[align=justify][align=center]
ثقافة الصورة.. التحدي والاستجابة
[mark=CCCCCC]وعي الصورة.. صورة الوعي[/mark][/align]
الدكتور فؤاد إبراهيم *
21 / 3 / 2008م
تطرح الثورة الاتصالية بتمظهراتها الثقافية والمعرفية أسئلة مصيرية من قبيل: هل حقاً نجحت الصورة في وأد الكلمة؟ وهل تبدّلت وسائل صنع الوعي؟ وهل فعلاً بدأت لحظة إعداد بيان نعي موت الثقافة؟. هذه الاسئلة ومثيلاتها تكتسب أهمية خاصة كونها تضعنا أمام أشد التحديات صعوبة، تلك المتصّلة بتكوين الوعي.
مقدمة:
[align=left][/align]
تعرّف الإغريق على المبادىء الأساسية لصناعة الصورة، وفي قرون لاحقة عكف العالم العربي الحسن بن الهيثم على تحقيق حلم إنتاج الصورة حين جرّب انعكاس الضوء بالصور المقولبة داخل صندوق مظلم، ولكن لم يتم تجسيد الحلم إلا في بدايات القرن التاسع عشر، حيث أثمرت الجهود في ضبط التخيّلات عن طريق وسائل ميكانيكية. وفي العام 1822 أجرى الفرنسي نيسيفور ناييس أول تجربة تصوير، وتم التقاط أول صورة فوتوغرافية في صيف العام 1827، من قبل ضابط متقاعد في الجيش الفرنسي، أطلق عليها «هيليوغراف» أي «صورة شمسية»، إستغرق تظهيرها ثماني ساعات.
ولم تبدأ الصورة من الناحية الواقعية إلا سنة 1839، حين سمع العالم عن شيء ما مهول. فقد اخترع لويس داغر طريقة تحميض الصورة الثابتة الملساء على لوح فضي، إستغرق تظهيرها نصف الساعة. وفي العام نفسه، أعلنت الأكاديمية العلمية الفرنسية هذا الاختراع العلمي، حيث اعتبر هذا العام تاريخاً لاكتشاف فن التصوير الطباعي. وفي العام التالي، إكتشف الإنجليزي وليام تالبوت آلية الحصول على صورة مثبّتة على ورق تصوير، وكان هذا الإكتشاف خطوة هامة باتجاه عملية الايجابي سلبي «تصوير سلبي نيجاتيف». وفي العام 1846 أقام الألماني كارل تسايس في مدينة «إيانا» أول مصنع للبصريات وتكنولوجيا التصوير. وفي العام 1888 قام جورج إيستمان «1854 1932» بتجهيز «لفّة» بين المنتوجات الفوتوغرافية، عرفت بإسم فيلم سيلولود، وفي سنة 1895 بدأ تاريخ جديد للصورة، مع ظهور أول صورة متحركة، أطلق عليها ريجيس دوبريه الصورة السائلة.
وكان المصوّر ادوارد موي بريدج «1830 1904» البريطاني الأصل قد تم اختباره من قبل حاكم كاليفورنيا لالتقاط صور متحركة لسباق الخيل المفضل، حيث تم اللقاء مع ثوماس أديسون «1847 - 1931» مخترع الفونوغراف، وقد تأثر بريدج به، فاخترع فيما بعد «زوبراكسكوب»، والذي مهّد في وقت لاحق لإنتاج أفلام سينمائية بوتيرة متسارعة.
في 9 أكتوبر سنة 1934 تمكّن مصوّر فرنسي من التقاط صورة أحد الوطنيين وهو يطلق الرصاص على الملك اسكندر ملك يوغسلافيا في مرسيليا، فأدى الى مقتله ومقتل رئيس الجمهورية الفرنسية، ثم بعث رجل الكاميرا بالصورة من مرسيليا الى باريس، واستطاع القراء أن يشاهدوا الصورة في شوارع باريس على الصفحة الأولى بعد 43 دقيقة من مصرع الملك. وكان هذا الرقم القياسي في سرعة التقاط الصورة وتحميض الفيلم وطبعه وبثّه بالتلفون ثم تحويل الصورة الى كليشيه وطبعها في الجريدة، هي حالة فريدة من نوعها حينذاك.
على أن تلك القصة رغم كونها مازالت تحتفظ بقدر كبير من الإثارة، ولكن ثورة الإتصالات الكبرى الحاصلة في العالم قللت كثيراً من شان تلك المغامرات النادرة بالوسائل البدائية، لكثرة البدائل التقنية المعقدة التي تقوم مقام طاقم كبير من الموظّفين. ففي العقد السادس من القرن العشرين حصل التحول الدراماتيكي في التقانة الإعلامية، مع انطلاق أول قمر صناعي من الولايات المتحدة في العام 1962، وكان يحتوي على شبكة إتصالات ضخمة عرفت باسم «Telestar»، يتجاوز إرساله حدود الولايات المتحدة ليغطي قارات العالم تقريباً، بعد إدخال جملة من التحسينات والتعديلات الفنية العام 1964.
بهذا، ألغت الثورة التقنية العارمة في نظام الاتصالات الحاجة الى القوى البشرية، وأطاحت العديد من وسائل الإعلام التقليدية، وأنماط العمل الإعلامي السائدة فيما مضى، وبات الإعتماد بدرجة أكبر على الكمبيوتر والأجهزة الالكترونية، ففي عام 1993 بدأ الحديث عن الكتاب الاليكتروني الذي أضحى الآن حقيقة. ويخوض الكمبيوتر في الوقت الراهن حرباً ضروس في مجال إنتاج الصورة وتوزيعها، بعد أن أصبح، بفضل تطوّر التكنولوجيا الصورية، المسؤول عن انفجار صوري كوني، ويتجه الى إحتواء تكنولوجيا التلفزيون للإندماج في كمبيوتر مرئي، بما يبشر بثورة عارمة في مجال الصورة، تحقيقاً لفكرة «حضارة الصورة».
