النتائج 1 إلى 5 من 5
  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Nov 2002
    المشاركات
    4,192

    افتراضي محمد فؤاد: الدين والدولة في المملكة العربية السعودية من التحالف إلى المواجهة

    الدين والدولة في المملكة العربية السعودية
    من التحالف الى المواجهة
    (1 من 3)

    محمد فؤاد

    اللقاء التاريخي المقدس بين الشيخ محمد بن عبد الوهاب والامام محمد بن سعود عام 1744 وصف بأنه تدشين لتحالف فريد بين الدين والدولة في التاريخ الحديث.. تحالف تأسس على قاعدة تقاسم شؤون الدين والدنيا، وكان نصيب آل الشيخ والمتناسلين نسباً وسبباً منه احتكار المجال الديني بوصفه منطقة امتياز لأهل العلم الشرعي ممثلاً في عائلة الشيخ محمد بن عبد الوهاب واستطراداً في علماء الدين في نجد حصراً، فيما تكون السلطة الزمنية حقاً تاريخياً ينحبس داخل الخط السلالي لآل سعود.

    ترصين المضامين الدينية والسياسية للتحالف زخمه التطلع المفتوح نحو آفاق واسعة جغرافية وبشرية، فهناك النزوع المبالغ نحو حركة دعوية واسعة النطاق تستوحي تجربة الرسالة الاولى، كما حملها وحلم بها مؤسس الحركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، حيث التماثل المكرور في الادبيات الدينية الوهابية بين دعوة الرسول (ص) وبين دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، والرغبة الجامحة لدى القيادة السياسية السعودية نحو بناء امبراطورية تتغذى على ذات المزاعم الدينية المشرعنة لحركة توسعية لا مقطوعة الحدود.

    وبلا شك ان الدولتين السعوديتين الاولى والثانية خاضتا امتحان صناعة الحلم عبر تجريد الحملات العسكرية التي طالت بلاد الرافدين والشام اضافة الى دول الخليج، ولربما ساقها ورم التطلع للمجازفة باختراقات حدودية والاصطدام بقوى كبرى في المنطقة مثل الاتراك العثمانيين ومصر محمد علي باشا.

    وبرغم فشل التجربتين الاولى والثانية في بناء امبراطورية دينية متوزعة بين خطي آل الشيخ وآل سعود وكان العامل الخارجي فاعلاً رئيسياً في انهائهما، الا أن المشروع الديني/السياسي السعودي حافظ على مبرره وكان الاحفاد قد تكفلوا عبء استئناف العمل به مرة اخرى.

    فهذا المشروع وُجد كي يحقق وجوده من خلال ايديولوجية دينية تقويضية تزرع في أتباعها فكرة تخليص العالم من الانحراف العقدي، وتتكفل مهمة انقاذ البشر من الضلال باعتبارها مصدر الفهم الصحيح للوحي وتالياً فرجال الدعوة حكاماً وعلماء هم وحدهم الحائزون وبكفاءة فريدة على حق ولاية الامر على المسلمين أولاً وتطهير العالم من الفساد ثانياً كما فعل الاتباع.

    فالرؤية الكونية لأتباع المذهب الوهابي كما تشرحها الادبيات القديمة والحديثة تنطلق من كون العالم مغموراً بالفساد والشرك بما يفرض وفق الاملاءات الدينية واجب اصلاحه. فقد جاء في كتاب (التوحيد) للشيخ الدكتور صالح بن فوزان الفوزان والذي اقتبسه كما يذكر ذلك في المقدمة "من مصادر كثيرة من كتب أئمتنا الاعلام لا سيما كتب شيخ الاسلام ابن تيمية وكتب العلامة ابن القيم وكتب شيخ الاسلام محمد بن عبد الوهاب وتلاميذه من أئمة الدعوة المباركة" جاء "فعاد الشرك الى كثير من هذه الامة[1].

    وفي رده الضمني على مقولة جاهلية القرن العشرين للسيد قطب يرفض الدكتور الفوزان تعميم حكم الجاهلية وقال "والصواب أن يقال جاهلية بعض أهل هذا القرن أو غالب أهل هذا القرن. وأما التعميم فلا يصح ولا يجوز لأنه ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم زالت الجاهلية العامة" [2] . وهو بهذا يخرج أتباع المذهب الوهابي من دائرة الجاهلية ليقبع فيه من سواهم، بما يشمل المسلمين.

    وهذه الرؤية الدينية الصارمة تمثل حافزاً جباّراً لدى أتباع هذه الرؤية نحو شن الغارات على ديار الشرك، تلك الديار التي لم يصلها نداء التوحيد بالمعنى الوهابي، كما تعكس الى حد كبير الدور الذي يمكن للدين في التصوير الوهابي ان يلعبه في الميدان السياسي، وفي نفس الوقت كيف أمكن لرؤية كهذه ان تخدم السياسي في تحقيق اغراضه النهائية. والسؤال الملح دائماً ماذا لو اجتمعت الرؤية الدينية بالغرض السياسي، وما هي تحديداً مستخلصات العلاقة المعقدة بين الدين والدولة؟

    تمثل تجربة الدولة السعودية الثالثة (الحالية) انموذجاً غنياً لدراسة علاقة الدين بالدولة وكيف لهذه العلاقة ان تندك في بناء نظام مصالح مشترك يفضي في أحيان عديدة الى النزوع الاستغلالي لدى كل منهما وخصوصاً حال اختلال ميزان القوى لصالح أي من الطرفين.

    إن تجربة اعادة بناء التحالف الديني السياسي بين آل سعود وآل الشيخ في الدولة السعودية الثالثة ولا سيما في مرحلة بناء الدولة تلخص الطبيعة الانتهازية التي يمكن لمهارة السياسي ان تحيل من القوة الدينية الى مجرد سلاح في معركة البناء وفي القضاء على الخصوم من خلال شحن محركات التطرف الديني.

    وسنحاول في السطور التالية تسليط الضوء على تجربة الاخوان بما تمثل قوة دينية وعسكرية جرى استعمالها بإفراط من قبل المك عبد العزيز في مشروع سياسي توسعي، يتوكأ على ذرائع دينية ومزاعم تاريخية ويهدف الى بناء امبراطورية مترامية الاطراف.

    الاخوان وايديولوجية الفتح



    نشأت حركة الاخوان في عام 1912م بعد تأسيس أولى المستوطنات في شهر ديسمبر ( كانون الاول ) من نفس العام في الارطاوية التابعة لقبيلة مطير. وقد بدأت هذه الحركة تستلهم تعاليم الشيخ عبدالكريم المغربي الذي يقول عنه ديكسون "كان المعلم الأكبر للمرحوم فالح باشا السعدون شيخ المنتفك ..وأصبح بعد ذلك معلماً لمزعل باشا السعدون والد ابراهيم بيك السعدون ، وعندما ترك عبدالكريم خدمة مزعل باشا غادر العراق الى نجد حيث أظهر نفسه كمعلم ومصلح ديني في مدينة الأرطاوية التي كانت وكراً صغيراً للوهابية.."[3].

    ونشطت حركة الاخوان في الارطاوية لتتحول لاحقاً الى قوة عسكرية ضاربة تحت قيادة المغربي أولاً ثم تسلمها فيصل الدويش زعيم قبيلة مطر. وقد شنت الحركة غارات متلاحقة على المناطق المجاورة وكانت ترفض الخضوع لأية سلطة مركزية .

    وكان ابن سعود يخشى بروز الاخوان كقوة سياسية مزاحمة، وتأكدت هذه الخشية بعد استيلائه على الاحساء عام 1913 وما لحظه من قوة الاخوان العسكرية والتفاني المفرط في المعارك، ففكر ملياً في منهج للتعامل مع الاخوان ، وكان أمام خياريين: اما القضاء عليها رغم المجازفة غير المضمونة والتكاليف الباهضة التي سيتكبدها حال الفشل في تحقيق هدفه، واما احتوائها واستيعابها واستخدامها كقوة عسكرية الى جانبه.

    الميل الحاذق لعبد العزيز بتبني الخيار الثاني تطلب رفع الشعار الديني والتظاهر بالالتزام بتعاليم الوهابية والدفاع عنها، ولذلك قرر ارتداء لباس الامامة وخلع لباس السلطنة، كمتطلب رئيسي لتحقيق اغراضه السياسية. وقد وجه ابن سعود نداءً في عام 1916م الى قبائل نجد للانخراط في صفوف الحركة الجديدة وان يدفعوا له الزكاة بصفته امامهم الشرعي[4]، كما قام باطلاع قادة الاخوان على خططه السياسية التي أَسبغ عليها طابعاً دينياً كيما تحظى بتأييد الاخوان وتثير فيهم روح الاستبسال في الدفاع عنها، وتعزيزاً لذلك عرض عليهم فكرة الاشراف على هجر قبائل نجد التي ينوي عبدالهزيز إقامتها، ورغم اعلان الاخوان الرفض المتكرر لعروض ابن سعود غير انه أفلح بدهائه في إقناعهم كما انتزع منهم اعترافـاً بامامته عليهم .

    من جهة ثانية عمد ابن سعود الى تذويب كيان الاخوان وتفتيته بالنداء الذي اطلقه للقبائل للانضمام الى الاخوان حينما بدأ في خطة اقامة الهجر على غرار هجرة الارطاوية سعياً وراء اضعاف الروابط القبلية حيث بلغ عدد الهجر نحو 220 توزعت على مناطق نجد والحجاز وشملت الحدود السعودية والاردنية.

    وكانت قبيلة العجمان من العقبات التي واجهت ابن سعود لذلك "كان ابن سعود ينوي نقل قبيلة العجمان من منطقة الاحساء الساحلية ــ موطنها الأصلي ــ الى نجد حيث يقسمها الى اقسامها العشرين التي تتألف منها ويضع كل قسم في حاضرة من حواضر الاخوان وذلك لكي يشتت شملها "[5]، وبالفعل نجح ابن سعود في اخضاع العجمان عام 1919م وتوزيعهم على الحواضر واعترفوا به اماماً عليهم وعادوا الى مقاطعات نجد وهناك تلاشت قوتهم وذابوا في كيان الاخوان .

    وقد اختلف أغلب الباحثين في التاريخ السعودي على تحديد غرض ابن سعود من الهجر حيث يعتقد جلال كشك أن الهجر كانت تعني "الهجرة من دار الشرك، من التعلق بالمجتمع المشرك من كل ارتباط وكل القيود التي تربط المهاجر بالمجتمع المرفوض، فيحمل ايمانه وينطلق خفيفاً فرحاً مؤمناً متحرراً الى الله ورسوله ..الى "يثرب" الجديدة الى ارض الايمان ..الى دار الهجرة ..الى الارض المحررة الى الجهاد..الى"الهجر"..ومنها ينطلق الى تحرير العالم ونشره بقوة للمجتمع المثالي الذي يحقق خيرالدنيا والآخرة "[6]، اما العطار فيعتقد ان الهجرة هنا "ارض يخططها الحاكم للبدو، ويقطعهم اياها للسكنى والعمارة، حتى تكون كالقرى والمدن الثانية. ومعنى الهجرة الانتقال من ارض الى ارض اما في الاسلام فالانتقال من بلد الشرك الى بلد الاسلام ويجوز هنا حمل المعنى على الاصطلاح اللغوي فقد نقل هؤلاء البدو الى أرض يستوطنونها، بأسرهم تكون لهم بمثابة المدن للمتحضرين"[7]. اما محمد المانع (المترجم بديوان ابن سعود) فيقول" في سنة 1912م ــ 1330هـ وكجزء من محاولة حل مشاكله قام ابن سعود باحياء مبادئ التطهير التي في الحركة الدينية التي بدأها عبدالوهاب في القرن الثامن عشر. وهدف الحركة هو توحيد القبائل في خدمة الله وكانت فكرة الامير العظيمة هي تشجيعهم على انشاء مستوطنات دائمة ومن هذا الاحياء لتعاليم الوهابية، وانبثقت الحركة الدينية المعروفة بالاخوان.."[8].

    غير أن الباحثين يؤكدون أن ابن سعود لم يرفع الشعار الديني الاّ في عام 1915م وبعد ظهور الاخوان كقوة عسكرية في معركة جراب سنة، 1914م وهي المعركة التي أبرزت حركة الاخوان وراعت انتباه ابن سعود، وان نداءه للقبائل عام 1916م هو في سبيل احتواء هذه الحركة واخضاعها لمطامحه السياسية بعد زجها في الهجر وان طلب عبدالعزيز من القبائل الأنتقال من منطقة الى اخرى والاشتغال الزراعة والفلاحة بهدف تفتيت القبائل وابعادها عن بعضها وخلطها في حواضر قبائل اخرى لتذوب ويتشتت شملها ومن هنا جاءت فكرة الهجر ويقول عسال" اقام عبدالعزيز في حياته ما ينوف عنه مائة واثنتين وعشرين " هجرة " وكانت كل هجرة منها لفخذ من قبيلة وكان سكان هذه " الهجر" يدعون الاخوان ويميزون انفسهم بعصابة يلفونها على رؤوسهم بدل العقال التقليدي "[9] .

    وبلاشك فإن فكرة إنشاء "الهجر" حملت دلالات متعددة، ولا تخلو الشروحات الآنفة من قوة، فعبد العزيز قد أضفى دون أدنى ريب معنى دينياً مفتوحاً ل على فكرة الهجرة، والتي بلا شك قد ألهمت بعض الباحثين بما في ذلك سيد قطب في "معالم في الطريق" لتكون أساساً لفكرة المجتمع المضاد الذي أراد ابن سعود تشكيله ليكون مكوناً من مكونات دولته المنشودة، فالهجرة تمثل أحد المصاهر الرئيسية لبناء وحدات اجتماعية متجانسة يراد لها أن تقضي على بذور الانشقاق الكامنة وصناعة مجتمع مؤهل للخضوع لسلطة ابن سعود.

    ينضاف الى ماسبق، أن الاخوان بالتحامهم الشديد بالتعاليم الوهابية مثّلوا الدافع الرئيسي وراء تظاهر ابن اسعود بالالتزام الديني، وهذا لا يتعارض بحال مع الدور الذي لعبه هو في اعطاء حركة الاخوان مضامين دينية تتناغم واغراضه السياسية.

    ولكن هل ثمة ما يستحق التأمل في السلوك الديني لرجال الاخوان؟

    لقد أثار بالتأكيد سلوك الاخوان فضول عدد من الباحثين والمراقبين، فقد وصف أمين الريحاني غلو الاخوان بما نصه: "وهم في غلوهم يعتقدون ان من كان خارجاً عن مذهبهم ليس بمسلم فيشيرون الى ذلك في سلامهم بعضهم على البعض..السلام عليكم يالاخوان حيا الله المسلمين .واذا سلم عليهم سني او شيعي فلا يردون السلام "[10] وعن غلوهم في ابن عبدالوهاب فيقول محمد أسد "فان الاخوان كثيراً ما كان يستحوذ عليهم شعور مغالى فيه..ان كثيراً من مفاهيمهم كانت بدائية وأن حماستهم الدينية كثيراً ما قاربت الغلو"[11]، وكانوا على درجة كبيرة من التعصب المذهبي والالتزام غير الواعي بالتعاليم الدينية ومن قصصهم " ان في كل مسجد بالرياض..جريدة بأسماء الذين يصلّون فيه يقرأها الشيخ كل يوم صباح مساء، فاذا كان احد غائباً يزوره وفد من الاخوان في بيته ..اما اذا تغيب عن الصلاة ثانية بلاسبب فيعظونه ويوبخونه واذا كرر فعلته فيبسطونه لا محالة ويعملون في ظهره النخل او الخيزران "[12].

    ولعل في هذا الغلو ما حرك شيئاً في الشاعر العربي بولس سلامة، كما في وصفه (الاخوان ) في ابيات من الشعر:

    حسبوا لحقد والتعصب ديناً أي دين يبقى مع البغضاء

    يا غلاة الاخوان ضيقتم الدين وزغتم عن منهج الحنفاء

    ما رأيتم منه سوى الكبت والحقد وابداء نقمة وازدراء

    وانتقاصاً من الشوارب والثوب وميلاً لغزوة وعداء

    قد عرفناكم جنود مليك فمتى صرتم جنود السماء

    شهداء للجهل كم من غبي مات من أجل فكرة جوفاء

    عبثاً تطلب الشراب طهوراً أن يك الخبث من كيان الإناء

    وثمة ما يدفع القادة السياسين السعوديين لنفي ضلوعهم في تغذية التطرف لدى الاخوان، ولكن ثمة عدد كبير من الباحثين يربطون تزمت الاخوان وغلوهم بإنشاء ابن سعود للمدارس الدينية التي كانت تستهدف استيعاب الاخوان ضمن تربية عقائدية صارمة وتفويض آل الشيخ محمد بن عبدالوهاب بادارتها وتغذية الاخوان بالتعاليم الوهابية بما يتلائم وطموحات عبدالعزيز السياسية يقول وهبة " لقد تشرب هؤلاء كثيراً من المبادئ والتعاليم واعتقدوا انها هي الدين وما سواها ضلالة كما اساءوا الظن بغيرهم من حضر نجد..وكان كثير منهم يعتقد ان لا اسلام لمن لم يسكن الهجر مهما كانوا عليه من الاسلام. وترك شرور البادية وعوائدها . فلا يبدأن غيرهم من هؤلاء بسلام ولا يردون عليهم السلام ولا يأكلون ذبائحهم.وذنب هؤلاء عدم الهجرة " ويزيد على ذلك "وكانوا يعتقدون ان الحضر ضالون وان غزو المجاورين واجب وانه القى عليهم هذا الواجب من قبل الله فلا يسمعون كلام احد في منع الغزو "[13]، وقد خدمت عقيدة الاخوان هذه اغراض ابن سعود فقد اصبحو تواقين الى شن الحروب على الكفار ولأن الكافر في عيونهم كان تقريباً كل من ليس من الاخوان فان حركتهم اصبحت سلاحاً في يد ابن سعود يستطيع ان يشهره في وجوه اعدائه[14]، وتمكن ابن سعود من صياغة ايديولوجية الفتح التي ملئت ذهنية الاخوان بطريقة جعلت منهم اداة فعالة في تنفيذ مآربه فقد تحولوا الى شوكة أبن سعود أيام الحروب[15]، وقد ساهمت التعبئة المذهبية في اوساط الاخوان بشكل كبير في جرهم لخوض حروب شرسة وارتكاب مجازر دموية في سبيل تحقيق مقاصد ابن سعود وفي توسيع رقعة سيطرته وقد كانت الوقعات تزداد والقتلى يزدادون عدداً كلما توسعت سيادة ابن سعود[16]، فقد كان اشباع شهوة الغزو والقتل مشتعلاً بالهوس الديني الظاهر في شعاراتهم مثل " أنا خيال التوحيد اخو من طاع الله .."و " هبت هبوب الجنة وين أنت يا با غيها .." وعقيدة متطرفة مثل" من عادى آل سعود يعادي الله ، فخذ عدو الله لعهد الله واغدر به "[17] وغيرها من التعاليم التي كان الاخوان يعتقدون أنها من صلب الدين فيما كان عبد العزيز يحقق من وراءها مكاسب سياسية.

    لقد اطلق ابن سعود جيش الاخوان ليتوسع في بلاد الجزيرة العربية، ولكن بعد سقوط شمر وعسير والحجاز واجه الاخوان قوة الانجليز التي شكلت سداً منيعاً امام زحف الاخوان. فابن سعود لم يثبت فرامل في جهاز الاخوان يحول دون اثارة القوى الكبرى في المنطقة، فقد تربى الاخوان على تعاليم ابن سعود القاضية بان كل ما لم يصل له التطهير الاخواني فهو كفر محض ولا بد من غزوه واحتلاله لأن في الغزو: اشغال الاخوان، ورفاه اقتصادي.

    ومن ابرز المعارك التي خاضها الاخوان الى جانب ابن سعود كانت في الحجاز. فقد دعا ابن سعود زعماء الاخوان وكبار العلماء وشيوخ القبائل وأعيان الحواضر الى مؤتمر عقد في الرياض في الخامس من يونيو عام 1924م شرح فيه ابن سعود وجهة نظر الاخوان فيما يخص المسألة الحجازية ورغبتهم في تأدية فريضة الحج وقرار الشريف حسين بمنع الاخوان من زيارة العتبات المقدسة، وبعد أن انتهى من عرض موقفه أمام المؤتمرين طلب من ، العلماء اصدار فتوى باعلان الحرب ضد الشريف حسين، فلبى العلماء الطلب واستعد الاخوان على الفور لتطبيق الفتوى فتقدم اربعة الآف رجل من الاخوان وقد ارتدوا احرام الحج وتجهزوا بالسلاح وتولى السلطان بن بجاد زعيم الغطغط وخالد بن نوى قيادة قوات الاخوان وأغاروا على الطائف وقتلوا حاميتها وفي السابع من صفر خرج جيش الشريف من المدينة فدخل الاخوان الطائف واوقعوا المجازر الرهيبة في سكانها ودمروا الاحياء السكنية وأعملوا السيف في رقاب عدد كبير من وجهاء مكة ونهبوا ممتلكاتهم كما قتل عدد من رجال الدين في الحجاز من بينهم مفتي الشافعية الشيخ الزواوي وابناء الشيبي، ونجا بعض من تظاهروا باعتناق المذهب الوهابي، وكان اشراف مكة يرددون " ان دعوة ابن سعود مذهبية لذلك لاتنجح خارج نجد . لا أمن في الجزيرة ولا راحة للعرب ومطامع ابن سعود تزداد يوماً فيوماً .." لقد دخل الاخوان الى مكة المكرمة والمدينة المنورة كفاتحين وانهم جاءوا لتطهير المدينتين من البدع فأزالوا المعالم التاريخية وحطموا الآثار الدينية وهجموا على المسجد النبوي وقد جاء في تقرير القنصلية الامريكية في عدن بتاريخ 17/8/1926م أن ابن سعود اطلق النار على قبر النبي.

