طبيبا

    في منزلي، هنا يا أخواتي

    أنا، جاءني هذا من السلطات

    أنا ابنة عائلة كريمة

    أحبُّ أن يكون الشرف عادة.

    صـار بيتـي سوقا

    أخواتي يزرنني؛

    الوُطانيَّة أكلمها

    أرفعها عاليا كالذهب والفضَّة.

    من أحببتهم فهم إخوتي

    لما أجلس معهم حول مائدة واحدة

    أحدهم، م.، [يكون] عاملا

    والآخر، ل.، مفوّض

    عند العرب، وليس هنا[14]

    والآخر، ك.، يتكفل بشؤوننا

    بكيت على أخواتي

    على أبويّ اللذين هجراني اليوم

    لي زوجة أب

    لم أكن أحسب أنها ستفعل بي كل ما فعلت

    أصبت إخوتي

    وحتى أبنائي

    ها أنا الآن في مكان منعزل

    فيه أسكن عادة

    ليلة الخميس لا أقضيها هنا

    ما من ولي إلا زرته

    حتَّى بلغ عددهم 35 وليا، يا أخواتي

    أرى من تأتي من الشرق والغرب

    تزورني، هنا

    أذرف دموع الشفقة

    أتوكَّل على الله

    إنه ما يليق

    لا أعتقد،

    المـوت موجـود

    سنكون رفاق الشرف

    ذلك هو الـ «بخير»

    كل شيء إلى الله، إلى العالي، يعود

    نحنُ، سنمضي مع الهوة

    ذلك أن الخوف يوجد، يا إخوان الهنا،

    لأن من لم تعد الحياة راغبة فيه،

    لم يتصدق.

    نحن، سنعود، سنعود

    حتى وإن كان الأمر هكذا.

    قليلٌ من الخديعة

    لم نحمِلَه هنا.

    أنجزتُ هذه الترجمة بعد تفريغ التسجيل الصوتي، كما سعيتُ إلى جعلها قريبة جدا من النص القبائلي لإيقاف اللغة العربية على صعوبة تفسير هذا النوع من الإبداع الشعري الذي يعتم معنى أبياته كل من طبيعته الباطنية وكثرة رموزه وعمل المتخيل. غير أن ذلك لا يمنع من استخراج الأحداث الآتية بفضل بعض العناصر البارزة في النص: مساء ذات خميس؛ ذهبتْ إلى العالم المتوحش؛ مرضتْ طوال 18 عاما؛ لم يجد الطبيب أي دواء لمرضها؛ جميع ليالي الخلوة في العالم البري كانت مخصصة لمسارَّة معرفة الأعشاب؛ كان الأولياء (الأرواح) يرشدونها دائما؛ قلقها الحالي على ابنها الذي دخل المستشفى. وهذه النقطة لا تروي حدثا ماضيا متزامنا مع بداية مرضها، وإنما تصف حالة راهنة. بوضوح متناه تقيم للا فاضمة رابطا سيكولوجيا يُوَحِّد - بواسطة التداعي[15] - مرَضَها مع مرض ابنها، والحال أن بين المرضين مسافة زمنية تقارب 35 سنة.

    ومن الجزء الثاني من القصيدة، ولم تنشده، نعلم أنها فقدت 12 ولدا؛ أن أباها تزوج ثانية بامرأة كانت بالنسبة إليها أما شرسة، وأنها اليوم بدون والدين. كما يخبرنا هذا القسم أيضا عن حالة إخوانها الجيدة اجتماعيا واقتصاديا. فضلا عن ذلك، لقد قالت لي إنها زارت 35 مكانا مقدسا. ومع أنها لم تهتم بالتسلسل الزمني لزيارتها مختلف هذه الأضرحة، فقد ذكرت أسماءها جميعا كما كانت تتواردُ في ذهنها[16]. كما أولت عناية خاصة بثلاثة أولياء منهم: سيدي محمد أمزيان[17]، وهو أول من زارته، ثم مولاي علي موسى[18] الذي يعتبر معلمها، وأخيرا سيدي محمد بن مرجة[19] الذي جعل منها مطببة.

    إذا كانت للا فاضمة تدَّعي أنها مرتبطة بكل هذا العـدد من الأوليـاء، فذلك يرجع لكونها تعتقد أن هذه هي الوسيلة المؤكدة لإظهار اتساع معرفتها وبركتها، وتنوعهما ومشروعيتهما. فهما واسعتان لكونهما تنحدران من جميع أولياء القبائل وما وراء القبائل. وهما مشروعتان لأن جوهرهما معا ديني.

    تحمل المعلومات السابقة على الاعتقاد بأن مرض للا فاضمة يشكل نموذجا للسلوك السيء، منظَّما اجتماعيا، قادها إلى الاعتزال. لقد صارت عرافة - مطببة بعد تجربة داخلية تعتبر علاماتها المسارّية الأكيدة، علامات نوعية لهذه الطريقة الاختيارية. هذه العلامات هي:

    1 - هذيان هلوسي مع رؤية و/أو سماع روح أو عدة أرواح؛

    2 - سفر مُسَارِّي يتضمن:

    أ - خلوة في الجبـل،

    ب - حـوارٌ مـع الأرواح،

    ج - مُسـارَّة للتـداوي بالأعشـاب.

    3 - عودة إلى الجماعـة بوضع اعتباري جديـد؛

    4 - التكفل بوضـع حـد لمعانـاة الآخريـن.

    وهذا المرض المسارِّي لا يبرر قدر المرشحة للتحول إلى عرافة فحسب، بل ويستعبدها أيضا. فهي ملزمة بالتصالح والتعاهد مع الأرواح التي التقت بهم، وإلا فقد يكبدونها معاناة أسوأ ما لم يقتلوها.

    ثمة شبه ملحوظ بين جميع هذه السمات وسمات الشامان[20] المعروفة في العالم الآسيوي. وهي تظل متميزة في مجتمع لم تثبت فيه بعدُ مسألة وجود ظاهرة دينية شامانية قديمة. بيد أنه مع استحالة الحديث هنا عن شامانية محققة، يمكن الكلام عن مجرد سمات أو عناصر شامانية موازية. فالخلوة في العالم البري (رمز الموت) مع اجتياز اختبارات فيزيولوجية (حرمان جنسي وغذائي) تذكر بالموت المساري لدى الشامانيين الجدُد. بالإضافة إلى ذلك، ليست حكاية للا فاضمة شيئا آخر غير الرحلة الداخلية التي يعرفها كل شامان، والتي يمكن أن نذكر منها ثلاث نقط على الأقل:

    - الغنـاء

    - التعرض لـ «مصيبة إلهية».

    - التماهي مع طائر السونونو والطيور المهاجرة، الذي يدعم فكرة الروح الرحالة.

    لكـن إذا أقمنا التمييز الكلاسيكي بين الشامـان أو الممسـوس بالأرواح واعتبرنا الأول يستمد خاصيته من قدرة روحه على السفر إلى عالم الأرواح والثاني يستمدها من جسمه المسكون، وصلنا إلى نتيجة أن للا فاضمة امرأة ممسوسة أكثر منها شامانة. ذلك أن الأدرويش القبائلي هو، قبل كل شيء، شخص «يركبه» روحٌ. والمركوب لا يغير عالمه وإنما يغير هويته، أما الشامان فيسافر ويغير العالم، لكنه يحافظ على هويته. وللا فاضمة تجمع بين عناصر مكونة للحالتين. فهل يمكننا بذلك أن نعتبرها شامانة ممسوسة؟ إذا كان هذا السؤال ممكن الطرح، فإن الإجابة عنه تظل مستحيلة.

    تتضمن تجربة الشامان الشطحية - التي تؤدي إلى انتقائه - تعذيبات وتفسخات للجسد ثم بعثا، كما تتضمن تعليمات تستكمل فيما بعد على يد الشامانيين الكهول. ويرى م. إلياد أن هذا الموت - الانبعاث المسارِّي يعادل الشفاء. فالشامان مريض أفلح في استرجاع صحته، «داوى نفسه بنفسه». وعلى العكس، لا يعتقد ج. دوفرو أن الشامان يُشفى. فهذا الأخير، بحسب رأيه، هو «عنصر اجتماعي مخل بالنظام». أن يكون الشامان كائنا يعاني من عُصابٍ خطير أو حتى من ذُُهان، فذلك لا ينجيه من قبضة المجتمع الذي يعتبره مريضا في حالة شفاء مؤقت. ولهذا السبب، بلا شك، تستعمل بعض اللغات اسما واحدا لتعيين المجنون والشامان. وفي ما يخص اللغة القبائلية، لا زالت كلمة تادرويشت التي تُطلق على المجنونة تطلق أيضا على الساحرة، لأن الجميع يعرف جيدا أنها لا تشفى أبدا بشكل نهائي. ومما يعزز هذا التصور الأزماتُ التي تعيشها تلك التادرويشت دوريا، ثم كونها هي نفسها تشعر بضرورة زيارة أحد المطببين الذي يعلوها تراتبيا، ويكون في أغلب الأحيان رئيس جمعية دينية. ويتجلى اضطراب الساحرة تجاه الثقافة ذاتها من خلال الأقاويل الرائجة حولها؛ فهي امرأة مجنونة، تشكل خطرا على أقاربها وعلى الآخرين، تفرض هبات وأعطيات مهمة في أغلب الأحيان فتسلب بعض العائلات الفقيرة، ثم إنها لا تعامل جميع زبوناتها بطريقـة متساوية[21].

    يشهد كلٌّ من الوعي الحاد بكـون العرافة امرأة مريضة، وإطلاق اسـم التامرابطت (ولية) عليها، وهو مجرد مراوغة كلامية لا أحد من السذاجة بحيث يغترّ بها، والإحساس بالخوف منها، يشهد كل ذلك على وضعها المتفرد. ويرى ج. دوفرو أن الحالة الشامانية تشكل، بالنسبة للجماعة، جنونا بالتفويض؛ فالشامان «مجنون» باسم أعضاء الجماعة ولحسابهم مادام جنونه يتيح لهم الحفاظ على «شبه توازن سيكولوجي» (دوفرو، 1977: 1-83). ويرى ليفي ستراوس أن المركب الشاماني يتكوَّن من ثلاثة عناصر: «تجربة الشامان نفسه الذي يعاني من حالات خاصة ذات طبيعة نفسية جسدية، وتجربة المريض الذي يشعر - أو لا يشعر - بتحسن، وأخيرا تجربة الجمهور الذي يشارك هو الآخر في العلاج» (ليفي ستراوس، 1974: 197).

    تزاول للا فاضمة مهمتها منذ عشر سنوات. وقد بدأ مرضها بعد انصرام بضعة أيام على وضعها لمولودها الثالث. وتتميز مسارّتها أساسا بالطول، حيثُ إذا أجرينا حسابا بسيطا بين سنها في بداية مرضها (20 عاما) وعمرها لما بدأت ممارستها (45 عاما) توصلنا إلى أنها قد اجتازت مدة مسارية استغرقت حوالي 25 سنة. وهذا يجد تفسيره في كون وظيفة الساحرة لا يمكن أن تمارسها امرأة حديثة السن. كان عليها، إذن، أن تنتظر سنوات عديدة قبل أن تزاولها.

    بحسب قول للا فاضمة، لا تنتهي المسارة أبدا. ولذلك فهي لازالت تواصل زياراتها لمسؤولي الزوايا الدينية النائية جدا في بعض الأحيان. وكلما بعُدت وجهة زيارتها تمَّ تعليق أهمية كبيرة على ما تتعلمه فيها، ذلك أن ما من بعيد في الزمان والمكان إلا ويشتمل - بحسب الاعتقاد السائد - على جميع الأسرار والخفايا، وبالتالي على جميع الممكنات. وقد رأيتها مرّة تحكي بافتخار لزبوناتها ما قاله لها رئيس إحدى زوايا مدينة الجزائر الذي كانت قد التقت به منذ بضعة أيام. وبصفة عامة، فهي تتردَّد على الأماكن المقدسة شديدة القرب، لكنها خلال الأعياد الدينية تختار التوجه إلى أمكنة بعيدة جدا. هكذا فهي تقضي غالبا أول يوم من السنة الهجرية، وهو تاعاشورت [عاشوراء]، في ضريح جدي مانكلاَّت الكائن بمنطقة عين الحمام. وأحيانا يُملى عليها في الحلم اختيارُ المكان الذي يجب أن تقصده. وبطبيعة الحال، فإنها تقضي عشية هذه الزيارات وهي على وضوء.

    وهي تشعر بضرورة التوجه إلى الزواية ليس لمواصلة تلقي معرفة الأولياء وبركتهم فحسب، بل أيضا - وأساسا - لممارسة الجذبة، وهي ممارسة ضرورية لحفظ توازنها النفسي، بحسب قولها. وتتجلى هذه الحاجة في الانتفاخ المفرط الذي يحصل في بطنها ولا ينتهي إلا بعد الجذبة. ولا تحتاج العلاقة بين الجذبة والجنس إلى برهنة. وتتمثل هذه العلاقة عند للا فاضمة في استحالة لباسها للسّليب، وحتى السروال الفضفاض الذي يُرتَدى تحت الفستان، والذي يغطي العضو الجنسي والفخذين حتى الركبتين. فهي تحتاج أثناء الجذبة إلى الإحساس بتحرر جسدها كاملا، سيما أنّ كل لباس يمسّ فرجها يثير فيها الشعور بالحصر والتعرض للتسمم.


    --------------------------------------------------------------------------------

    [1] سبق أن نشرنا هذه الدراسة في مجلة العرب والفكر العالمي، ع: 13 / 14، (1. من نص البلاغة والبيان؛ 2. من نص السحر والإثنولوجيا)، ربيع 1991، صص. 177-197. (م). ونشير إلى أننا آثرنا ضم هوامش هذه الدراسة ومراجعها إلى القائمة المثبتة في نهاية الدراسة الموالية.

    [2] المقصود بالقبائل هنا الإثنية البربرية في الجزائر، وهي موضوع البحث الراهن. (م).

    [3] بحسب الاعتقاد المحلي، ستدخل بعض النساء استثناء (1 في 100) الجنة، بينما يقول القرآن إن المرأة لا تملك روحا، ومن ثمة فليس لها أن تطالب بالدخول إلى الجنة (كذا في الأصل، ونترجمه حرفيا [م]).

    [4] نسبة إلى مُسارَّة (initiation): سبق شرحها في الهامش رقم 3 من دراسة جان بران «الرمز والسحر» المنشورة ضمن الكتاب الحالي. (م).

    [5] ما من مريض إلا ويركبه روحٌ «irekeb-it». وفكرة الركوب هذه، الملازمة للملك، توجد أيضا في إفريقيا السَّوداء حيث تربط بالجماع، إذ تشكل المرأة مطية للرجل. انظر: ن. إشارد، 1981: 343-355.

    [6] في العصور القديمة، كان للآباء سلطة قاهرة على البشر. ويذكر تيرتيليان أرواح الموتى باعتبارها قوى تعمل داخل الملك: (Tertullien, De Anima, 57, 3).

    [7] للمقارنة مع المثال الذي يعطيه أبولي: «تحولت بافيل إلى بومة، جربت شكلها الجديد وهي ترسل صراخا أجش، ثم قفزت عدة مراتٍ على الأرض؛ وبسرعة، ارتفعت في الأجواء وطارت بعيدا برفرفات كبيرة»، انظر: أبوليوس، 1975، ج 3: 85.

    [8] رأيتُ للا فاضمة، ذات يوم، وهي في حالة غضب شديد لدرجة أن امرأة نعتتها بتادرويشت، غير أن للا فاضمة ردت عليها قائلة إنها ليست «مجنونة»، وإنما هي «ولية».

    [9] من الملفت للملاحظة أن مجموع هذه الكلمات تقريبا ينحدر من جذر عربي. وتلجأ اللغة القبائلية إلى استعارة مفرداتٍ من العربية، بصفة خاصَّة، عندما يتعلق الأمر بالتعبير عن أشياء ذات حمولة عاطفية قوية (جنس، موت، سحر). وبذلك فالأمر يتعلق بتصرف لغوي يدخل ضمن المجاز التلطيفي.

    [10] لقد أوَّلت ساحرةٌ، زرتُها في الضاحية الباريسية، موتَ شاب عمره 17 سنة لقي مصرعه على الفور في حادثة سير وهو يمتطي دراجة نارية، فقالت لزبوناتها: إنها هي التي تمنَّت تلك الحادثة للشاب عقابا لأمه التي رفضت أن تقدم لها بعض الخادمات أياما قبيل الحادثة.

    [11] علامة ثقافية لبداية الجنـون.

    [12] طبيبٌ بمستشفى X.

    [13] أحد إخوانها.

    [14] لا يتعلق الأمر هنا ببلدة وإنما بمنطقة في الجزائر غير قبائلية.

    [15] التداعي (association): مصطلح يعني «كل ارتباط ما بين عنصرين نفسيين أو أكثر تشكل سلسلتهما رابطة من التداعيات. (و) يستخدم هذا المصطلح أحيانا للدلالة على العناصر التي تترابط على هذا النسق. هذا المعنى الأخير هو المقصود حين نكون بصدد العلاج، إذ نتكلم، على سبيل المثال، عن "تداعيات حلم ما" للدلالة على ما له صلة ترابطية في كلام الشخص مع هذا الحلم. وقد يدل مصطلح "التداعي" في حده الأقصى على مجمل المادة المنطوقة خلال جلسة التحليل النفسي». عن: لابلانش وبونتاليس، معجم مصطلحات التحليل النفسي، ترجمة د. مصطفى حجازي، بيروت، الدار العربية للدراسات والنشر والتوزيع، ط. 2، 1987، (مادة: تداعي، ترابط). (م).

    [16] سيدي بلوى، بلقاسم أولحاج، علي بوناب، للا سعيدة، سيدي عكاد، سيدي محمد أمزيان، سيدي علي موسى، تالا أوفاناس، الشيخ أحمد بودربالة، الشيخ أزرقي، سيدي أحمد بودومة، الشيخ العموري، سيدي بومديان، سيدي امحمد، سيدي عبد الرحمان، سيدي محمد بن مرجة، سيدي بوبكر، سيدي عامر الشريف، سيدي حند إزمورن، سيدي خالص المرسى، سيدي محمد بن يوسف، سيدي أودريس، سيدي محند أولحسين، سيدي الحاج إخلويين، عكال أبركان، آت الحاج، الشيخ الحامل، الشيخ مبارك، الشيخ بن عرب لاربعا، بورمضان، آت آتلي، علي أو طاير، سيدي أحمد أومالك، سيدي بوكدور.

    [17] سيدي محند أمزيان: رئيس فعال للزاوية «الرمضانية» في سنوات 1850، ومقدَّم زاوية صدوق.

    [18] سيدي علي موسى: زاوية المعاتقة التي نزح مؤسسها من الساقية الحمراء في القرن XVIII، وهي زاوية أحرقها الجنرال Pélissier، ثم أعيد بناؤها في السنة الموالية: راجع م. ما ميري، 1980.

    [19] سيدي محمد بن مرجة: زاوية يحتمل أن تكون موجودة في منطقة الخ.ضارية (الباليصطو سابقا).

    [20] للإحاطة بمعنى هذا المصطلح يمكن المبادرة بقراءة دراسة ألفرد مترو «الشامانية عند هنود الشاكو الأكبر» المنشورة ضمن الكتاب الحالي. على أن ذلك لا يمنع من تعريفه، باقتضاب شديد، باعتباره «طريقة في العلاج سحرية دينية، يتولاها شخص من رجال الديـن أو المطببين تكمن قدراته فوق الطبيعية في كونه يتمكن من تقنيتي الشطح والملك أو المس (Possession) بواسطة سفـر إلى السماء، يحارب (هذا الشخص) خلاله الآلهة أو يفتنهم. عن:

    - Michel Panoff et Michel Perrin, Dictionnaire de l’ethnologie, Paris, Payot, 1973. (م).

    [21] تكّات تُومَادْوِينْ: تعبير يتردد كثيرا ويعني بالتحديد: «إنها تلعب برأس زبونها».
    "أن تشعل شمعة خير من أن تلعن الظلام"
    كونفوشيوس (ع)

  10. #10
    تاريخ التسجيل
    Nov 2002
    المشاركات
    4,192

    افتراضي

    نجيمـة بلانطــاد

    السّاحِـرة: التّدخـلات والطقـُوس





    I. التدخُّـــلات

    تنظم للا فاضمة ممارستها «المهنية» بحسب دورة أسبوعية تتألف من ثلاثة أنواع من الأنشطة: تخصص أيام الأحد والإثنين والأربعاء للعرافة[1]، والثلاثاء والسبت للسحر العِلاجي، ويسمى ألاَوِي، وأخيرا تخصِّصُ يومي الخميس والجمعة للراحة و«التكوين». في القسم الأول تزاول مهمة الساحرة، وفي الثاني تؤدي دور المطببة، وفي الثالث تنتقل من جانب المطبب إلى جانب المعالَج. وراحة نهاية الأسبوع[2] ضرورية عندها لسببين: لتتمكن من إفراغ مشاعر قلقها الأسبوعية في الجذبة من جهة، وتتزود بطاقة تمكنها من الانطلاق من جديد، من جهة ثانية.

    تصيبها مشاكل الزائرات في عمقها. هكذا، فكلما عالجت حالة برودة جنسية أو عجزا جنسيا خلال النهار أحست بنفور جنسي طوال 24 ساعة، وكأن فعاليتها العلاجية تتعذر خارج إجراء تحويل (بمعناه في التحليل النفسي)؛ فهي لا تخلص زبونتها من البرودة الجنسية إلا إذا استضمرت ما ألمَّ بهذه الزبونة. وليس من الضروري التدقيق في مسألة غياب أية علاقة بين هذا التحويل وذلك الذي يحصل في العلاج التحليلي؛ فبينما هذا الأخير «تكرار لنماذج طفولية مُعاشَة بشعور راهنية محدَّد» (لابلانش وبونتاليس، 1978: مادة transfert). لا يعدو الأول مجرد تحويل للمرض من شخص إلى آخر. وفي هذا التحويل يفسح المريض السلبي للمطببة مجال «الاشتغال»، فتقوم بتصريف انفعال لفائدته. في العلاج التحليلي المريـضُ هـو الذي «يعمل»، أما المحلـِّلُ فلا يعدو مجـرد ذريعـة «للعمل». هكذا فليفـي ستراوس، يعرف الزوج الساحر - المريض قائلا:

    «بفضل الاضطرابات التكاملية التي تطبع الزوج ساحر - مريض، فهو يجسد لدى الجماعة، بطريقة واضحة وحية، تضادا خاصا بكل تفكير. ولكن تجربته العادية تبقى غامضة وملتبسة: فالمريض انفعالية، استلاب الذات نفسها مثلما مرض الفكر هو ما يقع خارج اللغة. أما الساحر فهو فاعلية، فيضٌ للذات مثلما الانفعالية مستودعُُ من الرموز. والعلاجُ يقيم علاقة بين هذين القطبين المتعارضين، يضمن الانتقال من أحدهما إلى الآخر، ويُظهر في تجربةٍ كليةٍ تماسكَ العالم النفسي الذي هو نفسه إسقاطٌ للعالم الاجتماعي» (ليفي ستراوس، 1974: 201).