فقد نتج عن الثراء الاتصالي لغة جديدة بات الجميع يفهمها، وهي لغة الصورة التي نتداولها في تظهير لحظة جامدة في الزمن نتبادلها مع الآخرين، أو لحظة متحرّكة نعيشها معاً ونتأثر بإشعاعاتها. فمن خلال الصورة، أصبح بإمكاننا استدعاء لحظة من طفولتنا، ولحظات الفرح والحزن في حياتنا وتقاسمها، ولأن الصورة تحتّل جوهر لحظة ما وتجعلها دائمة، فإننا نقوم بمشاهدتها مرة بعد أخرى. وعبر الصورة، بات بإمكاننا الآن توثيق ليس الماضي فحسب، بل وحتى الحاضر، فأضحت الصورة الشاهد الملك والمدوّن لحوادث العالم، بل والحياة التي نكسوها عليه. فالمصوّرون يسجّلون الحروب، والمظالم، والفقر، والمأساة الانسانية، والفرح الانساني. وقد تكرّس نفوذ الصورة عبر السنين في التأثير على الرأي العام، بتوثيق الكوارث، وإطلاعنا على الحروب في جوانبها المرعبة، وكان لدى مصوّري الحروب رؤى عظيمة، حيث أن الصور التي التقطوها تكشف فظائع الحرب التي قد تساعد في منع وقوع حروب مستقبلية، وكان بعضهم يعتقد أن الصور التي يلتقطونها ستؤدي الى إنقاذ العالم. فهناك عدة آلاف من صور حرب فيتنام قد شوهدت بعد أيام من التقاطها، وتركت أثراً على كثير من الجمهور في أرجاء عديدة من الكرة الأرضية، وأطلقت مشاعر الغضب والاحتجاج ضد استمرار الحرب بفعل فظاعة الحرب كما عكستها الصورة. هي ذات الوسيلة التي غيّرت وجه العالم في الحادي عشر من سبتمبر 2001، حيث لعبت الصورة الحيّة في تغيير حركة التاريخ، بعد أن أفاق العملاق الاميركي على صدمة هلع وهو ينظر الى رمزي التفوق يتداعيان في مشهد مشحون بدلالات حضارية وثقافية، ولا ننسى دور الصورة في حروب المنطقة بدءً من أفغانستان ووصولاً الى لبنان، وهانحن نعيش حرب الصورة في العراق التي تكسو المشهد اليومي بؤساً مضمّخاً بلون الدم.
لقد أصبحت لدينا إمكانية رؤية ومعرفة ما يجري عن طريق التدفّق المتصل للصورة، وبات باستطاعتنا أن نحيط علماً بالتاريخ الذي يصنع، وغدا كوكب الأرض في مرمى الكاميرا التي تمنحنا إمكانية التأمّل في حوادثه. في المقابل، يشكو كثيرون من سطوة وكثافة حضور الصورة في حياتنا اليومية، بحيث جعلنا داخل غيمة إعلامية، ففي حين كان الإعلام عموماً يضفي على الأشياء شكلاً، فإن زيادته تغوص بنا في ما لا شكل له، بسبب سرعة الصور المتدفقة التي لا تدع مجالاً للتأمل.
وكانت رؤية سدنة الصورة: من أجل أن تحصل على صور مؤثِّرة، فأنت، في بعص الاحيان، بحاجة الى أن تصدم الجمهور، فالصور التي تبقى في الذاكرة وتُستدعى، بصورة دائمة، هي تلك التي تنطوي على صدمة، أو تحدث هلعاً، فهذه الصور تبقى معنا، وتترك بصمة في عقولنا، وتربض في ذاكرتنا. بكلمات أخرى، أن قابلية إستدعاء الصورة يكمن في سطوتها، في تخليق إنطباع بصري يوقظ شيئاً ما في الشخص الذي ينظر اليها، قد يكون إحساساً بالخطر، أو إحساساً بالحنان والرقّة. وبالطبع، فلابد أن تبعث الصورة رد الفعل العاطفي بداخلها الذي يتملَّكنا ويدفع بنا للتفكير.
ثقفنة الصورة.. تجفيف الوعي
يعرّف إدوار هريو بأن الثقافة هي ما يبقى للانسان عندما ينسى كل شي[1] . وبلا شك، فإن الصورة تنعم بقدرة التسلل والاقامة الطويلة في الذاكرة، فقد ينسى أحدنا كتاباً قرأه قبل عشرين عام، ولكنه بالتأكيد لن ينسى مشهداً بصرياً، سيما ذلك الذي يحفل بجرعة عالية من الجاذبية والدهشة.
في واقع الأمر، أن المعرفة الإنسانية عموماً منسوجة من كتلة تصويرات متفاوتة في تعبيراتها ودلالاتها، وأن مسيرة المعرفة كانت مترافقة على الدوام مع زيادة الثراء التخيّلي والتراث البصري على طول التاريخ. نتذكر هنا مقولة أرسطو: «أن التفكير مستحيل من دون صور»، فالصورة كانت دائماً عنصراً تحريضياً في الانشغالات الفلسفية، ومدخلاً جبرياً للإجابة عن سؤال الماهية، التي تعني هيئة الشيء، حيث يتجلى بقاء الأشياء في استمرارها وبقائها، وما يبقى منها يتم الكشف عنه في الصورة حيث يتجلى ماهو كل شيء من نوع جنس ما[2] .
وفي زماننا، أضحت الصورة جزءً من سلطة المعرّفة الحديثة التي يسيطر عليها الإعلام، كما كانت مصدر إلهام للفلسلفات الغربية الميتافيزيقية المتناكفة، إذ باتت الصورة تظهيراً عقلياً للخبرة الحسيَّة. نلفت الى أن الصورة كانت ساحة مواجهة أيديولوجية بين الكنيسة والدولة في أوروبا، ولذلك جرى تحريم الصور والنظر اليها كجزء من التجاذب بين الطرفين، وكان الحكَّام يفرضون حظراً على الصور ذات الطبيعة الدينية كونها تشكّل خطراً على السلطة السياسية.