    وقد تركت هجمة جيش الاخوان بقيادة ابن سعود على الاماكن المقدسة آثاراً سلبية وفجرت موجة من الغضب في بلاد المسلمين واحدثت عمليات الدمار ضد مدافن رجال الاسلام اصداءاً واسعة قابلها المسلمون باصوات الاستنكار والاحتجاج. ففي 3 كانون اول ( ديسمبر ) عام 1925م جاء وفد ايراني برئاسة السفير جعفر خان جلال وقام بجولة في انحاء مكة المكرمة والمدينة المنورة بعد الانباء التي ذكرت ان زعماء الوهابية من آل سعود دمرّوا قبور الصحابة واهل البيت، واضطر ابن سعود لتقديم اعتذار رسمي لرئيس الوفد الايراني الذي اشار الى ان قير السيدة خديجة والسيدة آمنة وبعض قبور اهل البيت والصحابة دمرت تماماً. وكتبت جريدة (المصور) المصرية في يوم الجمعة 4 ديسمبر 1925م تقريراً تحت عنوان " اهتمام العالم الاسلامي بتخريب الآثار المقدسة " جاء فيه "اهتم العالم الاسلامي بما تناقلته الصحف عن تخريب الوهابيين بعض الآثار المقدسة "[18] في الحجاز فأوفدت حكومة ايران لجنة لتحقيق ما حدث برئاسة السفير جعفر حان جلال. وقد تكرم بمقابلة مندوب " المصور " في فندق الكونتنتال وقال " كان اهم ما خربوه مقابر آل البيت وأخصها قبر السيدة خديجة والسيدة آمنة . قال السلطان ــ أي عبدالعزيز ــ بلغني خبر ماحدث ، حزنت لتأكدي إن لهذه الآثار حرمة وكرامة عند الكثيرين من المسلمين في انحاء العالم لذلك سأبذل جهدي في اعادة هذه الى ما كانت عليه " وبسقوط الحجاز تحت سيطرة ابن سعود بقيت عسير آخر معاقل الاتراك ونتيجة للظروف الاقليمية والدولية نجح ابن سعود في تصفية الوجود التركي في هذه المقاطعة.



    الدين في الدولة

    نشأت الدولة السعودية الحديثة في 12جمادي الأول عام 1351هـ الموافق 10ــ اغسطس سنة 1932م اثر اجتماع الطائف بين ابن سعود وجمع من رجاله وتم الاتفاق على الاعلان عن" المملكة العربية السعودية" ثم اصدر ابن سعود في 22 سيبتمبر ــ 21 جمادى الأول مرسوماً قرر فيه هذه التسمية وأصبحت السلطة المركزية بيد ابن سعود حيث" كان يمسك بيده زمام الامور بالبلاد"[19] رغبة في تثبيت سيطرته على البلاد وتركيزها واستبعاد كافة الهياكل الادارية القائمة في بعض المناطق وخاصة في منطقة الحجاز.

    واعلان المملكة بحدودها الثابتة عنى توقف حركة الزحف وحمل ذلك تهديداً خطيراً لدولة ابن سعود، فقد بات الاخوان عبئاً على الدولة الناشئة. فالاخوان أُستعملوا كأداة لتشكيل الدولة بمعنى أنها أوصلت ابن سعود الى مرحلة بناء الدولة، اما بعد قيامها فلم يعد الاخوان مؤهلين للادارة خاصة وأن ابن سعود يريد اقامة دولة بأجهزة حديثة قائمة على تحالفات واتفاقيات شراكة دولية. فقد عارض، على سبيل المثال، علماء الدين في المملكة بمرارة اتفاقية الملك عبد العزيز مع شركة سوكال على أساس انها ستؤدي الى دخول الكفار الذين سيفسدوا الشعب عبر ادخال المسكرات والصور وآلات الشيطان ولكن الملك عبد العزيز لم يعتن كثيراً بالمعارضة الدينية وتجاوزها سريعاً[20].

    كان تحقيق مشروع الفتح كإنجاز كبير للتحالف السعودي ـ الوهابي يمثل مفصلاً تاريخياً سيحدد دون أدنى شك طبيعة التحالف اولاً وطبيعة الادوار المستقبلية التي يمكن لرجال الدين ورجال الدولة ان يلعبوها بعد قيام الدولة. ومن الطبيعي ان يتغلب منطق الدولة على منطق الدين الذي أريد الحاقه بماكينة الدولة ذات الطبيعة الجبروتية، ولابد للمكر السياسي أن يتغلب على الطهرانية الوهابية، فقبول علماء الوهابية بأن يتكفلوا باسباغ المشروعية على السلطة السياسية قد اطاح بمفهوم التحالف التاريخي، وسيتطلب منهم بذل جهود مضاعفة لانتزاع جزء من سلطة كانوا يرونها حقاً لا يجوز للساسة المساس به.

    فقد ظل الطموح الديني لزعماء المذهب ومازال هو الامساك بدفة التوجيه لنظام الحكم السعودي، واحتكار كلية المجال الديني بكافة مؤسساته ومصادره واستراتيجاته الدعوية داخلياً وخارجياً، فقد ساءهم التحول الى مطية يركبها الساسة، فبدلاً من أن يكونوا مصدر التشريع تحولوا الى اداة لتسويغ الممارسات السياسية.

    لقد تبدلت بلا شك اغراض ابن سعود من الاخوان فقد أرادهم قوة فتح لبناء دولته وإن بقاء هذا الغرض في ثقافة الاخوان سيؤول للاطاحة بدولته، فكان لا بد من بديل ايديولوجي يسهم في تدعيم أسس الدولة الناشئة واستقرارها، وهذا يتطلب ابطال مفعول المشروع التوسعي وايقاف محركات التمدد خارج الحدود المقررة دولياً. وهنا تجدر الاشارة الى أن مشروع الحركة الدعوية الوهابية قائمة على أساس اعتبار ان العالم كله يمثل مسرحاً مفتوحاً لعملياتها الدعوية، بما يمثل ـ أي العالم دار حرب بالنسبة لها باعتباره مسكوناً بالمشركين والكفار وان تطهيرهم من الفساد العقائدي يتطلب غارات متصلة عابرة للحدود، وبالتالي فهذا المشروع يقف على طرفي نقيض مع الخارطة الدولية بالمعنى الجيوبليتيكي والنظام الدولي بالمعنى القانوني. في المقابل هناك دولة ابن سعود التي توقفت حدودها عند النقاط التي جرى الاتفاق عليها مع المعتمد الانجليزي، وجرى القبول بالنظام الدولي كاطار قانوني يجرى التعامل معه والتحاكم اليه باعتباره نهائياً[21].

    ولعل ابن سعود أدرك خطورة التوجه الراديكالي للمشروع الديني الوهابي، ولذلك بدّل جبهات المواجهة من الخارج الى الداخل فقد أراد ان يحفظ كيانه السياسي من أي اختراقات تنطلق من داخل حدوده بما يثير قوى خارجية اقليمية ودولية، وفضّل تحويل المشروع الوهابي الى قوة استقرار داخلية. وهذا بالضبط يفسر قرار ابن سعود توظيف "المطاوعة" في عملية الضبط الداخلي، عبر ضمهم داخل لجان الامر بالمعروف والنهي عن المنكر "الخاضعة بدورها للمديرية العامة لقوى الامن الداخلي في مرسوم ملكي عام 1930م وبذلك تمكن من توجيه مهام المطاوعه وضبط حركتهم واستخدامهم كاداة ضبط سياسية تمتد الى القرى والبوادي والأرياف وتحقق هدفاً مزدوجاً : تبليغ الدعوة الوهابية وتثبيت دعائم السلطة السياسية الحديثة في البلاد.

    وقد نشأت هيئة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر على يد الشيخ عبدالعزيز بن عبداللطيف آل الشيخ عام 1930م بالرياض ثم توسعت لتشمل مناطق اخرى في نجد والاحساء وضمت الشيخ عمر بن حسان آل الشيخ والشيخ عبدالرحمن بن اسحق آل الشيخ والشيخ عبداللطيف آل الشيخ، وانتظمت في داخل الهئية لجان تابعة لنظام لابن سعود وقد تولى حاكم الحجاز فيصل بن عبدالعزيز الملك فيما بعد ادارة الهيئة وهو بدوره كان مسؤولاً أمام أبيه الملك بن سعود. وتتلخص مهمة هذه اللجان في ملاحقة المخالفين للتعاليم الوهابية وإدخال المشتبه بهم في سجون الدولة وانزال العقوبات بمن ثبت اختراقه للتشريعات المذهبية الوهابية .

    وقد كان المطاوعه المتحدرين من قبائل مناصرة لابن سعود، فيما مضى أعضاء في حركة الاخوان وقد عملوا كجهاز فاعل في المراكز التابعة لهيئة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر في تحقيق هدفين متداخلين في آن أولاً: نشر المبادئ الوهابية عبر اخضاع المجتمع لعملية توجيه صارمة وأن تطلب ذلك استعمال القوة، وثانياً:تحقيق الولاء للنظام السعودي الحاكم. وباختصار فان "المطاوعه "ربطوا شاءوا أم ابوا بين الولاء للسلطة وبين الولاء للدين الاّ أن الغلبة كانت في نهاية الامر لولاية السلطة التي استخدمت الولاء الديني كاداة للسيطرة.

    وقد قيل بأن المنتسبين لهيئة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر قد بلغوا عشرة آلاف منتسباً في بداية تأسيسها عملوا من خلال اكثر من 120 مركزاً الا أن الرقم الحالي قد تجاوز ثلاثمائة ألف منتسباً يتوزعون على أكثر من عشرة آلاف مركزاً في أرجاء المملكة. ويصنف أغلبهم على الفئات الاقل تعليماً ودخلاً فيما كان لسوء الاوضاع الاقتصادية دور في التحاق عدد كبير من المنتسبين الى مراكز الهيئة حيث لا تفرض هذه المهنة مهارات خاصة بل على العكس فهي توفر مصدراً مالياً اضافياً لكثير من العوائل الفقيرة.

    ومنذ أن وضع الفقيه والمكي الشيخ محمد بهجت البيطار، بطلب من قاضي القضاة التابع لابن سعود عبدالله البليحد، الشروحات على مبدأ الامر بالمعروف والنهي عن المنكر بما يحدد مهام "المطاوعه "اصبح الخطاب الديني في الهيئة بمضمون سياسي مما افقد الهيئة طابعها الارشادي. وغالباً ماينظر المواطنون الى"المطوع" كرجل دولة لارجل احتساب (من حسبة) بسبب الوسائل المتبعة عند العاملين في الهيئة اضافة الى الاهتمامات الثانوية التي ركزّ عليها فيما يخص بعض الظواهر الاجتماعية كمنع التدخين ومراقبة الاسواق وملاحقة أصحاب الشعور الطويلة وسوق الناس بالعصا الى المساجد ودفع اتباع المذهب الوهابي للمداومة على صلاة الجماعة وهي اهتمامات في ظاهرها حسنة، الا أنها بمرور الوقت تحولت الى مفردات داخل المشروع السياسي السعودي.

    وبالرغم من المحاولة الجادة التي تمتت في 14 سبتمبر 1971 اثر تشكيل لجنة مؤلفة من ثلاثة وزراء ورئيس هيئات الامر بالمعروف والنهي عن المنكر لاعادة النظر في التنظيم المتعلق بمهام هيئات الامر بالمعروف والنهي عن المنكر في أنحاء المملكة، الا أن الامور ظلت تسير من سيء الى أسوأ. يؤكد ذلك تضخم جهاز هيئة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر وغياب لوائح تنظيمية محددة لوظائفه ومسئولياته، والذي وضع بدوره الجهاز والسلطة السياسية امام تحديات خطيرة داخلية.

    ان القول بانحصار رجال الهيئة ضمن حيز النشاط الدعوي يبدو صحيحاً ايضاً رغم كونهم يمثلون مجتمعين كقوة ردع داخلية، فمازال قاراً في مشاعرهم تلك الرغبة الجامحة الى ابقاء السكان تحت تأثير نشاطه الدعوي وتركيز القيم التي ناضل السابقون من اجل ترسيخها في هذه الارض المفتوحة عنوة. فقبولهم بأن يتحولوا الى وكلاء عن السلطة في حفظ الامن لن يجعلهم بحال رهن سياسة هذه السلطة حينما تستنفذ اغراضها منهم او حينما يكونوا خطراً عليها وهو ماحصل فعلاً ابان أزمة الخليج بعد احتلال العراق للكويت في الثاني من اغسطس عام 1990م وقدوم القوات الاميركية بعد ثلاثة أيام من تاريخ الاحتلال مما أثار سخطاً عارماً وسط التيار الديني السلفي، ولعل ما زاد في وتيرة السخط مشاركة عشرة الآف مجندة أميركية كن يتجولن متبرجات في الاسواق والشوارع العامة بسياراتهن العسكرية، مما اعتبره "المطاوعة" تحقيراً للمشاعر الدينية واستخفافاً بقوتهم التي لم تعد مشمولة ضمن الحسابات العسكرية في حال قررت الدولة المواجهة مع الجيش العراقي.

    وكان من بين الساخطين العلماء العاملن في هيئة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر بما في ذلك رئيس الهيئة نفسه الشيخ عبدالعزيز بن محمد بن ابراهيم آل الشيخ الذي عبّر عن استنكاره من وجود الاميركيين والاميركيات كرد فعل على انكسار معنوي ربطه بالخوف من انتشار مظاهر استفزازية لمشاعر المواطنين، فأصدر أوامره للمطاوعه والدوريات لملاحقة تلك المظاهر، الاّ أن حظه قادهُ للفصل من منصبه. وفي يوم السبت بتاريخ 28/5/1411هـ الموافق 15 ديسمبر 1990م صدر أمر ملكي عن فهد بتعيين الدكتور عبدالعزيز بن عبدالرحمن السعيد رئيساً عاماً لهيئات الامر بالمعروف والنهي عن المنكر بمرتبة وزير.

    ويعد تعيين السعيد الأول من نوعه في تاريخ الهيئة ، فقد تلقى السعيد تعليمه الديني في الجامع الازهر وهذا خلاف الرؤساء الماضين الذين تخرجوا من المؤسسة التعليمية الوهابية. وقد فُسر القرار على أنه يتناسب وطبيعة المرحلة بعد التذمر الذي ساد اوساط العلماء الوهابيين إزاء وجود القوات الاميركية.

    وفي سؤال لجريدة الرياض في 13 جمادى الآخرة 1411هـ حول التجاوزات المتكررة للصلاحيات المتاحة لرجال الهيئة من قبل الدولة رد السعيد بالايجاب، وأكد على تجاوز رجال الهيئة للصلاحيات المنوطة بهم ومن بين التجاوزات مداهمة المنازل والتدخل في شؤون الغير والتشهير بمرتكب مخالفة ما، كما أشارت الجريدة الى تطرف رجال الهيئة في انكار المنكر ودعت الجريدة الى محاكمة رجال الهيئة فيما يتصل بالممارسات والسلوكيات الخاطئة.

    ولعل من المفيد الاشارة الى أن الارتفاع الفجائي في مداخيل النفط عام 1973 [22]، مكّن السلطة السياسية من توظيف الدين بكفاءة عالية وبسط سيطرتها على النشاط الديني عموماً. فاعتماد علماء الدين على الملك في الحصول على مخصصات مالية قد أدى الى زيادة سلطته الفعلية مع تدن مواز في مساهمة العلماء في تقرير المستقبل الاقتصادي والاجتماعي للبلاد[23].

    فالتنامي المتواصل لسطوة الدولة قد أدى وبوتيرة متزايدة الى انخفاض السلطة المستقلة للعلماء الذين باتوا ينشدون بدائل للحفاظ على قدر من التخارج مع الدولة. فالاخيرة ـ كما أدرك العلماء ـ تنزع الى تشديد الولاء الداخلي حولها وهذا يتحقق باندكاك العلماء في خط سير الدولة العام، وهذا يتطلب ايضاً انحباس العلماء ضمن آلية العمل المعدّة لهم والموضوعة في الاصل من قبل الدولة لابقائهم داخل أتونها السياسية. وبلا شك فإن قراراً كهذا قد خيّب آمال العلماء خلافاً لمقتضى التحالف التاريخي الذي انتهى الى تهميش دورهم واستثمارهم كقوة اسناد للسلطة وليس شريكاً تتقاسمها مع القادة السياسيين. ويشرح ذلك أيمن الياسيني بالقول "ان "العلماء "الحقوا بادارة الدولة فأصبحت قوانين الدولة تنظم نشاطات "العلماء ".والدولة بحكم تفردها بالسلطة وبالموارد واضطرارها الى صيانة استقلالها، لاتسمح بوجود سلطة دينية مستقلة اخرى ربما نافستها في كسب ولاء المواطنيين، وعلى ذلك وسعت الدولة سلطاتها ليشمل القطاع الديني"[24].

    وكان خضوع العلماء تحت وطأة السلطة المركزية قد فرض نمطاً صارماً من التفسيرات الدينية الموجهة غرضاً لدعم التوجهات السياسية السائدة كما حصل في تجارب الحكم السابقة يقول حليم بركات(ان العلماء شكلّوا طبقة وخضعوا للحاكم في غالبية الحالات وفسرّوا النصوص الدينية من منظور الطبقات الحاكمة،..بسبب اقوال نشرّها بعض العلماء مثل الماوردي وابن تيميه على ان الخليفة او السلطان هو "حكم الله في بلاده وظله الممدود على عباده "و "امام عادل خيرمن مطر وابل، وامام غشوم خير من فتنة تدوم "و "طاعة الائمة من طاعة الله وعصيانهم من عصيان الله"و "اذا كان الامام عادلاً فله الاجر وعليك الشكر واذا كان الامام جائراً فله الوزر وعليك الصبر"[25].

    فانثيال طبقة العلماء بطريقة مذهلة نحو الصراعات السياسية الداخلية أفقر قدرتهم على المناورة خارج اطار المساحة الجغرافية لنجد. فاصدار الفتاوى لتبرير اجراءات السلطة السياسية حرم العلماء من القدرة على بناء تحالف خير حدود نجد، فكل المناطق الاخرى داخل حدود الدولة السعودية قد أصابها القرح من فتاوى العلماء. ففي حربه مع اشراف الحجاز، كان ابن سعود يثير الاشرف لمنع الحج فيما يقوم هو بتحريك العلماء ويثير فيهم الحمية الدينية بهدف اصدار الفتاوي الرامية الى التعبئة العسكرية العامة في صفوف الناس بقيادة ابن سعود لتنتهي المناورة السياسية الى حرب مقدسة يكون الرابح الأول فيها هو ابن سعود نفسه فيما يتساقط الآف الأبرياء ضحايا فتوى العلماء!!

    والحال نفسه تكرر في الصراع الداخلي في الأسرة المالكة في قصة إقالة الملك سعود بن عبدالعزيز والتي نفذها فيصل واخوته وحتى تكون الاقالة نافذة ومشروعة نجح محمد بن عبد العزيز في الحصول على مساندة افراد العائلة لفيصل وطلب من عميه عبد الله ومساعد ابناء عبد الرحمن بالحصول على مساندة العلماء حيث عقدت سلسلة من الاجتماعات مع العلماء في 29 مايو 1964 فأصدروا قرارهم بالابقاء على الملك سعود كعاهل للبلاد فيما يقوم فيصل بادارة كافة شؤون الدولة الخارجية والداخلية خلال وجود سعود او غيابه دون الرجوع اليه. وفي اليوم التالي اجتمع سبعون من الامراء في قصر محمد بن عبد العزيز واطلق الحاضرون على اجتماعهم "أهل الحل والعقد" وأسفر عن اجماع على ازاحة سعود عن العرش.

    وبهذا تحوّل العلماء الى ورقة من اوراق اللعبة السياسية السعودية، جرى استعمالها في مناسبات عديدة لخدمة اغراض محددة. فالحاق العلماء بمؤسسة الحكم أريد منه تحديداً توفير ختم المشروعية لاضفاء الطابع الاسلامي فقد جرى توظيفهم في تأييد قرارات الحكومة الداخلية (الاعدامات واستقدام القوات الاجنبية، وقمع التمردات). ففي أحداث مكة في ديسمبر 1979 حصلت العائلة المالكة على أصوات 32 من كبار العلماء لاستخدام القوة ضد حركة جهيمان. وفي واقع الامر أن حركة العلماء جمدت عند حدود توفير الغطاء الديني لممارسات السلطة، وكان قبول العلماء بهذا الاطار فرض عليهم الخضوع للعبة السياسية بكافة أشكالها، وان تطلب اتخاذ مواقف متناقضة.