    وقد حضرتُ جلسة مضنية موضوعها علاج عجز جنسي كان يشكو منه رجل يناهز عمره 50 عاما، قصد للا فاضمة مرفوقا بزوجته. رغم أن الزوجين جاءا من مكان بعيد، فقد وصلا في الصباح الباكر. تقرفصت للا فاضمة الأرض قبالة الزوج وهي مرتدية برنسها الأبيض، ثم أمسكت أهدابه الجانبية بيديها معا وغطَّت الزبون؛ أحاطته بذراعيها بحيث اختفى الإثنان معا داخل البرنس. ما عاد يُسمَع، حينئذ، سوى ما كانت الساحرة تلفظه من كلمات مُجَمجَمَة وغير مفهومة. بعد بضع دقائق، تغيرت رنة الصوت ليبح تدريجيا. استحوذ عليها جشاءُُ متواصلُُ وتثاؤبات مستمرة. كان الجشاء من القوة بحيث انتابني إحساس بأنها ستشرع في القيء. وباختصار، لقد كانت في حالة جذبة. وقد فهمت زوجة الزبون هذا الاضطراب الجسدي جيدا وأخذت تشهق وتنتحب أمامي جاعلة مني شاهدة، وهي تردد أن زوجها مسحورٌ. فقد تأكدت، أوّلا، من صواب شكوكها في ما يخص سبب عجز زوجها الجنسي. وبسبب من قلقي العائد أساسا لاضطراب للا فاضمة النفسي ولانتحابات زوجة المريض، فقد صرتُ عاجزة كليا عن تقدير المدة الزمنية الحقيقية التي استغرقتها الزيارة.

    ظهرت الساحرة وزبونها من جديد بعدما تخلصا من أهداب البرنس الجانبية التي كانت تغطي رأسيهما. بدا الزبون هادئا، على عكس للا فاضمة التي كان وجهها غارقا في العرق وجسمها يرتعش. جففت عرقها واسترجعت أنفاسها. استعادت تدريجيا التحكمَ في صوتها، فخاطبت زوجة المريض قائلة إن عناصر السحر التي استعملتها عدوتها كانت تتألف من شعر زوجها وتراب أخِذَ من تحت قدميه.

    لم تكن الجلسة التي حضرتها جلسة لإبطال السحر، بالمعنى الدقيق، وإنما كانت عرافة أولية ضرورية لتشخيص الحل الواجب تقديمه. ولا تترك حالة للا فاضمة خلال العرافة وبعدها مجالا للشك في طبيعة السحر باعتباره حالة نزاع. وتصف جان فافري - سعادة في دراستها للسحر في منطقة بوكاج المايين بفرنسا حربا دارت بين مُبطل للسحر وبين ساحر، على النحو التالي:

    «بمجرد ما تم شـك قلـب العجـل بدأت الحرب القاتلة بين مبطل السحـر والساحر الذي تصدَّى له السيد غريبون (Grippon) بأبهةٍ قائلا: "الجسم بالجسم. هو الذي ينفذ منه أو أنا". نهاية هذا القتال ليست واضحة على الإطلاق. ذلك أن غريبون اضطر، وهو ينضح بقطرات كبيرة من العرق ويرتج بالتشنجات، إلى مدح خصمه فوق الطبيعي، فقال مرات عديدة: "حقا إنه قوي ولا أعرف كيف - وقد لا أستطيع - السيطرة عليه. ثم عاد إلى منزله تاركا لمريضه مسؤولية تفسير الثنائي السحري يساعده في ذلك المتلفِّظُ[3]... وفي الصباح الموالي هرول الساحر إلى مستشفى المايين حيثُ أجريتْ له عملية جراحية وقطِعَ له 25 سم من المعي. بقي مريضا مدة طويلة ثم عاد إلى منطقة البورغ، أما ضحيته (المسحورة) فقد شُفِيَت» (جان فافري، 1977: 92).

    غير أنه من اللائق التمييز بين الثنائي السحري القبائلي والثنائي السحري الماييني. ذلك أن الصراع السحري في القبائل لا يتم بين ساحر ومبطل للسحر، كما هو الشأن في البوكاج، وإنما يجري في مستوى أكثر «تجريدا»، بمعنى أن مزيلة السحر لا تقارن نفسها بالساحر وإنما بعناصر السحر. لا يتعلق الأمر بـمواجهة «جسدا لجسد» يتألم الساحر في نهايتها تألما جسديا، وإنما بصراع يقابل بين سحرين أي بين لغة رمزية ضد أخرى. ولذلك ينبغي التشديد على الأهمية التي تكتسيها العناصر المكونة «للوصفات» السحرية في المتخيل القبائلي الذي يعتبر هذه العناصر كأنها محملة بقوى أو قدرات مختلفة ومتفاوتة الفعالية. والدليل على ذلك أنه في العديد من الحالات لا يتم استدعاء مبطلة السحر، وبالمقابل يُكتفى باللجوء إلى ترياق تبعا لنصيحة إحدى الصديقات اللواتي سبق لهن أن جرَّبنه.

    عندما كانت للا فاضمة بصدد تسخير قدراتها في الحرب التي وصفناها قبل قليل، فإن الساحرة لم تشعر بأي شيء لا في ذلك الوقت ولا فيما بعد. ومبطلة السحر القبائلية لا تسعى إلى إصابة الساحرة في وحدتها الجسدية أو المعنوية، وإنما إلى القضاء على فعالية الوصفة السحرية، ولذلك كان «تشخيص» الإصابة بالسحر، انطلاقا من شعر المريض وتراب قدميه، تمهيدا ضروريا للعلاج. وانطلاقا من هذه العناصر ستتمكن مبطلة السحر من إيجاد الترياق المناسب. إن شفاء المسحور هو مواجهة الشر السحري الذي أصابه ومواجهة صاحب هذا الشـر المفترض. غير أن مواجهة هذا الأخير [الساحر] تتم بشكل عرضي فقط.

    لا يتوقف عمل للا فاضمة عند نهاية هذا العمل التمهيدي، إذ تتلوه طقوس أخرى يدوية: تقيس، أوَّلا، طول المريض بخيط من الصوف[4] ثلاث مرات، ثم تضفره وتعقده سبع عقدات بينها مسافات متساوية. وبعد ذلك تضع الخيط حول رأس المريض، وتأخذ شفرة حلاقة، وتنفث في كل عقدة قبل قطعها بحذر شديد. وبعد انتهاء عملية القطع تجمع العقد السبع والشفرة، ثم تضع الجميع وسط عقاقير، وتضيف إليه (جاويا وحرملا عربيا ومسكا)، ثم تسلم صُرَّة العقاقير للزوجة ناصحة إياها بإطلاق هذه العقاقير بخورا بين ساقي زوجها. وأخيرا، تنتهي الزيارة بتقديم وصفة أخيرة شفهية يتم تحضيرها بعسل ومجموعة أعشاب يتعين على المريض أن يتناولها في الصباح والمساء مدة 11 يوما. والنباتات التي يجب سحقها وخلطها مع العسل تتألف من زعتر، وفليو، وكمون، وإمليل، وفجلة، وأورمي، وإفرن لْكْسُوسْ، وتيمجَّا، ورَند، وحبة سوداء [=سانوج]. وفي الأخير ضربت للا فاضمة للزوجين موعدا ‎أجله شهر.

    بعد أن انصرف الزوجان، وجدت نفسي مختلية بللا فاضمة، فأوضحت لي أنها، عندما يكون موضوع الزيارة مداواة العجز الجنسي، تشعر بتنمُّلٍ، وارتعاشات، وضعف عام، وشعر في قعر فمها. وباختصار، فإنها تشعر بمجموعة من العناصر غير الطبيعية.

    طوال تلك الجلسة سجَّلتُ نقطا هامَّة تؤكد تماما الطرح الذي أقدمه في العمل الحالي، وهو أن النساء في مجال السحر هنَّ اللواتي يأخذن المبادرة لأنهن أول المعنيات. لقد كان المريض سلبيا بشكل ملفت للنظر: فللا فاضمة لم تكلمه في أية لحظة، وبالمقابل كانت تمد زوجته بالتفسيرات والوصفات كما لو كانت هذه الأخيرة هي المعنية في المقام الأول. أما المسحور، فلم يكن معنيا على الإطلاق. وذلك مثال ساطع لمنطق السّحر المتعلق بالعلاقات بين الجنسين التي لا يتعلق الأمر فيها بالإيروسية والحب بقدر ما يتعلق بصراعٍ بين امرأتين، بين الساحرة وزوجة المسحور. ولا يمكن لهذه الثنائية السحرية النسوية أن تنشأ إلا بواسطة رجل، أي ضحية لابد منها لإلحاق ضرر بزوجته.

    تستجيب للا فاضمة يوميا لعدد غفير من الزبائن. ومنزلها يمتلئ دائما عن آخره تقريبا ويشكل مكان خروج ودخول لا ينقطعان. أما الزيارات فتتم في غرفة البيت الرئيسية، وتُنظَّم عموميا، أي أن جميع الزبونات يحضرن زيارات الأشخاص السابقين ريثما يحين دورهن. وبذلك يقضين عدة ساعات في هذا المنزل الذي يشكل مكان لقاء ومحادثات لا تنتهي. وهذا الاختلاط يلائم تماما الأغلبية المطلقة من النساء حيث ينتهي بهن الأمر جميعا إلى التعارف فيما بينهن. لقد أصبح منزل للا فاضمة مكانا مفضلا لديهن للقاء والثرثرة داخل فضاء أنثوي مغلق يتيح التعرف على آخر الأخبار. وعلى العكس، يبدو أن هذا الوضع لا يروق بعض النساء حديثات السن اللواتي سبق لهن أن تمدرسن. فقد أبدين في عدة مناسباتٍ رغبتهن في جعل الزيارات تتم بشكل فردي، وذلك بإنشاء نظام شبيه بنظام عيادة الطب العصري. وطلبن من للا فاضمة أن تستغل غرفة أخرى من منزلها، تقع قرب الباب، لتجعل منها غرفة انتظار، مما سيمكن الزبونات من العبور واحدة تلو الأخرى إلى غرفة الزيارة، وذلك لأن «الجمهور»، بحسب قولهن، يجعلهن يشعرن بالانزعاج؛ فليس من شأن النساء الأخريات أن يعرفن الأسباب التي قادتهن إلى هذا المكان شبه السري. وهذه العقلية التي بدأت تتبلور بالترابط مع التمدرس والعلاقات الاجتماعية الجديدة تغير علاقة النساء بالسحر الذي لازال بالتأكيد مجالا للإيمان، لكنه أصبح قضية شخصية تستوجب تسوية فردية.

    من الصعب وصف طبيعة العلاقات التي تقيمها للا فاضمة مع الأرواح بسبب التراكم الموجود بين عناصر إسلامية وعناصر أقدم تنتمي إلى التقليد المحلي [الوثني]. أما علاقاتها مع رؤساء الزوايا الدينية، فلها هدف آخر غير هدف التواصل الروحي مع الله، هذا التواصل الذي تصبو إليه مبدئيا الرقصات الشطحية. والجذبة الأسبوعية التي تقوم بها للا فاضمة في تلك الأمكنة لا تختلف عن تلك التي تقيمها النساء العاديات، ويعبّر عنها بفعل جَذَبَ الذي يعني «حرك الرأس من الأمام إلى الخلف وقام بالتواءات». وجذبة النساء القبائليات ليست شيئا آخر غير تمظهر لأزمة الملك أو المسّ (possession). وبعد أن حدَّد ج. روجيه مختلف استعمالات مصطلحي «جذبة» و«شطح» ميَّز بينهما بكون الأول «لا يحصل إلا وسط الضَّجيج والإثارة ومجتمع الآخرين»، أما الثاني، فلا يحدث إلا «بالصَّمت والسكون والوحدة» (ج. روجيه، 1980: 31). وهذا التمييز هو الذي اعتمدناه هنا. بالإضافة إلى ذلك، لا تنتمي للافاضمة إلى أية زاوية محدَّدة، ولا يمكن الحديث عنها باعتبارها مريدة لنظام مرتبط بمذهب محدَّد. فهي لا تستمد سلطتها من تواصل مباشر مع الله، وإنما من علاقاتها مع أكبر عدد ممكن من الوسطاء، وإذن من الأولياء. بهذا المعنى فهي في منأى كامل عن كل تصرف أصيل خاص بتاريخ الجمعيات الدينية في إفريقيا الشمالية. وعلى العكس من ذلك، فهي تدخل تمامـا في إطار الديانة المحلية التي تعطـي الأولوية التامة لعبادة الأولياء، والتي حلَّت محلّ عبادة الأجداد القديمة»[5].

    وتظهر دراسة س. أندزيان (1983) حول إحدى الزوايا الدينية بضاحية تلمسان أن المعلم الروحي - خلافا لما يُقال عن هذه الزاوية - لا يعمل مطلقا (على الأقل عند النساء) باعتباره معلما روحيا طبقا «للسلسلة الكلاسيكية» التي يضعه فيها هذا المؤلف، وإنما يعمل باعتباره مرابطا عاديا يزاول مهنة مطبِّب دون أن يكون مرتبطا بأية زاوية. غير أن للا فاضمة، بارتدائها البرنس خلال زياراتها، ذلك البرنس المحمَّل بالبركة، ترتبط بطريقة واضحة وجليّة بتلك «السلسلة الصوفية الكلاسيكية». وفي الواقع، يمكن وضع البرنس بموازاة «الخرقة الصوفية» التي أخذها ابن عربي (ق. XIIم) مباشرة من أستاذه الخضر (هـ. كوربان، 1958)[6]. وفي نشيد للافاضمة المتعلق بسيرة حياتها، تذكرُ البرنسَ وكأن الأمر يتعلق بعلامة تنصيبها المُسَارِّي. والدلالة نفسها نجدها في البذلة الشامانية التي يتمكن الشامان بعد ارتدائها من «استرجاع الحالة الصوفية الموحاة والمحددة من خلال التجارب الطويلة والاحتفالات المسارية... فالبذلة توحِّدُ بين الشامان والأرواح داخل جوهر محولة إياه في أعين الجميع إلى كائن فوق إنساني» (م. إلياد، 1983: 137 و144).

    إن الطـريقـة التي تصف بهـا للا فاضمة الروح الذي يملكها تجعل مـن هذا الأخير أقرب إلى الأرواح التي تخدم الشامانيين الكلاسيكيين منه إلى مذهب المتصوفة المسلمين الديني. وبالفعل، عندما تعجبتُ يوما من استهلاكها المدهش للحم، فسَّرت لي ذلك بكون الأرواح التي تسكنها هي التي تطالب بكمية كبيرة منه وليس جسمها هي. ها هو إذن الولي، أمرابض، قد تحوَّل إلى كائنات غير محدَّدة، تحول من المفرد إلى الجمع. في الواقع، يملك الروح الذي يسكن أدرويش، أي المجنونة، مجموعة أخرى من الأرواح غير المعروفة بشكل جيد تُدعَى تارباعات، وهي تحت إمرته. وبذلك فهذه الجماعة هي التي تتصف بالشره لأكل اللحم[7]. ونرى إلى أي حد يصعب أن نحدد بدقةٍ الوضع الاعتباري الديني الذي تتمتع به للا فاضمة؛ فتفسيره بالعـودة إلى الإسـلام وحده من شأنه أن ينفي جزءا كبيرا من الإطار الثقافي الذي تستمد منه إبداعاتها وممارستها، ومن شأنه في نهاية المطاف أن يبتر اصطناعيا كلية معقدة.

    هناك مستويان من الانفصامات، بحسب ما يقوله أ. ر. ضودس. والانفصام الذي تخضع له للا فاضمة يقبل الدرجة التي يستمر فيها الوعي السوي إلى جانب الشخصية المتدخلة (...) ويمكن للذات أن تذكر فقط ما يقوله الصوت الذي حلَّ فيها» (أ. ر. ضودس، 1979: 70). ولذلك تستعمل للا فاضمة ضمير المفرد الغائب لنطق عزائمها بعد اتصالها بولي، فتقول: «يقول لك». أما الدرجة الثانية فهي جذبة أكثر عمقا، تتلاشى فيها الأنا العادية كليا «بحيث لا تعود تذكر ما قيل، وما فُعِلَ (...) يتكلم الصوت بالمفرد المتكلم عبر شفتي الذات». في هذه الحالة، يمكن للذات أن تقول مثلا: «أنا الله»،وهو ما يتطابق أكثر مع حالة الشطح الصوفي.

    وعن إفريقيا الشمالية في العصور القديمة، يقول أ. ضودس: إنَّ «ترتوليان[8] كان يعرف امرأة تتحاور مع الملائكة وأحيانا حتى مع الله، شاهدَت روحا بشرية بهيئة جسمية (مبرهنة بذلك، وبارتياح كبير، على أن الأرواح مجسَّمَة). وربما كان شيء من المزاج الإفريقي الشمالي أو من التقليد الثقافي، يهيئ بخاصة لحالات انفصامية» (نفسه: 82). يتعلق الأمر في حالات الجذبة، بالتأكيد، بحالات انفصامية، وما تعاني منه للا فاضمة أو غيرها من النساء هو الجذبة لا الشطح. وهنا أيضا يجب التفكير في التمييز الذي يقيمه ج. روجيه بين الحالتين[9]. بالمقارنة مع الساحرات الأخريات، تبدو حالة للا فاضمة جد متفردة. فشهرتها مُغَلَّفة «بنزعة إسلامية» أكثر من زميلاتها اللواتي لا يملكن إرادتها المتحمسة لممارسة زيارات متكررة للأضرحة، ولا يقمن بزيارات منتظمة لرؤساء الزوايا. وبالاستماع إلى خطاب مُريداتها ينتابني شعور بأن الأمر يتعلق بساحرة «أكثر شرعية» من الساحرات الأخريات، إذ فيما يقال عنهن إنهن سيدخلن النار، يقال عنها، هي، إنها ستدخل الجنة.

    II. الطقـــوس

    بعدما حاولنا الإحاطة ما أمكن بالساحرة ووضعَها الاعتباري في السياق الاجتماعي، سنهتم الآن بسحرها أساسا.

    إن التمييز الذي أجريه بين «سحر جيد» (أو سحر إيجابي) و«سحر سيء» (أو سحر سلبي) لا يستجيب فقط لأسباب تتعلق بتيسير التحليل بقدر ما يترجم بأمانة الخطابَ الذي يصوغه القبائليون أنفسهم بشأن سحرهم. فهم يجرون تفريقا ثنائيا واضحا جدا بين السحرين. ورغم أن الخطاب «العصري» يشجب هذه الممارسات في مجموعها، فإنه يحدث دائما أن يتم الدفاع عن السحر الجيد عندما يستجيب لحالة خاصة يعرفها المتكلم، فأحرى عندما يَقترح هذا السحر نفسه للجمع بين زوجين فرق بينهما السحر السيء، أي لإصلاح الشر بالخير أو من أجله.

    لا تتوفر اللغة القبائلية على مفردتين لتسمية هذين النوعين من السحر، وبذلك فهي تؤكد ما قلناه سابقا، ألا وهو إن الساحرة قادرة على القيام بكل شيء. لا نجد، كما هو الشأن في سحر البانطو[10] مثلا، الزوج حكيم - ساحر (magicien - sorcier)[11] حيث يتم تعريف كلاهما لغويا بوحدتين دلاليتين منفصلتين، متعارضتين ومتكاملتين: الحكيم يمارس السحر الجيد ويتصدَّى للساحر. والساحر الذي يُلقي رُقى مؤذية (ل. دوهوش، 1971:(171-187). فالقبائلي لا يقابل بين اسمين، وإنما يقابل بين فعلين، إذ يتحدث عن الساحرة التي «تعمل السحر» (تخدّمْ إحكُّولْنْ)، وعن الساحرة التي «تزيل السحر» (تعكّس إحكولن). وبذلك فما يوصف هو عمل الساحرة وليس هذه الأخيرة. فالساحرة التي «تعمل السحر» قادرة أيضا على «إزالته» ، والتي «تزيله» تملك أيضا القدرة على «فعله». كذلك لا تتم المقابلة بين الساحـر (Witch) والساحـر المـؤذي (Srcerer) كما هـو الأمر عند الأزاندي[12] فقـد كتب إيفانس برتشارد:

    «يعتقد الأزانديون أن بعض الأشخاص سحرة، وأنهم يستطيعون إيذاءهم بما ينفردون به من خاصيات. والسَّاحر (Sorcier) لا يقيم طقوسا، ولا يتلفظ بعزائم، ولا يملك أعشابا. العمل السحري عمل نفسي. كما يعتقدون أن السحرة قادرون على إيذائهم بإجراء طقوس سحرية يستخدمون فيها أعشاب ضارة. إن الأزانديين يميزون بدقة بين السحرة والسحرة المؤذين. ولمواجهة هؤلاء واولئك، فهم يلجأون إلى عرافين وكهَّان، وأعشاب» (إيفانس برتشارد، 1972: 53).

    لقد جمَّعنا في الجدول التركيبي التالي جميع الطقوس التي عرضناها في القسم الأول [من هذا البحث]، والتي تتضمن عناصرها استخدام نباتات وأحجار، الخ.