وهناك الآن أنواع جمّة من الصور تزداد كل يوم مع تطور وسائل المعرفة، بما يقرّبنا من حضارة العين، ومن الناحية التقنية المحض فإن القرية الكونية، التي بشّر بها مارشال ماكلوهان، هي صناعة صورة، ظهرت بعد حرب فيتنام في صور أطفال يقتلون بقنابل النابالم، والتي حرّكت الشارع الاميركي للمطالبة بوقف الحرب العبثية.
بواسطة الصورة، بات بالإمكان استعمال الحواس كافة «الشم، والسمع، والنظر، واللمس».. فقد أسقطت الصورة الدور المحايد للمتلقي، وأملت عليه مهمة أخرى ليصبح متفاعلاً، إذ لم تعد الصورة تسجيلاً للحظةٍ مرئية في مكان ما، فقد تجاوزت وظيفتها التقنّية ودخلت في صوغ الذهنية ولعبة الحقيقة والزيف. فالصورة، وإن باتت قادرة على فضح الحدث، صالحة للإستعمال من أجل إخفاء حقائق كثيرة، حين تمارس فعلاً ضدياً. وطالما أن أهم جزء في الصورة هو إيصالها، فإنها، كمنجز غربي بسبب تقنياتها المتقدمة وتجربتها الطويلة، تدخل في لعبة التنميط والقولبة والنمذجة في أبعادها الإعلامية والسياسية والثقافية. وإذا كان الرهان على المنظومات الفكرية التي تحول دون انكسارها تحت وابل الصور المتدفقة ووسائل الاعلام عموماً، وهي أي تلك المنظومات ما تمدّنا بمناعة التأثّر من الدسائس الفكرية للصورة، فإن انشغالات الأخيرة تركّز إما على تعزيز تلك المنظومات الفكرية أو تفسيخها، بالنظر الى مصادر الصورة ومنتجيها وانتماءاتهم الأيديولوجية، بما يجعل الخبر مقبولاً أو منبوذاً. يسرد أدغار موران شواهد عدة: فالألمان الذين أرادوا أن يجهلوا معسكرات الاعتقال النازية جهلوها، وفي العام 1945، إستقبل السكان الألمان صور معسكرات الألمان ورواياتها بوصفها أكاذيب دعائية. والشيوعيون الذين أرادوا أن يجهلوا معسكرات الغولاغ جهلوها، والفرنسيون الذين أرادوا أن يجهلوا التعذيب في الجزائر جهلوه[3] .
ولتصوّر الطبيعة المضلّلة للصورة، نتذكر طقوس ما يسميه ادوارد سعيد «أديان التلفزيون»، ولكن من زاوية مختلفة، حيث تتدخل الصورة خلال الحملات الرئاسية في توجيه وعي الجمهور، بتواطىء شفهي من المتنافسين على الرئاسة الاميركية. ففي مناظرة كينيدي ونيكسون في الانتخابات الرئاسية العام 1960، التي فاز فيها كيندي لأنه قبل بوضع المكياج الخاص بالكاميرات خلال اللقاء، فظهر للمشاهدين في صورة لائقة، بينما رفض نيكسون، التقليدي، مثل تلك البدع الجديدة، فبدا شاحباً[4] .
[align=center]
ما تبقى من مبنى تلفزيون المنار بعد القصف الإسرائيلي (الفرنسية)[/align]
ببراعة لافتة، يجادل بورديه في كتابه «الحرب والصورة» التوظيف المحموم للصورة من أجل صنع الواقع، حيث تدور رحى الحرب بين متسابقين على من يملك قدرة فرض الواقع الذي يشاء وحرمان الخصم من المشاركة أو تبديل هذا الواقع، الافتراضي بالضرورة. لا غرابة، حينئذ، أن تكون مصادر إنطلاق الصورة هدفاً مركزياً في أجندة الحروب الأخيرة. ففي حرب كوسوفو العام 1999 قصفت قوات الناتو مبنى التلفزيون في بلغراد وتدميره، وفي 27 مارس 2003 قصفت القوات الاميركية مبنى الإذاعة والتلفزيون في بغداد، وكادت أن تلقى قناة الجزيرة المصير نفسه في العام 2004، وفي يناير 2006 دمّرت القوات الإسرائيلية مبنى الإذاعة الفلسطينية ومبنى التلفزيون في مدينة البيرة وهدّدت بقصف مبنى التلفزيون في مدينة غزة. وفي 16 يوليو 2006، أي بعد ثلاثة أيام على اندلاع الحرب بين حزب الله واسرائيل، قامت الاخيرة بتدمير مبنى تلفزيون المنار. فقد كان الإعتقاد بأن السيطرة على الصورة تمثّل الخطوة الأولى لحسم المعركة.
وتدلل هذه الأمثلة على أن ثمة سعياً دؤوباً من أجل الحيلولة دون تمكّن الحقيقة من القيام بتحرير الصورة من أسر خاطفيها، وأن حرب الصورة أسقط مبدأ الحيادية. هذا لا يعني، بالضرورة، أن الحيادية سمة جوهرية للصورة، فتجريد الأشياء يعطّل إمكانية تفسيرها وفهمها. وندرك، بحكم الواقع، أن الصورة المرتبطة بالمقدس تصنع مخيالاً مندغماً في المقدس. ففي الحضارة الرومانية، حظيت الصور المقدّسة بمكانة فريدة في المنظومة الطقسية الرومانية، وباتت تتقاسم نفحة القداسة مع النص الديني الروماني.