    في الحلقة القادمة: السياسة الدينية السعودية




    --------------------------------------------------------------------------------

    [1] - د. صالح بن فوزان الفوزان/ كتاب التوحيد ص 7

    [2] - المصدر السابق ص 24

    [3] - ديكسون/ الكويت وجاراتها

    [4] - الخليج العربي ..دراسة لتاريخ الامارات العربية ص 90

    [5] - الكويت وجاراتها / ديكسون ص 254

    [6] - جلال كشك/ السعوديون والحل الاسلامي / ص 556

    [7] - العطار/ صقر الجزيرة

    [8] - محمد المانع/ الجزيرة تتوحد ص 559

    [9] - معجزة فوق الرمال / ص 64

    [10] - امين الريحاني/ ملوك العرب / ص 569/ 570

    [11] - محمد أسد/ الطريق الى مكة

    [12] - الريحاني/ ملوك العرب / ص 564

    [13] - حافظ وهبة/ جزيرة العرب في القرن العشرين ص 312

    [14] - المانع/ توحيد المملكة العربية السعودية ص 112

    [15] - الريحاني/ ملوك العرب / ص 571

    [16] - المصدر السابق ص 511

    [17] - تالريحاني / اريخ نجد الحديث / ص 64

    [18] - الريحاني، ملوك العرب، ص 507

    [19] - د. عيد الجهني، مجلس الوزراء في المملكة العربية السعودية ص 59

    [20] -Nadaf Safran, Saudi Arabia,: Ceaseless Quest for Security, p.61

    [21] - في عام 1915 وقع ابن سعود اتفاقية الحماية مع بريطانيا والتي سمحت له بالسيطرة على كافة مناطق الجزيرة التي احتلها، كما قدمت له قدراً قليلاً من المساعدة فيما اضطلعت هي بمسئولية ادارة الشؤون الخارجية وفي جدة عام 1927 منحت بريطانيا ابن سعود استقلالاً تاماً في مقابل اعترافه بسيادة بريطانيا على قطر والبحرين وعمان والمشيخات المتنازعة (دولة الامارات العربية المتحدة حالياً): انظر: The Economist Intelligence Unit:Country Report 1992-1993 Saudi Arabia pp.3ff

    [22] - كلود فوييه/ النظام السعودي بعد ايران/ص 9

    [23] - اميل نخلة/اميركا والسعودية الابعاد الاقتصادية والسياسية والاستراتيجية ص 36

    [24] - أيمن الياسيني/ الدين والدولة في المملكة العربية السعودية /المقدمة

    [25] - ندوة(الاسلام والحداثة) عام 1989م بلندن عنوان البحث "الدين والسلطة في المجتمع العربي المعاصر "
    "أن تشعل شمعة خير من أن تلعن الظلام"
    كونفوشيوس (ع)

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Nov 2002
    المشاركات
    4,192

    افتراضي

    الدين والدولة في المملكة العربية السعودية
    السياسة الدينية: عقد الطائفية
    (2 من 3)



    محمد فؤاد

    هل ثمة سياسة دينية واحدة في السعودية أم سياستان..واحدة تضعها الحكومة واخرى تمليها المؤسسة الدينية الرسمية، وهل هناك أغراض محددة يراد تحقيقها من وراء السياسة الدينية إن وجدت؟

    هذا السؤال يثار ويكتسب غالباً أهميته حين تدهم أسماعنا انباء عن تورط علماء دين كبار في فتاوى تمثل دعوة شبه صريحة الى حرب اهلية، وهكذا طبع وترويج كتب تحريمية تنال من شرائح كبيرة من المواطنين وتوصمهم بالكفر بما يتبطن حكماً بالقتل، ثم تتجشم مؤسسات تابعة للدولة سواء داخلية مثل هيئة الامر بالمعروف او الدفاع المدني او هيئة الاغاثة أو خارجية مثل منظمات دعوية عابرة للقارات عبء ترويجها في مناطق محددة، وتندرج ضمن الدعاية الدينية المضادة التي تقوم بها المؤسسة الدينية ضد المذاهب الدينية الاخرى السنية والشيعية على حد سواء.

    السؤال الافتتاحي يتكرر طرحه ايضاً حين تفاجئنا نشرات الاخبار عن اكتشاف شبكات ارهابية ينتمي اعضاءؤها الى مذهب الشيخ محمد بن عبد الوهاب، بل ويزداد الالحاح على السؤال حين يظهر فيما بعد أن أعضاء هذه الشبكات خدموا وعملوا في مشاريع دعوية وسياسية تحت رعاية الحكومة. فالمشروع الجهادي الافغاني الذي تدشن وتموّل من الحكومة السعودية وبدعم وادارة المخابرات المركزية الاميركية إلتحق به اسامة بن لادن وتقريباً كل المجاهدين السعوديين فضلاً عن العرب الذين تحوّلوا فيما بعد الى الرأسمال البشري لتنظيم القاعدة، وهذا ما اضطر الامير تركي الفيصل (رئيس الاستخبارات العامة السابق) لكتابة مقال تبريري في الواشنطن بوست لنفي أي علاقة له بموضوع الارهاب واحداث الحادي عشر من سبتمبر. ويتواصل طرح السؤال في الشيشان ودور المجاهدين السعوديين المترمّزين في الشخصية الاسطورية لخطاب.

    وفي الواقع ظل السؤال يحقق مشروعية وأهمية امام كل المشاريع الدعوية التي ترعاها المؤسسة الدينية الرسمية في المملكة أو حتى يموّلها اثرياء سعوديون او مؤسسات سعودية تجارية او خيرية. فهذه المشاريع اجتذبت مجاميع شبابية في أوروبا واميركا وخصوصاً من الجاليات المسلمة، واستطاعت عبر مناشط دعوية مكثفة ان تزرع مفاهيم دينية خاصة وايديولوجية كونية محددة ألهمت هذه المجاميع برؤية صارمة لذاتها، ولمن حولها ولسبل استبدال الواقع المحلي واستطراداً ارساء معالم حركة انقاذ كونية تستلهم من التعاليم الدينية للشيخ محمد بن عبد الوهاب حول براثن الجاهلية، والممارسات البدعية، وانغماس العالم في الشرك وضرورة التوحد حول مبدأ عبادة الله وحده وازالة مظاهر الشرك ونشر الدعوة في الآفاق.

    وكمدخل للاجابة عن السؤال المركزي لابد من اضاءة سريعة للتحول الشديد في علاقة الدين بالدولة السعودية في مرحلة ما بعد قيام الدولة.

    في العام 1930 نجحت حملات ابن سعود ضد الاخوان في ارساء الاسلام الوهابي كدين للدولة. وقد عنى ذلك بأن العلماء الكبار المنضوين داخل مؤسسة الدولة سيضطلعون بالسلطة الدينية، وهكذا فإن المواقف الدينية التفويضية ستتم من خلال هؤلاء العلماء وليس من قبل علماء منافسين خارج مؤسسة الحكم. كما عنى قرار ابن سعود بأنه ليس بامكان كبار العلماء العمل بصورة مستقلة وانما عن طريق اطارات تدار من قبل الدولة ومؤسسات تمولها. وأكثر من ذلك فإن مصلحة الدولة، كما يعرّفها كل من الملك والحكومة، ستكون لها أولوية فوق المصالح الاسلامية. وهكذا، فإن الاسلام الوهابي سيبقى نظاماً اخلاقياً وقوة توحيدية ومحركاً ايديولوجياً للمجتمع وحصراً في نجد، ولكن بالتطابق مع مصالح الدولة وشرعنة الحكم الملكي السعودي.

    فالنظام السعودي قد طبّق لتحقيق هذا الغرض مبادىء عدة من الاسلام مختلطة بممارسات ومؤسسات الدولة: فقد عملت الشريعة كمصدر رئيسي للقانون وكدستور. فالمنظومة الحكمية الوهابية لادارة السلوك العام، والتعليم، والحياة الفكرية قد جرى تشكيلها من خلال محاضرات ومواعظ العلماء. على أنه يجب التذكير بأن ليس في العقيدة الوهابية ما يشير الى مبادىء سياسية او قوانين لادارة الحكم. فالنظام السياسي تطور بناء على مصالح الدولة.، حيث ان العائلة المالكة، ووزراء الحكومة، والنخبة التجارية والحكام المحليين يعملون بصورة مشتركة لادارة النظام.

    في العام 1929-1930 تعرضت المجموعات القبلية التابعة للاخوان لهزيمة ساحقة وتبعاً لها سقط ايضاً نموذج الاسلام الذي كانت هذه المجموعات تحمله، مع أن بذور السخط بدأت بالتكاثر في مراكز نشأة الاخوان وقلب الوهابية التي عارضت في داخلها تلك السيطرة السعودية غير الكفوءة مفضلين نظاماً مختلفاً، تكون فيه أهداف الاسلام حاكمة ومهيمنة على مصالح الدولة.

    فالسلطة الدينية رغم المساعي المكثقة لابقائها ضمن احتكار الدولة وفي يد علماء كبار يعملون من خلال مؤسسة الحكم، الا أن ثمة علماء آخرين كانوا ومازالوا يخرقون جدار الاحتكار ويقدمون اجتهادات مخالفة أحياناً لتفسيرات علماء المؤسسة الدينية الرسمية ولسياسات الدولة.

    وعلى أية حال، فإن التوجه الديني للدولة السعودية لم يكن قابلاً للاحتفاظ بوتيرته التقليدية في ظل تحولات اقتصادية واجتماعية كبيرة. فتحولها الى دولة منظمة في الثلاثنيات واتجاهها نحو التنمية الاقتصادية والحكم المركزي أملى عليها تنظيم شبكة من الروابط الداخلية بين الحاكم والطبقات الدنيا وهكذا تنشئة علماء كبار مؤهلين لدعم واسناد التوجهات السياسية للدولة السعودية الناشئة.

    اصرار القيادة السعودية على استيفاء النصاب الديني لسلطتها السياسية فرض عليها الانفراز بصورة حادة ضمن الطيف السياسي العام السائد في الشرق الاوسط، كما فرض عليها استعمال السلاح الديني بافراط شديد لحفظ تماسكها الداخلي ودرء الاخطار الخارجية. واذا كان أهداف الدين خاضعة لتبدلات سياسية، فقد أسفرت الاهداف السياسية المتبدّلة عن تبني القيادة السعودية لسياسات دينية مختلفة، طبقاً للقوى المنافسة وطبيعة التحديات التي تفرضها على الحكومة السعودية في كل مرحلة.

    لقد كرّست القيادة السعودية جهودها من اجل ادخال الدين كعنصر رئيسي في النزاع السياسي مع خصومها المحليين والخارجيين، الامر الذي يمنح القيادة السعودية جرعة اضافية في مواجهة خصومها. كتب فاسيليف "ان تعمق المشاعر الدينية في الاقطار الاسلامية يضفي صبغة اسلامية على الكثير من النزاعات الاجتماعية والسياسية الجارية فيها ولذلك تزداد في العالم الاسلامي أهمية العربية السعودية بادية الحرمين"[1].

    ـ "موت أميرة" و"آيات شيطانية": نموذج لاختبار العامل الديني

    في تاريخ 9أبريل سنة 1980م عرضت محطة تلفزيون بريطانية مستقلة فيلماً بعنوان (موت أميرة) يصوّر قصة حب بين اميرة سعودية تدعى مشاعل وشاب لبناني كانا يدرسان في الجامعة الاميركية ببيروت، وبعد أن اكتشفت الاسرة الحاكمة قصة الحب هذه نفذت حكم الاعدام بالاميرة وذلك في صيف عام 1977م. علاوة على ذلك عكس الفيلم اوضاع الحياة داخل قصور بعض الامراء السعودييين، وقامت بعض دور السينما في اوربا بعرض الفيلم في اوربا لفترة قصيرة للغاية وجاء رد الفعل السعودي سريعاً وغاضباً. فقد اعتبر القيادة السعودية ذلك حرباً على الاسلام وحملّت المسلمين قاطبة مسئولية الدفاع عن الاسلام. ففي مقابلة لوزير الداخلية السعودي نايف بن عبدالعزيز مع جريدة عكاظ في تاريخ 15/4/1980م قال نايف:"انه مقابل هذا العمل العدواني ضد الاسلام والمسلمين يجب ان يقابل بعمل مماثل يدحره والمسئولية هنا على الجميع فالأمر لايخص المملكة العربية السعودية وحدها ولايخص حكومتها بل يخص المسلمين جميعاً "

    كما جرت لقاءات مكثفة مع سفراء السعودية في الدول الاوربية حول القضية وأدلوا بتصريحات مماثلة لتصريحات الامير نايف، فيما عقد مجلس الوزراء في 23/4/1980م ناقش فيه العلاقات السعودية ــ البريطانية بعد عرض الفيلم.

    من جهة ثانية، نددت رابطة العالم الاسلامي بالفيلم على لسان أعضائها الذين اعتبروا ذلك تشويهاً للاسلام "ومخطط واسع النطاق يستهدف الاسلام والأمة العربية "[2]، كما صرح امين الرابطة لوكالة الانباء السعودية بتاريخ 13/4/1980م "ان الاسلوب الذي تمارسه هذه الاجهزة التي تسيطر عليها القوى الصليبية والصهيونية العالمية ضد المسلمين ومعتقداتهم هو اسلوب دعائي "وهذا ما كرره مسؤولون في الحكومة السعودية في وسائل الأعلام. وانبرت الصحف السعودية لشن حملة دفاعية واسعة النطاق فجاءت عناوينها على النحو التالي: الجزيرة( قادرون على ردع الاعداء) و( حرب الصحوة الاسلامية)، عكاظ( الحملة الاعلامية الغربية)، البلاد( الحملات المغرضة) المدينة( المسلمون لن يسكتوا على المكائد) الندوة( الحملات المسمومة ضد الاسلام) اما بيان مجلس القضاء الاعلى السعودي فقد نعت الفبلم بـ "الفيلم الكافر "وشنت الحكومة السعودية حملة اعلامية ضد الدول الغربية التي عرضت فيها الفيلم مثل هولندا وامريكا وهكذا الدول العربية التي شارك بعض حملتها في هذا الفيلم وخاصة مصر، واتهمت الحكومة السعودية كلا من الصهيونية والصليبية والشيوعية كلها واعتبر ذلك اتفاقاً لضرب الاسلام بعرض الفيلم، وقد طالبت الصحافة السعودية برد حاسم وعنيف ضد الغرب وعلى حد قول صحيفة الانباء الكويتية انه "حث الصحفيون السعوديون اليوم على الرد بعنف باستخدام كافة الاسلحة التي تمتلكها المملكة وفي مقدمتها الحرب الاقتصادية "[3]، فيما حركت الحكومة السعودية السفراء العرب في لندن لتوحيد الموقف ضد بريطانيا والضغط عليها للحيلولة دون عرض الفيلم، بل وطالبت الحكومة السعودية بمقاضاة التلفزيون البريطاني.

    وكانت نتيجة عرض الفيلم أن قاطعت الحكومة السعودية البضائع البريطانية ووصلت العلاقات بين البلدين الى حد القطيعة كما توترت علاقات السعودية ببعض الدول الغربية التي سمحت بعرض الفيلم لفترة طويلة.

    وبعد أقل من عقد من الزمن شهد التوجه الديني السعودي تحدياً آخر ولكنه هذه المرة لا يتصل بسمعة العائلة او أحد أفرادها وانما يتصل بنبي الاسلام. وهذا التحدي تمثل في صدور كتاب "الآيات الشيطانية" لمؤلفه سلمان رشدي المؤلف البريطاني من اصل هندي وقد صدر هذا الكتاب عن دار النشر البريطانية (فايكنج بنجوين )في 5/9/1988م، تطاول فيه في مواضع عدة على نبي الاسلام محمد( ص) ونبي الله ابراهيم( ع) وبعض صحابة رسول الله وزوجاته.

    لم يمض وقت طويل على صدور "الآيات الشيطانية "وقبل أن يجد طريقه الى الاسواق حتى انفجرت موجة غضب عارمة في مناطق عديدة من العالم لاسلامي. وفي يوم 14فبراير عام 1989م اصدر مرشد الثورة الاسلامية في ايران آية الله السيد الخميني فتوى تدعو الى اهدار دم المؤلف بما نصه: "إنني أبلغ جميع المسلمين في العالم بأن مؤلف الكتاب المعنون “الآيات الشيطانية "الذي ألف وطبع ونشر ضد الاسلام والنبي والقرآن، وكذلك ناشري الكتاب الواعين بمحتوياته، قد حكّموا بالمـوت، وعلى جميع المسلمين تنفيذ ذلك أينما وجدوهم، كي لايجرؤ أحد بعد ذلك على إهانة الاسلام ومن يقتل بهذه الطريقة فهو شهيد "

    ومن جهة ثانية بثت اذاعة طهران رسالة وجهها السيد الخميني الى مسلمي العالم جاء فيها "إنني أطلب من جميع المسلمين في العالم تنفيذ الاعدام سريعاً في الكاتب والناشرين في أي مكان في العالم لئلا يجرؤا أحد في المستقبل على الاسائة الى الاسلام "

    وفور صدور الرسالة انفجرت المظاهرات الشعبية التي عمت اغلب المدن الايرانية تندد بالكتاب والكاتب كما اعتصمت جموع غفيرة أمام مبنى السفارة البريطانية في طهران فيما دعى وزير الخارجية الايراني في 15/فبراير الى عقد اجتماع طارئ لمنظمة المؤتمر الاسلامي لمناقشة قضية الكتاب.

    من جانب آخر خصص حسن صانعي احد العلماء البارزين في ايران مكافأة مقدارها 3 ملايين دولار لكل من ينفذ حكم الاعدام في المرتد سلمان رشدي، وكان من بين القرارات التي اتخذتها القيادة الايرانية تجميد علاقاتها مع الدول الاوروبية التي سمحت بنشر الكتاب، وقد كلفها ذلك حسب ما ذكره احد المقربين من الحكومة ــ مليارين دولار انفقتها ايران في وقت سابق لترميم علاقاتها باوربا. وفي السابع من مارس من نفس العام قطعت ايران علاقاتها مع بريطانيا ثم تابعت بقطع العلاقات مع دول أوروبا.

    وما حصل في ايران تكرر في ساحات اخرى من بلاد المسلمين التي هبت لما يمكن وصفه بالدفاع عن كرامتها ومقدساتها فقد عمت المظاهرات الباكستان و الهند وبنكلادش وماليزيا واندونيسيا.وقد خرج المسلمون الهنود في مظاهرة احتجاجية في بومباي مسقط رأس سلمان رشدي رغم انتشار اكثر من 5 الآف شرطي مسلح فيما اعلن حزب المؤتمر الاسلامي في سريلانكا عن تأييده لفتوى السيد الخميني وأعلن مؤكداً: "ان قتله و اهدار دمه ليس موضع شك"

    وفي هونج خرج المسلمون في 26 فبراير طالبوا بريطانيا بحظر نشر الكتاب الذي وصفوه بأنه اعتداء شيطاني على الاسلام..كما خرج اكثر من عشرة الاف مسلم امريكي في مظاهرة في نفس اليوم أمام مكاتب دار "فايكنج بنجوين "الناشر الاصلي للكتاب وامام القنصلية البريطانية واحرقوا دمى لرشدي وطالبوا باعدامه وحظر كتابه كما طالب المسلمون في منطقة البحر الكاريبي بحظر الكتاب لما يحتوي على اساءات مقصودة لمشاعر المسلميين، وتظاهر 20 الف مسلم في مدينة مارواوي بجنوب الفلبين وهددوا بشن حرب جهادية مالم تحظر الرئيسة كورازون أكينو دخول رواية رشدي الى الفلبيين .

    وفي 19 مارس عقد 60 عالماً من مختلف مناطق ماليزيا، اعضاء في رابطة العلماء المسلمين اجتماعاً بخصوص كتاب رشدي واعلنت على لسان رئيسها ان الكتاب يشكل أهانة للمسلمين ولايمكن تجاهله باعتباره مجرد خيال قصصي، كما ايدت الرابطة فتوى اهدار دم المؤلف.

    ولاننسى ما جرى في بريطانيا التي شهدت عاصمتها( لندن) مظاهرة عارمة نظمها المسلمون عبروا فيها عن مطالب المسلميين في العالم باحراق الكتاب واعدام المؤلف والناشرين حيث بلغ عدد المتظاهرين قرابة ربع مليون مسلم بعد النداء الذي وجهه العلماء المسلمين في بريطانيا...

    على الضد من النشاط الاحتجاجي العارم في أرجاء عديد من العالم، التزمت الحكومة السعودية موقفاً فاتراً وربما صامتاً .وحينما خرجت الحكومة السعودية من صمتها كان خروجها على استحياء مثير للغرابة، فقد اكتفت بتكليف رابطة العالم الاسلامي للاعلان عن موقفها بشأن كتاب رشدي فأصدرت الرابطة بياناً وقعه امينها العام د.حامد العابد طالب الناشرين "بعدم المساهمة في ترويج الكتاب "[4] فيما ذكر الامين العام لمنظمة المؤتمر الاسلامي التي تتخذ من جدة مقراً لها "إن المنظمة لايمكنها ان تنتقد قراراً سياسياً اتخذه احد اعضائها "مشيراً في ذلك الى ايران لأن قائدها اصدر فتوى دعى فيها الى اهدار دم الكاتب حتى لايجرؤ احد في المستقبل على الاهانة للاسلام.