    السحـــر السلبـــي
    السحــــر الإيجابـــي


    باذََوَرْد

    حلتيت

    قطـران

    دفلـى

    قِنَّـــة



    فطريات (لازَهْريات)

    قصـب

    مُرَّان (دردار)


    عرق السُّوس

    قرنفـل

    صمـغ جاوَة

    جَوزة الطيـب

    حبات قطيفة (سالف العروس)

    حنَّـاء

    لوف مصـري طبيعـي

    أغصان شجـر الرمان

    سكـر
    نباتـــــــات

    ضفـدع

    جلد الكلـب

    جلـد الفـأر

    بدغـة (حية الزجاج)

    هـر

    جلد القنفـذ

    حافـر الخنزيـر البري
    حربـاء

    سرطـان

    سلحفاة

    جلد الثعبـان

    مخالب الهـر

    أشواك القنفـذ
    حيـــوانـــات


    ركاز كوبَلْـت

    ملـح
    معدنيــــات


    حديد

    فضـة

    صلـب
    معــــــــادن

    صابون غسل الميت

    شقفة خزف

    جفنات قديمة

    خيط أملـس

    قصـب

    إبرة سبق استعمالها في خياطة كفن

    ماء غسل الميت

    قِـدر
    صابونة صغيرة

    إناء خزفي

    سـراج

    مرآة

    سكيـــن المحراث

    دست ماء
    أدوات منزلية

    زغب عانة الزوج

    عظم الساق الأكبر

    شعر المرأة

    ضلع ميـت

    دم رجل مات مقتولا

    دم الحيض

    خـراء
    زغب عانة الزوج

    منـي الزوج

    سـنّ الزوجة
    جسد بشري

    نزول الليل

    الليلة رديئة الطقـس

    لحظة مرور الموكب العرسي
    سابع يوم بعد العرس

    الليل

    النهـار

    ليلة حلول رمضـان
    أوقـات

    قبـر

    شجـرة

    مكان مهجـور

    موكب زفافي

    عتبة المنزل

    باب غرفة نوم الزوجين

    داخل المنزل

    تحت السقف

    مكان مرور الرجـل
    قبـر

    شجـرة

    الطريق المؤدي إلى السوق

    الطريق المؤدي إلى المقبرة

    مكان ذبح الحيوانات

    مكان الدرس

    سقف المنزل

    داخل المنزل

    مكان مقدس

    مكان مرور الزوج

    تحت سرير الزوجين
    فضـــاءات

    علامات مكتوبة

    خرقة الجماع

    أحشاء الجيفة

    سِنَـاج

    أذهان تجميلية
    علامات مكتوبة

    بيـض

    البدر ليلة اكتماله
    مختلفـات

    صرة عقاقيـر

    حجـاب

    إدخـال في المعـدة
    حمام

    حجـاب

    إدخال في المعـدة

    بخـور
    وسائــــل




    لأول وهلة، من السهل ملاحظة أن العناصر السحرية الطبيعية الأكثر تواترا هي النباتات والحيوانات. أما المعدنيات والمُهَلِيَات (ذهب، فضة، بلاتين)، فتنعدم كليا في السحر السلبي، وهو ما يدعو إلى الاعتقاد بأن هذه العناصر يتم تصورها بمثابة وحدات خيِّرَة للغاية على عكس بعض الحيوانات مزدوجة [الخاصية] كالهر والغيلم أو الثعبان. والجدول الآتي الشامل نسبيا يُتيحُ، وإن بشكل تضخيمي، تحديد بعض العناصر الدالة، وكذا التقلبات التي تحكم المنطق السحري:



    السحـر السلبــــي
    السحـر الإيجابـــــي


    ثدييـــات
    زحَّافـــــــــات
    العائلــــــة

    أرضـــــي
    بـــرّ - مائــــي
    الوســـــط

    صائتــــــة
    خرســـــــــــاء
    اللغـــــــة

    مرئيـــــــة
    غيــــر مرئيـــة
    أعضاء التوالـد

    بالمزاوجــة
    لغــــــــــــزي
    التوالـــد


    الحيـوانـــــــات

    الحيوانات التي تيسِّرُ التقارب الجنسي البشري هي الحيوانات الأشد بعدا عن الإنسان من وجهة نظر النوع. وعلى العكس، فالحيوانات التي تحدث التباعد الجنسي الإنساني هي الحيوانات الأكثر اقترابا من الإنسان.

    الجنـس البشـري ¹ الجنـس الحيوانــي



    اتصال جنسي إنسانـــــي

    على العكـس،

    النوع الإنساني = النوع الحيوانــي



    انفصـال جنسـي

    ونفهم هذا الوضع المفارق إذا استحضرنا فكرة كون الحيوانات البعيدة عن المجال الإنساني، أي تلك التي تنتمي إلى العالم المتوحش، تخفي قوى عالمها. وهي قوى أشد قدرة من قوى العالم الإنساني. هكذا، مثلا، فاعتبار الطفل خنزيرا بريا لحفظه من العين ومن السحر المؤذي عموما، يطابق الفكرة التي تعبر عنها الأم بما يلي: «ابني خنزير بري، حيوان متوحش. والمتوحش يزيل الخوف» (لوحش إتْكّسْ لوْحْشْ)، أي يطابق ذلك الاستدلال الذي يرى: «بما أن المتوحش يثير الفزع، فليس هناك ما يفزعه». إن معنى كلمة الوحش يرتبط بالشيء المخيف وبالخوف نفسه في آن واحد. وحقله الدلالي واسعٌ لأنه يغطي كل ما له صلة بالتوحش، والعزلة والخوف.

    بالنسبة للنساء، يشكل الزوج ضفدع / سرطان تقابلا استبداليا يقوم على اختلاف البيئتين اللتين يعيش فيهما هذان الحيوانان. فعلى الرغم من أنهما يسكنان معا في وسط بري مائي فإنهما يتعارضان: فالمجال المائي للسرطان هو النهر، الماء الجاري، ومن ثمة فهو يوحي بالنقاء والطهر. أما مجال الضفدع، فهو المستنقع ومصبّ النفايات؛ أي الماء الراكد، ومن ثمة فهو المجال الذي تفضله أشرار الجن وكائنات فوق طبيعية أخرى خطيرة. بالإضافة إلى ذلك، فمجال السرطان يقع خارج الوسط المباشر، إنه يقع في الطبيعة. أما مجال الضفدع، فهو لا يبعد أبدا عن العالم البشري، بل يقطن في الجزء الأكثر إثارة للتقزز في هذا العالم.

    والعناصر الملائمة التي يتم الاحتفاظ بها في السحر الحيواني إنما هي أساسـا العائلـة التي تنتمي إليها هذه العناصر والوسط الذي تعيش فيه. أمـا في السحر النباتي، فالعنصر الملائم يتشكل حول الروائح العطرة.

    السحـر السلبــــي
    السحـر الإيجابـــــي


    تعفــــــــــن

    (عقـــم)
    نُضــــــــــــج

    (خصوبـة)
    السَّنَـن النباتي

    مــــــــــرارة
    بـــرّ - مائــــي
    السَّنَن الذَّوقـي

    نتانــــــــــة
    حـــــــلاوة
    السَّنَـن الشَّمِّي


    النباتــــــات

    في السحر النباتي، ما هو زكي ومُعطَّر ييسِّر الاتصال الجنسي، أما ما هو مُر أو كريه الرائحة فيباعد بين الجنسين. وهذا يطابق الدور المهم الذي تلعبه الروائح وضروب الطيب في الثقافة القبائلية. هكذا فالعروسة تعطَّر ليلة الزفاف من قمة رأسها إلى أخمص قدميها لغاية الزيادة في «سرها»[13]. وتعطير الجسم[14] والنفَس[15] أمرٌ إلزامي للمرأة التي ترغب في أن يجامعها زوجها. وهذا السحر الأنثوي اليومي هو ما نجده منقولا إلى الخطاب الطقوسي. فالنفس اللطيف لدى الشريكين ضروري لتحقيق اتحاد جنسي جيِّد كما تشير إليه هذه الحكاية بمنتهى الوضوح:

    «زعموا أن امرأة حملت جرتها وذهبت إلى عين لتسقي ماء، فلقيها سبعٌ وطلب منها أن تتزوجه. فلما امتنعت هدَّدها بالافتراس، فلم تملك إلا أن توافق على الزواج به. ولما عثر أهل القرية على الجرة اعتقدوا أن المرأة قد افترسها وحش. غير أنها ما لبثت أن عادت إلى القرية بعد أشهر ومعها "زوجها" السَّبع. فلما رآه أهل القرية ذعروا، فحمل بعضهم منجلا وحمل بعضهم حجرا وهموا بقتله. غير أن المرأة خاطبتهم قائلة:

    "ما لحمكم سوى لقمة في فمه

    وما دمكم سوى جرعة [في فمه]".

    فابتعد الناس وفسَحُوا الطريق للمرأة والسبع، فدخلت المرأة إلى بيت أبيها ومعها السبع، وتركته في غرفة كما لو كان واحدا من أهل المنزل، ثم التحقت بنساء الدار اللواتي كنَّ متلهفات على سماع حكايتها. فجلسن في غرفة لا يفصل بينها وبين غرفة السبع ووالد المرأة سوى حائط قصير، فأرهف السبع سمعه وأنصت لمحادثة النساء دون أن تفلت منه أي كلمة. سألت النساء الزوجة عن مسائل عديدة حول عيشتها مع السبع، وبالخصوص حول كيف يتجامعان. فقالت لهن إنه يحميها ويأتيها بكل ما تطلبه، وأنها لا تكره فيه إلا شيئا واحدا، هو خبث نتاتة رائحة فمه التي تقززها منه كلما دنا منها.

    ولما حان المساء عاد السبع والمرأة إلى الغابة، فذهب إلى الصيد كما يفعل كل يوم، ثم أحضر حمارا وقدمه للزوجة كي تأكله. فلما رفضت أكله قال لها: "بما أن رائحة فمي كريهة فيجب أن تكون رائحة فمك هي الأخرى كريهة، فإما تأكلي الحمار أو آكلك"، فلم تجد المرأة بدا من أكل الحمار. ونكاية فيها، نشب السبع مخلبه في جبينها فأحدث به علامة، ثم أرسلها إلى أهلها لتبقى بلا زواج إلى الأبد؛ فعلامة جبينها وخبث نَفَسها جعلا الرجال يرغبون عنها»[16].

    وفي الطقوس التي تقتضي علاجا يدويا يجب الإشارة إلى الدور الهام الذي تلعبه الوسائل والأشكال السحرية (من حجب وابتلاعاتٍ وبخور) وندرك في هذا المستوى أيضا الارتباطات التي تنشأ بين الشم والفمية والجنسانية. فابتلاع مواد مختلفة والحجب مزدوجة الطبيعة يختلفان عن البخور التي لا يمكن أن تكون إلا نافعـة ومطهـرة. على عكس البخور، يستدعيان دائما الابتـلاعات والحجب، تشغيل سحر ترميمي يعيد الأشياء إلى نصابها.

    ترافق الطقوس اليدوية دائما طقوسٌ شفهية، أي صلواتٌ ونُذُرٌ وتمنيات ووصفات بسيطة (تعزيمة، استعطافية، واقية، الخ.). وفيما تنعدم الطقوس اليدوية الخالصة توجد الطقوس الشفهية الخالصة، وهي تأخذ شكل عزيمة - نبوءة سبق أن سُقتُ ثلاثة أمثلة منها في الفصل الأول[17]. تشكل كل عزيمة بمفردها الطقسَ نفسَه بكامله. وبينما يمكن للطقس الشفهي أن يكتسي فعالية خاصة يستمدها من طبيعته، لا يكون الطقس اليدوي فعالا إلا إذا أرفِق بأَوالِه، أي بكلمته.

    ويمكن أن تصل قوة الكلمة في الحضارة البربرية - وهي حضارة كلمة[18] - إلى حد الاستبداد، إذ يمكن للمرء أن يجرؤ على ارتكاب القتل بسبب كلماتٍ، وبذلك فمصير الفرد يرتبط بما يقالُ فيه. فالكلمة التقريضية أو التأنيبية تحددان مجرى حياته وترسخانه في أحد قطبي الإيجابية والسلبية. إن القيمة المقدسة لكل من الأيمان والكلمة المتلفَّظ بها تُبَنين الكلام في «أمر قاطع».

    يربط بين الثلاثي «معرفة - حكمة - شعر» رابط قوي. فالعلم والحكمة يكادان يختلطان، ذلك أنَّ كلمة حكيم (أمسناو) مشتقة من الجذر (س ن) الذي ينحدر منه فعل إسّن (علم): وعلم الأمْسْنَاوْ وحكمته لا يجدان تعبيرا أفضل من الكلمة المنظومة، أي الشكل الأكثر نقاء والذي يتطلب تعليما صعبا لا يكتمل أبدا[19].

    ولا يتعلق الأمر هنا بتاتا باعتبار للا فاضمة أمْسْنَاوَ رغم أن عزائمها أكبر من مجرد وصفات مقولبة. فالإكثار من التكرار عندها لا يعدو مجرد خاصية من خاصيات الارتجال الشفهي، وقراءتها لوصفات، بل وحتى لأبيات شعرية جاهزة هو مجرد إجراء لتقوية الذاكرة. ومع ذلك، يمكن القول إن العزائم بشكلها (المنظوم لا المنثور) وبالأثر الذي تحدثه تقترب من كلمة أمسناو الحقة رغم كون هذه العزائم لا تستخدم إلا في المجال السحري. إنها كلمة عِرافية، كِهانية، كشافة عن المقدس في عالم الإنسان.

    إن القدرة على العرافة، أي القدرة على رؤية ما لا يراه عامة الناس، تُكسب كلمة العرافة - الشاعرة فعالية، لأنه «إذا كان الشاعر يتلقى إلهاما حقا، وإذا كان كلامه يقوم على هبة من العرافة، فإن كلمته تنحو إلى إن تكون هي "الحقيقة" عينها» (م. ديتيان، 1981: 27). وقوة الكلمة الشعرية العرافية تتأسس على الاعتقاد الراسخ في قدرتها على «التحقق» بمجرد ما يتم النطق بها[20]. والسحر الذي تمارسه هذه الكلمة لا ينبع من كونها إبداعا إنسانيا، وإنما من جوهرها الرباني. فالساحرة لا تستطيع أن تتلفظ بها إلا بعد الاتصال بولي أو عدة أولياء أو أرواح تثني عليهم في مستهل قصيدتها أو في نهايتها أحيانا. ويتعلق الأمر بظاهرة مماثلة لظاهرة إلهام ربات الفن للشاعر الإغريقي:

    «إليكم الكلمات الأولى التي خاطبتني بها الآلهة ربات الأولمب، بناتُ زوس الذي بيده الملك: "أيها الرعاة القاطنون في الحقول، يا تعساء الأرض الأذلاء، [أنتم] الذين ما أنتم بشيء آخر غير بُطون! إننا نعرف كيف نحكي أكاذيب مماثلة تماما للحقائق". هكذا تكلمت بنات زوسٍ الحقيقيات. وأهدينَ لي، بمثابة قضيبٍ، غصنا بهيا انتزعنه هنَّ أنفسهن من شجر رند مزهر، ثم ألهمنني كلمات إلهية لأمجِّدَ بها ما كان وما سيكون. وفي تلك الأثناء أمرْنَني بأن أمجِّدهن في مستهل كل نشيد من أناشيدي ونهايته، وأمجِّد أيضا عِرقَ السعداء الأحياء دوما» هِزيود، 1982: الأبيات 24-29).

    ولا يفوتني أن أسجل هذا التشبيه للكلمة بغصن شجرة الرَّند. فالقبائليون يرون أن الكلمة تخرج من الأرض وتنمو كأنها عشبٌ. إنها تشكل جزءا من العالم الفيزيقي. فهي تحيا وتنمو وتتراجع. ويُعدّ إلهام الكائنات الفوطبيعية العنصر الأساسي الذي يمنح الفعالية لهذه الكلمة المشرقة والمتعالية، تلك الفعالية التي يحققها الوسطاء المقدَّسون بفهم الإلهام. وما تمنحه الساحرة هو انصهار الكلمة بين الفعل، والزبونة القلقة تجد تخفيف ألمها داخل هذه الكلمة «المتحقِّقة». والزبونة نفسها، في الواقع، هي التي «تترجِم» هذه الكلمة الملغِزَة الإعجازية وتمنحها تفسيرها الشخصي. وبما أن الاشتراك اللفظي هو الخاصية المميزة للنبوءة، فما من فرد إلا ويمكنه العثور فيها على ما يبتغيه، وبذلك يمكن لتأويل العزيمة أن يتعدَّد بتعدد المستمعين إليها لأن صياغتها المجازية تتيح للمتلقية أن تمسَّ للحظةٍ حبكة قدرها الملغزة. «النبوءة لا تُحَدِّثُ ولا تَكتم، وإنما تلمِّح» (هراقليطس، D. K: 93). ومع أن الكلمة - النبوءة ذات طبيعة ملغزة، ومع أنها علامة معتمة يصعب فك رموزها، فإنها بطبيعتها تلك ليست في نهاية المطاف سوى صياغة لواقع ما، هو واقع عجز المرأة العادية عن فهم وقائع حياتها في المستقبل.

    يحتل البعد الزمني مكانة أساسية في نبوءات العرافة، ولذلك فإن «الكلمة النبوءة تُدخِل ثانية في زمن الأحياء هذه الكثافة الأساسية، أي هذه الطبيعة الصُّدفَوية للتنبؤات والمشاريع التي للعرافة نظريا مهمة تهدئتها إن لم تكن إلغاؤها» (جان بول فرنان، 1974: 3). وإذا فحصنا العزائم التي أوردتُها في الفصل الأول، وجدنا أيضا أنه تمَّ الفصل بين العناصر المثيرة للقلق (الحالية) والعناصر الباعثة على الاطمئنان (المستقبلة). وهذه الأخيرة تختم القصيدة وتتيح لزائرة العرافة أن تضع حدَّا لتأرجحها المقلق بالاحتفاظ [من كلمة العرافة] بكلمة مُوافقة، والعودة إلى بيتها بتخفيف مُحقَّقٍ حتى وإن كانت تجربتها قد أبانت لها عن طبيعته المؤقتة.

    تحقِّقُ العزيمة السحرية فعلَها السحري بالتدخُّل في الحتمية الطبيعية لتعديل مجراها. والكلمة السحرية الدينية تجمِّع في طياتها العلمَ والحكمة، والقدرة والفعالية، وسائر هذه الخاصيات التي تأخذ شكلا كاملا، هو البيت الشعري.

    ــــــــــــــــــــــ



    الهـوامـش والمـراجــع

    Andezian, S.

    1983, «Pratiques féminines de l’Islam en France», Archives des sciences sociales des religions, janvier - mars, 55/1, pp. 53-66.

    Apulee,

    1975, L’âne d’or ou les métamorphoses, trad. P.Grimal, Gallimard, Paris.

    Camps, G.

    1961, Aux origines de la Bérbérie: monuments et rites funéraires protohistoriques, Arts et métiers graphiques, Paris.

    Corbin, H.

    1958, L’imagination créatrice dans le soufisme d’Ibn Arabi, Flammarion, Paris.

    Dallet, J. M.

    1972, Esquisse d'une théorie de la pratique, Genève, Drose.

    De Husch, L.

    1971, «Pour une approche structurale de la pensée ‘’magico-religieuse bantoue’’, in Pourquoi l’épouser?, Gallimard, Paris.

    Detienne, M.

    1981 ]1967[, Les maîtres de vérité, Maspéro, Paris.

    1972, Les jardins d’Adonis, Gallimard, Paris.

    Detienne, M. et

    Vernant, J-P.

    1974, Les ruses de l’intelligence, la métis des Grecs, Flammarion, Paris.

    Devereux, G..

    1977 ]1956[ «Normal et anormal», in Essais d’ethnopsychiatrie générale, Gallimard, Paris.

    Devulder, M.

    1951, «Peintures murales et pratiques magiques dans la tribu des Ouadhias», in La Revue Africaine, tome XCV, pp. 63-102.

    Dodds, E. R..

    1979 ]1965[, Païens chrétiens dans un âge d’angoisse, D. Saffrey, La pensée sauvage, Claix.

    Echard, N.

    1981, «Indifféreces, hésitation: le cas des Haussa de l’Ader (Niger)», in La première fois ou le roman de la verginité perdue à travers les siècles et les continents, Ramsay, Paris, pp. 343-355.

    Eliade, M.

    1983 ]1968[, Le chamanisme et les techniques archaïques de l’extase, Payot, Paris.

    Evans-Pritchard, E. E.

    1972 ]1937[, Sorcellerie, oracles et magie chez les Azandé, trad. L. EVrard, Gallimard, Paris.

    Favret-Saada, J.

    1977, Les mots, la mort, les sorts, Gallimard, Paris.

    Hesiode.

    1982, Théogomie, trad. P. Jaccotel, Maspéro, Paris.

    Kilborne, B.

    1978, Interprétation des rêves au Maroc, La pensée sauvage, Claix.

    Laplanche, J. et

    Pontalis, J. B.

    1978, Vocabulaire de la psychanalyse, P.U.F., Paris.

    Levi-Strauss, C.

    1974 ]1949[, «Le sorcier et sa magie», in Anthropologie structurale, I, Plon, Paris, pp. 183-203.

    Mammeri, M.

    1980, Contes berbères de la Kabylie, Bordas, Paris.

    1980, Poèmes Kabyles anciens, Maspéro, Paris.

    Mammeri, M. et

    Bourdieux, P.

    1978, «Dialogue sur le poésie orale en Kabylie», in Actes de la recherche en sciences sociales, n° 23, septembre, pp. 51-66.

    Rouget, G.

    1980, La magie et la transe, Gallimard, Paris.

    Vernant, J. P.

    1974, «Parole et signes muets», in Divination et rationalité, Seuil, Paris.




    --------------------------------------------------------------------------------

    [1] لقد ذكرتُ أعلاه تعدد معاني كلمة الساحرة. وعندما أتحدث عن العرافة بشأن للا فاضمة، فإنني أدخل كلا من التخمين، والعرافة بمعناها الدقيق، والكهانة، ومناجاة الأرواح، وإبطال السحر، الخ..

    [2] وهي الخميس والجمعة في الجزائر.

    [3] تقصد جان فافري بالمتلفِّظ (annonciateur) «الشخص الذي يكون قد تخلص من سحره، ثم يقصد أحد الأشقياء، يفتَرَض أنه لم يفكر في يوم من الأيام في السحر أو لم يسمع به أبدا - ويخبره أنه بدوره قد تعرض للسحر (...) ولكي يتحقق الشقي من ذلك، يجب عليه أن يتأكد من أن المعرفة الوضعية قد فشلت فشلا تاما في معرفة أصل ما يعانيه من أضرار» (جان فافري، 1977: 61) (م).

    [4] حينما لاتتوفر للا فاضمة على خيط أملس، فإنها تلجأ إلى استعمال خيط كُبَّة غزل تشتريها من الدكاكين.

    [5] من المفيد تسجيل أن للقسم بالجد واهِبِ اسمه (éponyme)، مؤسس قبيلته، عند القبائلي وزنا يكاد يفوق وزن القسم بالله.

    [6] ويعرف ابن عربي ارتداء الخ.رقة الصوفية قائلا: «الخرقة عندنا هي عبارة عن الصحبة والأدب والتخلق. ولهذا لا يوجد لباسها متصلا برسول الله (ص)، ولكن توجد صحبة وأدبا وهو المعبر عنه بلباس التقوى، فجرت عادة أصحاب الأحوال إذا رأوا أحدا من أصحابهم عنده نقص في أمر ما وارادوا أن يكمِّلوا له حاله يتحد بهذا الشيخ. فإذا اتحد به أخذ ذلك الثوب الذي عليه في حال ذلك الحال ونزعه وأفرغه عن الرجل الذي يريد تكملة حاله فيسري فيه ذلك الحال، فيكمل له ذلك فذلك هو اللباس عندنا والمنقول عن المحققين من شيوخنا».