إن مقولة دع الصورة تتكلم، تعبّر عن ذاتها، تستعيض عن الكلمات بكلمات من نوع خاص، من أجل تحويل المشاهد الى مستنطق للصورة، مشارك في حوارية صامتة تفوّض الصورة من يشاهدها مهمة التعبير عنها بكلمات، باتت أي المقولة هذه قديمة وطوباوية. فالصورة تشارك بكثافة في توجيه الأفكار المراد إيصالها عبر تلك العلاقة الحسية المباشرة.
ويمكن الزعم، أن الصور المتدفقة، بلا انقطاع، تمارس ديكتاتورية من نوع آخر، حيث لا تتيح فرصة للمتلقي بالتفكير بصورة مستقلة خارج مجال سريان الصورة، بما يؤول الى نفي الواقع، والمكوث مكانه. فقد أطلق المفكر الفرنسي «جان بودريار» على حرب الخليج الثانية «1990-1991» بأنها نسخة تلفزيونية، فيما اعتبر مانول كاستي أن ما شهده الجمهور في تلك الحرب هي «الواقع المتخيّل» الذي فرضته تكنولوجيا الاتصال، حيث تختلط الحقيقة بالواقع المصنّع صورياً، إنطلاقاً من مرحلة الإعداد العسكري وصولاً إلى الإستعراض التلفزيوني.
لاشك، أن مصدر قوة الصورة يكمن في كونها بمثابة نص مرئي مفتوح على اللغات قاطبة، وأنها ثرية بقدر يسمح بقراءات متعددة.. فاحتلال الصورة للطاقة البصرية مهّدت لاختراق المخيال العام، وبالتالي الانشغال الذهني، وصولاً الى هيمنة المخبوء على الوعي، أي عبور الرسالة المندّسة في الصورة الى مربع اللاوعي، بما جعل للصورة مهمة سرّية تتجاوز البصر الى البصيرة.. فانحلال حدود الصورة يحيلها الى مضخّة معرفية مكتظّة بحزمة دلالات، وإيحاءات، وتعبيرات لا تنتمي الى مجرد البعد الجمالي منها، فثمة رسالة غير مرئية تتسرب خارج الحدود الرسمية للصورة، تسهم في إنجاب كوكبة مفهومية تعكسها على مجمل المناشط الثقافية والمعرفية المسؤولة عن صنع الوعي. فالمخزون الدلالي للصورة يجعلها أداة إتصالية عالية التأثير العاطفي والمعرفي، بل تحيلها الى وسيط حواري ممتد، محدثة غزارة في المعاني والدلالات وحضوراً كثيفاً في المشهد الثقافي والمعرفي اليومي.
فالصورة باتت القابلة التي تساعد المشاهدين على أن يلدوا أفكارهم الخاصة، المتطابقة مع الرؤية الثاوية في الصورة. فهي تملي علينا ما يجب فعله، وتجعلنا نشاهد ما تريد منا مشاهدته، فنتحرك ونلفظ بطريقة مماثلة. إنها تقودنا إلى نقطة في منتصف الطريق ثم تتخلى عنا كيما نواصل السير إلى النهاية المقررة سلفاً. إنها لا تريد منا أن نكون إبداعيين في التفكير، لأن الصورة التي يفرضها نظام الإنتاج الصناعي، ذات طبيعة غير حوارية. ففي كلمة أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، تحدث رئيس الوزراء الماليزي السابق مهاتير محمد في الثاني من أكتوبر 1993 «إن ما نسمعه أو نشاهده هو في الواقع ما قررت وسائل الإعلام الغربية هذه إننا يجب أن نسمعه أو نشاهده»، وأشار إلى «الاهتمام البالغ الذي تبديه وسائل الإعلام الغربية برقصة المغني مايكل جاكسون، أكثر كثيراً من إهتمامها بإذاعة شيء يحدث في اللحظة ذاتها ويتعلق بمذابح، وعمليات قتل جماعية، أو معاملة وحشية يتعرض لها بنو الإنسان في أماكن أخرى من العالم».
[align=left][/align]
الصورة، وبخلاف وسائل التواصل الثقافي الأخرى، أسقطت عامل السن، فهي قابلة للإدراك والقراءة وإن بمستويات متفاوتة، من كل الفئات العمرية، طفلاً كان أم شاباً أم كهلاً، وهي تؤثّر فيهم جميعاً بدرجات متباينة. ولا شك أن صورة محمد الدُرَّة وهو يسقط شهيداً في حضن والده كانت نصاً مفهوماً من قبل المستويات العمرية كافة، وكانت كفيلة بتغيير مسار النضال الفلسطيني، وتفجير الغضب الجماهيري في أرجاء الوطن العربي والاسلامي.. وصورة البارجة الاسرائيلية وهي تنفجر بصاروخ من المقاومة اللبنانية بالقرب من شواطىء بيروت كفيلة بتغيير مسار الحرب، والأوضاع النفسية في الشارع العربي. وصورة مجزرة قانا كانت كفيلة بإحداث تصدّع في التحالف الدولي مع الدولة العبرية في عدوانها على لبنان في يوليو أغسطس 2006..