    وحتى ادراج موضوع الكتاب في اجتماع وزراء خارجية الدول الاسلامية الذي انعقد في السعودية في شهر مارس 1989م انما تم بناء على طلب الجمهورية الاسلامية الايرانية كعضو في المنظمة وجاء الخبر بطريقة باهتة فقد ذكرت وكالة الانباء الاسلامية في جدة في (8/3/1989) "انه تم ادراج الجدل المثار حول المؤلف البريطاني سلمان رشدي وكتابه "أشعار شيطانية "رسمياً في جدول اعمال اجتماع وزراء خارجية الدول الاسلامية "وابلغ الدكتور احمد العابد السكرتير العام لمنظمة المؤتمر الاسلامي[5] ولم يذكرها بالاسم وكان يشير في ذلك الى ايران.

    ولم يتجاوز الموقف السعودي حد الاستنكار الاعلامي والذي لايكشف عن موقف سياسي رسمي فضلاً عن اجراءات معينة اعقبت هذا الاستنكار، بل ان الصحيفة السعودية (الشرق الاوسط) الصادرة في لندن بتاريخ 23/2/1989م ذهبت بعيداً في موقفها من كتاب (سلمان رشدي) فاضافة الى ادانة الصحيفة لفتوى اهدار دم المؤلف، فقد دعت الى ايقاف احتجاجات المسلمين في العالم ضد كتاب رشدي مشيدة بدور ما ٍأسمته بالتيار المتزن الذي رفض مظاهر الغضب والاحتجاج في اوساط العالم الاسلامي بحجة ان هذا التيار "تنبه لخطر استغلال اعداء الاسلام هذه الضجة للترويج لأفكارهم وممارساتهم العنصرية "

    اذن فالحكومة السعودية لم تتعامل مع حدث "الآيات الشيطانية "بالطريقة التي تعاملت بها مع "موت اميرة " فلم يصنّف الكتاب ضمن هجمة صليبية صهيونية على الاسلام، ولم يدع المسلمون الى تحمّل مسئوليتهم الشرعية في الدفاع عن الاسلام، ولم يناقش موضوع العلاقات السعودية ــ البريطانية، ولم يتحرك السفراء العرب في اوربا للضغط على الحكومات الغربية بعدم نشر الكتاب، ولم تقطع تعاملها التجاري مع بريطانيا، ولم تجمد علاقاتها معها.

    ثمة في تاريخ السعودية قصص كثيرة وقعت بشأن كتب اسلامية تعامل معها الحكام السعوديون بصورة حازمة وصارمة. ففي عام 1955م اصدر سليمان بن عبيد قاضي آل سعود في الظهران بالمنطقة الشرقية أمراً باحراق كتاب ( دعائم الاسلام ) وهو كتاب فقهي، كما أحرق كتاب( ابو الشهداء) لعباس محمود العقاد بعد مصادرة الكتاب الذي تناول فيه العقاد قصة شهادة الحسين بن علي(ع)، كما أصدر المفتي السعودية الشيخ محمد بن ابراهيم حكماً بالاعدام على مؤلف كتاب( ابو طالب مؤمن قريش) الشيخ عبدالله الخنيزي الذي اعتمد في كتابه على مصادر عامة المسلمين اثبت فيه إيمان ابي طالب مما اثار ذلك الحكومة السعودية التي ترى خلاف ذلك فقررت اعدام الكاتب ولولا توسط الحكومة الايرانية ــ في عهد الشاه ــ الذي حال دون تنفيذ الحكم.

    ونشير هنا الى أنه بعد صدور كتاب رشدي بفترة قصيرة، أخرج الغرب فيلماً سينمائياً بعنوان (عشتار) وتم تصوير مشاهد الفيلم في ارض المغرب، كلفت نفقاته 40 مليون دولار غطتها هوليود الاميركية، وهذا الفيلم لا يقل حقداً واساءةً وقدحاً وتعريضاً من "الآيات الشيطانية "..فقد عمد مخرج الفيلم اليهودي الى تشويه صورة الاسلام والنيل من معتقدات المسلمين . وهنا ايضاً تتكرر نفس التساؤلات السابقة حول رد الفعل السعودي.

    ان عقد المقارنة بين "موت أميرة" و"آيات شيطانية" تفيد في توكيد النزوع المتعاظم نحو ابقاء الدين ضمن حدود المصالح السياسية، ولا شأن لها بالروح الخفية للدين، فالقيادة السعودية شأنها في ذلك شأن أغلب دول العالم تسعى لتحقيق أكبر قدر من الفائدة من المخزون الطبيعي والديني والتاريخي لتعزيز شرعيتها السياسية وآهليتها للحكم لا أقل أمام شعبها.

    وقد تجدر الاشارة هنا الى دور موقع الحرمين الشريفين في اضفاء صبغة دينية على سلوك الحكومة السعودية، وصورتها العامة وقراراتها السياسية. فحتى وقت قريب، كانت الحظوة التي تتمع بها شبه الجزيرة العربية باحتضانها الحرمين الشريفين قد نحلها طابعاً قدسياً وأضفى على شعبها وحكومتها مسحة دينية مميزة أمدّت القيادة السعودية بقدرة على تحشيد الرأي العام الاسلامي في قضايا سياسية محضة، وهكذا يبدو ايضاً للمسلم في المناطق البعيدة. ينقل فهمي هويدي في كتابه (حدث في افغانستان) قصته مع بعض المسلمين الافغان ويقول "يسألك الافغاني قبل ان ترفع الكوب الزجاجي الى فمك:من السعودية ؟..الخ "ويعلق هويدي على ذلك بالقول "يثير انتباهك هذا التعلق الغريب بالاراضي المقدسة عند الافغان"[6]. وهذا التعلق بلا ريب يغري القيادة السياسية السعودية لكسب المزيد من الاصطفاف الاسلامي خارج الحدود في نزاعاتها مع قوى منافسة خارجية او معارضة داخلية.

    وقصة اخرى من افريقيا ذكرها السيد احمد حسين احمد دحلان فيقول "ولقد مرّت عليّ أنا شخصياً تجارب اكدت لي عمق هذا الشعور وذلك في زيارتي لبعض الدول الاسلامية في افريقيا وآسيا عندما اتجول مع بعض زملائي الرسميين من دول اسلامية اخرى في الشارع نحتك بالمواطنين، فألقى من الاهتمام اكثر مما يلقاه زميلي الرسمي المسلم من دول اخرى حتى ولو كان اكثر ارتباطاً بهم.وهو اهتمام لا صلة له بمنصبي الرسمي مطلقاً.وسببه الوحيد هو:أنني قادم من المملكة العربية السعودية، ثم يبلغ ذلك الاهتمام قمة الحب وعمق التعبير عندما يتضح لهم أني من مكة قبلة الاسلام"[7].

    لقد جرى تثمير المشاعر الدينية العميقة لدى سكان هذه المناطق في بناء مخيالية دينية عن المملكة تغذت على الشعارات الدينية معضوداً بعنصر المال الذي ساهم في توهج الصورة الدينية السعودية. فتأكيد البعد الاسلامي للسياسة السعودية يمثل ضمانة أكيدة للاستقرار الداخلي وللتفوق العنصري بحيث يخرج العائلة المالكة من المعادلة القبلية المتشابكة ويضعها في مرتبة تسمو على الانتماءات القبلية أي في مرتبة تمثيل الدين الذي جاء لمحو القبيلة بداخله، مع التذكير بافتقار العائلة المالكة الى الامتياز النسبي الذي يتمتع به الاشراف في الحجاز مثلاً. ولذلك بات ضرورياً الرجوع وبصورة دائمة الى الاسلام بوصفه "سلاحاً جوهرياً في سبيل ارساء قاعدة شعبية واسعة تتخطى اطار القبيلة.." وعلى الضد من الحكومة السعودية "كانت سلطة الهاشميين تقوم على الانساب الدينية، اذ كان اشراف مكة يستمدون شرعيتهم من كونهم من أعقاب النبي (ص)"[8].

    ويرى وليام كوانت بأنه "مهمٌ جداً بالنسبة للسعوديين ان يظهروا تبنيهم للقضايا الاسلامية مثل معارضتهم لسيادة "اسرائيل" على القدس، والغزو السوفيتي لافغانستان" لأن ذلك يمثل جانباً مهماً في مصداقية وشرعية الحكومة السعودية. ويضيف كوانت "ان البعد الاسلامي للسياسة السعودية الخارجية قد تعزز ببروز تحدي الثورة الاسلامية في ايران المجاورة"[9]، خاصة وأن الثورة كانت داعية لتضارب الاسلام والملكية التي أطاحت بها.

    الخطاب الديني القادم على ناقلة الدولة تحوّل الى قوة جذب فاعلة امتد بتأثيراته خارج الحدود. فقد سحر هذا الخطاب علماء كبار كالشيخ محمد رشيد رضا. يقول عنه البرت حوراني "كان صوفياً تأثر بأفكار الغزالي ثم ما لبث أن شعر باخطار الصوفية من خلال تجاربهم..كانت هذه الخبرة احد العوامل التي حملته في السنوات اللاحقة على التقرب من تعاليم ابن تيمية ومسالك الوهابيين، بالرغم من انه عندما كتب سيرة حياته لم يكن قد تعرف بعد الى ابن تيمية الاّ من خلال كتابات اخصامه ولم يكن عرف شيئاً عن الوهابيين سوى رفض السنة لهم وبعض الاساطير عنهم كالتي تروى انهم كانوا يربطون خيولهم في جامع النبي "[10].

    لقد خضع رشيد رضا تحت تأثير الخطاب الديني الوهابي فبدأ بتفسير مذهب السنة تفسيراً حنبلياً وبالغ في ابن سعود حتى رأى فيه “أفضل ـ او يكاد يكون ـ من حافظ على المبادئ الجوهرية للسنة ودافع عنها بعد الخلفاء الأربعة الأولين "[11].

    وليس هناك ما يدعو للغرابة، فظهور حركة احيائية دعوية تناضل من اجل العودة بالاسلام الى شكله الطهراني في ظل انهمار سيل التغريب، وبخاصة في مناطق المواجهة وتحديداً في مصر وبلاد الشام وشمال افريقيا لا بد أن يعيد جزءا من الأمل المفقود منذ ترسخت أقدام المستعمر في أرجاء المشرق.

    وبمعزل عن الآثار المدمرة التي تركتها سلسلة الغارات الدموية التي شنها جيش ابن سعود على مناطق الحجاز وعسير والاحساء، فثمة أمل أوجدته الحركة الاحيائية الوهابية بعودة الاسلام الى صورته الرساليه الاولى، فالخطاب الديني الاحيائي في الجزيرة العربية قد ترك بلا ريب تأثيراته على حركات التحرر الوطني في تونس والسودان وحتى شبه القارة الهندية.

    تقابل تلك الصورة، حقيقة ان الخطاب الاحيائي الديني كان يفتقر الى مضامين نضالية تتجاوز مستوى التأثير الروحي. وهذا يبدو واضحاً من خلال المقارنة بين تأثيرات هذا الخطاب على السكان المحليين ومن هم خارج الحدود. كما يبدو ايضاً واضحاً من خلال اضطلاع المؤسسات الدينية الرسمية بمهمام محددة لا ترتقي الى مستوى صناعة خط احيائي نضالي.

    وعودة الى السؤال المركزي حول السياسة الدينية السعودية، قد يجادل الباحث بأن ثمة تبدلات شهدتها هذه السياسة بحسب طبيعة التحديات التي واجهتها الحكومة السعودية، وسنحاول هنا تسليط الضوء على ثلاث مراحل مرت بها السياسة الدينية السعودية:

    المرحلة الاولى: الادلجة الدينية المناوئة للقومية: امتاز الخطاب الديني السعودي منذ منتصف الخمسينيات وحتى آواخر السبعينيات بأنه ايديولوجي، وقدّم الاسلام باعتباره ايديولوجية مناوئة للقومية العربية الممثلة في رمزها التاريخي جمال عبد الناصر. فالاخير شكّل ليس تحدّياً سياسياً فحسب للحكم السعودي بل برز كأيديولوجية احتجاجية على نموذج من الاسلام وصف باعتباره اسلاماً اميركياً في مقابل ايديولوجية تحررية من الاستبعاد والرجعية والملكية والاستعمار. فكان رد الفعل السعودي شاملاً لم يقتصر على تهديم الايديولوجية القومية بل طال نظام عبد الناصر والانظمة القومية المتصلة والمتعاونة معه كما في سوريا واليمن. فليس ثمة تردد في الاعتقاد بأن الدين مثّل بالنسبة للحكومة السعودية منذ نشأتها سلاحاً استعملته في وجه خصومها، ففي مواجهة المد الناصري والفكر الشيوعي لجأت السعودية بدعم من الادارة الاميركية الى اطلاق موجة اسلامية واسعة.

    لقد تركت المجابهة الدينية ـ القومية بين القيادة السعودية والزعيم عبد الناصر انعكاساتها الواضحة والمباشرة على الداخل السعودي. وكان استعمال الدين كسلاح ايديولوجي لمواجهة الايديولوجيات المناوئة وتحديداً القومية والشيوعية تطلب مخصصات مالية ضخمة لبناء ما يمكن وصفه بترسانة دينية ضخمة تجبه تأثيرات الايديولوجيات المناوئة على السكان المحليين وتسهم في صناعة وترسيخ الصورة الدينية للدولة السعودية.

    فالمؤسسات الاسلامية التي خرجت للوجود منذ منتصف القرن الماضي، كانت تلبي أغراضاً سياسية محددة للسلطة السعودية وجاءت كرد فعل على المشروع القومي العربي الوحدوي. فقد طرحت الحكومة السعودية فكرة رابطة العالم الاسلامي في موسم حج عام 1374هـ ـ 1955م في اجتماع ضم الرئيس الباكستاني غلام محمد والرئيس المصري جمال عبدالناصر والملك سعود واتفق الثلاثة على انشاء رابطة اسلامية الاّ أن عبدالناصر أدرك الغرض السعودي من انشاء الرابطة فقرر الانسحاب وأرجع سبب ذلك الى غياب آلية محددة لتطبيق فكرة الرابطة، فيما تحركت السعودية والباكستان لاقناع اطراف اخرى للانظمام للرابطة وبالفعل انضمت عدد من الدول العربية والاسلامية منها (ايران وتركيا، والمغرب وتونس ونيجريا والنيجر..)وتحققت فكرة الرابطة، وأصبح المقر الدائم لها في مكة المكرمة وصدرت مجلة شهرية باسم الرابطة وجريدة اسبوعية تحت اسم (اخبار العالم الاسلامي)كما قامت الرابطة بتوزيع كميات كبيرة من المطبوعات الدينية، وتموّل الحكومة السعودية القسم الاكبر من نشاطات الرابطة، وهذا بدوره قد رهنها لنفوذ وتأثير الضغوط الرسمية على قرارات وخطط ومشاريع الرابطة. وينسحب الحال الى فكرة انشاء منظمة المؤتمر الاسلامي وهو ما حاول الملك فيصل الترويج لها باعتبارها بديلاً عن أي مشروع قومي. ففي موسم الحج لعام 1384هـ ـ 1964م ألقى فيصل خطاباً عرض فيه فكرة المؤتمر مشدداً على المساعي الوحدوية لحكومته في رص الصف الاسلامي.

    في موازاة هذه المؤسسات جرى اشراك كبار العلماء في الحملة الدينية المناوئة للقومية الناصرية، فقد كتب الشيخ عبد العزيز بن باز مفتي المملكة السابق كتاباً نقد فيه القومية العربية ونظام الرئيس عبد الناصر كما عارض على قاعدة دينية استعانته بالقوات الروسية لمواجهة التحديات الاسرائيلية والاميركية، بناء على حرمة الاستعانة بالكفار والمشركين. وعلى أية حال، فقد قلل الشيخ بن باز من معارضته للاستعانة بالقوات الكافرة والمشركة من قبل المسلمين حين أصدر فتوى في عام 1991 تجيز للحكومة السعودية الاستعانة بالقوات الكافرة والمشركة والتي تشمل القوات الاميركية وتقريباً كافة الجيوش المشاركة في عملية عاصفة الصحراء باسثناء الجيوش العربية والاسلامية.

    واستطراداً فقد جاءت المسألة الافغانية في عام 1979 لتضع المشروع الديني السعودي كأداة من ادوات التعبئة ضد الشيوعية وضد الغزو السوفييتي لافغانستان، وهو مشروع تكفلت الادارة الاميركية بالترويج له ودعمه وتدريب المشاركين فيه.

    ـ المرحلة الثانية: الخطاب الطائفي: في الثمانينيات تبنت السعودية خطاباً دينياً طائفياً كرد فعل على الثورة الايرانية عام 1979. فظهور نموذج الاسلام الثوري التقدمي في مقابل ما وصف بالاسلام الرجعي او الاميركي، أدى الى انطلاق تيار التطرف الديني بشكله الطائفي من داخل المؤسسة الدينية الرسمية بامتداداتها الدعوية والتعليمية. وفي واقع الامر أن الولادة الدينية الثانية للراديكالية السلفية تمت منذ ان لجأت الدولة لتجنيد المؤسسة الدينية وتالياً للتضخم بشكل لا محدود داخل جسدها تحت مبرر محاربة الخطر الايراني، والذي ادى الى ما يمكن وصفه بالانفجار السلفي داخل المملكة. ولم تقف تأثيرات هذا الانفجار عند تجنيد الاقلام وتشغيل ماكينة الطائفية بأقصى طاقتها بل ما جرى لاحقاً من افتتاحات متواصلة لمشاريع دعوية غير مسيطر عليها وانطلاق حركة طائفية داخل وخارج الحدود الاقليمية والعربية انتهاءً بالدولية. ويجب الفات الانتباه الى أن النزوع الطائفي لدى المؤسسة الدينية الرسمية يرتد بعقود الى الوراء ويرتبط بصورة اساسية بفترة ما قبل قيام الدولة وما بعدها، بل أن في مبادىء الحركة الوهابية ما يعزز هذا النزوع الطائفي وجاءت ممارسات وفتاوى علماء المذهب الوهابي كتجسيد لتلك الطائفية. الا أن انتصار النموذج الثوري الاسلامي في ايران ساهم بصورة فاعلة في تنشيط المخزون الطائفي داخل المذهب لمواجهة رياح التغيير القادمة من الشرق.

    لقد جرى تمويل مشاريع بناء مساجد في قارات العالم وبحسب احصائية اخيرة نشرتها وزارة الاوقاف السعودية في عام 1998-1999 ان نحو 6 آلاف مسجداً قد جرى تمويلها خارج المملكة وان هناك 1510 مسجداً يجري بناؤها منذ تاريخ صدور التقرير.

    ومن المؤسسات الدينية التي تموّل الحكومة السعودية نشاطاتها وتشرف عليها بصورة مباشرة عبر مواطنيها منظمة الندوة الاسلامية التي كان يرأسها الدكتور عايد الجهني الذي لقي حتفه قبل عدة شهور في ظروف غامضة بالرياض. نشأت المنظمة متخصصة في شئون الشباب وتضم اكثر من 450 منظمة شبابية وطلابية اسلامية منتشرة في القارات الخمس. وبحسب الاهداف المعلنة فأن المنظمة تضطلع بخدمة الفكر الاسلامي على اساس من التوحيد الخالص، و تعميق اسباب الاخوة والرابطة الاسلامية، وتعريف العالم بالاسلام بجميع الوسائل وعلى اوسع نطاق،وتوضيح ودعم الدور الايجابي للشباب والطلاب في بناء مجتمع اسلامي، ودعم منظمات الشباب الاسلامي في جميع انحاء العالم والتنسيق بينها ومساعدتها في تنفيذ برامجها.وتعقد المنظمة لقاء عالمياً، وحتى عام 1989 عقدت ستة لقاءات نمت جميعها في الرياض باستثناء اللقاء الخامس الذي عقد في نيروبي بكينيا وحضرها ممثلون عن منظمات اسلامية شبابية وطلابية من جميع انحاء العالم لاختيار اعضاء مجلس الامانة العامة للندوة وللبحث في القضايا التي تهم الشباب المسلم.

    ومن اشهر نتاجات المنظمة ( الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب المعاصرة)، اشتملت على تعريض ببعض المذاهب. فقد اتهمت العقيدة الاسماعيلية بأن "ظاهرها التشيع لآل البيت، وحقيقتها هدم عقائد الاسلام "ـ ص45. وزعم كاتب الموسوعة بأن الاسماعيليين يصلون للامام الاسماعيلي وليس لله. كما قال عن التشيع بأنه "استمد افكاره من اليهودية التي تحمل بصمات وثنية آشورية وبابلية " وانه "اختلط..بالفكر الوافد من العقائد الآسيوية كالبوذية والمائوية والبرهمية.."[12].

    وتندرج في السياق نفسه، منظمة الندوة العالمية للشباب الاسلامي التي تأسست في شهر ديسمبر عام 1972م 1392هــ بالرياض بعد اجتماع ضم ممثلين عن المنظمات الشابية الاسلامية في العالم، وقد رعت وزارة المعارف هذا الاجتماع حيث دمج المنظمات تلك في منظمة الشباب الاسلامي العالمي ومركزها الرئيسي في الرياض وتعمل تحت اشراف ادارة الحكومة السعودية وهكذا الحال بالنسبة للمؤتمرات السنوية لممثلي منظمات الشبيبة المسلم. ونشير الى أن المنظمة لم تكن تحظى باهتمام كبير من قبل الحكومة السعودية الا أن التحولات السياسية التي شهدتها الساحة الدولية بعد الثورة الاسلامية الايرانية عام 1979 حيث بدأت تتلقى دعماً مالياً رسمياً وشعبياً.