    [7] بخصوص زاوية عيساوة في المغرب، لاحظ بعض الباحثين أن قسما من ممارستها يرتكز على الإيمان بالتعرض لمس أرواح تتقمص الأسد، وابن آوى، والخنزير البري، الخ. فهذه الزاوية «تمارس طقسا لاستهلاك اللحم النيء «الفريسة» كثيرا ما تمت مقارنته بأوموفاجيا [=أكل المثيل] كاهنات باخوس». راجع ج. روجيه (1980: 379-380)،وهو ما ينقل هنا ما كتبه ر. برونيل.

    [8] ترتوليان Tertullien: أحد آباء الكنيسة، انقلب إلى بدعة تُدعى المونطانية (montaniame) نسبة إلى مؤسسها مونطانوس Montanus (ق 2م)، كانت تريد استبدال التراتبية الكَنَسية بأنبياء يوحى إليهم. (م).

    [9] «لقد أفاض كبار المتصوفة المسيحيون في شرح شطحهم. كما فعل ذلك أيضا آباء الكنيسة وزُهَّاد الهند. أما الجذبة، فهي على العكس، سواء أكانت جذبة مملوك أم شامان، فخاصيتها أنها تتعرض للنسيان التام. ومن ثمة، فعلاقة الأنا بجذبتها، في هذا الصدد، هي تماما عكس علاقة الأنا بشطحها». (ج. روجيه، 1980: 33).

    [10] البانطو (Bantou): اسم يطلق على إحدى كبريات العائلات اللغوية بإفريقيا، وتتكلمها مجموعة سكانية من إفريقيا السوداء تقدر بحوالي 60 مليونا، تقطن في حزام يمتد من دُوالابك كاميرون إلى مومباسا بكينيا. عن: معجم الإثنولوجيـا (بالفرنسية)، م. س. (م)

    [11] حول الفرق بين الكلمتين، فاللغة العربية هي الأخرى لا تتوفر على مصطلحين للدلالة على السحر بكيفية تسهل إيجاد معادل لكلمة «Sorcellerie» الفرنسية ومعادل آخر لكلمة «Magie» في اللغة العربية، وإن كان ممارسو السحر يميزون، بشكل ضمني في الغالب، بين نوعين من السحر. هكذا ففي حالة المغرب، مثلا، يمكن القول بصفة عامة إن السحر بمعنى «Magie» ينتمي إلى حقل المقدس الديني ويمارسه «الفقهاء» وله - حسب مزاوليه - وضع محلل ومشروع. إنه يصدر أيضا من الأولياء والزوايا الدينية على شكل بركة. أما السحر بمعنى «Sorcellerie»، فهو ممارسة دنيوية، مناهضة للدين، ترتكز أحيانا على سلطات غريزية ينفرد بها الساحر، هذا الأخير الذي يعتقد أنه يتحكم في العفاريت ويسحر ضحاياه عبر وجبات تحوي مواد سامة. والسحـر بهذا المعنى يمارسه أفراد كالشوافات )العرافات( اللواتي يظل وضعهن محرما وغير شرعي. وبالجملة، فإن سياق تلفظ كلمة «سحر» من قبل الثلاثي الساحر - الزبون )أو الضحية( - المجموعة الاجتماعية، هو الذي يحدد المعنى الدقيق المراد بها. (م).

    [12] الأزاندي (les Azandé): أحد شعوب إفريقيا يتكلم اللغة السودانية ويقطن في منطقة اقتسام المياه بين النيل والكونغو داخل تراب متقاسم بين جمهوريتي الزايير وإفريقيا الوسطى ثم السودان. وقد أقام إيفانس برتشارد بين الأهالي الأزانديين مدة عشرين شهرا متقطعة فيما بين 1926 و1930، فألف انطلاقا من المعطيات التي جمعها خلال هذه الحقبة سفره الضخم (بالإنجليزية) الذي ترجم إلى الفرنسية في 624 صفحة تحت عنوان: Sorcellerie, oracles et magie chez les Azandé, Paris, Gallimard, 1972. عن:معجم الإثنولوجيا، مرجـع سابق. (م).

    [13] السر هو «بريق العينين، وجمال الجسم المشرق، وتألق المحبوب. كما أنه هبة المرأة للرجل في الزواج» (م. ديتيان، 1972: 167-168).

    [14] يتجلى حب المرأة للعطور بشكله العصري في الكمية المدهشة من قارورات العطر مختلفة الأحجام التي تحفظها النساء في لوازمهن الشخصية، وكذا في جمعهن للصابونات المعطرة.

    [15] تعمد النساء، لتطييب أنفسهن، إلى علك حبات من القرنفل.

    [16] لقد قمت شخصيا بجمع هذه الخرافة التي حكتها لي امرأة من قرية آت ويليس (من القبائل الصغرى).

    [17] تقصد الفصل الأول من الكتاب الذي نترجم منه الفصلين الحاليين. (م).

    [18] يقول مثل قبائلي: «بوييلس مدّن أكّوينس» (فصيح اللسان يملك العالم بلسانه).

    [19] في ما يخص الأمسناو، راجع: م. ماميري، وب. بورديو، 1978، وم. ماميري، 1980.

    [20] تستعمل النساء فعل إسّنْ (عرف، علم) لتسمية الساحرة، فيقلن مثلا: «فلانة تَعْرف». ومن ثمة، فالساحرة تكون بالضرورة عالمة وبصيرة.
    "أن تشعل شمعة خير من أن تلعن الظلام"
    كونفوشيوس (ع)

  11. #11
    تاريخ التسجيل
    Nov 2002
    المشاركات
    4,192

    افتراضي

    · خوليـو كـارو باروخـا

    عن بعـض تأويلات السحـر العصرية[1]





    قبل أن يعتلي العقل عرش أوروبا عرفت هذه الملكة إبان القرون XV وXVI وXVII ضغطا غير مسبوق في التاريخ. فقد سجنت محاكم التفتيش التي انتشرت في مجموع دول أوروبا، بتزكية من الكنيسة وتحت إشرافها، لحفظ الكاثوليكية من البدع والشيطان، سجَنت وشنقت وأحرقت عشرات الآلاف من الأشخاص أكثرهم ساحرات مزعومات... كان يكفي أن يبلغ عن امرأة ما أحد جيرانها أو أقاربها (ابن، زوج، أخ، الخ)، بل وحتى طفل ما، فتجد نفسها في جحيم العقاب. وكانت محكمة التفتيش، في المقابل تلتزم بعدم إفشاء اسم الواشي. بعد اعتقال المشتبه بها، يُطلب منها أن تعترف (بأنها ساحرة) وتزود المحكمة بأسماء شركائها. فإن أقرَّت عوقبت وإن لم تعتَرف أجبِرَت على ذلك بالقوة. ولأجل ذلك، تفننت محاكم التفتيش في استخدام أساليب العقاب الجسدي: منها، مثلا، التكبيل بالسلاسل، الضرب، وضع المشتبه بها في سجن مساحة من الضيق بحيث ترغم الضنينة على الجلوس فوق غائطها، إنفاذ إبر حادة طويلة في مختلف أطراف الجسد بحثا عن علامة الميثاق الذي قد تكون الساحرة المزعومة عقدته مع الشيطان، إلقاؤها في صهريج ماء،فإن غرقت قيل إنها بريئة، وإن طفت فوق الماء قيل إنها ساحرة، الخ. وخلال اعتراف الساحرة المزعومة، كان يُنتزع منها إكراها أنها وقعت ميثاقا مع الشيطان، بعد أن تبوَّلت على الإنجيل وكسَّرت الصليب، وشتمت (مريم) العذراء، بموجبه صارت تملك القدرة على الطيران في الهواء وإرسال الرياح لإغراق السفن وتمريض الآخرين... كما تعترف بأنها تواظب على حضور محافل السبت، حيث ترقص عارية وتضاجع التيس على إيقاع دقات طبول جماعة السحرة وبحضور الشيطان نفسه...

    وقد كُتبت - ولازالت تكتَب - دراسات عديدة جدا، ومن زوايا متنوعة، عن ظاهرة مطاردة الساحرات واضطهادهن. والدراسة الحالية محاولة لإيجاد تفسير لها: هل كان الضحايا سحرة بالفعل أم أنهم لم يكونوا سوى أكباش فداء عبَّر المجتمع من خلالهم عن توتراته الداخلية؟ والبحث التالي كتبه مؤرخ إسباني ضليع في الموضوع، ربما كان كتابه «الساحرات وعالمهن» من أهم المؤلفات في هذا المجال، يناقش فيه تلك التأويلات.

    )المتـرجـم)

    I. التأويــلات الأنثـروبـولوجيـة

    اهتم عدد كبير من الناس، في الأزمنة الحديثة، بالسِّحر الكلاسيكي، وأقصد به ذلك السحر الذي تكشف عنه كتب القضاة والمحققين التابعين لمحاكم التفتيش[2] في القرون XV، وXVI، وXVII. من أولئك المهتمين مؤرخو القانون وأطباء المرض العقلي وعلماء النفس وعلماء الاجتماع ثم الأنثروبولوجيون. ولن أتحدث عن البحاثة وهواة جمع الوثائق الذين لا يسعون مطلقا إلى تفسيرها، ولا عن زمرة الشيطانيين أو مناهضي الشيطان الذين يؤمنون بالسحر أو يتظاهرون بالإيمان به أمثال بيير دولانكر[3] أو كتَّاب آخرين قبله. وقد دخل مؤرخو الأديان هم الآخرون الحلبة. وإذن فنحن في خطر كبير، خطر الضياع في غابة الآراء المتناقضة التي أتاح التحليل الحر استخلاصها. لكن يمكننا أن نخاطر، دون خوف كبير، بإنجاز تحليل وجيز من هذه الأحكام المتناقضة، وذلك بعدما لاحظنا أنها غالبا ما كانت سطحية لا تهدف إلى أي شيء عدا إذهال جمهورٍ جشِعٍ بحكاياتٍ فظة وبعد أن حذفنا ثلثيها إن لم يكن ثلاثة أرباعها.

    قبل الشروع في هذا التحليل، أودُّ الإلحاح على طبيعتي الأساسية باعتباري مؤرخا سعيتُ دائما إلى البحث، خلف الوثيقة التاريخية أو خبر الوقائع الجارية، عن الدلالات المتعالية عنها، فنتج عن ذلك أنني اعتبرتُ دائما بعض تقنيات إعادة البناء التي يستخدمها أركيولوجيو المدرسة القديمة وأنثروبولوجيوها، تقنيات فيها شُبهَةٌ ما. عندما يتحدث كهلٌ من العصر الوسيط عن علاقات عبادة ديانا[4] بالسحر، فإن الأمر يبدو لي واضحا فأتمُّ عملي بهدوء، ولكن عندما يُرادُ إقناعي بأن نصا قديما آخر، يتحدث عن الشيطان المسيحي، إنما هو إشارة محجوبة لإله قديم مُقَرَّنٍ [= له قرنان] تمتد عبادته منذ ما قبل التاريخ إلى العصر الوسيط، فإنني أضطر لبذل جهد كبير لمواصلة قراءتي، فأتوقف حائرا في البداية، ثم متشككا بعد ذلك. إذا كان من الضروري إعادة البناء والتجريد، فإنني بالتأكيد لن أندفع في هذا الطريق الحفري - الميال إلى الخيال بحثا عن الحقيقة. لستُ في سن من تَفتنُه الفرضيات التطورية[5] الصادرة من ذهنِ شاب محشو بحفريات ما قبل التاريخ.

    لكي أوجِّه نفسي وأوجِّه القارئ في مجال التأويلات، أعتقد أنه من اللائق الآن أن نضع أنفسنا في منتصف الطريق.

    لقد أظهر لنا كلُّ ما قلتُه حتى الآن بشأن الواقع التاريخي للسحر أن هذا الأخير يرتبط بنظام خاص من المشاعر والمعتقدات. وما نعرفه في هذا المجال لا ندين به إلى ما يعتقده السَّحرة والساحرات بقدر ما ندين به إلى ما يعتقده الآخرون بشأنهم، لأن مشاعر هؤلاء ومعتقداتهم تعد أكثر انسجاما وأسهل للدراسة عبر الزمان والمكان من مشاعر ومعتقدات السحرة أنفسهم.

    من جهة أخرى، يسهل دائما التأكد مما يقال أكثر مما يسهل التأكد من الحدث الذي يشكل أساس ما يُحكى. فساحرة علاقات المحاكمات يمكن أن تخفي شخصية حقيقية يصعب رسمها بطريقة واقعية. ولذلك سندرسُ بعض المؤلفين المعاصرين الذين لا يشكون في الوجود الفعلي لساحرات كنَّ مقتنعات تماما بأنهن ساحرات حتى وإن لم يكنَّ مسؤولات عن أفعالهن. ومما يدعو للمفاجأة كوننا سنكتشف من بين هؤلاء المؤلفين مدافعين متحمسين عن هذه الأطروحة.

    من المعروف أن مارغريت موراي قد نشرت كتابا آخر بعدما سبق لها أن عرضت في مؤلفها The Witch Cult in Western Europe أطروحتها حول السحر باعتباره مخلفات[6] من عبادة ديانا. ولكونها تعاملتْ مع جميع المعلومات الخاصة بـ «محفل السبت»[7] باعتبارها معلومات صحيحة، فقد انتهت في كتابها الجديد إلى أن الساحرات كنَّ يعبدن إلها غريبا أقرن يرتد اصله إلى ما قبل التاريخ، وهي أطروحة لا يمكنني تبنيها. وأشير، من جهة أخرى، إلى أن هذا النوع من التأويلات المرتكز تقريبا على معرفة صلبة وعلى منهج مقارن أقل صلابة، ليس وليد اليوم. فقد كان بيير لولواييه Pierre le Loyer، وهو رجل قانون معاصر لدولانكر، سريع التصديق مثله، وصاحب فكر أرهقته معرفة كبيرة، قدسية ودنيوية، شرقية وكلاسيكية[8]، كان لواييه يستند إلى نص لأرنوب Arnobe ويرى أن التيس الذي كانت تعبده الساحرة إنما هو أتيس (Athys)[9] نفسه، وأن عَبَدة باخوس والجدة (Grande Mère) والـ Côtyto[10] كانوا رواد سحرة عصره (ب. لولواييه، 1605: VII، 708). فكل العادات والاحتفالات الشيطانية، بحسب رأيه، توجد في العصور القديمة الكلاسيكية. أما نحن فنمضي اليوم بعيدا جدا، إذ أصبحت حقبة ما قبل التاريخ موضة في المجتمع المترف حيث تضم التماثيل إنسانية الشكل المنحدرة من العصر الحجري القديم الأعلى إلى الأقنعـة البدائيـة وإلى التماثيـل والمنحوتات المرعبـة، كما في متحـف إثنوغرافي قديـم.

    وأتباع مارغريت موراي الذين يمضون أبعد منها قادرون على كتابة ما يلي:

    It was shown earlier that the Horned God of the primitive paleolithic peoples Known in a nmber of different forms everywhere, took on a special significance in Mesopotomia and Egypt, where he became associated with the whole ancient magical system» (Hughes, 1952: 91).

    لا أرى ضرورة لتقفي طريق هذا الإله الأقرن عبر القرون، كما أنني مقتنع بأن العديد من الآلهة، منذ العصر الحجري القديم إلى الأزمنة الحديثة، كان لها خاصياته نفسها. والرغبة في اكتشافه في محاكمات السحر وراء قسمات الشيطان أو إبليس - كما يظهر دوما في معجزة تيوفيل - هو خطأ شائع في الأنثروبولوجيا التي ترتكز على مقارنة وقائع معزولة وعلى نظام من التداعيات خاص بها؛ خطأ يرتبط هو نفسه بنظرية في المخلفات صارمةٍ وبأطروحات أخرى لا داعي لعرضها في هذا المقام. والشيء البديهي الوحيد هو تأثير فكرة الشيطان في الحياة الوسيطية وحتى في الحياة اللاحقة. ومن وجهة نظر تاريخية، يستحيل اقتلاع تلك الفكرة؛ وذلك كما لو أردنا إزالة الخوف من الشيوعية باللجوء إلى تفسير بعض أعمال المجتمع الراهن أو - على العكس - بأن نزعم تبريرها بأفكار تعود إلى مائتي عام أو أكثر، حيث نتمسك بأبسط سمة فيها يمكنها أن تذكر بالمذهب الشيوعي.

    وباختصار، أرى من الخطأ البحث عن أصل مشترك، عن اتصال تاريخي لمجموع الظواهر المدرجة تحت اسم سحر، إذا كان ذلك البحث يرجع إلى عصور ما قبل تاريخية، ويرتكز على وقائع كتلك التي تحتج بها مارغريت موراي وترى أن السِّحر هو عبادة خصبٍ تنحدر من أصل مصري، الخ. فالبحث عن أسلافه المباشرين في عبادة بعض الآلهة الوثنية الأوروبية من جهة، وفي عبادة الشيطان ذات الأصل الوسيطي من جهة ثانية، يكون أقل مجازفة. إن الجناحين يتقدمان على هذا النحو:

    السحـــــــر

    معتقد منفعـــل

    (ما يُعتقَد عن الساحرات)

    إمكانية قيام المُقطَعين[11] وأتباع عبادة الشيطان وعبادة الجن بأعمال مؤذية.
    معتقـد فاعــــل

    (ما تعتقده الساحـرات)

    إمكانية القيام بأعمال سحرية، رُقى نافعة أو مؤذية، تحت حماية إلهية مثل ديانا وهيكا وهولدا وبنسوزيا، الخ.


    وبذلك فمشكل الإيمان بالسحر يعتبر أشد تعقيدا من أي مشكل آخر. ذلك أن الأمر فيه لا يتعلق بمعرفة ما إذا كان هذا السحر زائفا فقط، بل يتعلق أيضا بإظهار أين تكمن صحته أو زيفه و- في نهاية المطاف - لماذا كان من الصعب جدا إثبات زيف بعض الأعمال [السحرية]. وسأتوقف هنا لأشرع في تفصيل التقسيم بين الاعتقاد الفاعل والاعتقاد المنفعل.

    II. التأويـلات اللاهوتيـة

    بعد مواجهتي للأنثروبولوجيين ها أنذا أمام اللاهوتيين الذين لا عهد لي بهم. من البديهي أنهم يرون أن السحر واقع غير قابل للنقاش. لكن الأمر الذي يشكل موضوع نقاش هو فقط طبيعة الحالات المتأملة: أقصد أن لاهوتيي أيامنا هذه يمكنهم، أكثر بكثير من علماء الدين القدماء، أن يدرجوا ضمن الأعمال السحرية وقائع لا علاقة لها إطلاقا بالسحر. لكن لا شك بتاتا في أنه «باستطاعتنا أن نواجه تشكك المصرِّين على نفي وجود هذه الأعمال وجودا موضوعيا، واعتبارهم إياها مجرد نتاج للمخيلة، بحجج تنحني أمامها العقول القوية نفسها». هكذا كان يتحدث أحد لاهوتيي مستهل القرن الحالي، وهو مؤلف صدر له كتيب في السحر ضمن سلسلة كاثوليكية (برتراند، 1912: 7). وتميل الظواهر التي يعرضها، وهي مأخوذة من مصادر متنوعة جدا، إلى إثبات حضور إبليس في عدد لا متناه من الشعائر والطقوس وإثبات حقيقة بعض حالات «الإصابة بالسحر»، الخ. ولكن المؤرخ لا يجد على الإطلاق في إبليس لاهُوتيِّنا هذا، السِّمَات التي يتعين عليه أخذها دائما بعين الاعتبار.

    وفي الحقبة نفسها كان كاتب آخر، ذو فكر حجاجي، يجهد نفسه في البرهنة على كون العصور الوثنية لم تكن بعيدة عن الحقيقة بالقدر الذي نتصوره عادة. وقد كان يرى أن عبادات تلك العصور قد تكرست في شعيرة جوبيتر[12] أو زوس من جهة، وفي عبادة ديونيزوس، من جهة ثانية. الأولى تسبِّح للإله الواحد، والثانية تسبح لروح الشر (غودار، 1925: 30-32). فيما وراء كل صيرورة تاريخية، ستكون الإبليسية، إذن، ظاهرة ثابتة تحكم أوروبا وباقي القارات.

    يجـب التعامـل بحذر مع هذه الأطروحة القابلة - بلا شك - للدفاع من وجهة نظر دينية، بحذر لأن الديانات الفلسفية الباطنية ليست خليطا من الأضاليل التي يتخيلها من يجهلها أو من لم يدرسها إلا سطحيا وبأفكار مسبقة. كما أن بعض اللاهوتيين العصريين، الذين يتحلون بجدية وموضوعية أكبر، يكتشفون فيها عناصر هامة بشأن البحث عن آثار الوحي الأول، الخ. فلندرس بشكل خاص السحر الوسيطي والحديث.

    من بين اللاهوتيين الذين يشجبونه لكونهم يؤمنون به نذكر مؤلفا إنجليزيا، هو مونتاغ سوميرس الموقر (Le Révérend Montague Summers) الذي نشر كتبا أصيلة وطبع ترجمات كتب قديمة مرفوقة بتقديمات وشروح[13].

    يتحدث مونتاغ عن إنستيتور وسبرانجر وبودان ودانو، الخ. بتبجيل، ويعتبرهـم مكتشفي وكاشفي ظواهر واقعية. كما لا يتردد في إطلاق أقبح النعوت على من كانوا يتهمونهم بالسحر: «لقد كانوا أناسا - أو هم أناسٌ - ملاحدة، جهنميين، وممقوتين». وهو يرى أن تعليم الفنون السحرية - بطليطلة - هو بالتأكيد شبيه بـ «محفل السبت» أو المنتديات الجحيمية في الجامعة الإنجليزية. ولجميع القوانين القديمة والشهادات الأكثر جسارة معنى جسيم في رأي هذا اللاهوتي صاحب الأسلوب النثري القديم شيئا ما - في اعتقادي - الذي يعتبر آراء مؤرخي بداية القرن العقلانيين أمثال هانسن (Hansen) وليا (Lea)، الخ. آراء غير مقبولة. لا أظن أن مثل هذه الأفكار يمكن أن تمارس تأثيرا حاسما في المجتمعات الراهنة. ويبدو لي أن ذوق قطاعات واسعة تجاه هـذه الموضوعات - سواء أتمَّت معالجتها «بالأقدمية»، بطريقة أرثوذكسية، أم بطريقة ابتداعية - هو ذوق عَرَضي (symptômatique) بمقدار خفة هذه القطاعات في استعمال المصادر.