ينبىء ما سبق عن أن الصورة باتت قوة إقناعية ناشطة، تعزّزت، بدرجة أكبر، بارتباطها بالصوت لتشكّل وجبة معلوماتية مكتملة العناصر. فالتقنية الحديثة لم تجعل الصورة منتشرة في كل مكان فحسب، بل حوّلت مفاهيمها أيضاً، فقد بات بوسع أي شخص يعيش في ظل الثورة الإتصالية أن يغنم دفعات متصلة من الصور ذات الأشكال الفنية والثقافية والتعبيرية المعقّدة. وتم استبدال الروتين الطويل للرسم والتلوين بانتصار آلة التصوير التي استحوذت على سبيل المثال على تمثيل الموضة تماماً. والرواية المسلسلة، والتي كانت تحتضر أصلاً في فترة ما بين الحربين تفقد مكانها في عصر التلفزيون للمسلسل الذي يعرض على الشاشة. وحل الفيلم السينمائي، الذي سمح بمجال أعظم كثيراً للموهبة الإبداعية الفردية بعد انهيار نظام إنتاج الأستديو في هوليوود، ومع توجه جمهور السينما نحو البيوت لمشاهدة التلفزيون وبعد ذلك الفيديو... [5]
لقد أحدثت الصورة إنهياراً متسارعاً في حدود الزمان والمكان، في عملية افتئات واسعة النطاق على المصادر الثقافية التقليدية، في سياق صنع استقطاب ثقافي عولمي، يقطع صلة المجتمعات بجذورها الثقافية، ومنظومات قيمها، ويستوعبها في دورة إتصالية بالغة الثراء، ولكن وفق شروط ثقافية قهرية، تكون فيها الصورة أداة إعادة تشكيل الوعي، مفضية الى قطيعة مع الثقافة المكتوبة وتكوينها العقلاني. بالنسبة للمجتمعات القروية والريفية، كانت صدمة الصورة عنيفة، أحدثت معها زلزلاً مدمّراً أحياناً في نظام القيم الاجتماعية، قياساً الى المجتمعات المدنية والحضرية التي عاشت تحوّلاً إتصالياً تدريجياً.
لاريب، وإنصافاً في القول، أن الصورة ساعدت في تسهيل استيعاب الطلاب للنظريات العلمية المعقّدة، وأن حضور الصورة في العلوم التطبيقية والنظرية والطبية والهندسية وحتى العلوم الانسانية ساعد في جعل المادة العلمية سهلة الهضم ذهنياً. فقد شغلت الصورة حيزاً هاماً في مناهج التعليم المدرسي، على حساب مساحة النص المكتوب، الذي بات مرهوناً للعون الذي تقدّمه الصورة في اكمال وظيفة التعليم. يحلل ايريك هوبزباوم ذلك بما نصه «فمن يقرؤون الكتب لأغراض جدية، خلا الاغراض المهنية أو التعليمية أو الاغراض المشابهة الاخرى، كانو قلة قليلة. ومع أن الثورة التعليمية قد زادت من أعدادهم على نحو مطلق، فإن سهولة القراءة تراجعت في دول ذات تعليم شامل نظرياً، حيث توقفت الطباعة عن أن تكون البوابة الرئيسية الى العالم فيما وراء الاتصال ما بين الفم والأذن. ففي أعقاب الخمسينات لم يعد حتى أطفال الطبقات المثقفة في عالم الغرب الغني يقبلون على القراءة عن طواعية كما كان يفعل آباؤهم»[6] .
في المقابل، كسرت ثقافة الصورة إحتكارية مصادر التربية التقليدية، فلم تعد الأم مصدراً مهيمناً للتربية، فقد أصبح الطفل يخضع لمصادر تربوية أخرى. فلم يعد الطفل يلبس ويتصرف ويفكّر كما تشاء أمه، فقد أصبح منهوباً لتبدّلات تربوية دراماتيكية تستجيب لطبيعة الصور التي تتسلل إليه بدون انقطاع عبر الشاشة. يقول أحدهم:
«اندهشت عندما دخلت الصغيرة ذات السنوات الخمسة، وهى ترتدى «الهاف ستومك»،وتضع «المانيكير»، و«الروج»، وترتدى حذاءً ذا كعب عالٍ، وقصة شعرها مثل الراقصة «فلانة».
يرى الدكتور محسن خضر أستاذ أصول التربية بجامعة عين شمس بأن ثمة ما يدعو للقلق إزاء طغيان ثقافة الصورة على شخصية أطفالنا ومراهقينا، فلم يعد المثل الأعلى للطفلة الأم التى معها فى المنزل، والتى كانت سابقًا تحاول تقليد دورها فى المطبخ، وفى رعاية الأطفال، فتقوم بنفس الدور مع عروستها، ولم يعد المثل المعلمة أو الأخوات الكبار، بل أصبحت القدوة والمثل الأعلى نماذج غير سوية تفرضها ثقافة الصورة، وتروج لها ليل نهار[7] .
ولأن التقليد هو منتوج بصري بدرجة أساسية، فإن تعدد الوسائط البصرية يزيد في مساحة التقليد وأشكاله. فقد كان الطفل الرضيع يقلّد والدته وإخوانه في البيت، ولكن حين يكبر يشاهد التلفزيون، ويذهب الى الروضة والمدرسة، ويذهب الى السينما ويمضي وقتاً طويلاً نسبياً في الألعاب الألكترونية ويخرج الى السوق، وتقع عينه على شريط طويل من الصور المتدفقة التي بالتأكيد ستنطبع في ذهنه وتنعكس في سلوكه جزئياً أو كلياً.
ما سبق يلفت الإنتباه إلى الثورة الإعلانية التي قامت على تأثير وسطوة الصورة التي تدفع كثيرين إلى العادات الضارة حسب تصوير رئيس سابق لإتحاد الإعلان في بريطانيا وينستون فليتشر:«لماذا يدخن بعض الناس وهم على علم بأنه مضر بالصحة؟ إنه لا بد أن يكون الإعلان. ولماذا هناك الكثير من الحمقى في شرب البيرة؟ إنه لا بد أن يكون الإعلان. ولماذا هناك الكثير من ذوي الأجسام السمينة والثقيلة الوزن؟ إنه لا بد أن يكون الإعلان؟ ولماذا يذهب كثير من الناس لإصلاح التسوس في أسنانهم؟ إنه لا بد أن يكون الإعلان؟ ولماذا ينغّص الأطفال على آبائهم من أجل ألعاب الأعياد؟ إنه لا بد أن يكون الإعلان. ويخلص فليتشر من ذلك للقول:«إن هذه القائمة من التأثيرات الإعلانية في الغالب لا نهاية لها.. إن قوة الإعلان تدفع الناس لشراء أشياء ليسوا بحاجة إليها، ولا يريدونها، وفي الغالب مضرّة بالصحة»[8] .