    وتتولى المنظمة مهام عديدة منها، نشر الدعوة الاسلامية وسط الشباب والطلبة المسلمين في الخارج وتشجيعهم للانتماء الى المنظمة والانخراط في شبكة المشاريع الدعوية، وهكذا انشاء مراكز مهنية وتوجيه دعوة للشباب والطلبة للالتحاق بها والعمل في أحد دوائرها.

    استيعاب اعداد غفيرة من الشباب والطلبة ضمن النشاط الدعوي السعودي يعتبر ثمرة مباشرة لتمويل الحكومة السعودية لبناء المساجد والمدارس والمراكز الدينية وتنظيم زيارات الوعاظ الى الجاليات الاسلامية والطلبة المسلمين وهكذا إقامة المؤتمرات الدينية فأن للسعودية اليد الطولى في تنميط النشاطات الدينية التي تقوم بها المنظمة، ويكرّس ذلك غالباً لتأكيد الجانب الديني للاسرة المالكة من خلال سلسلة المطبوعات الصادرة عن المنظمة والتي تعود لكتاب اسلاميين معروفيين على الساحة الاسلامية امثال المودودي وسيد قطب ومحمد قطب وغيرهم مما تستبعد معه أية حساسيات قد تثار إزاء انتمائها المذهبي، فيما تجتذب نشاطات اسلامية كهذه جموع من الشباب المسلم في الخارج.

    ومنذ شعرت الحكومة السعودية بخطورة نموذج الاسلام الثوري القادم من ايران، قررت ان تخوض حرباً طائفية مفتوحة الجبهات. وكان المسعى السعودي يتجه الى سحب التعاطف الاسلامي مع الثورة الايرانية لا سيما في أوساط السنة من خلال احياء موضوعات الخلاف بين السنة والشيعة، واحالة المعركة بينها وبين ايران الى معركة بين السنة والشيعة وبذلك تم صرف الانظار عن نموذجين لفهم الاسلام، نموذج الاسلام المحافظ التقليدي كما في السعودية ونموذج الاسلام الثوري العصري كما في ايران ليس لكليهما علاقة بالنزوع الطائفي لأي منهما.

    والاتجاه الطائفي المتعاظم انصب على الترويج لبعض المعتقدات الهادفة الى ضرب معتقدات مضادة ذات أهمية قليلة في أتباع المذاهب الاخرى الثورية او التقدمية السنية والشيعة على حد سواء، مثل( هل نحتفل بالمولد)، و (الاسلام لايبيح لنا الاحتفال بهذه الايام)، (دعاء الميتين من الاولياء اذا لم يكن كفراً فهد جنون) و (الدعاء والمديح والنذر لغير الله هو الشرك الاكبر)،و (الاصنام ليس الا اسماء رجال صالحين)، (المشركون الأولون كانوا اكثر ايماناً من مشركي هذا الزمن) ،و (هل دعاء الاولياء دون الله لغو)، و (كيف يتمثل الشيطان للقبوريين في صور اوليائهم)، و (بدعة الزيارة الرجبية (أي زيارة المدينة المنورة في شهر رجب)وهذه مقالات وزير المعارف السعودي حسين عبدالله آل الشيخ وزيد بن فياض مدير في ادارة المكتبات لوزارة المعارف واحمد عبدالغفور العطار.

    سلسلة المنشورات الدينية الصادرة عن مؤسسات تابعة للحكومة السعودية او خاضعة لتمويلها واشرافها، كانت مورد دراسة وتحقيق عدد من المراقبين والناقدين الاسلاميين بخصوص اغراض تلك المنشورات. وكما يظهر في كتابات نقدية ظهرت خلال عقد الثمانينيات، فإن أبرز أغراض السياسة الدينية السعودية في شكله الطائفي هو شياع التدين القشري، ذلك التدين، بحسب الكتابات تلك، يحث على الانفصال عن العالم، ويدعو الى الاعتكاف الدائم للآخرة وتشميع العقل، ورفض التعامل مع العلم ومتغيرات الحياة.

    كتب المرحوم الشيخ محمد الغزالي ما نصه :"رأيت أناساً يتبعون الاعنت الأعنت، والأغلظ الأغلظ من كل رأي..فما يفتون الناس ال ابما يشق عليهم وينقص معاشهم ويؤخر مسيرة المؤمنين في الدنيا ويأوي بهم الى كهوفهم المظلمة..وهؤلاء ايضاً لاسلف ولا خلف، انهم اناس في انتسابهم الى علوم الدين نظر واغلبهم معتل الضمير والتفكير".

    ويقول في كتابه (دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين):"رأيت أناساً تغلب عليهم البداوة او البدائية يكرهون المكتشفات العلمية ولا يحسنون الانتفاع بها في دعم الرسالة العلمية "ويقول الشيخ الغزالي ايضاً في كتابه "مشكلات في طريق الحياة الاسلامية: "من المستحيل اقامة مجتمع ناجح الرسالة، اذا كان اصحابه جهالاً بالدنيا عجزة في الحياة..وانه لفشل دفعنا ثمنه باهظاً عندما خبنا في ميادين الحياة، وحسبنا أن مثوبة الله في كلمات تقال ومظاهر تقام...ان الله لايقبل تديناً يشينه هذا الشلل المستغرب.ولا ادري كيف نزعم الايمان والجهاد، ونحن نعاني من هذه الطفولة التي تجعل غيرنا يداوينا، ويمدنا بالسلاح إذا شاء "[13].

    ويصف الكاتب المصري الاستاذ فهمي هويدي مدرسة كهذه قائلاً: "هي مدرسة عاجزة عن التعامل مع الحاضر، لاتسأل عن المستقبل، وبإدعاء الانتساب الظالم للسلف، فانها عمدت الى المضي في طريقين "متوازيين "تذرعت فيها بحماية العقيدة والتي هي الأصل والأساس في اعلان الحرب على البدع ومخاصمة الواقع ومحاكمته وهو طريق واحد عند البعض ممن اعتبروا كل مستحدث بدعة وضلالة حتى وان كان في الدنيا وليس في الدين. وهذا المجال الوحيد الذي يطلق وصف البدعة عل ما يستحدث فيه ". يتابع الاستاذ هويدي قائلاً "باسم الدفاع عن العقيدة وتنقيتها من البدع والضلالات ترى من تلك المدرسة أجيالاً من الشباب تشغلهم عورات الناس ومشاكلهم بينما لايعرفون شيئاً عن هموم الامة لا حقوق الناس! إطلاق اللحي أهم عندهم من اطلاق الحريات وتحرير الناس من زيارة القبور أولى من تحرير الوطن من المحتلين والغاصبين واتباع السلف أجدى من ابتداع الخلف، ومكافحة الصوفية ضريبة مكافحة الجفاف والجراد"[14].

    وقد حمل الشيخ الغزالي على شكليات التدين القشري في لقاء له مع صحيفة "البيان " الصادرة في (ابوظبي) في أيلول 1990م فيقول "بعض الناس عندما يفكر في السنة او في السلف اول ما يثبت الى ذهنه هو الثياب اما الشكل الخارجي يفكر ما اذا كان الرسول او الصحابة يلبسون عقالاً ام عمامة او غير ذلك ؟

    وهذا تفكير طفولي لأنه اذا فكرت في السلف عليك ان تفكر في المبادئ والعقائد التي حملوها وقادوا العالم بحقيتها.."ويضيف قائلاً “لم يكن الدين جلباباً قصيراً او لحية طويلة او فكراً وحدوداً، بل سيرة شريفة وجراءة في الحياة تجعل صاحبها ينتقل بمبادئه بين جنباتها لأنهم فهموا الدين موضوعاً ولم يفهموه شكلاً، فهو حقيقة لا عنواناً وعندما تتحول الاديان الى صورة "مزوقة "وألبسة وهيئات فقد فقدت روحها وقدرتها على الحياة والانطلاق".

    تجدر الاشارة الى أن كتاباً صدر في نهاية 1411هـ تحت عنوان "تذكير الشباب بما جاء في إسبال الثياب)للمؤلف الشيخ عبدالله بن جارالله عن ابراهيم آل جارالله وموضوع ــ الكتاب هي: النهي عن الاسبال في اللباس، حكم اسبال الثياب للرجال فتاوي وغيره.

    وممن تعرض للتدين القشري وادانه الاستاذ الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي في كتابه (السلفية مرحلة زمنية مباركة لامذهب اسلامي )[15] انتقد فيه طريقة التعاطي مع فكرة السلفية الداعية الى الجمود والعودة الى الوراء والنزعة القشرية في فهم الدين واغفال القضايا الاساسية التي تتطلب اهتماماً مكثفاً وعملاً جاداً.

    وسنحاول هنا استعراض نماذج من المواجهات الناقدة للنشاط الطائفي في عدد من بلدان العالم الاسلامي وبعض اماكن تواجد الجاليات الاسلامية للتعرف على طبيعة التوجه الديني السعودي في تلك الفترة.

    ينقل الدكتور البوطي ما نصه: "كنت في هذا العام المنصرم 1406هــ واحداً ممن استضافتهم رابطة العالم الاسلامي للاشتراك في الموسم الثقافي واتيح لي بهذه المناسبة أن اتعرف على كثير من ضيوف الرابطة الذين جاءوا من اوربا وامريكا وآسيا وافريقيا واكثرهم يشرفون في الاصقاع التي أتوا منها على مراكز الدعوة الاسلامية او يعملون فيها والعجيب الذي لابد أن "يهيج آلاماً ممزقة في نفس كل مسلم اخلص لله إسلامه إنني عندما كنت اسأل كلا منهم عن سيرة الدعوة الاسلامية في تلك الجهات، اسمع جواباً واحداً يطلقه كل من هؤلاء الاخوة على انفراد بمرارة وأسى خلاصته:المشكلة الوحيدة عندنا هي الخلافات ــ والخصومات الصاخبة التي تثيرها بيننا جماعة السلفيين."

    ويضيف البوطى قائلاً: "ولقد اشتدت هذه الخصومات منذ بضع سنوات في مسجد واشنطن الى درجة الجأت السلطات الامريكية الى التدخل ثم الى اغلاق المسجد لبضعة شهور"، ويذكر البوطى تجربة اخرى "ولقد اشتدت هذه الخصومات ذاتها واجتاحت في احد مساجد باريس منذ ثلاثة اعوام حتى اضطرت الشرطة الفرنسية الى اقتحام المسجد والمضحك المبكى بآن واحد أن احد اطراف تلك الخصومة اخذته الغيرة الحمقاء لدين الله ولحرمة المسجد، لما رأى احد الشرطة داخلاً المسجد بحذائه فصاح فيه أن يخرج او يخلع حذاءه ولكن الشرطي صفعه قائلاً:وهل ألجأنا الى اقتحام المسجد على هذه الحال غيركم أيها السخفاء ؟ "

    وتجربة ثالثة ينقلها الاستاذ البوطى قائلاً "وفي احدى الاصقاع النائية حيث تدافع امة من المسلمين الصادقين في اسلامهم عن وجودهم الاسلامي وعن اوطانها واراضيها المغتصبة تصوّب اليهم من الجماعات السلفية سهام الاتهام بالشرك والابتداع، لأنهم قبوريون توّسليون، ثم تتبعها الفتاوي المؤكدة بحرمة إغاثتهم بأي دعم معنوي او عون مادي ! ويصف احد علماء تلك الأمة المجاهدة، ينادي في اصحاب تلك الفتاوي والاتهامات: ياعجباً لاخوة يرصفوننا بالشرك مع أننا نقف بين يدي الله كل يوم خمس مرات،نقول( إياك نعبد واياك نستعين) ولكن النداء يضيع ويتبدد في الجهات دون أي متدبر او مجيب "[16]، وفي قارة استراليا حيث توجد جالية اسلامية من المهاجرين اللبنانيين وبعض المسلمين من دول عربية واسلامية مختلفة امتدت الطائفية اليها، حيث تعرض الشيخ تاج الدين الهلالي احد علماء الدين مقيم في استراليا الى حملة اعلامية الامر الذي ادى الى انفجار الفتنة داخل هذه الجالية وهو ما كشف عنه الشيخ الهلالي لصحيفة القبس الكويتية بتاريخ 10/4/1990م قائلاً: "أبى كثير من المسلمين الاّ ان يحضروا مشاكلهم وخلافاتهم المذهبية والسياسية من بلادهم وهذه مصيبة ". واضاف قائلاً: "انه على الرغم من اننا نشكر الدول العربية والاسلامية التي تقدم لنا مساعدات لحماية ابنائنا وبناء الدارس الاّ أن فرض سياسات وايديولوجيات خارجية هو عامل من عوامل الفرقة بين افراد الجالية الاسلامية ".

    والجدير بالذكر أن قراراً صدر من وزارة الهجرة الاسترالية بطرد الشيخ الهلالي وذلك في عام 1986م لولا خروج الآف المسلمين الاستراليين في مظاهرات عارمة الى السفارة السعودية احتجاجاً على تدخل النظام السعودي في شؤون الجالية الاسلامية مما اضطر وزير الهجرة الاسترالي(هيرفورد) الى سحب قراره باستبعاد الشيخ الهلالي.

    وفي تايلاند ويقول فهمي "الطلاب المسلمون من ابناء تايلاند الذين درسوا في الجامعات العربية حملوا معهم بعد التخرج والعودة أفكار التكفير والحاكمية ومعارك السلفيين ضد ما يتصورونها بدعاً في الدين والدنيا "

    وهناك مكتب رابطة العالم الاسلامي ومندوب عنها مجلة ( المجلة عدد 590) 4/6/1991م
    "أن تشعل شمعة خير من أن تلعن الظلام"
    كونفوشيوس (ع)

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Nov 2002
    المشاركات
    4,192

    افتراضي

    وفي افغانستان حيث كان شعبها يخوض مواجهة شرسة ضد الاحتلال الشيوعي ونظامه العميل وحيث الحاجة الملحّة لوحدة الصف الافغاني ووحدة البندقية الافغانية، فإن الطائفية أرهقت قدرته القتالية ويذكر الاستاذ فهمي هويدي قصة المحنة الافغانية هذه ويقول فهمي هويدي: "وعندما رحل مبشروهم ودعاتهم الى المجاهدين الافغان فإن غاية ماشغلوا به هو ما أسموه بتثبيت عقيدة التوحيد.لم يكن الجهاد ولا شحن عزائم الناس لتحرير اراضيهم المحتلة هو شاغلهم الأول وانما ذلك الشاغل هو: من ربك ؟ وما دينك ؟ ومن نبيك؟"[17]. وكانت المحصلة ان أنقسمت البندقية الافغانية على نفسها وبدأت تصوب طلقاتها نحو الجسد الافغاني في حرب طائفية سنية ــ شيعية في منتصف عام 1989م وانشغل المسلمون الافغان بالدماء فيما بينهم وحكمت العداوة والبغضاء وسوء الظن علاقات الاطراف المجاهدة على خط المواجهة مع الشيوعية الغازية، وانتهى الامر الى انقسام الساحة الافغانية تعزز بوصول طالبان بنزعتها المتطرفة.

    وفي الكويت نشطت بعض الاتجاهات الطائفية عبر جميعات اصلاحية واخترقت المراكز الدينية والمساجد، ونشر الكتيبات والمنشورات الطائفية التي تتدفق من خلف الحدود ومن داخل الكويت نفسها لتزرع بذور الفتنة والشقاق بين السنة والشيعة. وينقل الاستاذ فهمي هويدي في كتابه( التدين المنقوص) تجربة له حصلت في الكويت تكشف جانباً من الحملة الطائفية ويقول "في الكويت قدّر لي أن استمع الى تسجيل صوتي لحديث ألقاه واحد من الدعاة في احد المساجد وتثير مقولاته العديد من ردود الفعل المؤيدة والحذرة والساخطة، ولم يجد الواعظ المتحدث في كتاب الله موضوعاً يفيد سامعية، ولم تتلفت أنظاره قضية ذات شأن في واقع العرب والمسلمين وما يحقق بهم في الحاضر والمستقبل من المشرق الى المغرب وإنما غاية ما فتح الله عليه به كان نزالاً وتجريحاً لمعتقدات الشيعة في رحاب المسجد.." ويضيف ايضاً كان مدخله هو الحديث عن "سبيل المؤمنيين "ومنه انتقل الى مربع غير المؤمنيين (!)، ومن باب التغطية والتمويه شن هجوماً شديداً على المتصوفة، جمع فيه الذين تعلقوا مخلصين بحب الله على الذين تاجروا باسمه جل جلاله، ووضعهم في سلة واحدة، ثم أخرجهم من الاسلام، وقذف بهم في مربع المشركين، في جولة استعراضية سريعة لم تستغرق ثلاثة دقائق والحق بهم الفلاسفة والمتكلمة في الثواني الاخرة وبعد أن هدأت نفسه، وتحقق من كلماته ألقى بهؤلاء في الدرك الأسفل من النار، واطمأن ضميره الى أنه اغلق أبواب جهنم على الجميع، استدار وأشهر سيفه في وجه الشيعة الاثني عشرية أو الجعفرية .

    "وكان اخطر ما قاله غفر الله له، إنه صنفهم جملة من الرافضة والباطنية، وأن دينهم غير دين الاسلام "

    ويضيف ايضاً "وبعد أن ادى مهمته في الاساءة والتجريح على خير وجه، تساءل أمام الحاضرين ما العمل؟ ثم رد بصوت المبشر الذي يريد أن ينجي سامعيه من الدنس والارجاس: يجب ان نعاديهم لأننا بذلك نعادي الشرك. يجب أن نمتنع عن موالاتهم وودهم لأن ذلك يخالف اركان الايمان، التي تمنع المؤمن من موالاة المشركين(!)..وفي هذا المسار مضى الحوار الذي جرى بعد الحديث.حيث سئل الواعظ الهمام عن جواز الاكل مع الشيعة وتقديم الزكاة لهم. فأفتى صاحبنا بجواز الأكل معهم قياساً على اجازته بالنسبة لليهود والنصارى، ثم أفتى بعدم تقديم الزكاة لهم لأن الزكاة لاتجوز الاّ على المسلم ! "..."وسئل "الداعية "الهمام في موضوع كفرهم فأفتى بواسع علمه بأن علماءهم كفار يقيناً، أما عامتهم فلا يكفرون الا بعد أن تقام عليهم الحجة.أي بعد أن يناقشوا ويبصروا بما هم عليه.فإن استقام اعتقادهم وتخلوا عن تعاليمهم، كان بها، وإن أصروا على شركهم فانهم لا يعذرون، ويكفرون ! "[18].

    وتجدر الاشارة ان ان كتباً طائفياً كثيرة نشرت في الكويت منها كتاب "مع المالكي في كفرياته" قدّم له الشيخ ابن باز وهو رد على كتاب صادر للسيد محمد علوي المالكي عن الرسول (ص) وقد ورد فيه افكار غير مقبولة لدى السلفيين الوهابيين .

    ودخل السعوديون الى عروشة ( المدينة الثانية في تنزانيا وتعقد فيها المؤتمرات الدولية) في نهاية عام 1985م وعن طريق طالبين صوماليين قدما من المدارس الدينية السعودية وتسللت السلفية السعودية الى مدرسة الازهر الملاصقة للجامع في وسط عروشة وتضم 250 طالباً. ومدرسة الأزهر تعد فرعاً من فروع جامعة الازهر المصرية اضافة الى فرع كبير في العاصمة التنزانية ( دار السلام) ويمد الازهر بمصر مدرسة الازهر بعروشة بطاقم من المدرسين وبالمنهج الدراسي. وسمحت ادارة المدرسة بدخول مدرسيّن من تنزانيا وثالث من الصومال( من اصل يمني) وكان هؤلاء على علاقة وثيقة بالسفارة السعودية .غير أن ثلاثة من المشايخ الصوماليين ضبطوا وهم يتاجرون بالعاج وهي تجارة ممنوعة دولياً فأصدرت السلطات التنزانية قراراً بطردهم وختمت في جوازاتهم ( تأشيرات خروج بدون عودة) الامر الذي ادى الى تدهور النشاطات السعودية في المراحل الاولى وفيما بعد عمد الطالبان الصوماليان الى استئناف النشاط الدعوي السلفي، وقد أشاع نشاطهما خلافات مذهبية بين المسلمين في تنزانيا مما اثار استياء وسخط ابناء عروشه وانتهى الحال الى طردهما من البلاد.

    وبعد هذه الحادثة اسرعت السلطات السعودية الى ارسال تنزانيين تلقوا تعليمهم في المدارس الدينية السعودية فبدأوا النشاط الدعوي مستفيدين من كونهم حاملي التابعية التنزانية وصاروا يروجون بين الناس المقولات السلفية المكرورة مثل أن الصلاة على الرسول (ص) والاحتفال بمولده الشريف من انواع الشرك والبدع والجدير ذكره أن الشعب المسلم في تنزانيا يتبعون المذهب الشافعي الذي لايرى بأساً بزيارة القبور واحياء المراسم الدينية، بل هناك عادة يتبعها المسلمون في تنزانيا منذ القدم بالنسبة للمولد النبوي حيث تقام الاحتفالات الدينية من 17ربيع الأول ( يوم مولد النبي محمد) و الى 15 شعبان، على أن تقوم كل قبيلة او جماعة باحياء المولد بين هذا التاريخ، فجاء الوهابيون وحاربوا هذه العادة شديدة الرواج وعميقة الجذور في الشعب التنزاني فاشتاط الناس غضباً من التدخل الوهابي السافر وما احدثه في منتصف عام 1989م وعلى إثر هذا الحدث وصلت ثلاث رسائل الى:مكتب رئيس الجمهورية، والمخابرات، وباكواتا.