    III. الشيطانيون المحدثـون

    فلنترك هذا الميدان الذي تخضع فيه معاييرُ المؤرخ الجادة لمقاييس ربما لا يملك الكثير ليتكلم. لكن لنسجِّل مفاجأتنا لرؤية مؤلفين يتبنون وجهة نظر لاهوتية، يستخدمون كتبا ليست أرثوذكسية ولا حتى مسيحية، وعلى كل حال ليست جديرة بالثقة الكبيرة. ولا نخفي قلقنا من هذا التكاثر الذي تعرفه اليوم كتب السحر الأسود والتعاويذ والسِّحر، وأعمال من يزرعون هذه الممارسات القديمة. بمقدار ما استطعت الحكم على مؤلفيها فقد وجدتهم في أغلب الأحيان مخادعين، مشعوذين، استعراضيين[14] ماكرين أو مفسدين تقريبا، يُتعِبُون حقا القلم، ويكتبون لجمهور سهل الإرضاء. ومن هنالك مصدر كونهم يستعملون في أغلب الأحيان أسماء مستعارة لإخفاء حياتهم الصعبة البئيسة، أو عدم كفاءة لا علاقة لها إطلاقا بالإبليسية الحقَّة التي تعبر من مسالك أخرى والتي، مثل الإحسان، تبدأ من النفس كما يقول سانشو بانصا.

    هكذا لازال كتَّاب لم يكونوا روائيين ولا مهرجين، أمثال الإكليركي تارك الرهبانية ألفونس لويس كونسطان Alphonse Louis Constant (1816-1875)، المعروف أكثر بالاسم المستعار إليفاس ليفي، لا زالوا يملكون عددا كبيرا من القراء، ولازالت كتبهم تطبع بشكل يفوق كل ما يتصوره المرء منذ قرون وتُتَرْجَم بروز كروا[15] وهُرمُسيين، الخ. وذلك رغم أن المدعو إليفاس ليفي اضطر لبيع الفواكه تحت وطأة حياته الصعبة، ثم التحق، على مرأى ومسمع الجميع، بحضن الكنيسة الكاثوليكية.

    ومع أن آخرين يُعَدُّون خصوما لمنظري السحر، فإنهم يشاركون هؤلاء في الإيمان بأن جرائمَ الساحرات جرائمُ واقعية، فينبذونهن ويضيعون في متاهة من التأملات القبَّالية[16]. لنقرأ، مثلا، ما كتبه سطانيسلاس دي غوايطة عن الساحرات في واحد من كتبه الأكثر شهرة (س. دو غوايطا، 1915: 30-33). وقد أخذ رجالٌ أمثال موريس باريس Maurice Barrés تلك الترهات والأباطيل مأخذ جد!، بمعنى أن أتباع السِّحر و - أكثر من ذلك - أتباع عبادة الشيطان، أو على الأقل المتعاطفين منهم، هم متذوقون للجمال. ومثلما تحوَّلَ أكثر من بروتستاني إلى الكاثوليكية، تحت إغراءات حسية وفنية، حضَر بعضُ الأشخاص ذوو الحياة القلِقَة والمُقلِقَة قدَّاسات سوداء واجتماعات سحرةٍ وألعابا منحرفة بتأنق خالص ودون أي باعث ديني. وتلك حالة هوسمانس Husmans في كتابه الشهير هناك Là-bas، الذي أخذه مأخذَ جد السحرة والمعوِّذُون الذين يمضون بعد ذلك إلى حدِّ تأليف مصنفات في السحر (انظر ر. شوابل، 1911: 115) على شاكلة ما يؤَلف كتاب الطَّبخ أو في صناعة الأثاث.

    لكـن مـلاحظـات حـول هـذا المـوضـوع وإحالات عديدة جـدا متعلقة بـه، تسمح لي التأكيد بأن هؤلاء الناس من كتاب متفسخين، ونساء عائدات إلى الشهوات الشاذة، وشباب غامض، ينتمون إلى أوساط خاصة جدا من المجتمع الحضري. ودراسة هذا الوسط الغني بالأشخاص المحرومين، خائبي الظن، المنحرفين، ذوي الحساسية ا غير السوية، تلك الدراسة قد تكون ذات أهمية أكيدة لتشييد نظرية عامة في عبادة الشيطان. لكن من يستطيع بناءها على الوجه الأكمل دون أن يسقط في الشعوذة والكذب؟

    إن ما نعرفه عن هذه الحلقات، عن طريق بعض أعضائها، لا يعدو مجرد كلام فارغ، والأعمال التي تقوم بها لا تكون في أغلب الأحيان سوى لوائح من الوقائع التاريخية المحدَّدة أو معارضات[17] خالصة تكذِّب زعمهم في تواصلية مجموعات مـن السحر قديمة جدا كالتي لا زالت متبقية في أوروبا الشرقية[18].

    IV. أطباء المرض العقلي وموقفهـم

    لا يمكن إنكار أن بعض المجتمعات تتأثر أكثر من غيرها بالإيمان بالسحر. ويعتبركتاب الدكتور فورتن Fortune سحرة الدوبو[19] Les sorciers de Dobu [نيويورك، 1932] الذي يصف جماعة بشرية غارقة في عالم لا ينتهي من الرقى المؤذية الحاضرة في حياة سائر الأيام، يُعتبر مثالا كلاسيكيا لهذا الأدب العلمي الحديث. ورغم أن كتابه قد اتُّهِم بالمبالغة[20]، فمحتواه قابل للمقارنة ببعض فصول تاريخنا.

    عندما كانت السلطات المدنية في كيبوزوكا (Guipûzoca) وبسكاي (Biscaye) ومناطق أوروبية قديمة أخرى تشكو من الرقى المؤذية التي تضر بمواطنيها، وتطالبُ بتدخل العدالة، فإنها لم تكن تفعل سوى الإشارة إلى أنها كانت هي الأخرى تعيش في «سحـرية magicité» كاملة. لقد كانت أشكالُ البؤس والشقاء الفردية والجماعية تُعزَى دائما إلى العمل المتجدِّد للرُّقى المؤذية. لكن خلافا للأنثروبولوجيين (وبارتكازي على حالات تاريخية)، أقدِّرُ أن تأثير من يعانون من الرُّقى المؤذية هو أهمّ بكثير من تأثير من يعتقدون أن لهم قدرة على استعمالها. فالشعور المنفعل لدى المسحور يعمل أكثر من الشعور الفاعل عند السَّاحر على خلق مناخ اجتماعي مماثلٍ للمناخ الذي عمَّ كيبوزوكا في القرنين XV وXVIم. والأمر نفسه ينطبق على أشهر الحالات الفردية التي ستعرف فيما بعد.

    ها هي في إسبانيا حالة الملك شارل الثاني الذي افلح بعضهم في حمله على الاقتناع بأنه كان مسحورا. وقد قُبِلَ الأمر وانتشر في المجتمع المدريدي بكامله تقريبا، من الأرستقراطية الأكثر رقيا إلى عامَّة المدينة. كانت طبيعة السحر دائما غامضة وظلت شخصية الساحرة دائما مجهولة. لكن أولئك الذين زعموا التخفيف عن الملك الشقي، بواسطة العزائم والتعاويذ أو بواسطة ممارسات أخرى، سرعان ما سيدفـعـون ثمن تدخلهم فيما بعـد، حيـث سيتعرضـون للتعـذيب من قبـل المحكمـة المقدسة[21] (د. دو ماورا، 1954: 294-307).

    ينشـأ السِّحر - وقد قال مالينوفسكي هذا - من شعور الساحـر بالحرمـان والعجز. ما القول في من يعتقد أنه مسحور؟ إن هوس التعذيب متعدد الأشكال في المجتمع اللائكي، يلعب في المجتمعات التي تهيمن فيها السِّحرية (magicité) دورا مماثلا إن لم يكن أكبر من دور الشعور بالحرمان هذا. من هنا كون السحر أثار اهتماما قويا لدى من اهتموا بأحوال النفوس المريضة، سواء تعلق الأمر باختصاصيي الأمراض العقلية أو بالرجال الذين يعتنون بالعلاقة بين طب الأمراض العقلية والطب الشرعي، أو السيكولوجيا الاجتماعية للجماهير. وسيساعد التمييز بين الاعتقاد الفاعل والاعتقاد المنفعل على فهم هذه الوجهات للنظر.

    قد سبق لأطباء المرض العقلي أن اعتبروا في النص الأول من القرن XIX سحر المحاكمات الكبرى بمثابة نوع من الجنون الجماعي المعدي. ويقدم كالميل Calmeil في كتابه الشهير عن الجنون de la Folie أمثلة عديدة عن «التجنن démonomanie» تمثل هذه الوجهة للنظر (ج. لوي كالمي، 1845). وقد استعمل آخرون من بعده هذا التوثيق الغني[22]. من جهة أخرى، لم يتم دائما التمييز بدقة بين ممسوسي الجن أو الأرواح والمصابين بالاختلاج، أو على الأقل إن التمييز بين الشخصية المريضة نفسيا وبين الساحرة لم يكن مرسوما بوضوح، وذلك خلافا لشخصية ضحاياها. ويقارن ريشي بلا تردد مرضى شاركو الهستيريين، بالسالبتريير[23]، بالشيطانيين القدماء. وكان يجد عند الإثنين سمات مشتركة، منها على الخصوص فقد الحسّ في بعض أطراف الجسم. وهو ما كان مصدرا لإنجاز دراسة واسعة حول السحر باعتباره «مرضا معديا»، صنَّف الباحث ضمنها حالات المسّ من الشيطان (ش. ريشيه، 1887: 261-394).

    بعد ذلك بكثير، سجل أ. ماري التزامن بين ظهور حالات الإصابة بالسحر وبين المراحل الطويلة من المعاناة الجسمية والمعنوية (أ. ماري، 1907: 134-151). لكنه، كالذين اهتموا «بأمراض الشيطان»، درسَ اضطرارا الحالات المتأخرة التي يعد فيها المس الشيطاني أساسيا، بدل دراسة حالة السحر بحصر المعنى. يتعارض أطباء المرض العقلي في نهاية القرن XIX وبداية القرن XIX بوضوح مع اللاهوتيين؛ إلا أنه يجب الإشارة إلى أنهم قليلا ما يكترثون لكتب القدماء، كما يفتقرون إلى الدقة والاهتمام بنقد مصادر معلوماتهم. إن أبحاثهم المباشرة، غير الكتبية، تفيدنا أكثر. وهكذا فحالة النساء اللواتي يقعن فريسة قلق مرتبط بحضور شخص، ويمكنه أن يتحول إلى شهوة حسية، تعتبرُ حالات مثيرة للاهتمام. ومعنى ذلك أن السّقوبة[24] (لا أعرف إن كانت شائعة) ثابتة طبيا[25]. كما يمكن مقارنة حالات أخرى معزولة، أو بعض السمات الحسية (كفقد الحس أو جمود العاطفة)، بالصفات التي تعطى للسَّحرة. لكن تنقصنا ترسيمة الكل المرتكزة على ملاحظات العيادة أو المستشفى. ولذلك أبدي تحفظات حول أطروحة العدوى عند ضحايا القمع، وبعبارة أخرى عند السحرة والساحرات. في الحقيقة، يمكن دراسة إوالية العدوى عند القضاة وشهود المحاكمات (وعلى ضوء بحث طب الأمراض العقلية الأكثر أمانة)، ذلك أنهم هم الذين يسوقون أولى الملاحظات ويقدمون الوثائق الأكثر مباشرة عن أنفسهم. وأعتقد أني بيَّنتُ ذلك بما فيه الكفاية ضمن هذا الكتاب[26]. عندها، يجب الانطلاق ليس من مشكل طب الأمراض العقلية فحسب، بل ومن المشكل الشرعي أيضا، من دراسة عقلية القضاة والشهود، لا من عقلية المتهمين.

    وسأذكِّر هنا ببحث جول فاليس العامِّي[27] العنيف الذي كان يجد في الكتاب دافع أغلب الأعمال الإنسانية ويستبدل النصيحة المسلية المعطاة للمؤرخين وعلماء النفس: «ابحثوا عن المرأة» بالنصيحة: «ابحثوا عن الكتاب»[28]. وبالفعل، فتأثير الكتب في الأعمال الفردية والجماعية تأثير عظيم؛ ويعدُّ أحد هذه الكتب نموذجا في تاريخنا: إنه الــ Malleus malefiorum[29]. لقد انتشر مذهبه بسرعة كبيرة في إيطاليا وإسبانيا وفرنسا وبلدان الشمال. كما أثر أيضا في الكاثوليكيين والبروتستانيين على حد سواء. وكلما كان القاضي مثقفا ازداد تمسكه به. لقد كان بيير دولانكر بحَّاثة أكثر من دون ألفونسو دي سالاثار Don Alfonso de Salazar وفرياس Frias. وملك إنجلترا، جاك الأول، لم يكن جاهلا. لكن يمكن لمن يدَّعون المعرفة من أهل السلطة أن يكونوا - بعيدا عن ترسانة من السلطات وعن آراء متحذلقين آخرين - مرعبين، خاصة إذا وجدوا جمهورا مهيئا للخضوع، لا بل ومُهَيئا حتَّى لتعظيم التظاهر بالعلم المتحالف مع الرّعب. في مواجهة الساحرة الحقيقية أو المفترضة يقف مدَّعي المعرفة المتحذلق، ممتلك السلطة، المستعد لعقاب أصحاب الرّقى المؤذية المزعومين.

    لنتحدث الآن عن شخصية أخرى معادية للمعَذَّبة، أي الساحرة، إنها شخصية الشاهد. في اعتقادي، يمكن لأطبـاء الـمرض العقلـي أن يقولوا عنها أيضا، وانطلاقا من تجارب عامة، أشياءَ أكثر يقينا مما يقولونه عن الساحرة نفسها.

    V. عـن الشهـــود

    لقد أحدث أ. دوبريه، وهو أحد أطباء باريس في بداية القرن الحالي، متخصص في الطب العام، وخلف عدة كتب امتلأت بملاحظات ساطعة، أحدَثَ كلمة «الولع بالأكاذيب». هكذا حدد النزعة المرَضية (الإرادية الشعورية تقريبا) إلى الكذب والتخريف، التي لاحظها مرارا في الاعترافات التي حصل عليها في حياته المهنية (دوبريه، 1925: 3).

    رغم أن الميتوماني[30] يَكذِبُ إراديا، فهو يؤول إلى تصديق مزاعمه؛ ونجد هذه الخدع في أغلب الأحيان عند الأطفال والمرضى العقليين (نفسه: 99). وهي عنـد الطفـل لا تَكـون حالـة مرضيـة بالضرورة، بينما عند الراشـد تكون دائما حالـة مرضية (نفسه: 54).

    غالبا مايُرافقُ الميتومانيا عند الطفل، أو المراهـق غير الطبيعـي، خُيَلاءٌ وخبثٌ وبعض الشهوات الفاحشة (نفسه: 14). وهو كثيرا ما يتصرَّف في هذه الحالة تحت تأثير إيحاء خارجي (نفسه: 18). وهذا الشكل من الميتومانيا الموحى به، الذي انصب عليه اهتمامُ أ. دوبريه، هو ما سندرسه هنا. فبواسطة الإيحاء قدَّم الأطفال تصريحات زائفة تماما أمام المحاكم، وأعطوا تفاصيل خارقة للعادة حول انتهاكات العرض والفضائح الخلقية بصفة خاصة.

    وما يشكِّل محور اتهامات الطفل دائما، بحسب قول دوبريه، هو محادثات الجيران وأسئلة الآباء:

    «تحت وطأة المفاجأة وما يصيبهم من نقمة، يجنِّنُ المقربون - وخاصة الآباء الجشعون لمعرفة تفاصيل الجريمة، وتحديد ساعة وقوعها، ومكانها، ودوافعها - بأسئلتهم الطفلَ المضطرب والمفزوع. وهم يعزون ارتباكه إلى الإحساس بالعار والرَّغبة في التوبة اللذان يمليان عليه لا شعوريا من قبل الأجوبة التي ينتظرونها منه بتلهف. هكذا تتضح وتفبرك معالم سرعان ما سيحفظها الطفل عن ظهر قلب ويتمسك بها تجاه الجميع وضد الجميع. لن ينس منها أي شيء وهو يحكيها؛ أثناء عمليات الاستنطاق، سيعيد بسُهولةٍ ما يوحى إليه به» (نفسه: 21-22).

    يمكن أن نذكر هنا بمظاهر أخرى للاعتراف وقيمته العلمية، درسها أطباء شرعيون. وقد يُلاحَظ أن ما صلح باعتباره أساسا لدراسة علمية قصد البرهان في مادة الشهادة هو تحديدا محاكمات سحر، وأن الاختصاصيين متفقون على السمات التي تجعل الشاهد الحقيقي (وليس الزائف) يبالغ ويكذب جزئيا.

    إن أمكَن في باريس الراهنة، أو في أية عاصمة أخرى، لمراهقين وأنصاف مجانين أن يُربكوا قضاة ومحامين بحكاياتهم النيئة والفاحشة، فإن النبوءة نفسها والفضائح الخلقية نفسها كان بإمكانهما أن ترافقا الإيمان بأعمال شيطانية، أو مجرد سحرية، في المجتمعات التي كان يحتل فيها اللغز مكانة تفوق بكثير مكانته في مجتمعنا. لا تخلو تصريحات الأطفال أبدا، ذكورا كانوا أو إناثا، من سمات الفحش الأكثر إثارة للدهشة. ولا يسهل دائما التمييز في تلك التصريحات بين ما يعود إلى الإيحاءات العائلية أو القضائية، كما يتم في حالة الفونطارابي[31] حيث تكون الإيحاءات واضحة.

    عندما تحيي مارغريت موراي ومدرستها (وأترُك جانبا عبّاد الشيطان العصريين الذين يخلدون قداساتهم السوداء في فنادق باذخة ذات الهواء المكيّف) الأطروحة الواقعية وتقليد الإله الأقرن وهراءات أخرى، فإنهما يقطعان الطريق على أبحاث مباشرة صلبة وعريقة (ما داما ينطلقان من القرن XVI) لاستبدالها بخرافات حفرية نَزَويّة تقريبا. وهما يبخسان أيضا قيمة الكتَّاب الذين عالجوا محاكمات سحر، معالجة دقيقة، بوصفها قضايا شرعية أساسا. وفي الواقع، لقد تمَّت في عصرنا مقارنة هذه المحاكمات ببعض المحاكمات السياسية. فقد كتب المسرحي الأمريكي الشمالي الشهير ميلر Miller مسرحية عن ساحرات سالم Salem[32] أحرزت على نجاح كبير، تلمحُ - فيما يبدو - إلى المحاكم السياسية العاملة في بلده منذ بضع سنين. كل ما فعله ميلر في الحقيقة لا يعدو كونه أعطى شكلا فنيا لأبحاث أهل التنقيب الذين، لسبب أو لآخر، لا يرون في السِّحر سوى خطإ قضائي جسيم نشأ عن تجاوزات السلطة.

    لنميِّز مع ذلك بين من يزعمون إصلاح شر موجود، كألونسو سالاثار والأب سبي Spé وسلطات كاثوليكية أخرى، وبين من لوَّحوا فيما بعد بالأخطاء وبقدر مماثل من الاتهامات ضد السلطة، وبالخصوص ضد الكنيسة الكاثوليكية في هذه النزعة. ويحذو مؤرخون بروتستانيون هنا، مِثلَ ليا Lea، حذو لاهوتيين منشقين مثل دولينجر Dِllinger. وفي نهاية القرن XIX وبداية القرن XX بالغ في هذه النزعة أيضا بعض الكتاب العقلانيين المناهضين للكاثوليكية: من بينهم جيل بيساك Jules Baissac والمؤلف الذي يختفي وراء الاسم المستعار جان فرانسوا. والجميع يزعمون أنه تمَّ نصب حجج قضائية جسيمة على قاعدة تافهة استعملها البروتستانيون بلا شك، لكنها كانت من عمل الكنيسة الكاثوليكية (إ. لوكارد، 1920: 101). كل ذلك يبدو لنا اليوم صبيانيا إلى حد ما، ونريد على الأقل معرفة الأسس التي بني عليها الخطأ القضائي: ذلك أن خلق جُنحة ما ومتابعة صاحبها بفعلٍ ارتجاعي وإعطاء القوانين محتوى لا يتطابق مع الوقائع وإنما مع جُنَح مُتخيلة يصفها من يمليها أو شهود مشبوهون كما يحلو لهم، كل ذلك تجاوزات اقترفتها المجتمعات البشرية مرات عديدة قبل العصر الوسيط وبعده. مِثلُ هذه التجاوزات أمرُُ يُهَدِّدُنَا اليوم من جديد، والمحاكمات السياسية يمكن أن تضيء موضوعنا؛ فصحيح أن الحياة هي سيدة التاريخ لا التاريخ سيد الحياة. ولكن شيئا واحدا يبقى مؤكدا، وهو: مَنْ يَرتكب تجاوُزات ينطلق دائما من حدث واقعي؛ فمنْ كانت محاكمات التفتيش القديمة تتهمه باليهودية لم يسبق له أن ارتكب ما كان يُتهَم به من جرائم طقوسية، بل كان دائما - تقريبا - يهوديا مؤمنا.
    "أن تشعل شمعة خير من أن تلعن الظلام"
    كونفوشيوس (ع)

  12. #12
    تاريخ التسجيل
    Nov 2002
    المشاركات
    4,192

    افتراضي

    VI. السحـر والسياســة

    سأقول أيضا، ومع التماسي مسبقا المعذرة من الرجال الذين يتقلدون الحكم في أيامنا هذه (وليس في ذلك مفارقة)، إنه يوجد تشابه كبير بين الساحرة القديمة والسياسي العصري. فكلاهما تُنسَبُ له قدرات تعلو بكثير قدراته الواقعية؛ عن هذا وذاك يتم البحث في فترات الوهم، كلاهما يخيِّبان الأمل فتُعزى إليهما في النهاية، ودفعة واحدة، جميع الشرور التي يعاني منها المجتمع. يُقال أيضا إن السياسيين يُشكلون بعض المِلل ذات الطقوس السرية التافهة التي تكون رسالتها نشر الشر في اجتماعاتها السرية ومأدباتها. متى انهزموا فجر قضاة صارمون وشهُودٌ أبرياء أعمالَهم الإجرامية في محاكمات مثيرة. وإذا وجدت المحرقة، فإنهم سيغذونها أيضا. ومن حسن حظهم أنها لم تعد توجد في البلدان المتحضرة، وأنهم متى حُوكموا تمَّ ذلك بصفة ساحرات القرن XVIII السعيد أنفسهن، فيعاقَبون بصفتهم خداعين ودجَّالين.

    لكن لنترك هذا التوازي (بين السياسي والساحرة) دون أن نغفل مع ذلك التعبيرَ عن أمنيتنا في أن نرى دور السياسي يتراجع، ولمَ لا يُحذَفَ، في يوم من الأيام داخل المجتمع السياسي كما حدث لدور الساحرة.