فمنذ الستينات فصاعداً كانت الصورة التي رافقت الناس في الغرب وكذلك في العالم الثالث المتحضر على نحو مضطرد منذ الولادة حتى اللحد هي تلك التي تروّج للاستهلاك أو تجسّده أو التي تكرّس نفسها للتسلية الجماهيرية ذات الطابع التجاري[9] . فسيطرة النزعة الإستهلاكية والإتصالات الجماعية على المجتمع يرهن الأفراد للقيام بأدوار قد حدّدها لهم غيرهم، وهذا الشكل الحديث للتبعية[10] . فالصورة التي أضحت أيقونات «رموز» لتلك المجتمعات هي صور التسلية الجماعية والاستهلاك الجماعي: رايات وعلب. ولم يكن من دواعي الدهشة أن تتنازل مدرسة الرسامين الرائدة في الخمسينات، في وطن الديمقراطية الإستهلاكية، أمام صانعي الصور الأقوى كثيراً من الفن ذي الطابع القديم، وهو ما أدَّى لإطاحة الفنون الفرعبة، أي «اندثار الحداثة»[11] .
مداهمة الإغراء للمجتمع الاستهلاكي،كمقدمة للإستحواذ عليه، شجّعت نظام الإنتاج الصناعي على اقتحام، الى جانب الثقافة الجماهيرية، مجال الأعمال الفكرية، صابًّاً إهتمامه على ربح الأسواق، مكرهين الثقافة الحقيقية على اخلاء مواقعها في سبيل مصالح تجارية لنظام الإنتاج الصناعي[12] . فتطوّر تكنولوجيا الإتصال أدى، في نهاية المطاف، إلى موت الثقافة، وجعل من المثقفين مجرد طبقة كسيحة لا تلوي على قدرة الفكاك من أسر الصورة اليومية التي تصيغ وعي الجمهور العريض.
تأثير التكنولوجيا الكاسح كان اشتغالاً مرّاً لدى بنجامين في مقالته المنشورة عام 1936 عن «العمل الفني في عصر إمكانية إعادة نسخه التقنية». إن خروج الفن، بحسب بنجامين، من حدوده المؤسسية لم يعد يظهر وحسب، أو حتى بشكل أساسي، مرتبطاً بيوتوبيا إعادة اندماج، ميتافيريقية، أو ثورية، للوجود، بل بالأحرى، مرتبط بحدث التكنولوجيات الحديثة التي تسمح، وحتى تحدد في الواقع، شكل تعميم للعنصر الاسطيطيقي «=الجمالي». مع حدث إمكان النسخ التقني، للعمل الفني، لا تفقد فنون الماضي وحدها تلك الهالة التي تحوطها وتعزلها عن باقي الوجود عازلة في اللحظة ذاتها، دائرة التجربة الاسطيطيقية ذاتها، بل تولّد أشكال فن يكون إمكان نسخها مكوِّن لها: مثل السينما والصورة الضوئية، ههنا، ليس وحسب لا تعرف الأعمال الفنية النسخة الأصلية «الأصل»، بل يميل الفارق بين المنتجين والمستهلكين الى الامحاء، إن لم يكن الا لأن هذه الفنون تنحل في الإستعمال التقني للآلات، وهكذا تتم تصفية قوله عن العبقرية «وهي في الحقيقة ليست سوى الهالة المرئية من منظور الفنان».. فكرة بنجامين عن التبدلات الحاسمية للتجربة الاسطيطيقية في عصر إمكان نسخها تمثّل الإنتقال بين الدلالة الخيالية الثورية لموت الفن ودلالته التكنولوجية، التي تنتهي إلى نظرية الثقافة الجماهيرية[13] . من وجهة نظر أدغار موران فإن التقدم في الإعلام والمعرفة هو الذي سبّب التقدم في التحريف والجهل، وأن القوى المهددة بالقوة الإعلامية التي تحملها وسائل الإعلام الجماهيرية لم تجد وسائل أخرى سوى استعبادها وتحويلها الى أدوات تضليل. فالصورة الفوتوغرافية، منذ ظهرت، سبّبت تلفيقة "الصورة الروحانية" التي تظهر، فيها، أطياف وأشباح. ويخلص بالقول: أن تقدم الأكذوبة في مجال الإعلام هو الرد على التقدم الإمكاني للحقيقة التي كان يحملها نمو وسائل الإعلام الجماهيرية[14] .
وكان رهط من المثقفين الفرنسيين في القرن الماضي، أمثال ميشيل فوكو، انتقد الإفراط في استنزاف حاسة الإبصار بفعل ما أنتجته هذه الحاسة في العالم الحديث، لانه يفضي، في جوهره، إلى إلحاق الضرر بالعقل. فقد محقت الصورة سلطة المثقف، بوصفه حارساً تقليدياً على المعرفة وأداة لتغيير الواقع، فقد أنزله الإعلام الجماهيري إلى مستوى المتلّقي والمراقب. ويرى فوكو بأن مجتمعنا الحالي ليس هو مجتمع المشهد، لكنه مجتمع المراقبة، فنحن لسنا في قاعة المسرح ولا على خشبته، لكننا موجودون داخل منظومة الرؤية الكلية الخاصة بالمراقبة.
فالمنتحبون على موت الفن، يحمّلون وسائل الإعلام الجماهيرية مسؤولية موته، حيث يأخذ شكل «انتحار إحتجاجي ضد المبتذل والثقافة الجماهيرية غير النزيهة، وضد إضفاء الصفة الإسطيطيقية على الوجود في مستواه الأكثر تدنياً أو الأضعف»[15] .