    وجدير ذكره هنا أن حملة طائفية انطلقت في اوساط الشعب التنزاني المسلم عبر ترجمة ونشر مجموعة من الكتب باللغة السواحلية تنال من الشيعة وعقائدهم مثل كتاب "الشيعة ليس لهم قرآن "مما اثارت هذه الحملة مشاعر الغضب في اوساط جهات عديدة شعبية وحكومية بل أن رئيس تنزانيا القى كلمة في احدى المناسبات انتقد فيها بشدة الممارسات الطائفية التي يقوم بها السلفيون وخاصة الجماعات الوهابية مندداً بمحاولات هذه الجماعات الرامية الى تفرقة المسلمين وتفتيت وحدتهم.

    وبعث الشيخ حميدي بن جمعة وفداً من قبله لوضع حد للمشكلة قبل أن تتسع رقعتها غير أن الوفد فشل في التوصل الى صيغة حل مقبولة عند ابناء مدينة عروشة وفي 21/ديسمبر /1989م قدم الشيخ بن جمعة الى مدينة عروشة ومكث فيها اكثر من اسبوعين ومع ذلك لم تات المفاوضات التي اجراها بن جمعة مع الاطراف المختلفة بنتيجة حاسمة هذا بعد أن عقد جلسات ثلاثة يدور محورها حول الوحدة الاسلامية وفي وسط الجلسة الثالثة توقف الشيخ بن جمعة داعياً الى اجراء استفتاء عام في هذه المدينة حول الوجود الوهابي في تنزانيا فجاءت النتيجة أن صوّت اكثر من 3000 شخص كانوا في مسجد الجامع بلمنيا صوّت بنعم قرابة 150 معلماً وطالباً من الوهابيين من ادارة الجامع أولاً ثم من عروشة ثانياً وبعد أن رفض الوهابيون تسليم مفاتيح الجامع تدخلت المخابرات التنزانية في عروشة وأمسكت بثمانية من رجال الوهابية ثم تم ابلاغهم بمغادرة عروشة.

    وكان من بين الساخطين على الوجود الوهابي في عروشة ومدرسة الأزهر العالم المصري الأزهري الشيخ احمد الغزالي وهو شخصية مرموقة واحد المدرسين البارزين في الأزهر ويمتاز بجرأته وانفتاحه ووعيه الثقافي وقد واكب المرحلتين التي مرت بهما مدرسة الأزهر الاولى:وتمتد لثلاث سنوات وكانت تدار المدرسة خلالها بطاقم أزهري والثانية:بعد الانقلاب الذي قامت به عناصر وهابية على المدرسة من قبل اساتذة يمنيين وغيرهم تمكنوا من الاستيلاء على ادارة المدرسة وتبديل المناهج الدراسية.

    وفي المرحلة الثانية ضعف دور الشيخ احمد الغزالي بعد النفوذ السعودي ولكنه ظل يحارب هذا النفوذ وقد مكث اربع سنوات في تنزانيا من( 1984ــ 1988م).وفي احدى الاحتفالات الدينية بالمولد النبوي الشريف ألقى الشيخ الغزالي كلمة انتقد فيها التدين القشري والحرب الطائفية التي تشنها الوهابية في عروشة، وكان يقول بأن الناس تعتقد هنا "بان عدوها الأول الشيطان ثم الوهابية “.

    ويتكثف النشاط السلفي عبر "رابطة العالم الاسلامي "في كينيا فهناك جامعة رسمية تمولها الحكومة السعودية في العاصمة نيروبي ويتم من خلال الجامعة تجنيد الطلبة في المشروعات الدعوية على الساحة الافريقية. وكان يتم توزيع بعض الكتب الطائفية في اوساط الشعوب الافريقية ومنها كتاب ( الشيعة والتصحيح) اضافة الى كتب أخرى تنبعث منها رائحة المؤامرة الطائفية البغيضة.

    وفي اوربا وجد النشاط السلفي السعودي مجالاً واسعاً للتحرك بحرية وانطلاق، وعبر المركز الاسلامي التابع لرابطة العالم الاسلامي حيث يوجد عدة فروع للمركز في عدد من العواصم الاوربية وأهمها المركز الاسلامي في لندن. ومن مهام المركز اقامة حلقات الدراسة الدينية وتوزيع المنشورات الدينية. وعقد الندوات والاجتماعات علاوة على ذلك ارسال المدرسين الى المدارس الاوربية فحسب القانون في اوربا ان الطالب المسلم في المدارس الاوربية يحق له أن يطالب بدرس دين على أن يتولى المركز دون غيره ارسال استاذ دين. ورغم أن امام المركز ورئيسه هو غير سعودي الجنسية الاّ أنه خاضع لابتزاز لاموال السعودية التي تغطي منها نفقات المركز، وفي العاصمة البلجيكية( بروكسل) اخترق عبدالله الاهدل هذا القانون، وكان الاهدل نائباً لرئيس المركز وكان من تونس، فتمكن من ازاحة التونسي عن منصبه وتولى الاهدل منصب الرئاسة، وكان من الاشخاص غير المرغوبين او المحبين لدى الجاليات الاسلامية بسبب تصرفاته الطائفية ودعوته المتطرفة حتى أن البعض يرجع سبب اغتيال الاهدل عام 1987م الى وقوفه امام حقوق الاقليات المسلمة في اوربا. وقد ذكر احد ابناء الجالية الاسلامية في بلجيكا حينذاك أن هناك سيطرة سعودية على المركز ونشاطه والعناصر العاملة فيه "ويضيف قائلاً "انه رغم عدم وجود ظاهرة الكتب الطائفية التي تنتشر في مناطق تواجد الوهابيين في كثير من الساحات الاّ أننا أمام ظاهرة مماثلة اكثر خطورة وهم جماعة السلفية التي اختصرت الدين في مجموعة مواضيع شوّهت بها تلك الصورة التي نحملها عن الاسلام كدين كوني شامل لكافة جوانب الحياة، واثار افراد هذه المجموعة الشكوك والظنون في اوساط الجالية الاسلامية حتى أصبحنا شيعاً وفرقاً في وقت نبحث فيه عن كل سبب للوحدة خاصة في ظل تدهور الاوضاع السياسية.

    في حقيقة الامر أن رزمة الكتب الطائفية الصادرة في عقد الثمانينيات بأموال سعودية مثّلت أبرز معلم على التوجه السعودي في تلك الفترة. فكتب الدكتور الغريب كتاباً "وجاء دور المجوس "وقد طبع باموال سعودية في مطابع مصر ويقع الكتاب في( 500) صفحة ويوزع مجاناً، ويقول هذا الغريب في كتابه "شيعة اليوم أخطر على الاسلام وزعزعة اركان هذا الدين واشاعة الفرقة بين المسلمين، ولاوحدة ولا وفاق بيننا وبينهم الاّ اذا عادوا الى جادة الحق، وتخلّوا عن شركيّاتهم ووثنياتهم "[19]. ولم يبذل داعية التدين السعودي ابراهيم الجيهان جهداً في ان يكون له حضور في معركة الطائفية ففاضت قريحته في كتابه "تبديد الظلام وتنبيه النيام) نافثاً هذا التصريح "لايوجد بين اسلامنا واسلامهم ــ أي اسلام الشيعة ــ أي أساس مشترك "[20]، ومن خلال مراجعة لكل ماسبق نجد أن "التدين السعودي "يرفض دين المسلمين قاطبة ويعتقد بأن بلاد المسلمين هي بلاد بدع وضلالة واذا كان هناك ثمة ضرورة للوحدة فيجب أن تتم عبر الذوبان في بوتقة الوهابية بمعنى أن السبيل الوحيد للمسلمين هو في تحقيق "الوحدة الوهابية ".

    وقد اضطلعت المديرية العامة لهيئة الارشاد الديني والافتاء بمهام كتابة الابحاث عن الوهابية وتدريب الوعاظ والمبلغين في حلقات دراسية منظمة كما تتولى إرسال المبلغين الى خارج البلاد وقد صدر عن المديرية مجموعة من الكتب والابحاث منها الاعمال الكاملة للشيخ محمد بن عبد الوهاب وهكذا الكتب التي ألفت عنه، وكتب اخرى مثل (ارشاد المسلمين في الرد على القبوريين) للشيخ حمد بن ناصر بن عثمان بن معمر وكتاب (حكم شرب الدخان) لعبدالرحمن بن ناصر السعدي وكتاب (هل المسلم ملتزم باتباع مذهب معين من المذاهب الاربعة ؟) لمحمد سلطان المعصومي المكي وكتاب (بديد الظلام وتنبيه النيام خطر التشيع على الاسلام) لابراهيم بن سليمان الجبهان اضافة الى منشورات دينية تقوم المديرية بتوزيعها في الداخل والخارج.

    وتتولى المديرية ايضاً مهمة اصدار الفتاوي بشأن القضايا والموضوعات الواردة من قبل الملك والمؤسسات الحكومية أو من عامة الشعب. وهناك مجلس أعلى للافتاء منبثق عن المديرية يتم تعين اعضائه بقرار من الملك رقم 1137/1الصادر في عام 1971مويحدد القرار اسماء خمسة عشر عالماً من اعضاء المديرية ويقوم هؤلاء باصدار الفتاوي المتعلقة بالشئون الداخلية والخارجية،وقد خضع اعضاء المجلس لابتزاز سعودي مقيت حيث وقع المجلس في "ورطة "الافتاء بما يخدم سياسة الدولة .

    وكان لوزارة الداخلية السعودية الدور الاكبر في الضغط على اعضاء المجلس في اصدار الفتاوي التي تضف الشرعية على قرارات الوزارة التي قد سبق صدور الفتاوي دون اطلاع على حقيقة القضايا المطروحة كأحكام الاعدام التي طالت العديد من المواطنين وبعض مواطني الدول الاخرى كما حصل بالنسبة لقضية اعدام الحجاج الكويتية لستة عشر في شهر ذي الحجة لعام 1409هـ والذي تم بطريقة أثارت كماً هائلاً من التساؤلات بسبب الغموض واللبس الذي لّف هذه القضية، مما خلق انطباعاً سيئاً في اوساط الرأي العام الاسلامي إزاء اعدام هؤلاء الحجاج بحجة التفجيرات، في المقابل صبت فتوى العلماء الوهابيين الزيت على النار وأحجبت مشاعر الغضب والاستياء بين المسلمين لاسيما بعد أن أنتشرت الانباء الواردة من الحجاج انفسهم عن حقيقة ما جرى في موسم الحج وما كشفت النقاب عنه وسائل الاعلام من أن اعدام الحجاج الكويتين لا علاقة له بموضوع التفجيرات !!

    وما حصل بالنسبة للحجاج الكويتيين كان قد تكرر مع مواطنين محليين كأعدام جماعة جيهان العتيبي عام 1979م واعدام اربعة من ابناء الطائفة الشيعية بالمنطقة الشرقية عام 1409هـ وقد اصدر مجلس هيئة كبار العلماء فتوى برقم "148ــ 12 /1/1409هـ تقضي بانزال عقوبة الاعدام بالاربعة بتهمة "التخريب والافساد في الارض "

    وخلاصة الامر أن اتجاهاً طائفياً طاغياً حكم فترة الثمانينيات،وقد ترك تأثيراته التدميرية على المسلمين عامة ولشعب شبه الجزيرة بوجة خاص، وقد ينظر الى اقحام العلماء في هذه النشاطات الطائفية على أنه أساءة استخدام للعلماء عن طريق الزج بهم في حروب قذرة ولاغراض معروفة.




    --------------------------------------------------------------------------------

    [1] - اليكسي فاسيلييف/ تاريخ العربية السعودية /ص 3ـ4

    [2] - توفيق عبدالحي ــ موت اميرة ام موت النظام السعودي/ص 14

    [3] - المصدر السابع/ص 80

    [4] - آيات شيطانية ــ جدلية الطرح بين الاسلام والغرب ــ د.رفعت سيد احمد ص99 الدار الشرقية

    [5] - المصدر السابع/ص 112

    [6] - فهمي هويدي/حدث في أفغانستان ، 1979 ص 83

    [7] - أحمد حسين دحلان، دراسة في السياسة الداخلية للمملكة العربية ، ص 26

    [8] - غسان سلامة/السياسية الخارجية السعودية منذ عام 1945 ص ص 31، 32

    [9] - وليام كوانت/ السعودية في الثمانينات ص 28

    [10] -البرت حوراني/ الفكر العربي في عصر النهضة /ص 271

    [11] - رشيد رضا/السنة والشيعة /ص 79

    [12] - الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب المعاصرة، ص50 ص303 ص304

    [13] - نقلاً عن كتاب "حتى لاتكون فتنة "للكاتب المصري فهمي هويدي ــ ص 50

    [14] - انظر فهمي هويدي، ازمة الوعي الديني

    [15] - للاستاذ البوطى كتاب آخر بعنوان( اللامذهبية اخطر بدعة تهدد الاسلام )يرد فيه على الالباني والجماعات السلفية الداعية الى تذويب المذاهب، وينتقد افكار السلفيين الجامدة والقشرية.

    [16] - محمد رمضان البوطي، السلفية مرحلة زمنية مباركة لامذهب اسلامي/ص 244/245

    [17] - أنظر:ازمة الوعي الدني/فهمي هويدي

    [18] - المصدر /ص 98/99

    [19] - المصدر/ ص 496

    [20] - المصدر/ 131
    "أن تشعل شمعة خير من أن تلعن الظلام"
    كونفوشيوس (ع)

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Nov 2002
    المشاركات
    4,192

    افتراضي

    الدين والدولة في المملكة العربية السعودية

    العودة المستحيلة

    (3 من 3)

    محمد فؤاد

    بين 2 أغسطس سنة 1990 و11سبتمبر 2001 يكتمل عقد المواجهة بين التيار الديني السلفي والحكومة السعودية، وفيه تكمن الانعطافة الحادة في علاقة الدين بالدولة، ففي الحدث الاولى استيقظ التيار الديني في السعودية على زلزال سياسي كانت ردود الفعل ازاءه تلتقي عند معنى الخديعة الطويلة الأجل التي عاشها التيار الديني السلفي بمستوياته الدنيا والعليا. وفي الحدث الثاني، جاء الرد على الخديعة، حيث استيقضت الحكومة السعودية في الحادي عشر من سبتمبر على انهيار لصورتها، وتاريخها، ودورها، وتحالفاتها السياسية ووجدت نفسها على حين غرة في موقف دفاعي امام العالم بأسره، تنشد حلاً لمعضلة جوهرية داخلية ودولية وتفتش عن طريقة في المرافعة عن الذات، وتتوسل أساليب في التبرير لما جرى بطريقة مثيرة للشفقة. أما القادة الاميركيون، فقد شعروا بالمرارة والخديعة في آن، فإن ما قاموا به بعد الثاني من اغسطس لدرء خطر ابتلاع السعودية قد حصدوا حصرمه في الحادي عشر من سبتمبر حيث انطلقت حملة التعبئة السياسية والثقافية ضد الولايات المتحدة من لحظة دخول القوات العراقية الى الكويت وحققت أهدافها الاولى بسقوط البرجين.

    هذا الزمن الواقع بين 1990 ـ 2001 يمثل، في تقديري، ذروة العلاقة المشحونة بين الدين والدولة في السعودية، وتكشف الى حد كبير عملية الاهلاك المتبادل بين طرفين وصلا الى قناعة بانهاك قدرة كل منهما للآخر ونفاذ أغراضه منه. وكما أن موقف التيار الديني السلفي من الحكومة بعد الثاني من اغسطس يمثل انقطاعة مع الماضي، إذ لم تعد نظرة التيار الديني السلفي للحكومة هي ذاتها قبل الثاني من اغسطس، فإن موقف الحكومة من حليفها التاريخي والمضمد لانكساراتها السياسية والضامن لمشروعيتها الدينية قد ارتكس بصورة دراماتيكية بعد الحادي عشر من سبتمبر.

    سنحاول هنا استكشاف رؤية التيار الديني السلفي للحكومة منذ الثاني من اغسطس 1990 وكيف طوّر هذا التيار خطاباً دينياً بلغ ذراه القصوى عند النقطة التي لامست فيها الطائرة الانتحارية الاولى لأحد البرجين في نيويورك.

    أزمة الخليج..الحدود المدمّرة

    ثمان ساعات مضت على انهيار المباحثات بين الوفدين العراقي والكويتي...وفي تمام الساعة الثانية من فجر اليوم الثاني من شهر آب/ اغسطس 1990م، اجتاحت القوات العراقية الحدود الكويتية...وبعد ثمان ساعات سقطت الكويت بالكامل تحت نير الاحتلال العراقي..

    كانت لحظات حرجة وحاسمة لطرفين طالما تعاقدا على ان يحقق كل منهما أغراض الآخر، فالسياسي يحقق مشروعيته من ضمانة الديني له، والديني يحقق انتشاره من حماية السياسي له، وكل ذلك يتأسس على آصرة شديدة الوثاقة، آصرة طالما بقيت مصونة من الاختبار او الاهتزاز، حيث سعى الطرفان الدفاع عن الآًصرة وتوفير مبررات التشديد عليها طالما أن ثمة مصالح مشتركة تضغط لجهة تعميقها.

    ما جرى بعد ساعات من دخول القوات العراقية الى الاراضي الكويتية ان اجتياحاً آخر قد جرى داخل وعي ومشاعر ومصير طرف طالما حشد خزانة فكره ومناشطه الاجتماعية والتوجيهية من اجل إثبات صدقية موقف السلطة السياسية، طرف وجد نفسه امام امتحان مصداقية تزلزت بعنف في الثاني من اغسطس.

    لم يكن التيار الديني السلفي في شكليه الرسمي والشعبي في وضع يؤهله للدفاع عن نفسه مع قلة عتاده في تبرير سيفضي به قطعاً الى مناقضة فاضحة.

    في الثاني من اغسطس 1990 كان ثمة ارتجاج في منظومة القيم والرموز والاشخاص والمواقف، فالازدواجية أصابت كل شيء بدءا من صورة الزعيم الذي كان بالامس حارس البوابة الشرقية وفارس العروبة، فيما أصبح اليوم نموذجاً للجريمة والدموية. ويشاء أن تتكرر هذه الازدواجية طالما بقي الموقف الديني يخضع تحت تأثير التوجيه السياسي وتقلباته السريعة. فبعد الاعلان عن استقدام قوات اميركية واجنبية الى الاراضي السعودية كان ثمة مسعى حثيث لايجاد المبرر الديني. نتيجة ذلك إصدار المفتي العام السابق للمملكة الشيخ عبد العزيز بن باز فتوى تجيز الاستعانة بالاميركيين والاجانب. وفي رد فعل على اللغط الذي أثارته فتوى الشيخ بن باز تلك، ألقى الاخير محاضرة في جامعة الامام محمد بن سعود الاسلامية نشرته جريدة (الشرق الاوسط) في 1/1/1991م قال فيها "يجوز الاستعانة بغير المسلمين للضرورة اذا دعت الى ذلك برد العدو الغاشم والقضاء عليه وحماية البلاد من شره، فاذا كانت القوة المسلحة لاتكفى لردعه جاز الاستعانة بمن يظن فيهم أنهم يعينون ويساعدون على كف شره وردع عدوانه سواءً كان المستعان به يهودياً او نصرانياً او وثنياً او غير ذلك اذا رأت الدولة الاسلامية ان عنده نجدة وان عنده مساعدة لصد العدوان المشترك ".

    ثمة رأي بلا شك يثير شكوكاً كثيفة مع استحضار موقف مكتوب للشيخ بن باز في كتابه ( نقد القومية العربية على ضوء الاسلام والواقع ) يقول فيه بالنص:"قال تعالى( يا ايها الذين آمنوا لاتتخذوا بطانة من دونكم لايألونكم خبالاً ، ودّوا ماعنتم قد بدت البغضاء من افواههم وما تخفي صدورهم اكبر قد بينا لكم الآيات ان كنتم تعقلون )..فانظر ايها المؤمن الى كتاب ربك وسنة نبيك عليه الصلاة والسلام كيف يحاربان موالاة الكفار والاستعانة بهم واتخاذهم يطانة ، والله سبحانه وتعالى أعلم بمصالح عباده، وأرحم بهم من انفسهم.

    "فلو كان في الاستعانة بهم مصلحة راجحة لأذن الله فيه وأباحه لعباده ..ولكن لماّ علم بما في ذلك من المفسدة الكبرى والعواقب الوخيمة، نهى عنه وذم من يفعله.

    "واخبر في آيات اخرى ان طاعة الكفار وخروجهم في جيوش المسلمين يضرّهم ولايزيدهم يذلك الاّ خبالا.. ...واذا اختلط الكفار بالمسلمين وصار بعضهم اولياء بعض، حصلت الفتنة والفساد الكبير، وذلك كما يحلّ في القلوب من الشكوك والركون الى اهل الباطل والميل اليهم، واشتباه الحق على المسلمين نتيجة امتزاجهم بأعدائهم وموالاة بعضهم لبعض، كما هو الواقع اليوم من اكثر المدعين للاسلام ..حيث والوا الكافرين واتخذوهم بطأنة ، فألتبست عليهم الأمور حتى صاروا لايميزون بين الحق والباطل ولابين الهدى والضلال ولابين اولياء الرحمن واولياء الشيطان، فحصل بذلك من الفساد والاضرار مالا يحصيه الا الله سبحانه وتعالى". وكل ذلك اشارة واضحة للرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر حين استعان بخبراء عسكريين من الاتحاد السوفيتي لتدريب القوات المسلحة المصرية .