    VIII. شخصيـة الساحـرة

    لنصل أخيرا إلى الساحرة، إلى الشخصية التي تعتقد أنها ساحرة. ما هي الخصائص العامة لوريثات سيميتيا Simeta وكانيديا Canidia؟

    فمن جهة، رأينا الكيفية التي ترتسم بها جانبيا الساحرة من نوع سيلستين Célestine[33]. ومن جهة أخرى، هناك كائن غريبٌ مجنونٌ شاذٌّ لا نستطيع إنكار حقيقة وجوده، لكن يجب أن نقلص شخصيته بصفة خاصة. غالبا ما تكون الساحرة القروية عجوزا تعيش على هامش المجتمع، يخشاها الجميع ويحتقرها. كما يبدو أنها امرأة عصبية تتعرض لأزمات كبرى، لها معارف محدودة في التطبيب؛ تضع اللصقات، وتمارس أحيانا العرافة، وربما تبحث عن العزاء في الجنان الاصطناعية التي تمنحها إياها نباتات البلدة الأوروبية. ونحن وإن كنا نترك جانبا كل حكايات المساحيق الضارة ودهانات الضفادع، الخ. التي يقدمها البعض دون إبداء أقل فكر نقدي، فإننا نضطر للاعتراف بأن الساحرة كثيرا ما تمكنت من اللجوء إلى المخدرات والمُخبِّلات لكي تجلب لنفسها، أو لآخرين، بعض حالات الحلم[34].

    لقد كانت المخدرات والمخبِّلات الأكثر استعمالا في أوروبا تستخلصُ أساسا من أعشاب من عائلة الباذنجانيات، كالأطرب، والبنج، والداتورة. وبمقدار ما كانت السكوبوليا تستعملُ في الشرق، كان اللفاح يُسْتعمَلُ في البلدان المتوسطية. يتم الوصول إلى حالة النوم بوسائل مختلفة، عن طريق طبخ أوراق أو تدخينها. وعبر الاستخلاص بالغليان كان يتم صنع مرهم أساس لجميع الدهانات المشار إليها كثيرا في المحاكمات. وأثناء النوم المثار بهذا الشكل يتم الحصول فعلا على رؤى غريبة. وفي أوروبا الوسطى لازالت الباذنجانيات تشكلُ اليوم مصدر لذة للذين يحرمهم فقرهم من الخمور والمشروبات الروحية، ولمن يقوُّون بفضلها - رغم كونها ممنوعة - الجعات قليلة التكحُّل. ويؤكد الاختصاصيون في المادة أن الباذنجانيات هي المخدرات الأكثر إيذاء للإنسان، أكثر إضرارا حتى من الحشيش. إضافة إلى ذلك، فما تحدثه من رؤى يكون معتما جدا وكئيبا في أكثر الأحيان (هـ. فوهنر، 1930). وسبق لكتاب من القرن XVI، كما رأينا، أن تحدثوا عن هذه المخبلات (خ. ك. باروخا، 1972: الفصل VII). والمعنيون بالأدب هم الآخرون يعرفونها ويستخدمونها لشرح الاعتقاد في الطيران في الأجواء، الخ.

    ولنستمع في الحوار الآتي ماكان يريده الماركيز بيِّينا (Villena)، وهو حوار مقتطف من كوميديا دون فرانسيسكو روخا:

    «الماركيز: أيعتقد الآخرون أن الساحرات يَطِرنَ؟

    زامبيا بالوا: ألا تؤمن بذلك؟

    الماركيـز: لا، أيها الجاهل.

    زامبيا بالو: إني أسألك فقط، فأنا لستُ سوى مجرد راهب مساعد.

    الماركيـز: إنهنَّ يتدَهَّنَّ جميهعن بمِرْهَمٍ.

    زامبيا بالـو: وماذا بعد؟

    الماركيز: ماذا بعد؟

    هذا المرهم الذي يهديه لهن إبليس، [مرهمُُ] مخبّلُُ من الطراز الممتاز مأخوذ من البنج، يحدث النوم.

    حينئـذ يبـدو الحلم واقعا،

    وبما أن إبليس

    لا يريد سوى الكيد بهن

    فهو يجعلهن يحلمن

    كل واحدة بطريقتها.

    هكذا يعتقدن أنهن يطرنَ

    فيما يكنَّ غارقاتٍ في النـوم

    ورغم أنهن لم يطرن

    فحين تستيقظ كل واحدة منهنَّ يبدو لها

    أنها قد زارت التيس

    وأنها قد تنزهت

    في حقول الباراونا؛

    بحيث،

    شوهد منهن أحيانا

    أكثر من اثنتين مدهونتين بالمرهم.

    ونائمتين في مخدعهما» (د. فرنسيسكو دي روخاس، LV: 330-331).

    من لا يملك حول إبليس سوى فكرة قديمة جدا وأكاديمية، ومن لا يحسن أن يتصوَّر قدرته كلية الوجود، عليه أن يكون على الأقل قد قام بتجارب شخصية، وتناولَ هذه المخدرات حتَّى يفهم جزئيا تأثيراتها ويتحدث عنها آنذاك بسلطة. لكنني أعترف أني لم أجرؤ إطلاقا على دراسة تأثيرات هذه الباذنجانيات على مخيلتي. وبذلك يكون هذا الكتاب قد افتقر بلا شك إلى عنصر أساسي.

    لاتخلق الساحرة لنفسها عالما من التخيلات والمشاعر بواسطة المكنسات الطائرة أو الحيوانات الشيطانية، وإنما بواسطة هذه المخدرات البسيطة.

    مما يؤسف له كون علماء النفس المحدثين لم يدرسوا بعضا من تلك النساء ولم يصفوا تلك الشخصيات التي كانت تتعرض للمضايقة في محيطها الذي كانت تعتقد أنها مختلفة جدا عنه، بل وحتَّى متفوقة عليه، أمثال إمَّا بوفاري (Emma Bouvary) المنحدرة من مجتمعات متميزة عن البورجوازية التي وضع فيها فلوبير شخصيته الشهيرة.

    والصالح من الصور الظلية النادرة التي تركها لنا مؤلفون قدماء عن الساحرة يعكس تقريبا دائما تضخما في الشخصية ويقينا في كون قروية فقيرة تستطيع القيام بأعمـال يتعـذر تصـورها، وذلك في سـن النضـج أو في شيخـوختها، أو - كمـا في بعض الأحيان - تظهر قوتها الشيطانية في سن مبكرة.

    وعلى كل حال، تكادُ تعتَبَرُ دائما ساحرة بعد تعدد فشل الوجه الأنثوي في حياتها: علاقات حب محرومة أو مُخجلة تترك فيها عقدة عجز وعار، فتواجهها بوسائل غير مشروعة، لكنها ليست منحدرة دائما من الجحيم المسيحي. وبالانتقال من سن النضج إلى مرحلة الشهوات الصَّلبَة، فالشيخوخة، تتغير حالتها. كل ما ترغب فيه آنذاك هو أن ترى نساء صغيرات يسقطن مثلها في هذا الوضع الذي يبدو أن جميع القيم فيه مفسدة ومشوهة، إن لم تكن مقلوبة حيث الشرّ خير والملتوي مستقيم، وحيث كل ما هو عمومي لا جدوى له، ووحدها الأعمال الخاصة والسرية هي التي لا زالت تحتفظ بفائدة. وبذلك كانت الساحرات القدامى تشكلن نوعا من مجتمع سري نسوي. مع ذلك، أعتقد أن الوقت لم ينصرف بعد للبرهنة اليوم على أن السحر النسائي وعبادة الشيطان الخالصة، يجب أن يُدرَسا من وجهة نظر تاريخية وأنثروبولوجية منفصلتين، رغم أنهما يمتزجان أحيانا. وفي مثل هذه الدراسة يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار التمييز بين الشعور الفاعل والشعور المنفعل. أخيرا، أعتقد أنه لا مناص اليوم من ضرورة القيام بتفسير جديد للوثائق التاريخية والفلكلورية وإحداث طريقة جديدة لمعالجة القضايا من وجهة نظر سوسيولوجية وفلسفية بعيدا عن كل اعتبار ديني.

    إني مقتنع بأن القدَّاسات السّوداء ما زالت تقام إلى أيامنا هذه، وأن بعض حالات عبادة الشيطان موجودة. لكن الذين يحضرون هذه القداسان هم على العموم كائنات مصطنعة، ذوُو أنا (Moi) متضخمة وفضول مرضي تجاه بعض السيكوباتيات، خاصة الجنسية منها. إنهم أناس ليس لهم علاقة كبيرة بساحرات أوروبا الوسيطية والقرنين XVI وXVII، وأقل من ذلك لا علاقة لهم بالمرضى الذين كان القانون يضربهم بفظاعة، في غياب تشخيص جيد للأمراض. أفكر هنا أساسا في حالة الذؤابيين. والذَّآبة[35] مرضٌ درسه الأطباء العقليون منذ وقت طويل، ويؤول اليوم في ضوء نظريات يونغ Young، كما كان الأمر بالنسبة للسادية والمازوشية في كتابٍ لسلسر طُبع بعد وفاته.

    باختصار، إنني أرى، ليس بصفتي لاهوتيا أو قانونيا أو طبيبا عقليا، وإنما باعتباري مجرد مؤرخ، أرى أن السِّحر يجب أن يثير - أساسا - الشعور بالشفقة: الشفقة تجاه المعذبين الذين كانوا يرغبون في إحداث الشَّر، رغم أنهم لم يكونوا يفعلونه وعاشوا جزئيا حيوات محرومة وتراجيدية؛ الشفقة أيضا على المعذِّبين الذين اعتقدوا أنهم كانوا مهدَّدين بمخاطر لا تحصى، ولهذا السَّبب تصرفوا بعنف وشراسة.

    في الوقت الذي لا تزهر فيه أنظمة وجودية فحسب، بل أيضا نمط معيشة حياتي يواجه فيه الإنسان قلقه وحيدا بعدَ أن كسَّر كل الحواجز والأعراف، يمكننا أن نتصوَّر أفضل من الأزمنة السعيدة، التي كانت فيها الأخلاق العمومية والفلسفات والديانات المهيمنة شديدة التفاؤل، حالة من كان يكتشف بداخله رغبة سلطة إبليسية أو يحس أنه عبد لهذه السلطة، يعتقله عدوّ قريب ومكروه طوال سنوات من الجوار والاشتباه. وكم من الرجال والنساء، على الخصوص، عاشوا هذا القلق العريق بسبب امتلاكهم تصورا مختلفا كليا عن تصورنا!



    ــــــــــــــــــ

    الهوامـش والمـراجـع

    Baroja, Julio Caro.

    1972, Les sorcières et leur monde (Traduit de l’espagnol par M.-A. Sarrailh), Gallimard, Paris.

    Bayle, Pierre.

    1820, Dictionnaire historique et critique, 16 vol, Paris.

    Benedict, Ruth.

    1944, El hombre y la cultura, Buenos-Aires.

    Bertrand, I.

    1912, La sorcellerie, Paris.

    Calmeil, J. L. F.

    1845, De la folie considérée sous le point de vue pathologique, philosophique, historique et judiciaire, depuis la Renaissance des sciences en Europe jusqu’au XIXe siècle, description des grands épidémies de délire, simple ou compliqué, qui ont atteint les populations d’autrefois et régné dans les monastères. Exposé des condamnations auxquelles la folie a souvent donné lieu, 2 vol., Paris.

    Dupre, E.

    1925, Pathologie de l’imagination et de l’émotion, Paris.

    Fuhner, H.

    1930, «Los estupefacientes», in Investigaciَn y progreso, IV, mars, n° 3, p. 37.

    Gardner, Gerald B.

    1954, Witchraft today, Londres.

    Godar, André.

    1925, La piété antique, Paris.

    Guaita, Stanislas de.

    1915, Essais de sciences maudits. Au seuil du mystère, 5eme édition, Paris.

    Hughes, Pennethore.

    1952, Witchraft, Londres.

    Locard, Edmond.

    1920, L’enquête criminelle et les méthodes scientifiques, Paris.

    Marie, A.

    1907, Mysticisme et folie (étude de psychologie normale et pathologique comparée), Paris.

    Maura, Duque de.

    1954, Vida y reinado de Carlos II, 2 vol., Madrid.

    Reinach, Salomon.

    1914, Orpheus - Histoire générale des religions, Paris.

    Richet, Charles.

    1887, L’homme et l’intelligence. Fragments de physiologie et de psychologie, Paris.

    Rojas, Fernando de.

    1913, La Celestina, édition de Julio Cejador, 2 vol., Madrid.

    Rojas Zorrilla, Francisco de.

    (s.d), «Comedias escogidas», in Bilioteca des autores espaٌoles, LIV.

    Schwaeble, René.

    1911, Le problème du mal. La sorcellerie pratique. Astrologie. Alchimie. Magie, Paris.

    Summers, Montague.

    1958, Witchraft and black Magic, Londres.

    Juquelier, P.

    1914, El contagio mental, traduction espagnole de César Juarros, Madrid.









    --------------------------------------------------------------------------------

    [1] سبق أن نشرنا هذه الدراسة في مجلة العرب والفكر العالمي، ع: 13 / 14، (1. من نص البلاغة والبيان؛ 2. من نص السحر والإثنولوجيا)، ربيع 1991، صص. 137-151، وصدّرناها بالتقديم الحالي ذاته (م).

    [2] محكمة التفتيش ((Tribunal d'inquisition: محكمة دينية كانت تلاحق المتهمين في دينهم. (م).

    [3] Pierre de Lancre مستشار وقاض في البرلمان الفرنسي، ترأس بأمر من الملك هنري الرابع، إلى جانب رئيس البرلمان Espagnet، لجنة برلمانية كلفت بالتفتيش عن السحرة والساحرات في بلاد البورغ، وهي أصغر أقاليم منطقة الباسك السبعة، ومحاكمتهم. وقد زرع دو لانكر رعبا حقيقيا في اللابورغ حيث أرسَل إلى المحرقة في ظرف أربعة أشهر ما لا يقل عن 500 أو 600 من الضحايا، فيهم رجال ورهبان وحتَّى أطفال، لكن أغلبيتهم كانت من النساء. وبعد انتهاء العملية ألَّف دو لانكر كتابين روى فيهما أعمال السحرة بحسب الاعترافات التي تم انتزاعها منهم. والمؤلفان هما:

    - Tableau de l’inconstance des mauvais anges et démons (Paris, 1912)

    - L’incrédulité et Mescréance du sortilège pleinement convaincue (Paris, 1622). (م).



    [4] إلهة القمر والنساء والولادة والصيد والغابات عند الرومان. وقد كانوا إلى حدود القرن XIم يحجون إلى مزارها ببحيرة نيمي، أي المكان الذي ضاجَعَت فيه فيريوس (Virius) ملك الغابات الأول في اعتقادهم. (م).

    [5] نسبة إلى الاتجاه التطوري، وهو مدرسة في الإثنولوجيا كانت تقول بسلوك جميع المجتمعات البشرية، في تطورها، خطا واحدا. وذلك بخلاف المدرسة الانتشارية التي كان يقول أصحابها بمحدودية الاكتشافات الثقافية البشرية، ويفسرون وجود العنصر الثقافي الواحد في العديد من المجتمعات بفكرة الانتشار عن طريق اتصال هذه الشعوب فيما بينها بواسطة التجارة أو الحروب. (م).

    [6] المخلفات (أو البقايا أو الرواسب) (survivances): واحده مخلفة، وهي «عنصر من ثقافة يعتبر بمثابة شاهد على حالة أقدم للثقافة، أو بمثابة أثر لاتصالات تاريخية بين مجتمعات مختلفة..». عن:

    - Michel Panoff et Michel Perrin, Dictionnaire de l’ethnologie, Paris, Payot, 1973. (م).

    [7] محفل السبت: سبق شرحه في الهامش 110 من دراسة إدموند دوتيه «السحرة والعرافون بشمال إفريقية...» المنشورة ضمن الكتاب الحالي. (م).

    [8] انظر المقال الذي خصصه Bayle لهذا الموضوع، بايل، 1920، IX: 303-306.

    [9] إله روماني تروي الأساطير الرومانية أنه ابن لإلهة نباتية تُدعى سيبيل (Cybele) مات وانتقل إلى مقام الموتى، ثم عاد إلى الحياة من بين الأموات، وهو رمز للخريف والربيع. (م).

    [10] لعله كاتو الأصغر، وهو شخصية رومانية، خرج عن مبادئ جده واعتنق الفلسفة الرواقية. اشتهر بالاستقامة في عصر تفشى فيه الفساد المالي والأخلاقي. ولما قضى قيصر على الجمهورية وضع كاتو حدا لحياته وبجانبه كتاب من كتب الفلسفة. (م).

    [11] جمع مُقطِع (Vassal): شخص يقطعه السيد الإقطاعي أرضا مقابل تعهده بتقديم خدمات له. (م).

    [12] إله روماني، قبل أن يصير كبير الآلهة مثل زوس اليوناني، كان يمثل رقعة السماء المتلألئة وضياء الشمس والقمر وقصف الرعد والمطر والخصب. وقد كانت نساء روما الثريات يسرن، أيام الجفاف، حافيات في موكبٍ كبير إلى تل الكبتولين، حيث يوجد هيكل جوبتر، من أجل الاستسقاء. (م).

    [13] أذكر على سبيل المثال كتابه المنشور سنة 1958 (انظر قائمة المراجع في نهاية هذا البحث).

    [14] نسبة إلى الاستعراضية (exhibitionnisme): مفردة تنتمي إلى حقل التحليل النفسي، ويقصد بها استلذاذ المرء بأن يكون محطّ نظر الآخرين، كأن تعمد المرأة - مثلا - إلى الكشف عن أجزاء من جسدها... ونقيض هذا المصطلح التلصُّصُ (voyeurisme)، ويعني تلذذ الفرد باختلاس النظر إلى مشاهد شهوية مثيرة. (م).

    [15] rose-croix: جمعية سرية من المنورين، تتخذ بمثابة شعار لها، وردة حمراء (رمزا للزهد) معلقة وسط صليب لعلها ترمز إلى المعرفة الكاملة بحسب بعض التأويلات. وهذه الجمعية التي يبدو أنها تكونت في نهاية القرن XVم، كانت تنسبُ إلى مصادر مصرية قديمة، وتعتبر توتموسيس III وأمينوفيس IV الفرعونيين من أوائل مؤسسي تقليدها. (م).

    [16] نسبة إلى القبالا La Kabbale: تفيد معنيين: الأول «التقليد اليهودي الذي يفسر العهد القديم تفسيرا صوفيا ومجازيا»، والثاني: «علم خفي يزعم ربط الاتصال بين مريديه يتواصلون مع كائنات فوق طبيعية»، وهذا المعنى هو المقصود في النص. (م).

    [17] جمع معارضة pastiche)): «أن يحاكي الأديب في أثره الأدبي أثر الأديب آخر محاكاة دقيقة تدل على براعته ومهارته مثل ذلك». عن مجدي وهبة، معجم مصطلحات الأدب، بيروت، مكتبة لبنان، د. ت.، مادة "المعارضة". (م).

    [18] حول هذه الجماعات، انظر: ج. ب. غاردنر، 1954.

    [19] الدوبو: اسم إثنية ميلانيزية تقطن جزيرة تنتمي إداريا إلى غينيا الجديدة. ويشتهر المجتمع الدوبي بنظامه القائم على النسب الخطي الأموي (filiation matrilinéaire) وبأهمية السحر في الحياة اليومية ومشاركته في الحلقة الكبرى من التبادلات القائمة بين العشائر. والكتاب المشار إليه يعتبر اليوم مونوغرافيا كلاسيكية في دراسة المجتمع المذكور. عن: معجم الإثنولوجيا، م. س.، (م)..

    [20] وقد اتخذته R. Benedict كمثال، 1944: 165-213.

    [21] محكمة تفتيشية تم إنشاؤها في إسبانيا سنة 1478م بطلب من الملوك الكاثوليكيين لمعاقبة المرتدين. وابتداء من سنة 1492 شرعت في معاقبة جميع اليهود والموريسكيين والمنورين والبروتستانيين، فأصبحت أداة للسلطة الملكية وتم تصديرها لجميع المستعمرات الإسبانية، خاصة بلدان أمريكا الجنوبية. (م).

    [22] وكتاب A. Vigouroux وPierre Juquelier، الذي تعتبر ترجمته الإسبانبة ناقصة بشكل كبير، يتبع Calmeil عن كثب، 1914: 293-296.

    [23] السالبتريير: مستشفى للأمراض العقلية بباريس، التحق به فرويد سنة 1885، حيث راقبَ مظاهر الهستيريا وتأثيرات التنويم المغناطيسي والإيحاء، ليتأثر - من ثمة - بشاركو تأثرا كبيرا. عن و. مانوني، مذهب فرويد، ترجمة: هنري عبودي، بيروت، دار الحقيقة، للطباعة والنشر، الطبعة الأولى 1979، ص. 10. (م).

    [24] السقوبة (le succube): شيطانة يُعتَقد في الديانة المسيحية أنها تأتي ليلا لتضاجع الرجل وهو نائم. (م).

    [25] انظر الحالات التي جمعها Jean Vichon بتعاون مع Maurice Garçon، 1926: 200-217.

    [26] يقصد الكتاب الذي ترجمنا منه الفصل الحالي. (م)

    [27] جول فاليس Jules Vallès: كاتب وصحفي فرنسي (1832-1885)، كان يدافع عن الطبقة الشعبية في جريدته «صرخة الشعب». أما العامي (Communard)، فصفة تطلق على نصير ثورة باريس العامية التي جرت سنة 1871. (م).

    [28] وجهة نظر استعملها من درسوا «العدوى العقلية». انظر: ج. ب. غاردنر، 1954.

    [29] كتابٌ ألفه أخوان واعظان، هما Henri Insistor و Jacob Sprengerسنة 1486، بعدما لاقيا أثناء مزاولتهما لمهمة تفتيشية بألمانيا عداء من قبل بعض المثقفين اللائكيين. ويعتبر هذا المؤلف أكبر مدونة قانونية مخصصة كليا لجرائم السحر. قسَّمه مؤلفاه إلى ثلاثة أبواب: الأول نظري يتألف من 17 فصلا، ويثبت وجود السحر والشياطين. والثاني حِكَائيّ يروي المدى الذي يمكن تبلغه قدرة السحرة، ثم يعرض سبل القضاء على أعمالهم. أما الباب الأخير فيعرض للإجراءات التي يجب اتباعها في المحاكمات السحرية. (م).

    [30] الميتومانيا (Mythomanie): مصطلح ينتمي إلى حقل التحليل النفسي. وتجنبا للاستثقال، فقد آثرنا تعريبه حرفيا بدل تبني الترجمة التي يقترحها له البعض، وهي «هوَس المرض التَّكاذبي». انظر: «معجم الثقافة النفسية لمصطلحات الطب النفسي»، الصادر ضمن مجلة الثقافة النفسية، مركز الدراسات النفسية الجديدة، ع. 11، مج. 3 تموز 1992، صص. 117-152. (م).