تاريخياً، بات مألوفاً أن التحوّلات الجوهرية في المجال الإتصالي تفضي الى هزّات ثقافية، بما يجعل العلاقة الجدلية بين وسائل الإتصال ومسار الثقافة صميمية. ولكن هذه العلاقة لا تعبّر بالضرورة عن طبيعة توافقية بينهما، من حيث الإرتباط بين التطوّر الإتصالي والمضمون الثقافي، فليس كل تطوّر إتصالي يشي بعمق ثقافي، ذلك أن عصر ثقافة الصورة، في نظر المثقّف، بمثابة جناية كبرى على الثقافة الإنسانية، كونها صادرت مفهوم الثقافة، وأغراضها، وأريد من المثقفين أن يكونوا أزلاماً يعملون لخدمة سدنة الصورة، بما ينذر بموت الثقافة. لا يكفي تضييق المسافات والأمكنة إتصالياً من أجل تسهيل التداول الثقافي بين الشعوب، ولكن ثمة إشكالية جوهرية تحيق بهذه المهمة، حين تحيل من الثراء الإتصالي الى مصدر تسطيح ثقافي، عبر تشجيع أشكال ثقافية بليدة تخدم مشاريع تجارية معينة، وتحويل الثقافة الى مادة تسلوية وترويحية منفلتة. إن الطلاق بين العالم التقني والعالم الثقافي يتسبب في، الى جانب كونه أبرز مسببات موت الحداثة، اندثار القضايا الكبرى والقيم الكبرى، التي دافع عنها روّاد الحداثة، فيما أطلقت الصورة العنان لسيادة التقنية.
فالصورة الآن تستغرق الفضاء الثقافي، وتسجّل حضورها في الحقول العلمية والمعرفية والإتصالية قاطبة، فهي في السينما، والتلفزيون، وفي الصحف اليومية والمجلات، وفي الكتب المدرسية، وعلى الجدران والإعلانات التجارية، بحيث أصبحت جزءً من المشهد اليومي. فالصورة وإن حازت قدرة على تفجير ما أسماه الدكتور محمود الذوادي بالشُحن الماردة، تمهيداً لاطلاق حوار ثقافي واسع، الا أنها لا تشي بالضرورة بمنتوجات ثقافية رصينة.
يشرح الناقد الادبي عبد الله الغذامي التحوّلات التاريخية لأدوات التواصل الثقافي، بدءاً من المشافهة، مروراً بالكتابة التي حلّت مكانها، حيث فرضت نسقاً ثقافياً متطوّراً، وفتحت أفق الوظيفة الثقافية من كونها ملكة خاصة بطبقة الحفّاظ الى ملكة مفتوحة على النشاط الذهني عموماً. فبعد أن كانت الثقافة الشفهية تقوم على التواصل بين اللسان والأذن، أصبحت الثقافة تقوم على القلم والعين.
نشهد الآن تحوّلاً دراماتيكياً يهدد تراثنا الثقافي والادبي، ويرى الغذامي تحوّلاً في وظيفة النقد الادبي تبعاً للتحوّل الثقافي حيث انتقل الجمهور من ثقافة الأدب إلى الثقافة العامة، أي ثقافة الصورة مثلاً ثقافة الدراما، ثقافة السينما إلى آخر ثقافة متنوعة وهذا التغيّر يقتضي أيضا تغيّراً في الأداة النقدية لكي تواجه هذا التغير الضخم.. فلم يعد الناس يهتمون بقصيدة لأحمد شوقي أو لأدونيس كما يهتمون بأغنية بالفيديو كليب أو بدراما تلفزيونية.. ويعلن الغذامي بلهجة لا تخلو من الحسرة على «موت الأدب» مع بداية عصر الصورة، مطالباً بمواكبة هذا التغيّر كيما يكون للنقد القدرة على مواكبة هذا المتغير «ولهذا السبب أصبح النقد الثقافي هو الصيغة الملائمة لهذا التغير الثقافي الضخم»[16] .
صاروخ لحزب الله تم رصده
خلال انطلاقه من جنوب لبنان باتجاه
شمال إسرائيل - تموز 2006
وحول تأثير الصورة وقوتها، يشير الغذامي إلى الحرب العدوانية الإسرائيلية على لبنان في يوليو أغسطس 2006، وقال: «إن الصور التي رأيناها طوال 33 يوماً عبر الفضائيات، أعادت للمواطن العربي والمسلم الضمير المنتصر، وهذا ما لم تستطع القصائد الحماسية فعله»، مضيفاً: «في الماضي، خدعتنا الخطابة البلاغية التي انتهت في عهد الصورة... خلال خمس سنوات لم أشهد خطاباً واحداً يخلو من البلاغة الرنانة، إلا خطاب الأمين العام لحزب الله حسن نصرالله، الذي يسير وفق ما تتطلبه المرحلة، التي لا تعتمد إلا على الفعل قبل القول البليغ»، واصفاً إياه ب- «خطاب المرحلة بكل المقاييس العلمية، التي تتماشى وثقافة الصورة، خصوصاً خطابه الأول الذي أعلن فيه عن تدمير البارجة الإسرائيلية»[17] .
مقارنة بسيطة لمحتويات ذاكرتنا بين حروب العرب من 1948 الى 1973 والحروب التي اندلعت في عصر الصورة، بدءً من حرب الخليج الثانية 1991 وحتى حرب تموز 2006، سنجد أن فارقاً هائلاً بين نسبة المعلومات الى كمية الصور، فقد بدا في الحروب التالية تسيّد الصورة لذاكرتنا الجمعية، بما يجعلها مفتاحاً لكمية المعلومات المضغوطة فيها..