    على أنه يجب التنويه هنا الى أن موقف الشيخ ابن باز القاضي بجواز الاستعانة بالكفار يخالف ما ذهب اليه مؤسس المذهب الوهابي الشيخ محمد بن عبدالوهاب فقد جاء في الرسالة الثانية عشرة بعنوان ( نواقض الاسلام ) والتي حددها في عشر نواقض وفي الناقض الثامن منها قال:"مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين والدليل قوله تعالى "ومن يتولهم منكم فإنه منهم، ان الله لايهدي القوم الظالمين "[1] ، وبذلك تكون المحصلة النهائية ــ حسب المعتقد الوهابي ــ انه "من استعان بغير الله فقد أشرك في عبادة الله غيره"[2].

    في واقع الامر، أن الخطاب الديني السلفي لم يكن يملك قوة دفاعية كافية لدرء حملات التشكيك التي يثيرها نظام الرئيس العراقي الذي بات يملك من أسلحة الحشد والدفاع ما يفوق قدرة ضحاياه. وربما هذا يفسر لجوء حكومة المملكة الى محاولة كسب تأييد العرب والمسلمين، فقد عقدت في يوم الاثنين 4شعبان /1411هـ الموافق 18/فبراير 1991م مهرجان الجهاد وهو اول خطوة تتخذها الحكومة كاجراء ديني حضره عدد من العلماء من السعودية ومصر الاّ أنه لم يحظ بصدى كبير.

    شعور التيار الديني السلفي بالخديعة في الثاني من اغسطس انتقل من جغرافية الحدث الى تاريخية موسعة لمنظومة ضخمة من الروابط والتحالفات والقيم والمواقف السياسية، ومن السياسي الى الايديولوجي. فالموقف السلفي من الاستعانة بالقوات الاميركية والاجنبية لم يتأسس على خلفية سياسية أي علاقات الاستتباع والاهداف السياسية المختبأة خلف قدوم قوات عسكرية اجنبية تنتمي الى قوة عالمية، وانما جرى انزال الموقف في قالب ايديولوجي أكثر اتساعاً. فالسياسي من الموقف السلفي يفترض انحصار مجال التجريم أو حتى المجابهة داخل دائرة ضيقة تضم الضالعين بصورة مباشرة في أي ترتيبات لقدوم قوات عسكرية أجنبية الى السعودية، بيد أن الايديلوجي يمتد الى مساحة أوسع تستوعب داخلها مجتمع أو مجتمعات بكالمها ضمن دائرة المجابهة والتجريم. بكلمات أخرى، أن الاستعانة بالقوات الاميركية لم تعالج ضمن منظور سياسي يقوم على علاقات غير متوازنة بين دول كبرى واخرى صغرى تفضي في الغالب الى آثار وخيمة على الدول الضعيفة من خلال علاقات قهرية، واتفاقيات غير متكافئة عسكرية واقتصادية، بينما جرت المعالجة على قاعدة دينية أي النظرة الصارمة المتضمنة لحكم ديني يفوح بالكراهية الشديدة لمجتمعات مصنفة على أنها كافرة او مشركة بما تبطن احكاماً قصاصية مدوّنة في الاضابير الدينية السلفية.

    نقرأ هذا الموقف الايديولوجي في محاضرة للشيخ سلمان العودة المحاضر السابق في جامعة الامام محمد بن سعود الاسلامية بالرياض فقد تحدث مساء يوم الاحد 7 صفر 1411هـ في الحلقة الثامنة عشر حول "اسباب سقوط الدول " وقال في التاسع منها: (عدم تميز العدو من الصديق ) وذكر " بأن اليهود والنصارى اعداء مشركون ومن المؤسف ان يتحول هؤلاء للمسلم أصدقاء وأعواناً " وقال ايضاً " ان ثقتنا في هؤلاء اليهود والاميركان والبريطانيين والفرنسيين والشيوعيين الروس ليست في محلها وان كانوا في الظاهر يحموننا ولكنهم يجرّون إلينا خطراً كبيراً.. إننا نعلم خبايا هؤلاء وأغراضهم في بلاد الإسلام خاصة بلادنا التي حباها الله بهذه الثروة ـ البترول... فكيف نثق بهم وقد ذكر الله سبحانه وتعالى في كتابه العداوة التي بين المسلمين وبينهم".

    واستنكر الشيخ العودة في محاضرة أخرى بعنوان (ويل للعرب من شر قد اقترب) موقف الحكومة السعودية من وجود القوات الاميركية من منطلق ايديولوجي، حيث استنكر عدم اتخاذ الحكومة" خطوات للعمل، للجهاد" وعليها "أن ترفع الخطأ بسبب الكفار والتبرؤ منهم واعلان الجهاد ضدهم إن كانوا ـ آل سعود ـ صادقين".

    وعلى نفس النسق الاحترابي ضد اميركا لا كقوة سياسية تخضع لانتقادات حادة من قبل دول وشعوب ومنظمات وجماعات عديدة في ارجاء العالم، وانما اميركا كمعسكر ايديولوجي، انتقد الدكتور سفر الخوالي رئيس قسم العقيدة بجامعة أم القرى بمكة في محاضر بعنوان (فستذكرون ما أقول لكم)، انتقد موقف العائلة المالكة من الغرب متسائلاً "وهل نثق بأن الكفار يدافعون عنا.. إن اميركا هي عدو للمسلمين".

    وفي سياق الادلجة ايضاً تأتي معارضة الحوالي لوجود ثلاثين الف امرأة لحماية أبناء هذا البلد بينما "نحن لا نقوم بدفع الشر عن انفسنا.. واذا كان صدام قد أذل الامة، فالغرب أيضاً قد أذل الامة". وحدد الحوالي ثلاثة أهداف للوجود اللاميركي في المنطقة: إذلال الامة الإسلامية، وضرب الامة الإسلامية، واستنزاف خيرات المنطقة.

    إن ثمة نزعة بعداً اسكاتولوجياً للغة الاحتراب هذه في الخطاب السلفي، فقد دعا الشيخ الحوالي الى "اعداد العدة لمقاتلة الغرب لأنهم أعداء لنا الى يوم القيامة انهم سيحاربوننا يوماً ما". وفي ختام المحاضرة سأل أحد الحضور عن اعتماد بعض الأدلة الضعيفة لتشريع الاستعانة بالقوات الأجنبية فقال الحوالي: "لا يصح أن تستدل بدليل ضعيف من أجل قضية غير صحيحة" وأضاف بأن رسول الله (ص) لم يستعن بالمشركين في معاركه.

    سلسلة المحاضرات والخطب العامة لرجال الدين ولا سيما رجال المؤسسة الدينية الرسمية أجمعت على موقف ايديولوجي موحد هو التنديد بالوجود الأميركي كتمظهر للمجابهة المؤجل احتدامها بين الشرك والايمان وان آل سعود أسرى في أيدي المشركين. ولابد أن ثمة في موروث السلف ما يقعّد هذا الموقف، فقد ذكر الماوردي أسباباً لخروج الإمامة منها القهر وقال "وأما القهر فهو أن يصير مأسوراً في يد عدو قاهر لا يقدر على الخلاص منه فيمنع ذلك عن عقد الإمامة له لعجزه عن النظر في أمور المسلمين، وسواء كان العدو مشركاً أو مسلماً باغياً، وللأمة اختيار من عداه من ذوي القدرة"[3].

    سلاح التكفير: تهريب من مخازن الدولة

    مثّلت المؤسسة الدينية بانبثاثاتها الشعبية والمؤسسية الضمانة الكبرى لتحقق اسلامية الدولة وبالتالي مشروعيتها الدينية التي ستكون مكفولة على الدوام طالما بقي التحالف الوهابي السعودية متماسكاً. بل كانت الدولة بوجود حليف ديني راسخ الجذور ومتحصن خلف ترسانة ايديولوجية وشعبية قادرة على تقويض اركان خصومها المحليين بسهولة. فطيلة تاريخ الحكم السعودي كانت المؤسسة الدينية الوهابية العصا الغليظة التي تضرب الدولة بها القوى المعارضة دينية أو وطنية، فالأولى نصيبها حكم (الخوارج) والثانية قدرها حكم (الشيوعية) لتبرير إنزال أقصى العقوبات ضد هذه القوى وتصفية وجودها بصورة عنيفة وقمعية.

    ويجب الفات الانتباه الى أن سياسة العصا الغليظة تلك طالت حتى الذين نشأوا داخل المؤسسة الدينية الرسمية حال خروجهم على السلطة والتنديد بممارساتها غير المشروعة. ولعل أبرز مثال في هذا الصدد جهيمان العتيبي الذي كان عضواً في الحرس الوطني مدة ثمانية عشر عاماً وطالب الفلسفة الدينية في جامعة مكة الإسلامية وانتقاله فيما بعد الى الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة حيث التقى هناك مع محمد بن عبد الله القحطاني تلميذ الشيخ عبد العزيز بن باز في الفلسفة الإسلامية.

    كتب جهيمان العتيبي سبع كراريس تعالج موضوعات سياسية ودينية يقول في كتابه (دعوة الإخوان كيف بدأت والى اين تسير): نحن مسلمون نود أن نتعلم الشريعة لكنا سرعان ما أدركنا أننا لا يمكن أن نتعلم في مؤسسات تقيدها الحكومة.. لقد انفصلنا عن الإنتهازيين والمأجورين.. ". اما موقفه من آل سعود فيتحدث جهيمان "فهؤلاء الحكام ليسوا ائمة لأن إمامتهم للمسلمين باطلة ومنكر يجب انكاره..لانهم لايقيمون الدين ولم يجتمع عليهم المسلمون وانما اصحاب ملك سخروا المسلمين لصالحهم بل جعلوا الدين وسيلة لتحقيق مصالحهم الدنيوية فعطلوا الجهاد، ووالوا النصارى( امريكا ) وجلبوا على المسلمين كل شر وفساد.نسأل الله ان يريح المسلمين منهم ويجعل لهم من لدنه ولياً ويجعل لهم من لدنه نصيراً "[4]. كما تضمنت الكراريس الست انتقادات حادة للمؤسسة الدينية الوهابية ورجالها وخاصة فيما يرتبط بصمتها ازاء مفاسد السلطة.

    وحينما قاد جهيمان العتيبي اانتفاضته في مكة المكرمة، كان أول وصف اطلقه الاعلام السعودي على جماعة جهيمان او( الاخوان الجدد ) بأنهم "زمرة من الخارجين على الدين الاسلامي "وتكررت هذه المقولة على لسان الامير نايف وزير الداخلية السعودية باشكال مختلفة فتارة يصفهم بأنهم "مجرمون "واخرى "منحرفون وخارجون عن حقيقة الدين الاسلامي "وثالثة"طغمة فاسدة خارجة عن الدين الاسلامي "ورابعة "شرذمة فاسدة مفسدة "وخامسة "مجرمة وخارجة ".

    وبعد أكثر من عقد حدث ما يشبه انشقاق داخل التيار الديني السلفي على قاعدة سياسية مالبث ان اجتذب بعداً ايديولوجياً فرض سطوته على مجمل المناظرات التي دارت لاحقاً بين طرفي التيار السلفي، طرف يعبّر عنه بلغة متحفظة الخط الديني التقليدي الرسمي: ويترمز هذا الخط في المفتي العام السابق الشيخ عبدالعزيز بن باز رئيس الادارات العامة للبحوث والأفتاء والدعوة والارشاد وعضو بارز في هيئة كبار العلماء واغلب عناصر هذا الخط هم من علماء الدين الكبار في السن ويقفون في صف واحد مع السياسة السعودية، كما يشكلون الغطاء الشرعي لممارساتها. ورغم ما شاع عن تشدد الشيخ بن باز الاّ انه يظهر التسامح فيما يخص تجاوزات السلطة، تعكس ذلك الفتاوى المتعارضة احياناً مع معتقده الاصلي. وكثيراً ما كان يرجع صمته عن مفاسد السلطة الخوف منها في ضرب القوة الدينية وتقليص حجمها، فيما كان يبرر اصداره فتوى جواز الاستعانة بالقوات الاجنبية بعم وضوح الحق من الباطل وانها على حد تعبيره ــ فتنة !!

    ويندرج في الخط نفسه الشيخ ابو بكر الجزائري( سعودي من اصل جزائري ) القطب الثاني بعد بن باز. وقد التزم الشيخ الجزائري موقفاً مؤيداً لسياسة الحكومة السعودية في ازمة احتلال الكويت وقال في خطبه له بمكة المكرمة: ان النبي محمد عليه الصلاة والسلام قد استعان باليهود والنصارى في حروبه ضد المشركين وان المملكة فعلت الشيء نفسه ". وهذا الخط ينسجم مع المشروع السياسي السعودي، كما يلعب هذا الخط دوراً كبيراً في الهيمنة على المؤسسات الدينية الرسمية ولاسيما الجامعات الاسلامية في الرياض ومكة والمدينة اضافة الى هيئات الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ...كما يمتاز بعض اقطاب هذا الخط ولاسيما الشيخ بن باز بسلطة روحية على شريحة واسعة من رجال الدين وخاصة المتخرجين على يد الشيخ بن باز الذي يلقبه رجال الدين هؤلاء بــ( الوالد ).

    نشير الى أن التأسيس الايديولوجي لهذا الخط قد لا يختلف كثيراً عن الخط المنشق عنه لاحقاً متمثلاً في تيار سلفي متشدد ينتمي اليه جيل الشباب، الا أن الفارق هو قدرة اقطاب التيار السلفي المحافظ على تسكين نزعة التطرف تبعاً للمصالح السياسية والظروف الموضوعية.

    ـ الخط السلفي الاحتجاجي: ويتمركز هذا الخط في منطقة القصيم ذات الثقل النوعي والعمق الاستراتيجي لعناصر الخط. ويعد الشيخ محمد بن عثيمين عضو هيئة كبار العلماء المرشد الروحي لهذا الخط يجمع حوله كثيرا من الجماعات السلفية المتطرفة وقد حاولت الحكومة استمالته الا انها فشلت في ذلك. ولقي ابن عثيمين تعاطفاً كبيراً من قبل رجال الدين سيما الشباب منهم لمكانته العلمية ومواقفه الشجاعة من السلطة ويبدوا أن مؤشرات ظهور هذا الخط تعود الى ما قبل ازمة الخليج بسنوات. يعزز ذلك الاوامر والتعاميم الصادرة عن وزارة الداخلية ووزارة الاوقاف الخاصة بتنظيم المساجد وخطب الجمعة. ففي محاولة لاغلاق مصادر اشتعال الخطاب السلفي بنبرته الاحتجاجية المناوئة للدولة، فرضت الاخيرة اجراءات ضد بعض عناصر هذا الخط سيما الخطباء والدعاة. فبحسب اوامر وزير الداخلية الى وزير الحج والاوقاف الدكتور عبدالوهاب عبدالواسع صدر تعميم الى كافة ائمة وخطباء المساجد وذلك بتاريخ 10/8/1985م جاء فيه:

    1ـ يحظر توزيع النصائح والارشادات المكتوبة أو لصقها او وضعها في أي مكان في المسجد.

    2ــ لايسمح بالتحدث في المساجد لغير العلماء والمشايخ المعروفين بأشخاصهم في البلاد والمأذون لهم بتصريح حكومي مكتوب.

    كما أصدر مدير عام الاوقاف بالمنطقة الشرقية سيف ابراهيم السيف تعميماً عاجلاً جاء فيه :

    "اشارة الى تعميم معالي الوزير رقم 4597/402في 22/1402هـ المبني على خطاب صاحب السمو الملكي وزير الداخلية رقم /ب/6/1/19313في 26/9/1402هـ والخاص بعدم السماح لأحد بالقاء خطبه او طلب حاجة ما لم يكن لديه تصريح رسمي بذلك "لذا عليكم مراعاة ذلك وابلاغنا بمن يعارض ذلك، حتى يتخذ الاجراء به "وفي 30/5/1409هـ صدر تعميم الى الخطباء ينص على "عدم التعرض كلامياً بسوء لليهود والنصارى "تحت مبرر ان "هذا يجنب البلاد الاحراجات مع الدول الأخرى ".

    وكان آخر اجراء اتخذته الحكومة السعودية ضد عناصر الخط الديني الساخط في بداية شهر شوال عام 1410هـ حيث اصدر امير الرياض سلمان بن عبدالعزيز قراراً ينص على عزل العشرات من ائمة المساجد ومنع تداول محاضرات تسعة من رجال الدين وهم: محمد احمد الفراج، سعد البريك، عبدالله المطرود، عبدالعزيز الجربوع، عادل سالم الكباني، محمد علي المقح، عبدالاله المؤيد، محمد ناصر الجعوان، طلال الصولمي، احمد القطان ( كويتي الجنسية ) عبدالحميد كشك (الداعية االمعروف) وقد تم مصادرة كافة الاشرطة المسجلة الخاصة بالمحاضرات الدينية لهؤلاء الدعاة التسعة وكان عدد من هؤلاء قد لعب دوراً بارزاً في نقد السياسة السعودية إبان ازمة الخليج كما شارك بعضهم في صياغة وثيقة الاصلاح التي قدمها اثنان وخمسون عالمـاً ومحاضراً وقاضياً ــ وهم في الغالب عناصر من التيار الديني الساخط ــ الى الملك فهد .

    عودة الى سياق الحديث عن التيار السلفي المتشدد الناشيء من باطن المؤسسة الدينية الرسمية، فإن ثمة حضوراً كثيفاً للتيار الجديد في الاوساط الاجتماعية في الشهور السبعة لازمة الخليج عن طريق القاء الخطب والمحاضرات ذات الطابع الاحتجاجي المتصاعد ضد الحكومة. فقد ألقى الشيخ عادل الكباني امام جامع الملك خالد بالرياض خطبة أمام حشد من المصلين: "ان الحكومة تريدنا ان نعيش مثل الآت التسجيل. تضع الشريط وتضغط الزر ليخرج كلام من نوع ما، وتبدل الشريط وتضغط الزر ليخرج كلام آخر هو نقيض الاول". ويشير بذلك الى تبدل موقف الحكومة السعودية من صدام حسين، كما القى الشيخ عايض القرني( محاضرّة بكليّة الشريعة بأبها ) محاضرة مماثلة تحت عنوان ( سهام في عين العاصفة ) ودعا الى الجهاد ضد الغرب والواقع القائم في البلاد واستنكر وجود القوات الاميركية في السعودية وقال "انها تريد الاماكن المقدسة "
    "أن تشعل شمعة خير من أن تلعن الظلام"
    كونفوشيوس (ع)

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Nov 2002
    المشاركات
    4,192

    افتراضي

    من جهة ثانية القى شيخ سليمان عودة( عنصر بارز في التيار الديني الساخط ) عدة محاضرات نقدية لمؤسسات الحكم السعودي وسياسته العامة ولعل ابرزها محاضرة بعنوان ( اسباب سقوط الدول ) والتي استعرض فيها مساوئ النظام السعودي يقول العودة "نحن نغزى منذ سنين ويحفر لنا في جوانب عديدة، في جانب السياسة، الاعلام، الصحافة، الراديو، الاذاعة..حتى انك اذا استمعت الى بعض البرامج في اذاعة المملكة سواء كانت اذاعة الرياض او اذاعة البرنامج الثاني، والله لتقول ان هذه الدولة ـ السعودية ـ وكأنها لاتدين بالاسلام..والمخطط جاري منذ سنوات ". وحدد العودة اثنا عشر سبباً لسقوط الدولة منها: الاستبداد والفردية في الرأي وزوال الشورى " ذلك لأن الله سبحانه وتعالى اعطى لكل انسان عقلاً وفماً وانسانية وشخصية، فاذا اهدرت عقل الانسان وشخصيته، فانه لاينفعه ان تعطيه الدنيا كلها..اننا نرى الدولة الشرعية تهتم بقضية الشورى فالحكومة التي اقام بنيانها النبي محمد ( ص ) كانت تقوم على الشورى ( وشاوروهم في الامر ) ( وامرهم شورى بينهم ) وكأن رسول الله يقول لاصحابه شوروا عليّ..اما الحكومات غير الشرعية والاستبدادية فانها تقول ( ما أراكم الاّ ما أرى وما أهديكم الاّ سبيل الرشاد ) ومن تلك الاسباب الظلم يقول عودة ( ان الظلم من اعظم اسباب زوال الدول ) واستند العودة على حديث ورد في مسند ابن حنبل وابن تيميه ( اتق دعوة المظلوم ولو فاجراً ) وقال بأن "الظلم على نوعين: ظلم عام وظلم خاص: "في الظلم العام تجد نهب اموال الرعية وأخذ اراضيهم واستقطاعها والمحسوبية في الشركات والاعمال والوظائف، والتفاوت والطبقية..فإذا كان ضعيفاً اقاموا عليه الحد، واذا كان قوياً تركوه، فكأن هناك اناس يجري في عروقهم دم مقدس ــ يقصد بذلك الامراء ــ فإذا زنوا وسرقوا لم تقم عليهم الحدود..ان العدل ليس تهريجاً او خداعاً للناس كما يجري في الاعلام ".