    [31] Fontarabie: مدينة إسبانية شمالية تقع في الإقليم الباسكي من منطقة كيبوزوكا، في الحدود الإسبانية الفرنسية، شهدت في ما بين 1611 و1627م محاكمة العديد من «السحرة». وكان الشهود في تلك القضايا أطفال لا تتجاوز أعمارهم عشر سنوات في أغلب الأحيان، يدعون أن أولئك السحرة والساحرات قد اختطفوهم واتجهوا بهم إلى محافل السبت. (م).

    [32] مدينة في الولايات المتحدة تقع في المحيط الأطلسي قرب بوسطن، تأسست سنة 1626، وكانت في نهاية القرن XVIII معقلا لاضطهاد الساحرات، حيث تعرضت المئات منهن للشنق والإحراق. (م).

    [33] السيلستين أو تراجيكوميديا كاليكست وميليبي (Tragi-comédie de Calixte et de Mélibée): رواية حوارية تنسب للكاتب الإسباني فرناندو دو روخاس (1499م). وهي تحكي قصة علاقة غرامية بين شاب وسيم اسمه كاليكست وفتاة جميلة، تمكَّنا من الوصال بفضل امرأة تدعى سيلِستين، كانت قوادة تتصف بالحيلة والسذاجة، كانت كريمة وخسيسة، ساحرة وطمَّاعة. (م).

    [34] تلك أطروحة Salomon Reinach، 1914: 444-445.

    [35] الذَّآبة (lycantropie): جنون يجعل المريض يتخيل أنه ذئب. (م).
    "أن تشعل شمعة خير من أن تلعن الظلام"
    كونفوشيوس (ع)

  13. #13
    تاريخ التسجيل
    Nov 2002
    المشاركات
    4,192

    افتراضي

    خـُوليـو كَـارُو بارُوخَـا

    السِّحْـرُ في الفَـنّ والأدَب





    I. ج. بـوش[1] أو الـرَّقـابـة الـواقـعيـة

    يكاد المؤلفون الذين يناقشون قضايا السحر أن يتبنوا دائما معيارا نفسيا، اجتماعيا أو تاريخيا (بل وحتى لاهوتيا)، ومن ثمة، ما من انشغال إستطيقي إلا ويجد نفسَه مُبعدا. فالأنثربولوجيون ومؤرخو الأديان وعلماء الاجتماع عادة ما يجهلون أشياء الفن. ومع ذلك أقدر أن من شأن دراسة إستطيقية أن توضح على نحو فريد بعض جوانب الأنثربولوجيا وتاريخ الأديان، التي تم تفضيل دراستها حتى اليوم من وجهة نظر الأخلاق والعلوم الإنسانية لا غير. وإذا كان هناك جانبُُ قابل لإفادة الفنانين (وحتى البحاثة) بالتأكيد فهو السحر. ذلك أنَّ «التصحيح الذهني» الذي أتاح، في حالات عديدة جدا، الإفلات من جنون التعذيب ومن رعب الساحرات، عبَّر عن نفسه بالسخرية والفكاهة في خدمة الفن. فهوراس، وأوفيد وبيترون ومؤلفون آخرون لاتينيون سبق أن حاربوا الخوف من الساحرات بفعاليةٍ على النمط الهجائي. فهجائية جيدة واحدة كان لها في بعض عقول الأمس - واليوم - مفعول أكبر من أطنان الكتب التي ألفها الميتافيزيقيون والأخلاقيون أو اللاهوتيون للبرهنة على أن الساحرات لا يطرن في الأجواء. لكن على قدر هذه القيمة التصحيحية للفكاهة والفن، يجب علينا الإشارة إلى بعض الروابط بين السخرية النقدية دائما، بل وحتى المتشككة في جوهرها، وسرعة التصديق بل وحتى الرعب.

    حوالي نهاية عام 1871، أنهى نيتشه كتابه أصل التراجيديا أو الهلينية والتشاؤم Origine de la Tragédie ou hellénisme et pessimisme، وهو مؤلف يعالج في مجموعه، كما هو معلوم، التمييزَ المطروح في الفصل الأول بين الأبوليني والديونيزوسي، تمييز سيفسح المجال لتطبيقات عديدة. يشدد نيتشه على التنافر العميق الموجود في العالم الإغريقي، في بداياته أو حوالي نهايته، بين الفن التشكيلي الأبوليني، والفن اللاشكلي الموسيقي أو الفن الديونيزوسي. تبدو التصورات التشكيلية في فترات الحلم، وتولد فنا مليئا بالروعة والجلال. أما الفن الديونيزوسي، فيبدو على العكس في حالات السكر والهيجان الراجعين إلى تناول الكحول أو منبهات أخرى؛ إنه فن تعددي وعنيف. وحالات السكر الديونيزوسية هاته، ترافقها الموسيقى، ولها تأثيرات نفسية متناقضة: أوَّلا ابتهاج مجنون، ثم حزن متعذر السّبر. الفكر الأبوليني تحكمه مفاهيم مكانية، أما الديونيزوسي فتحكمه تصورات زمانية. الأول يحب ما هو سكوني، يحب النظام، والخضوع للقواعد، أما الثاني فيحب ما هو ديناميكي، يحب اللامنتظم والمتبدِّل.

    ومن الطبيعي أن النزعتين استطاعتا التجلي في أمكنة أخرى غير اليونان. وعندما يقارن بيدرو دِ فالينسيا Pedro de Valencia بين ما يقال عن ساحرات شمال إسبانيا الحقيرات وما قالته التراجيديات الإغريقية عن الكاهنات، فإنه يرى أن أشكال الجنون الديونيزوسية واحدة في الحالتين ولها أسباب متشابهة، وهذا تعميم سيكولوجي لا يخلو من قيمة.

    الساحرة شخصية من النوع الديونيزوسي لأسباب عديدة، أولها علاقاتها بالإيقاع، والموسيقى، والرقص العنيف، والشأن الجنوني. مثل ديونيزوس، ومثل شيطان القرون الوسطى، تكون (الساحرة) أحيانا موضوع تهكم وتثير الضحك، لكنها أحيانا أيضا، تزرع الـرّعب والفزع. وهذا الانتقال من السخرية، من الهجاء (بل وحتى من الابتهاج الذي لا يمكن قمعه) إلى الغضب والذعر، يتولد ميكانيكيا لدى مدمِني الخمر. والساحرة الحقة، مضطربة وحمقاء، كانت غالبا مدمنة خمر[2]، تثير الضحك والخوف، في آن واحد، لدى العقول البسيطة التي لم تكن غرائزها وعواطفها منظمة كما في مصنفات علم النفس. بيد أن هذا الانتقال الجماعي من الخوف إلى الضحك والسخرية هو ما نزع عن ظاهرة السحر طبيعتها الجماعية. وقد ساهم الفنانون إلى حد بعيد في هذا النقل، بشكل إرادي أو لا إرادي. وبذلك ساعَدَ الشعراء والروائيون والرسامون بالخصوص، عبر تفسيراتهم الشخصية، على إضعاف الإيمان بالساحرات.

    بتقديم مشاهد غروتيسكية في أمكنة مخصصة للدين والعبادة، كانت نية العديد من فناني القرون الوسطى، عموما، في منتهى الورع والتدين. غير أنَّ النتيجة لم تستجب دائما للنوايا، إلى حدّ أنه اعتقِد في القرن XVII، مثلا، بأن بوش كان «مُلحدا»[3] والحال أنه كان في الحقيقة صوفيا يَرى أن التعلق بالشهوات الجسَدية من أبشع المكروهات، ويعتبر الأحاسيس التي تولدها الموسيقى من أخطر سائر الأحاسيس اللذيذة والموَلدة للخطيئة. وإضافة إلى أنَّ عالم الأصوات والإيقاعات والحركات يحضر دائما في هجائياته، توجد لوحة بمتحف اللوفر تكشف تماما عن هذا الاعتقاد لدى الرسام بأن كلَّ ما هو حركة مختلة، توازنُُ قليلُُ، استشباحُُ عضلي، هو شيطاني في جوهره[4].

    يحتوي العديد من لوحات بوش على حشد من التمثيلات الخاصة بالسحر، أشدها وضوحا يتعلق بتنقلات غريبة وحركات مخالفة للمألوف. في إحدى تجارب القديس أنطوان من متحف البرادو Prado (رقم 2051) نشاهد الزوج (couple) الكلاسيكي ذاهبا إلى محفل السبت[5] على متن حوت طائر. يتقدم الرجل حاملا على الكتف عصا عُلق عليها قِدرُ المنقوعات السحرية، تليه المرأة مُرتدية فستانا له رفلُُ[6] طويل ومزهو[7].

    كان بوش يرسم ليُصَادِر، ولهدف ديني وتخليقي اشترى فيليب الثاني قماشاته. بعد ذلك بوقت طويل، أثار تأمل استشباحات الفنان العبقري تهكما وسخرية باردين. واليوم، من النادر أن نشاهد زائرا واحدا من زوار متحف البرادو، حيث توجد أفضل أعمال بوش، يبدي أقل حماسة روحية. فهي لم تعد تلهم إلا تأملات هجائية أو إيحاءات مَرَضية.

    II. الـواقـعيــة الأدبيــة

    أغرت تلك الموضوعات فنانين آخرين فلامنديين حظوا بتقدير عظيم في إسبانيا. وتصل المقاصد الكاريكاتورية درجة قصوى عند بعضهم على نحو ما نجد لدى صاحب لوحة المأدبة السبتية، بمتحف بلباو[8]. وبتكاثر هذه الأعمال، يفسح المقصد الديني الأولي والتخليقي المجالَ تدريجيا للإستطيقي وللفكاهة.

    من يمكنه أن يحس بتمكّن الفضيلة في نفسه أمام تجارب القديس أنطوان على طريقة تينييه[9]، أو أمام مشهد جهنمي لبروغهيل[10]، على نحو ما يحس أمام لوحة لفرا أنجيليكو[11]؟ يصير فن الرسم الديني للقرنين XVI وXII دراميا وواقعيا (كما في إسبانيا) أو تزيينيا (في إيطاليا) أو فانطاستيكيا، بما أنَّ الموضوعة الدينية صارت تابعة أو ملحقة، شاغرة الخطوة لمشاهد طبيعية أو فلكلورية (في هولاندا). وما كان من قبل نهاية صار وسيلة للرسم، لريشة خفيفة، لمشاهد جميلة، لشخصيات صغيرة، أو لتركيبات كبيرة على طريقة روبنس[12]. والأمر ينطبق أيضا على الأدب. فيما يخص موضوعنا، نلاحظ أن الواقعية الورعة لمؤلفي العصر الوسيط التي تنتقد بقسوةٍ رذائل الساحرات وانحرافاتهن، أعقبتها واقعية إستطيقية محضة لم تعد تعير أدنى اهتمام للمحاكمات بما أن الساحرات صرنَ موضوعة أدبية. كلما كان المؤلف واثقا من لغته كلما وصفهن بأنهن مجرد شخصيات لعالم الرواية الخليط الذي تطوَّرَ على نحو غير مألوف بإسبانيا في القرنين XVI وXVII كما هو معروف.

    لقد رسم سرفانتس سلفا، وبشكل فكاهي، شبحَ الساحرة في عمله الذي يحمل عنوان ندوة الكلاب Coloque des chiens. عندما يذكر البطل ذريته، في أول فصل لبوسكون Buscَn، يُلمحُ كيفيدو Quevedo - وهو يتحدث عن أمه التي كانت قوادة - على النمط الهزلي (ف. د. كيفيدو، (د. ت.): 29)[13]، إلى مواهبها باعتبارها ساحرة. في الساعة التي عاش فيها هذان العبقريان الكبيران انتشرت المدعوات aquelarres [14] باسكيات في جميع أنحاء إسبانيا. وعندما تعرَّضَ عددُُ كبير من الساحرات للمحاكمة في منطقتي قشتالة والأندلس، بدل أن يتحدث سرفانتس وكيفيدو وآخرون كثيرون - على غرار ما ظل معمولا به إلى ذلك الحين - عن سحرهن وحيلهن السحرية، أثناء ذكرهما الاجتماعات الشيطانية، بدل ذلك فضل الاثنان الرجوع إلى aquelarres الشمال. هكذا في ندوة الكلاب، هذا العمل الذي سبق ذكره والذي يعد تحفة صغيرة للملاحظة، يصف أحد المتكلمين عادات ساحرة أندلسية سبق أن كانت مُرضعة له. ويورد سرفانتس تأكيدها بأنها قامت بحيلة كبيرة في أحد وديان جبال البرانس، وأنها تقدم تفاصيل حول ما جرى هنالك يعجز المرء عن نقلها كتابة:

    «نذهب إلى مكان بعيد جدا عن هنا، إلى حقل كبير حيث يكون عدد من السحرة والساحرات مجتمعين، فيقدم لنا الشيطان وجبة أكل من طعام تافه. وفي الحقيقة، لا أستطيع أن أحكي ما يجري بعد ذلك، في شأن الله وفي شأن نفسي، مادام أشياء قذرة ومقرفة، لا سيما أني لا أريد أن أخدش أذنيك العفيفتين» (سرفانتس، (د. ت): 338-339)[15].

    هذه التأملات على لسان كلب هي تلك التي يضعها آخرون على لسان قضاة صارمين. أيّ سبيل تمَّ اجتيازه!

    وبتقدم القرن XVII تكبر شهيرة الشمال هذه. ففي مؤلف الشيطان الأعرج El diablo cojuelo، الذي صدر عام 1641، يلقي فيليث دِ غيفارا Vélez de Guevara على لسان دون كليوفاص Don Cléophas، من أعلى صومعة القدِّيس سالفادور San Salvador بمدريد، ما يلي:

    «التفت، وتمعن في هذه المنافقة العصرية وهي تدهن بدنها للذهاب لاجتماع الساحرات الأكبر الذي ينعقد بين سان سيباستيان[16] والفونطارابي[17]، ولعمري كان علينا أن نذهب إلى هناك لو لم أخش أن يتعرف علينا الشيطان. فقد سبق أن وجهتُ لها، يوم اختصمنا، صفعة قوية في غرفة انتظار إبليس» (لويس فيلس دِ غيفارا، 1902: 18-19).

    المقصد هنا تهذيبي تخليقي، ولكن ماذا عن اللهجة؟ شيئا فشيئا لا يجد قرَّاء هَذِه الأشياء بُدّا من التحوّل إلى متشككيين.

    خلال حكم شارل الثاني، وبعد مضي وقت طويل عن الحدَث، كتب رسام الأعراف فرانسيسكو سانطوس بضعة أسطر حول محاكمة لوغرونيو[18] في مؤلف شجب فيه المعتقدات الخرافية العامية (ف. صانطوس، 1697)، ولكن دائما على النمط الهجائي. رغم القصد الخلقي لجميع هؤلاء المؤلفين، فإن لهجة كتاباتهم ونوعَها هُما على ما هما عليه، أكرِّر هذا، بحيث لا يملك قراؤهم سوى أن يعتبروا السحر مجرد مزاح. وبفضل أدباء من ذوي الموهبة الكبرى، يستعملون هذه الفكاهة استخداما غزيرا، سينتهي الأمرُ بأناس مثقفين إلى الإيمان بأن السحر لم يكن سوى هراء. ذلك أن الفنانين لم يعالجوا هذه الموضوعة لمهاجمة السحرة والساحرات ومحاكمتهم، وإنما للتهكم على الذين آمنوا بوجودهم فعذبوهم وحاكموهم.

    III. غـُويَـا[19] والذهنية الحـديثـة

    كان التصورُ الموضوعي للعالم السائد في العصور القديمة وفي جزء كبير من العصر الوسيط، يُساعِدُ على الإيمان بأعمال السحر (magie et sorcellerie) [20]. بالطريقة نفسها، ابتداء من القرن XVII ساهمت ذاتانية[21] العصر الحديث بكيفية واسعة في تقويض هذا الاعتقاد الذي لم يعد يشكل نظاما متماسكا ومُنَظما. تفكَّك الوعيُ القديم، فغير الهجاء موضوعَه واستهدَف في الأعوام الأخيرة من النظام القديم أولئكَ الذين ظلوا متعلقين بأعراف القرن السَّابق ومواضعاته. وفي ما يلي مثال على ذلك:

    يحكي دون أنطونيو بونث، وهو ناقد ومؤرخ للفن الكلاسيكي الجديد، أنه حظي - خلال إحدى رحلاته في إسبانيا، إبان عهد شارل الثالث، ذات يوم ممطر في ولاية سينكة[22] - باستُقبال جيد في منزل أحد النبلاء. بعد أن دفئ أمام النار، وأثناء تناول وجبة الأكل، شاهد قدوم النبلاء أصحاب المنزل، الراغبين في تجاذب أطراف الحديث مع المسافرين، جريا على ما كانت تقتضيه العادة بحكم ندرة العلاقات مع الخارج بالمقارنة مع اليوم. فشرع أحدهم، وهو الذي كان يعتز ويفتخر بأنه مثقف، في مُهَاجَمَة الأب فييخو Feijَo، وإنكار قدرة أعماله على تبديد الجهل:

    «أكد الرجل الشجاع قائلا: "كل ما يقوله [فييخو] حول السحر خاطئ، ناهيك عما تبقى بكامله؛ إن الساحرات لموجودات. لقد وُجدنَ وسيوجدن على الدوام، وأنا لا أتكلم بلغة سمعتُ أنه قيل، بل عن تجربة شخصية"» (أ. بونث، 1777: 261).

    ثم أخذ يحكي أشياء مذهلة لا يوردها قِسّنا. ذلك أنَّ ما يهمه هو رسم البورتريه الهجائي لرجل له ثقافة معينة، ولكنه مغرم بالإيمان القديم بالساحرات، هذا الإيمان الذي لا زال موجودا. في روايات هجائية أو في كتابات أخرى تحدثنا عنها في مقام آخر (باروخا، 1972: 234-240)، يحارب العديد من الكتاب، مثل بونث، هذا «الانشغال» - كما كان يقال في ذلك الوقت - واسع الانتشار بين العامة. للأسف، فموهبة الإبداع الروائي في القرن XVIII الإسباني هي من القلة بحيث لا تعدو هذه الكتابات إطلاقا كونها مجرد بحوث مُجهَضة. فمؤلفوها يتخيلون أنفسهم يتبعون التقليد السرفانتي، بيد أننا لا نجد سبيلا للمقارنة بين أسلوبهم كثير الحشو والغامض وبين النثر المباشر عند سرفانتس. بالمقابل، وبمفارقة غريبة، من هذا الوسط المتأدب انبثق عبقري متدفق يزعم التشطيبَ، بريشته، على الأفكار ذاتها مثل بونث وأصدقائه الحكماء. لقد خلف لنا أعمالا قوية جدا بحيث لا تلهمنا الضحك، وإنما (تلهمنا) الذعر. وأعتقد أنَّ أي رجل من رجال محاكم التفتيش كان سيفضل أن يكونَ في خدمته، من أجل وصف الرعب البشع للاجتماعات السرية وأفعال أخرى صادرة عن السِّحر، كان سيفضل أن يكون في خدمته شخصُُ اسمه غويا بدل شخص اسمه بوش برؤاه التي تبقى الفنان التشكيلي الوسيط.

    تناسب أعمال غويا المستوحاة من السِّحر لحظتين وتقنيتين: من 1793 إلى 1796 أو 97 اشتغل غويا على الـ Caprices التي نتوفر منها على عدد لا يستهان به من الرسوم التحضيرية والرسوم ومجموعة الـ 80 مائية قوية التي أعيد طبعها مرات عديدة. وأولى هذه الطبعات ظهرت عام 1799، وتعرضت للسَّحب على الفور بما أن محاكم التفتيش ندَّدت بها (أ. ل. مايير، 1928: 472؛ إ. ل. فيراري، 1946: 291-293). لا شيء في ذلك يدعو للاستغراب. فالعداء تجاه هذه المحكمة باد بوضوح في تلك المائيات. آخر الرسوم، يحمل رقم 80، ويسمى «حانت الساعة»، يبدو تلميحا للساعة التي سيكف فيها الرهبان ورجال محاكم التفتيش عن العمل في إسبانيا (ميغيل فيلاسكو وأغيرِّي، 1928).

    ولكن من يشاهد ويعيد مشاهدة التركيبات التي تظهر فيها الساحرات، «بصدد البحث عن الأسنان»[23]، يمصصن دماء الأطفال، طائرات في الأجواء وهن تعقدن اجتماعات سرية غريبة[24]، من يشاهد ذلك يحسّ بقلق لا توقظه فيه إبداعات بوش ولو أنها مُقلقة بالتأكيد وأكثر هزلا وسخرية بكثير. ذلك أن غويا كان، في هذا التاريخ، قد احتبس في الصمم المرير؛ ولا شك أنه ساهم إلى حد بعيد في اختيار موضوعاته وطريقة معالجتها، وهي طريقة تختلف عن نظيرتها في الهجائيات الفكرية الخالصة أو «الثقافية».

    أما الصباغات السوداء من مجموعة série «La Quita del Sobro» المحفوظة في مَتحَف البرادو، بفضل تبرع من بارون Etrangler، فهي أكثر تراجيدية من الـ Caprices. والصباغات التي تعالج الساحرات تحمل أرقام 756 (ساحرتان طائرتان) 757 (aquelarre) و762 (مأدبة الساحرة وعائلتها).

    تنحدر هذه اللوحات من فترة وقوع الرسام تحت طائلة يأس عميق، ولربما كانت صورة للتشاؤم المطلق الذي يمكن أن يمنحنا إياه الفنّ. العالم أسود وكل ما يحدُث فيه هو أشدّ سوادا.

    يُعتبر الـ aquelarre، بكل الخاصيات التي تعزوها إليه النصوص القديمة، الرمزَ الكاملَ لمجتمع قبيح وبهيمي وفريسة لسائر أنواع الجرائم والعنف. ومن جهتي، أعتقد أنه كان لقراءة علاقة إحراق لوغرونيو Logroٌo لعام 1610، الذي نشره مارتان Martin، وهو صَديق كبير لغويا، كان لها تأثيرُُ حاسمُُ في تصور هذه الصباغات السَّوداء التي تلعب فيها الحركة دائما دورا أساسيا.

    لكنني أظن أنَّ عبقرية الفنان الكبرى قد خضعت، حتى في الـ Caprices، لتأثير الفكر الجلي والمضبوط للدراماتورجي. فقط خطا غويا خطوة زائدة عن موراتان Moratيn. رائدا للأزمنة الحديثة، اكتشف حدسيا - لستُ أدري كيفَ - ما نعرفه اليوم، وهو: ليست التحليلات العقلانية الخالصة للذين يسخرون من رجال القانون هي التي ستلقي الضَّوْء على مُشكل السحر، ولا واضعو القوانين القمعية، بل وحدَه تحليلُُ جدِّي للحالات النفسية الغامضة عند السَّحَرة وضحاياهم هو ما سيلقيه. في أعمال غويا بالتأكيد تلميحاتُُ واضحة للقضاة، لكتاب المسودات، للسلطات الرجعية التي لها مصلحة في قتل الحقيقة[25]. لكن علاوة على ضروب القلق الناشئة عن عدالة عرجاء، علاوة على أضرار الحرب وأشكال المعاناة المادية، تحدق بنا ضروب أخرى من المعاناة الملغزة، ذات طبيعة نفسية، إلى حدّ أن الحياة البشرية، تصير مثل مائيات غويا القوية، مصنوعة من «الأهواء»، و«الفواجع»، و«السَّخافات». وبطرح هذا نستطيع أن نخطو إلى الأمام بشجاعة.