إختبار عاجل لقائمة عشوائية من الصور المكتظة في ذاكرتنا تكشف عن درجة الوعي: عاصفة الصحراء، شوارتسكوف، حفر الباطن، الخفجي، محمد الدرّة، شارون، الإنتفاضة، عناقيد الغضب، قانا الأولى، حرب تموز، حسن نصر الله، البارجة الحربية الاسرائيلية، قانا الثانية، تسونامي، إعصار كاترينا، برجي التجارة، القاعدة، بن لادن.. الخ. إن أول ما يقفز من هذه القائمة هو سلسلة صورة متراّصة، تحتوي على كميات متفاوتة من المعلومات، فمنسوب الذاكرة الصورية لدينا تكاد تتساوى، بما يوحي وكأن المسافة الثقافية بين الأفراد محكومة الى كمية الصورة المحشورة في ذاكرة كلٍّ منا.
لقد امتصّت الصورة الطاقة الإبداعية للغة، فتحوّلت هي ذاتها إلى لغة، فبعد أن كان الفنان يستعير بالكلمات المجرّدة من أجل توصيف واقع ما، نجحت اللغة البصرية في اقتحام المجال الابداعي، حيث يتحول الموصوف اللامرئي إلى مادة بصرية قادرة على الإفصاح عن ذاتها بلغة صورية مكتنزة بالدلالات، والايحاءات، وأشكال التعبير التي تقتحم المخيال الإنساني وتزخمه بحزمة إشارات بصرية تضاهي بل تتفوق على القدرة الإبداعية والقوة التعبيرية للغة المجرّدة.
فقد بات المثقف مطوّقاً بضراوة الصورة، التي نزعت منه سلطة كان يتمتع بها فيما مضى، على وقع تقهقر متواصل لدور الكلمة المكتوبة، التي يعوّل عليها في صنع رؤية للعالم وتغييره، فقد خرجت السيطرة من مجالها الثقافي التقليدي وانتقلت إلى مراكز جديدة، تضطلع بدور صنع الرؤى والتأثير فيها، ممثلة في أبطال الصورة الذين يتربّعون على عرش الثقافة الجماهيرية من نجوم الغناء، وأبطال الأفلام وكرة القدم، ومصممي الأزياء.. فهؤلاء يحققون انتشاراً كونياً، ويضخُّون قيماً استهلاكية تغمر الكيانات الثقافية بكل تجيهزاتها الإتصالية، ووعودها المثالية، وتسلب منها قدرة المجابهة مع مارد الصورة العابر للقارات، فقد سبقت الصورة إلى تحقيق فكرة القرية العالمية، وصولاً إلى تفكيك المنظومات الثقافية والقيمية السائدة، فغلبة الصوت والصورة القائمين على التقنية بمثابة ضغط شديد على الأداة الرئيسية لتجربة الثقافة الرفيعة المستمرة، أي الكلمة المطبوعة، بحسب ايريك هوبزباوم[18] .
لم تعد الصورة لحظة زمنية جامدة، ولا حالة ثقافية محايدة، يقول ريجس دوبريه بأن «المكتوب نقدي أما الصورة فنرجسية».. بيد أن زمن الصورة الخام قد أدبر، وأصبحنا أمام اكتظاظ تأويلي، حيث تفتح آفاق التأمل على وقع الاشعاعات الثقافية المنبعثة من مسامات الصورة، لا بوصفها ذاتاً محنّطة أو تسجيلاً محايداً للحظة زمنية، بل بكونها حافظة لمعانٍ مضغوطة، تنبّث لحظة بلوغها نقطة المشاهدة، أي أنها تصبح خاماً حين تفقد وظيفتها، باعتبارها مادة للإبصار، فهي عمياء لا ترى لأن غرضها أن تمنح رؤية، وهي تجهل ذاتها ما لم تلق من يكتشفها ليحيلها الى مصدر معرفي، وهنا تفقد الصورة عذريتها وتزول حياديتها، لأنها تكون خاضعة تحت تأثير المعاني المتعددة المستخرجة منها، وفق النزوعات الأيديولوجية لقراء الصورة، الذين يعملون آلات التأويل والفهم واللغة لصوغ مفاعيلها الداخلية، والتي تعبّر عن نفسها في علاقة حوارية تكون أحياناً ذات طبيعة صامته وأحياناً فاعلة، تترجمها مواقف ومشاعر وربما ألفاظ.
تنبّه العالم، مؤخراً، بفعل الإرتدادات الإنقلابية للصورة، الى أن الاخيرة كسرت مفهوم الحيادية، بعد أن كانت تمثّل التجلي الأمثل للحقيقة، فقد بات بإمكان الصورة أن تبطن أيديولوجية صانعها.. فصنمية الصور، أنها لاتقول كل الحكاية، على حد عبارة جان بودريار. وبإمكان الصورة أن تكون غير محايدة بالإحتجاب كلياً أو جزئياً. في بعدها الإعلامي المباشر، بدا واضحاً للمراقبين للتقارير التلفزيونية الأميركية والبريطانية حول المعارك بين إسرائيل وحزب الله في جنوب لبنان منذ نهاية يوليو 1993، أن هناك إنحيازية واضحة للموقف الاسرائيلي، فلم تأت التقارير المصوّرة تلك على ذكر موضوع الإحتلال الاسرائيلي لأراضٍ لبنانية ولا الغارات الجوية الوحشية على الأحياء المدنية وعمليات التهجير الجماعية، والسبب في ذلك أن المالكين متعاطفون مع اسرائيل. وفي مثال شبكة سكاي البريطانية، الذي يمتلك روبروت مردوخ 50 بالمئة من أسهمها، ليس باستطاعة أحد أن يقدّم رأياً خارج قناعة الملاّك. وحسب توم بايستو، فإن بإمكان المحررين الحصول على أكبر قدر من الحرية التي يمنحها لهم الملاّك، وأن المحررين الذين يبقون على غير انسجام مع نظرة الملاّك للواقع الدولي لا يعمِّرون طويلاً في مواقعهم[19] .[/align]