    وتحدث العودة عن فساد الاقتصاد ــ كأحد اسباب سقوط الدول ــ وقال "ان المال يكسب سخط الجميع فاذا مست الدولة اموال الناس فإنها تكسب سخط الجميع.. ومن مظاهر مساس اموال الناس فرض الضرائب والأتاوات بكثافة حتى أثقلت كواهل الناس حتى يتمنى الناس زوالها وزوال من فرضها عليهم..وهكذا ظاهرة الرشوة على مستوى الفرد او المسؤولين، او احتكار السلع، او الشركات والاعمال لأشخاص معينين ".

    ومن ابرز اقطاب هذا الخط الدكتور سفر الحوالي( رئيس قسم العقيدة بجامعة ام القرى بمكة ) حيث لقيت محاضراته انتشاراً واسعاً في صفوف الجماعات السلفية مما حدا بصحيفة نيويورك تايمز أن تكتب مقالاً في عددها الصادر يوم 24 نوفمبر 1990م تحت عنوان ( اشرطة الحوالي ) وان تعتبره الصحيفة "المتحدث الرئيسي باسم الوهابية "وفي مخاضرة له بعنوان ( فستذكرون ما اقول لكم ) انتقد فيها مظاهر الفساد في الاعلام والاقتصاد والسياسة ففي الفساد السياسي انتقد لموقف الحكومة السعودية من الغرب وتسائل قائلاً "هل نثق بأن الكفار يدافعون عنا "اما عن الموقف من العراق فقال الحوالي "ندفع الملايين لصدام خلال عشر سنوات ثم ترتد اموالنا علينا ...الذين ساعدوه وأعطوه ..فمن لم يساعده ولم يعطه ...فهل ذلك من ظلم الله لنا لاوالله وانما الله امرنا ان نعطي حيث امرنا ان نعطي ولا نملأ الاّ من حيث امرنا ان نملأ وعندها ينصرنا الله".

    كما طالب الحوالي بالغاء الربا والزنا والغناء والرشوة اضافة الى الغيبة والنميمة والحقد والبغضاء والغاء كل نظام يخالف شريعة الله. وكن يؤكد الحوالي في اغلب محاضراته على فكرة مركزية هي اساءة فهم المسلمين للاسلام ولزوم التوبة الى الله والرجوع إليه، بما يتبطن غالباً حكماً مريباً بانحراف المجتمعات المسلمة فضلاً عن الكتابية.

    يمكن القول كنتيجة مكثّفة لما سبق أن التكفير لم يكن ابتكاراً حديثاً في حينه بل استعملته الدولة مع خصومها المحليين ثم جرى تهريبه من مخازنها ليستعمله حلفاء الامس.

    ـ تسييس التيار السلفي: والمنطلق الديني

    ثمة كتابات صدرت بأقلام من داخل او مقربة من تيار السلفية السياسية تنزع مشروعية الدولة السعودية وتضعها في خانة الدول غير الدينية. فرغم الشكوك التي أثيرت حول هوية مؤلف كتاب (الكواشف الجلية في كفر الدولة السعودية) رغم اللغة السلفية الفاقعة التي تكشف الحرفية السلفية الشديدة الوضوح والنزعة السيكولائية لمؤلف الكتاب، فأن "مذكرة النصيحة" بموقعيها الذين يربو عددهم على المائة والعشرين موقعاً تكشف بوضوح موقفاً غير قابل للتفسير. فمضمون المذكرة وخطة الاصلاح الشامل للدولة او مشروع أسلمة الدولة من أسفل الى الاعلى توحي بأن ثمة حكماً صارماً يتبناه الموقعون وهو نزع رداء الشرعية الدينية عن الدولة السعودية بما تطلب عملية اعادة تأهيل ايديولوجي لها من خلال اعادة تأسيس الاجهزة الدولتية وسياساتها على أساس اسلامي.

    ان انهمار عناصر الخط الديني الساخط في خط احتجاجي منفصل عن مجال التأثير الروحي لعلماء الدين الكبار من اقطاب المؤسسة الدينية التقليدية، أفضى الى انكماش مجال الاستقطاب الروحي لحساب عناصر جديدة حكمت معادلة المؤسسة الدينية منها ظهور زعامات شابة ترفض الواقع القائم في المؤسسة الدينية وتدعو الى عملية تغيير شاملة في جذور المؤسسة، وثانياً اكتساح الخط الديني الساخط على الحكومة والمدعوم من العناصر السلفية الشبابية والمنتشرة في بقاع مختلفة من المملكة مما أدى الى تهميش الخط التقليدي لاسيما مع اتساع شق الخلاف بين التيار الديني الساخط والحكومة السعودية ، وزاد في قوة تيار السلفية السياسية انضمام عناصر متشددة من قمة الهرم الديني الرسمي امثال الشيخ عبد الله بن جبرين.

    إن اعلان قطاع كبير من افراد المؤسسة الدينية الرسمية فك الارتباط مع الخط السياسي الحكومي يعد أخطر مؤشر على دمار أسس التحالف بين الديني والسياسي, أسس ليس بالامكان ترميمها منذاك. فالجهاز الديني شكّل لفترة طويلة الحماية للنظم السعودي كما أسبغ عليه الشرعية حتى وإن تطلب الامر إيجاد احكام تسويغية تفتقر الى مفاهيم الشرعية او ضرورات دينية ما عدا الضرورات السياسية !! من هنا كان وقوع تمرد داخل المؤسسة الدينية بحجم لم يسبق له مثيل في تاريخ الموسسة يعد تحولاً استراتيجياً في جوهر التحالف.

    ومن خلال قراءة الخطاب الذي وجهه اثنان وخمسون شخصية من علماء الدين والدعاة والمعلمين والقضاة ومدراء الاقسام في الجامعات والمعاهد والمراكز والمؤسسات الدينية نجد انه يحتوي على اثارات في غاية الاهمية والدقة منها ان الخطاب فيه اقرار بفساد المؤسسات الحكومية ( الداخلية والخارجية والاعلام ووزارة العدل والقضاء والجيش والبنوك..] كما ان الخطاب يسحب من الحكومة السعودية الشرعية الدينية من خلال المطالبة بعرض اللوائح والانظمة السياسية والاقتصادية والارضية وغيرها على احكام الشريعة الاسلامية من خلال لجان شرعية موثوقة ذات صلاحية .

    وهذا الحكم ينال موافقة اعضاء في اكبر سلطة دينية في الدولة السعودية ( هيئة كبار العلماء ) امثال عبدالله بن عبدالرحمن الجبرين والدكتور صالح بن فوزان، وعبدالله بن مسعود ( عضو الهيئة المذكورة سابقاً ) علاوة على تأييد القطبين البارزين في( هيئة كبار العلماء ) الشيخ عبدالعزيز بن باز بعد ان اضاف عبارة "على اساس الشريعة الاسلامية "والشيخ محمد بن صالح العثيمين إضافة الى تأييد مئات من العلماء والقضاة وأساتذة الجامعات والدعاة والمثقفين .

    ولعل الاكثر إثارة ان الخطاب المذكور انتشر بكثافة هائلة في اوساط التيار السلفي المتواجد في اغلب مناطق المملكة قبل أن يصدر جواب من الاسرة المالكة والملك فهد على وجه الخصوص.

    أثار خطاب التيار السلفي التجريمي مخاوف العائلة المالكة، فجرت مداولات بين كبار اعضاء العائلة للبحث عن امكانية للحل، وكان ثمة اصرار على أن أي حل مقترح يجب ان يأتي عن طريق نفس المؤسسة الدينية لقدرتها في التأثير على التيار الديني المتمرد..لقد تبقى حيز بسيط من المناورة مع التيار الديني، عبر استخدام بقايا رهان المؤسسة الدينية الرسمية، خاصة وان ثمة تناقضات في المجتمع قابلة للاستغلال دون حاجة لتورّط الدولة مباشرة. لجأت العائلة المالكة الى ( هيئة كبار العلماء ) رغم الانقسام الواضح في داخلها، وصدر بيان لمجلس هئية كبار العلماء عقب إنعقاد دورته الاستثنائية المنعقدة في الرياض في يومي 18و19/11/1411هـ في ظل غياب أربعة من اعضاء الهيئة هم: عبدالله خياط وسليمان بن عبيد وابراهيم بن محمد آل الشيخ وعبد المجيد حسين وقد ورد في البيان تحت اسم كل واحد منهم عبارة ( لم يحضر لظروف صحية ).

    وممل جاء في البيان "وبعد اطلاع المجلس على ما تناقلته بعض وسائل الاعلام المسموعة والمقروءة وما تداولته بعض الأيدي حول ما كتب لولي الأمر عن امور يراد تحقيقها، فان مجلس هيئة كبار العلماء يستنكر الطريقة التي سلكت في نشر وتوزيع ما كتب في ذلك، ويحذر من مغبة تكرار مثل ذلك مستقبلاً، ويرى ان الطريقة التي استخدمت في نشر وتوزيع ذلك لاتخدم المصلحة ولا تحقق التعاون على البر والتقوى"[5].

    وليس ثمة شك في ان البيان قد اعطى مبرراً جديداً للحكومة السعودية في قمع التيار الديني الساخط وهو ما حصل بالفعل فقد تعرض عناصر هذا التيار الى الاعتقال والتعذيب والحصار الامني فقد ذكرت بعض المصادر المقربة من التيار الديني ان ثلاثمائة عنصراً من العناصر البارزة ( خطيب أمام مسجد، محاضر، استاذ جامعة ) قد دخلوا السجون السعودية اضافة الى عشرات آخرين تعرضوا الى عمليات استجواب من قبل الاجهزة الامنية علاوة على استبعاد العشرات من ائمة المساجد. كما منع عدد من المحاضرين من التيار الديني الساخط من القاء الخطب والمحاضرات.

    الصراع البديل...الهروب للاعلى



    ثمة تفنية سياسية شائعة عن العائلة المالكة مستلهمة من تجارب المواجهة محلياً وهي قدرة النظام على صناعة الصراع البديل والذي يعني فتح جبهات متعددة تفسح الطريق امام الحكومة للانسحاب من المعركة الى اعلى الهرم وحصر المعركة بين قوى متباينة في الاتجاه السياسي وحتى الفكري لاضعاف الطرفين او ضرب الطرف الاقوى ثم جني الثمار من هذا الصراع وإحكام السيطرة بعد سقوط الضحايا .

    هذه الحقيقة تبدو جلية في الصراع الدائر بين التيار الديني السلفي المتمرد والتيار الوطني وقد تفجر هذا الصراع بصورة علنية بعد خروج مسيرة نسائية في يوم الثلاثاء بتاريخ 19 ربيع الآخر الموافق 16 نوفمبر 1990م في شوارع بالرياض تطالب الحكومة بالسماح للنساء السعوديات قيادات السيارات، وان هؤلاء النسوة ــ البالغ عددهن 46 امرأة ــ يحملن شهادات عالية ويعملن في وظائف على درجة كبيرة من الاهمية( معلمات مربيات وصحفيات وباحثات ) وكثير منهن معروفات في عالم الثقافة والفكر وخاصة في شؤون المرأة .

    وقد رفعت النساء المشاركات في المسيرة خطاباً الى امير الرياض سلمان بن عبدالعزيز يشرحن فيه اهداف المسيرة وخلفيات مطالبهن والوجهة الشرعية بشأن قيادة النساء للسيارات، سيما وان المجندات الاميركيات كانت تقمن بصورة مكثفة بقيادة السيارات داخل الاحياء المدنية والقروية في مناطق مختلفة من السعودية. هذه الحادثة كانت بمثابة عود الثقاب الذي اشعل فتيل الصراع بين التيار الوطني والتيار السلفي بكافة انشقاقاته، فقد شن الاخير هجوماً عنيفاً على النساء اللاتي شاركن في المسيرة ووجهوا اليهن اقذع التهم ( الساقطات، الفاسقات، المتبرجات...) رغم أن النسوة ينتمي معظمهن الى عائلات واسر معروفة ومنهن نساء ينتمين الى عائلات دينية محافظة مثل عائلة آل الشيخ وعائلة الجربوع التي يسيطر رجالها على هيئة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر.

    هذا الهجوم العنيف من قبل عدد كبير من العلماء والخطباء والسلفيين أثار حمية أزواج النساء المشاركات في المسيرة بالدرجة الأولى كما اثار حفيظة عوائلهن وامتعاض كثير من فئات الشعب مما حدا بأزواج اولئك النسوة الى كتابة رسائل احتجاج الى الحكومة والى الملك فهد خاصة، طالبوا فيها بايقاف الحملات التشهيرية التي يقوم بها بعض الخطباء ورجال الدين وائمة المساجد ضد ازواجهن.

    ولم تتوقف القضية عند هذا الحد بل تنامت عملية الصراع وطالت مواضيع اخرى تكثفت حملات التشهير تلك وبدأ التيار السلفي الساخط بعملية "نشر غسيل" للتيار الوطني وبالاسماء استكمالاً لما تم نشره في عام 1988م على الحداثيين (الحداثة في ميزان الاسلام) (محاضرات مسجلة على كاسيتات نشرت بعضها في مجلة "الناقد "في عددها الاول ) ومقالات في مجلة الدعوة السعودية...

    اتسمت حملات التشهير المتبادلة بين التيارين الوطني والسلفي بالحدية الشديدة. فقد وصف خطباء التيار السلفي رجال التيار الوطني بالعلمانيين والكائدين للاسلام والعملاء للغرب والمناهضين للدين والمحاربين الدعوة الى الله ولم يتردد هؤلاء الخطباء في ذكر المؤسسات واسماء العاملين فيها (الصحافة والاعلام والجامعات، والمعاهد، والوزارات...). في المقابل شهر التيار الوطني سلاحه في مواجهة هجمات الجماعات السلفية في عملية تشهير واسعة النطاق لإنزال ضربة قاصمة لتلك الجماعات في اول هجوم من نوعه. فقد اصدر الدكتور غازي القصيبي ــ وزير المياه الحالي ـ كتاباً مثيراً بعنوان (حتى لاتكون فتنة) يحتوي على اربع رسائل موجهة الى أقطاب التيار السلفي الشيخ ناصر العمر والشيخ عائض القرني والشيخ سلمان عودة في 218 صفحة، قدّم فيه قراءة نقدية لخطاب السلفية السياسية. وحاول في الوقت ذاته اعادة الاعتبار الديني للدولة السعودية، والتي وصفها القصيبي بأنها "تجسيد حي لفكرة ان الاسلام هو الدين والدولة ..رئيس الدولة هو امام المسلمين قبل ان يكون الملك ..ومن هذا المنطلق تخلى امام المسلمين في المملكة عن اللقب المعتاد للملوك ـ صاحب الجلالة ــ وجعل لقبه خادم الحرمين الشريفين ، فتأمل ابعاد هذا القرار ".

    حاول الدكتور القصيبي اضعاف اسس مشروعية طبقة الفقهاء المتشكلة داخل الدولة دون قصد الاضرار بالاخيرة، من خلال اضعاف أسباب انخراط الديني في السياسي، حيث أكد "ان السياسة ليست ساحة للفقهاء" وعدّ الفقهاء المتسللين الى الحقل السياسي بـ "الفقهاء السياسيون "ومحذراً كما يظهر في خطابه الى الشيخ القرني من ان يكون "خميني المملكة القادم "ودعاه اكثر من مرة "إلزم امام المسلمين (الملك) يا أخي عايض القرني ". على اية حال وقع القصيبي ومن راسلهم في ذات المأزق في عملية افراغ متبادلة لمشروعية الآخر.

    على أية حال كان كتاب القصيبي فصلاً من فصول المعركة المحتدمة، اجتذبت اطرافاً عديدة من التيارين، فقد انضم الى جبهة الدكتور القصيبي جمعاً من الصحفيين والمثقفيين من العاملين في الجرائد والمجلات السعودية، كما تحولت الجامعات الى مسرح صراع مكشوف للتيارين السلفي والوطني حيث كان يحاول طرف دفع الآخر نحو الهاوية.

    وجاء رد التيار السلفي على كتاب القصيمي سريعاً وعنيفاً، حيث صدر كتاب (العلمانية في العراء ـ القصيبي شاعر الامس ، وواعظ اليوم) عن دار الكتاب بولاية شيكاغوا الاميركية تضمّن ثلاث رسائل لثلاث شخصيات من التيار السلفي (وليد الطويرقي، الدكتور محمد سعيد القحطاني، سعيد بن مبارك آل زغير) وقد كتب المقدمة احد اعضاء هيئة الكبار العلماء الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن الجبرين، قال فيها "الفاسق بملء شدقيه..وان من الجهاد باللسان وبالقلم مناقشة دعاة الضلال ورد كيدهم وابراز نواياهم وأسرارهم كي يبين خزيهم ويعرفوا ..فلابد من ذكر الفاسق بما فيه كي يحذره الناس ـص 8 ". بل ان الرسالة الاولى جاءت بتشجيع من المفتي بن باز الذي طلب من الطويرقي كتابة رد على رسائل القصيبي التي ضمنها في كتاب (حتى لاتكون فتنة) وقد احتوت مقدمة الناشر على مجموعات من الاحكام الموجهة ضد القصيبي "الفاسق، الفاسد ، المنحرف ، الضال، علم من اعلام العلمانية، عميل من عملاء الاميركان ، دعي، منافق..."

    لقد جاء رد التيار السلفي على كتاب (حتى لاتكون فتنة ) عنيفاً في لغته وفي تقييمه وفي احكامه، ويمكن القول بأنه حملة تشهير ضد شخص الدكتور القصيبي، اهتم معدو الكتاب بالتركيز بكشف اسرار حياته الشعرية والثقافية بل واسرار حياته العائلية وارتباطاته الثقافية، بل امتدت الحملة حتى الى مواقف القصيبي من موضوعات لا يمكن فهمها بمعزل عن شراسة الحملة، كما في رد الفعل على موقف الدكتور القصيبي الدفاعي عن هجوم التيار السلفي ضد الشيعة، ومع ذلك يصر الطرفان على استعمال تهمة اثارة الفتنة.

    معركة التيار السلفي المفتوحة على أفق واسع بدأت من أسفل مع الشيعة ضمن خط السير الطائفي الممتد ومن ثم امع لتيار الوطني داخل دائرة المواجهة مع قوى التحديث، واخيراً مع الدولة باعتبارها قوة ناقضة لاستحقاقات الدين في الدولة.

    إن المراكمة المتصلة لخطاب احترابي يشنه الخط الراديكالي منذ أغسطس 1990 لابد أن يشحن محركات التطرف بالتزامن مع ظروف اقتصادية وسياسية حالكة تمر بها السعودية، فمعكسر الساخطين يتغذى على خطاب احترابي مناهض للدولة ومن يسير في خطها العلوي أي الى المعسكر التي تنتمي اليه دولياً، فالاشارات المتكررة حول مجابهة منتظرة مع معسكر الشرك، لا يقف عند حد مواجهة بين حكومات او جماعات قليلة العدد بل معركة ذات ابعاد شاملة.

    المجابهة التي اندلعت بين الدولة والتيار السلفي منذ عام 1990 أريد تطويرها بامدادات مذهبية تحمل بداخلها جرعات عالية التوتر تقرر توظيفها لمعركة أكبر من تصور الدولة ذاتها. فالمواجهة التي كانت الحكومة السعودية تخشى وقوعوها مع التيار السلفي في يوم ما، والتي كانت ترى في تفجيرات الرياض عام 1995 والخبر عام 1996 أقصى طاقة العنف المتصورة لدى الحكومة من حليفها القديم. ولكن هذا الحليف المتضخم خلال عقدين من الزمن بطريقة غير قابلة للسيطرة وانتشاره اللامحدود في مناطق عديدة من العالم، وتحوله كبؤر توتر نشطة في اكثر من قارة من هذا العالم حمل قوة تدميرية هائلة قادرة على تخريب ليس سمعة الدولة فحسب بل ربما تخريب اسس الدولة ذاتها.

    ان الحاصل النهائي كما يمكن تلخيصه من تحولات علاقة التيار الديني السلفي بالدولة، هو استحالة العودة للوراء بخلق خيارات جديدة واسس مختلفة للعلاقة بين المؤسسة الدينية والسلطة. فالحرص الظاهر احياناً على حفظ علاقة ودية مع المؤسسة الدينية ورجالها قد يخفي في احيان كثيرة نزعة استغلالية لدى جناح في الدولة ضد أجنحة اخرى، أي استخدام الدين كأحد اسلحة الصراع بين الاجنحة، وليس بالضرورة رغبة في تأكيد دور الدين في الدولة، فما جرى منذ الثاني من اغسطس 1990 وحتى انهدام برجي التجارة في الحادي عشر من سبتمبر 2001 يمثل الحلقة الاكثر التهاباً في علاقة مأزومة بين قوتين محدودتين (التيار السلفي والحكومة) رهنت مجتمعاً بكل قواه الاجتماعية والسياسية ومصادره البشرية وثرواته الاقتصادية لأخطاء قد نجزم بوصفها بالفردية.



    --------------------------------------------------------------------------------

    [1] - الجامع الفريد/ ص 321

    [2] - الكلمات النافعة في المكفرات الواقعة ص 333



    [3] - ابو الحسن الماوردي، الاحكام السلطانية/ ص20

    [4] - عن كتلب انتفاضة الحرم/ص39/40

    [5] - نشرت صحيفة الشرق الاوسط نص البيان ووثيقة تضمنت تواقيع هيئة كبار العلماء في عددها الصادر بتاريخ 20/11/1411هـ
    "أن تشعل شمعة خير من أن تلعن الظلام"
    كونفوشيوس (ع)

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
 
شبكة المحسن عليه السلام لخدمات التصميم   شبكة حنة الحسين عليه السلام للانتاج الفني