    كل من يتأمل اليوم أعمال غويا يحس بالفرق الكبير بينها وبين الكتابات الباردة والجافة التي خلفها رجالٌ أمثال موراتين Moratin أو جوفيانوس Jovellanos المنشغلين بتحطيم العادات السيئة المشروعة، والمؤسَّسات الفاسدة، والمعتقدات البالية. يُعتبر غويا الرائد النابغة للإنسان الحديث. فهو في الوقت نفسه أنثربولوجي، وطبيب نفساني، وعالم اجتماع. وفوق ذلك كله، فهو فكاهي مدهِش؛ لا يتوفر على المزاج السخري لأصدقائه السعداء دائما بأنفسهم والمتأكدين من امتلاكهم الحقيقة. لا، إن غويا يتهكم ويشكو من كل شيء، وهذه الصَّرخة تنشأ ربما من الوعي بجوانب ضعفه وعجزه.
    "أن تشعل شمعة خير من أن تلعن الظلام"
    كونفوشيوس (ع)

  14. #14
    تاريخ التسجيل
    Nov 2002
    المشاركات
    4,192

    افتراضي

    IV. الـرّومانسيـة والفلكلور

    والخلاصة أن الفن الحديث، بفضل الحدوس العبقرية لبعض الفنانين، يرسم طرقا جديدة ويوحي بتوجهات لا يمكن للتأمل الطويل أن يثيرها إلا بصعوبة. لكن في هذا الميدان، كما في ميادين أخرى عديدة، كانت الرومانسية تراجعا إلى الوراء. فمريميه Mérimée، مثلا، أثناء حديثه عن الساحرات الإسبانيات[26]، لا يرى في السِّحر سوى «لون محلي»، وفي رواياته أو قصصه القصيرة المستلهمة بهذا القدر أو ذاك من والتر سكوط Walter Scott لا يرى في السحر نفسه سوى «لون تاريخي». وإذن فقد فقدت تواريخ الساحرات الكثير من قوتها.

    شرع الفنانون في النظر عن بُعدٍ إلى محاكمة السّحر، باحثين فيها بالأحرى عن أثر مَسْرحـي. وقد تطلب الأمر استخدامها لإحداث تأثير في جمهور المباريات، والمعارض، ومجلات اللحظة وكتبها، وهو جمهور برجوازي أساسا فرحُُ بنفسه أكثر من أي درس للتاريخ. لنترك جانبا الوصف الذي يقدمه لنا غوته عن محفل السبت، والذي يستوحي إلى حد بعيد أوصاف القرن XVIII ويلتمس العذر لجميع أنواع التلميحات الهجائية السياسية والفلسفية. لنأخذ على العكس، كمثال عن الأثر (oeuvre) الرومانسي، وصفَ فكتور هوغو (1862: 356-361) في نزهة شهيرة ألهمت لويس بولانجيه Louis Boulanger ليتوغرافيا صارت أشهر من النزهة نفسها. الأحاسيسُ البصرية تهيمن في هذه سلفا؛ الشاعر يعرض فيها بلاغته العظيمة.

    فيما بعد، سيصف تيوفيل غوتييه (1896: 177-183) هو الآخر، في عمله ألبرتوس أو النفس والخطيئة Albertus ou l’âme et le pêché، محفل سبتٍ يهيمن فيه اللون اللامع تارة والمعتم تارة أخرى. ولكن ما يُدهِش عند هذا كما عند ذاك، هو مهارة احترافية تذكر بغوستاف دوريه Gustave Doré أو برسامين آخرين من تلك الحقبة، لكنها مهارة بعيدة عن الإخلاص الساذج لدى بوش بقدر ما هي بعيدة عن غويا.

    ومع ذلك، فقد كانت الرومانسية في أصل العديد من الأبحاث والأعمال، ويمكننا القول إن الفلكلور قد نشأ تحت رعايتها. فبعد أن استوحى الفنانون التاريخ الوسيطي ووقائعه الفظة المثيرة المنحدرة من القرون البعيدة، يطلبون من الشعب عناصر قصصية وابتكارات دائما رائعة.

    إنها السَّاعَة التي زعم فيها بحاثة أمثال غريم Grimm اكتشافَ أغنى مناجم الميثولوجيا الجرمانية في التقاليد الشفهية وترسيخَ هوية شبه مطلقة بين معتقدات الجرمانيين «البدائية» ومعتقدات القرويين. والشيء نفسه يقوم به بعض المؤلفين بالنسبة للتقاليد السّلتية. لكن شيئا فشيئا صارت تلك الأبحاث ليست شَيئا آخر غير una collecanea، أي تراكم من الظواهر شبه روتيني دائما، ومجرد من كل روح.

    تظهر السَّاحرة حتى في الأوبيريتات، والدرامات، وروايات النهر[27]، وتُـُبتَذلُ بالخصوص، إذ اتخذها الأدب الجهوي موضوعا للاستخدام الغزير. يستغل شعراء نهاية القرن، الحداثيون وأقرانهم سلفا شبحها. في إيطاليا تعتبر الـ strega الشخصية الرئيسية أو الثانوية لمئات ومئات الأعمال. ومنذ وقت غير بعيد، اعتبر نقاد الأدب ابنة جوريو لأنونثيو Annunzio مأساة مسأوية لتراجيديات سوفوكل التي كان رامون دل فاليه أنكلان Ramَn del Valle Inclلn، في إسبانيا، يؤثث بها أعماله المتعلقة بالساحرات؛ بأعمال السحر والأشباح.

    وهكذا نصل إلى ثولواغا Zuloaga ولوحته المعروفة جدا التي تحمل عنوان ساحرات سان ميلان les soricères de san Millلn، والتي يعدّ قصدها واضحا، ويتمثل في رغبة الفنان في أن يقول عنه فنانٌ آخر، شاعرٌ آخر، بعد قرون، ما قاله تيوفيل غوتييه Théophile Gauthier عن فالديس ليال[28]:

    «رسامٌ إسباني حق، كاثوليكي وشرس،

    بالبشاعة الفظيعة والمعاناة الشنيعة،

    يضاعف في قلب الإنسان الهلع المذعور،

    قلق جحيـم الأبدية».

    لكن ليس لكل جنس سوى زمن واحد. فالفلكلور الرومانسي لبداية القرن XX، هذا الفلكلور المرعب بهذا القدر أو ذاك مثل نزعات أخرى أكثر حداثة تظن نفسها بعيدة الأصول بل وحتى مُواجِهة، كل ذلك يبدو لنا دائما مفتقدا إلى إخلاص، بل وحتى إلى عمق. ويصل المؤرخ إلى التفكير في أنه لإنشاء عمل (oeuvre) نافع، يجب عليه أن يدافع ضدّ هذه الرؤية الرومانسية والفلكلورية. وهو أمرٌ صعبٌ في عصر فيه للرومانسية الفلكلورية في التعليم الرسمي والحياة الاجتماعية تأثيرٌ قوي بقدر ما هو سرِّي، ويشكل فيه هواة الأهازيج الجهوية والخصوصيات الريفية الموجَّهَة من قِبَل متخصصين يتلقون رواتب، (يشكلون) أبناء البورجوازية الحضرية، بينما أطفال التراب المحلي، بعيدا عن أن يحلموا بأن لهم ساحرات وأرواحا في خدمتهم، لم يعودوا في أغلب الأحيان يرغبون سوى في أجهزة تلفزيون أو ثلاجات.

    مهما يكن الأمر، فإنه لازال من الممكن استكشاف وعي بعض الرجال ذوي المثال (idéal) الأقل وضعية. وعنهم تحدثنا في سياق آخر (باروخا، 1972: 252-266)، متحررين من كل فلكلور طريف ومن كل رومانسية عتيقة.

    ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

    الهـوامــش والمـراجـــع

    August L. Mayer,

    1928, Historia de la pictura espaٌola, Madrid.

    Baroja, Julio Caro.

    1972, Les sorcières et leur monde (Traduit de l’espagnol par M.-A. Sarrailh), Gallimard, Paris.

    Cervantes,

    (s.d.), El casamiento enganoso y coloquio de los perros, éd. Gonzلles Amezْa.

    Lafuente Ferrari, Enreque,

    1946, Breve historia de la pictura espaٌola, Madrid.

    Ponz, Antonio,

    1977, Viaje de Espaٌa en que se da ed las cosas mas apreciados y dignas de saberse que hay en elia, III, (2e éd.), Madrid, (lettre IX, n° 10).

    F. de Quevedo,

    (s.d.), Historia de la vida del Buscَn, édition A. Castro Londres.

    Santos, Francisco,

    1697, El arca de Noé y campana de Belilla, Saragosse.

    Thةophie, Gautier,

    1896, «Albertus», in Poésies complètes, Paris, I, (Strophes CVIII-CXX).

    Père Siguenza,

    1909, Historia de la َrden de San Jerَnimo, Madrid, II (3e partie, liv. IV, discours XVII).

    Velasco, Miguel y Aguirre,

    1928, Les Grabados y litografias de Goya, notas histَrico-artisticas par (Madrid), n° 101 (n° 80 de la série des «Caprices»).

    Vةlez de Guevara, Louis,

    El Diablo cojuelo, éd. Bonilla y San Martin (vigo, 1902), (2e partie: fos 12 r°-12 v° de l’édition princeps).

    Victor, Hugo,

    1862, Odes et Ballades, Paris, (Balladee XIV); l’ouvrage est de 1823-1828.





    --------------------------------------------------------------------------------

    [1] Bosh Hieronymus (حوالي 1450/1460-1516): رسام هولندي «يعتبر عمله إسهاما استثنائيا في فن زمنه باتجاهه الملغز، وكذلك بغنى ابتكاره الإيقونوغرافي. ويبدو أن توجهه الأساسي كان من إملاء انشغالات أخلاقية، ويليق موضعته في وسط ديني في غمرة التطور، تنشطه حركة الـ Devotio moderna». عن:

    - Michel Laclotte (Dir), Dictionnaire des grands peintres, Paris, Librairie Larousse, Références Larousse, 1987, t. 1, p. 74.

    ويعود عدم تعريفنا بمجموعة من الرسامين الذين يذكرهم المؤلف، في النص الحالي، إلى كوننا لم نعثر على أسمائهم في م. س. ولا في موسوعة Universalis (ط. 1995)، ولا في موسوعة الفن:

    - Dr. Horst Vey et Dr. de Salas, Le Livre d’Art, encyclopédie illustrée de la peinture, du dessin et de la sculpture, (tr. de l’Anglais), Grolier, 1985.



    [2] لنتذكر اللوحة الشهيرة لفرانس هال Frans Hall، التي تمثل هيل بوب Hille Bobbe، ببومها وقدحها الكبير المملوء جعَّة (متحف برلين).

    [3] لا يمكنني أن أعثر في هذه اللحظة على النص الذي يعتبره ملحدا، ولكني موقن أنه سبق لي أن قرأته. وقد نبهني بولينو غاراغوري Paulino Garagorri إلى أن الأب سيغنثا Père Siguenza، في مؤلفه الشهير Historia de la َrden de San Jerَnimo, II (Madrid, 1909), p. 635 (3e partie, liv. IV, discours XVII)، يدفع عن الرسام تهمة الزندقة وتفاهات أخرى.

    [4] انظر اللوحة في أي ريبرتوار من الريبرتوارات المعروفة. مثلا:

    - Jérôme Bosh, Paris, 1946, p. 133 des planches.

    [5] سبق شرح «محفل السبت» في الهامش رقم 114 من دراسة إ. دوتيه «السحرة والعرافون بشمال إفريقيا»، المنشورة ضمن الكتاب الحالي. (م).

    [6] الرفل: ذيل ثوب منسحب. (م).

    [7] انظر أيضا: Jacques Combe, op. cit., p. 45, 59, etc.

    [8] تم استنساخ هذه اللوحة بشكل كبير.

    [9] Le jeune David Teniers (1610-1970): رسام فلاماني تحتفظ أغلب متاحف العالم الكبرى بمجموعات كاملة من لوحاته. عن معجم كبار الرسامين (بالفرنسية)، م. س.، ج. 2، ص. 823-824. (م).

    [10] Bruegel Piter Le Vieux ou l’Ancien أو Breughel أو Bruegel (حوالي 1525/1530-1569): رسام فلاماني. عن: م. س.

    [11] Angelico Fra Giovanni de la Fiessole: رسام إيطالي ولد في ضواحي فلورنسا، يعتبره البعض أهم رسام في النصف الأول من القرن XIV. كان راهبا، ونسجت حوله أساطير. من ذلك أنه لم يكن يمسك الريشة للرسم إلا بعد أن يصلي. عن: م. س.، وموسوعة Universalis، م. س.

    [12] Rubens Pierre Paul (1577-1640): رسام فلاماني، ولد بإيطاليا وانتقل إلى هولاندا. يعتبر من أساتذة الرسم الكبار الذين يتم على الدوام اكتشاف أعمال لهم ظلت مجهولة. يعتبره النقاد آخر «أكبر رسام» ينتمي إلى عصر النهضة (الأوروبية) و أول رسام «باروكي» ينتمي إلى العصر الحديث. عن موسوعة Universalis، م. س.

    [13] «ولذا، فإن أمي لم تعرف الشقاء. ذات يوم كانت تغني فيه مدائح، قالت لي عجوزٌ حملتني إن سحرها كان من الكبر بحيث تفتن كل الذين يقتربون منها، ولكنها كانت قد قالت لها ما لم أفهمه بشأن تيس عرضها لمخاطرة».

    [14] كلمة إسبانية بصيغة الجمع، مفردها aquelarre، ومعناها: اجتماع الساحرات. عن: ف. كوريينطي، قاموس إسباني-عربي، مدريد، المعهد الإسباني العربي للثقافة، 1977. (م).

    [15] في الهامش رقم 277، ص. 624، يقول الناشر إن سرفانتس عرف علاقة محاكمة ساحرات نافاريات [نسبة إلى نافاريا: منطقة تقع شمال شرق إسبانيا بمحاداة الحدود الإسبانية الفرنسية (م)]، يقال لها محاكمة 1590. ولكن هذه (المحاكمة) ليست سوى نقل أو رسم شفاف لعلاقات 1527. انظر الفصل XI.

    [16] Saint Sébastien:مدينة شمال شرق إسبانيا، تقع على الحدود بين إسبانيا وفرنسا. (م).

    [17] سبق شرحها في الهامش رقم 31 من دراسة خ. ك. باروخا «عن بعض تأويلات السحر العصرية»، المنشورة ضمن الكتاب الحالي. (م)

    [18] محاكمة شهيرة، بدأت يوم السبت 6 نونبر 1609، بقرية Logroٌo الواقعة في منطقة الباسك الإسبانية، اتهم فيها 53 فردا من الجنسين بالتعاطي للسحر، وانتهت بإعدام 6 ساحرات حرقا. لمزيد من التفاصيل، يراجع:

    - Josane Charpentier, La sorcellerie en pays basque, Paris, Guénégaud, 1977, pp. 196-203.



    [19] Goya y Lucientes Francisco de (1746-1828): رسام إسباني «توجد لوحاته في كبريات متاحف العالم بأكمله، ولكن القسم الأكبر من أعماله محفوظ في مدريد، في مجمّعات خصوصية وعمومية، وفي متحف البرادو بالخصوص. وفي فرنسا، توجد بعض أعماله في متاحف اللوفر، وأجُن، وبايون، وبيزانصون، وكاستر، وليل، وستراسبورغ». عن معجم كبار الرسامين (بالفرنسية)، م. س.، ج. 1، ص. 336. (م).

    [20] خلافا للغة الفرنسية، لاتتوفر اللغة العربية على مفردات كثيرة للدلالة على أعمال السحر مصنفة على هذا النحو. وقد تأكدنا من هذا الغياب من طرق عديدة: فكتب السحر العربية نفسها تكتفي بتصنيف السحر إلى علوم، كعلم الحروف، وعلم الأوفاق، وعلم الأعداد، وعلم خواص الآيات القرآنية، الخ. ثم إنها لا تسمي الأعمال السحرية مفردة ولاتجمعها في تصنيفات محددة. وعليه فهي لم تفدنا في إيجاد اسمين مقابلين لهذين المصطلحين. وتصنيف ابن خلدون (المقدمـة، الدار التونسية للنشر، 1984، ج 2: 623 - 660) اكتفى بالتفريق بين السحر والطلسمات من جهة، وبعرض علمين فرعيين من علوم السحر هما علم أسرار الحروف وعلم الزايرجة. أما بطاش كبرى زادة (مفتاح السعادة ومصباح السيادة في موضوعات العلوم، بيروت، دار الكتب العلمية، 1985، ج1: 340 - 346)، فهو - مثل ابن خلدون - اكتفى بتعريف علوم السحر الفرعية مركزا على تقنيات تدخلها وليس على الأهداف التي تحققها في شبكة العلاقات الإنسانية، وهذه العلوم الفرعية عنده هي: علم الكهانة، علم النيرجات، علم الخواص، علم الرقى، علم العزائم، علم الاستحضار، علم دعوة الكواكب، علم الفلقطيرات، علم الإخفاء، علم الحيل الساسانية، علم كشف الدك وإيضاح الشك، علم الشعبذة والتخيلات، علم تعلق القلب، علم الاستعانة بخواص الأدوية والمفردات. هذا عن كتب السحر ومنظريه، أما عن أصحاب المعاجم فالحالة معهم ليست بأريح: فصاحب اللسان يجعل الرقية مرادفا للعوذ (أو التعويذة) فيفسر كلتاهما بالأخرى دون إعطاء مزيد من التوضيحات. هكذا، فالرقية عنده هي «العوذة التي يرقى بها صاحب الآفة كالحمى والصرع» (لسان العرب، مادة «رقي»)، والعوذة والمعاذ والتعويذ هي «الرقية يرقى بها الإنسان» (نفســه، مادة «عوذ»). والمعاجم مزدوجة اللغة (كالمنهل والسبيل) لم تجدنا في حل المشكل، إذ تترجم «commination» بـ «تهديد»، و«conjuration» بـ «تعزيم»، «رقية»، و«exorcisme» بـ «تعزيم، عزيمة، رقية، تعويذة»، الخ. ولعل السبب في عدم توفر اللغة العربية على مقابلات للمصطلحات المعنية يرجع إلى اختلاف الحضارتين الغربية المسيحية والعربية الإسلامية في معاملة السحر. فهما معا تشجبان هذه الممارسة، لكن فيما مارس الغرب اضطهادا واسعا على الساحرات، كان ضروريا معه إخضاع الظاهرة للتمحيص والتسمية، اكتفت الثقافة العربية الإسلامية بجر السحر إلى منطقة المسكوت عنه. وغني عن التذكير بأن ترجمتنا للمصطلحات السابقة تبقى مجرد اجتهاد شخصي متواضع سيجد في المعطيات الآنفة ما يبرر الهفوات التي قد يسقط فيها. (م).

    [21] الذاتانية: مذهب فلسفي يقيّم المعرفة كلها على أساس من الخبرة الذاتية. (م).

    [22] Cuenca: تقع شرق إسبانيا. (م).

    [23] كانت أسنان الموتى شنقا وشحومهم تشكل مواد سحرية شهيرة، بحسب المعتقدات السحرية في أوروبا العصور الوسطى. ولغويا لوحة، يسوقها باروخا في الصفحة 16 من مؤلفه الذي نترجم الفصل الحالي منه، يبدو فيها ميت مشنوق، ويداه مكبلتان، وقبالته تقف ساحرة مدَّت يدها اليمنى إلى فمه لخلع أسنانه... (م).

    [24] إن المائيات القوية التي تلمح بوضوح إلى السحر هي التالية:

    - nos 12 («A caza de dientes», n° 3 من السلسلة سابقة الذكر); 19 («Todos caeran», n° 40); 44 («Correcciَn», n° 67); 47 («Obsequio al maestro», n° 68); 48 («Soplones», n° 69); 59 («Y aْn no se van»); n° 80); 60 («Ensayos»; n° 81); 61 («Volaverunt», n° 82); 62 («Quién lo creyera», n° 83); 63 («Miren que grabes», n° 84); 64 («Buen viaje», n° 85); 65 («Dَnde va mama?», n° 86); 66 («Alla va eso», n° 87); 67 («Aguarda que te unten», n° 88); 68 («Linda maestra», n° 89); 69 («Sopla», n° 90); 70 («Devota profesiَn», 91); 71 («Si amanece nos vamos», n° 92).



    [25] لنتذكر المائية القوية المسماة «Murيo la vedad» (رقم 15 من «فواجع الحرب»، (رقم 180 من الكتاب المذكور)، متبوعا بمائية قوية: «si rescitara?» (رقم 80؛ 181). في السلسلة نفسها، بورتريه من يكتب «Contra el bien general» هو رهيب (رقم 71؛ 172).

    [26] رسالة تحمل عنوان: «الساحرات الإسبانيات (Las brujas espaٌolas)»، تنشر باستمرار مع أعمال أخرى حول موضوعات إسبانية، للمؤلف نفسه.

    [27] الرواية النهر (Roman-fleuve): «هي رواية نثرية طويلة موضوعها حياة أسرة عبر أجيالها المختلفة، وتنقسم هذه الرواية عادة إلى مجلدات منفصلة بعضها عن بعض ليستطيع القارئ أن يقرأ كل واحدة على حدة من غير أن يلتزم بقراءة الكل. مثال على ذلك ثلاثية نجيب محفوظ التي تتضمن "بين القصرين" (1956)، و"قصر الشوق" (1957)، و"السكرية" (1957)». نقلا عن: مجدي وهبة، معجم مصطلحات الأدب. انكليزي - فرنسي - عربي مع مسردين للألفاظ الإفرنسية والعربية، بيروت، مكتبة لبنان، 1974. (م).

    [28] Valdés Leal (1622-1690): رسام إسباني «مفرط، شخصي، وعنيف، لم يخلف تلاميذ عدا ابنه الذي أكمل عمله التزييني الذي بدئ في مستشفى أعيان إشبيلية»، عن معجم كبار الرسامين (بالفرنسية)، م. س.، ج. 2، ص. 860. (م).
    "أن تشعل شمعة خير من أن تلعن الظلام"
    كونفوشيوس (ع)

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
 
شبكة المحسن عليه السلام لخدمات التصميم   شبكة حنة الحسين عليه السلام للانتاج الفني