بقلم : أحمد شهاب



الحاجة إلى تفعيل حركة النقد الذاتي في الوقت المعاصر تبدو أكثر إلحاحا من أي وقت مضى ، ذلك أن الإرباك الذي شاب حركة المفاهيم الدينية والإجتماعية بلغ حدا مبالغا من المغالطات والإلتباسات يستلزم من النخبة الناشطة في المجتمعات العربية والإسلامية أن تتحمل مسؤوليتها من خلال تحديد علاقتها بدين الأمة وتراثها ، وعلاقتها بالعصر والواقع المعاش .

لعل أحد أهم الإشكالات التي رافقت عملية تدون التاريخ العربي والإسلامي هي عجز المؤرخ عن إستخلاص أحكام معينة بعيدا عن الدوافع المزاجية أو الدينية أو السياسية ، فعادة ما يُنصِّب المؤرخ نفسه حكا ليلعب وظيفة إصدار أحكام قاطعة ونهائية تجاه أحداث مضى زمن طويل عليها ، متأثرا بإنتماءاته الطائفية أو القبلية و العرقية ، وهو ما تسبب في تفاقم أزمة أخلاقية عميقة " أخلاقية البحث العلمي " .

هذه الأزمة تقتضي أن يمارس المؤرخ بحثه العلمي بتجرد وموضوعية ، وان لا يستلسم للرواية التاريخية ، بل لا بد أن يتقدم نحو النص بروح الفاعل ليتعمق فيه ، ويعمل على تفكيك عناصره ، وإخضاعه لعملية تمحيص ونقد عميقين ، قبل أن يعيد لملمة هذه الأجزاء مجددا في ظل رؤية عقلانية وإبداعية جديدة ، فليس المؤرخ من يعلم بل هو من يبحث بحيادية ويعطيك نتائجه بجرأة .

أغلب ما نمارسه عملا هو إلتزام الحالة الإنتقائية ، فجوانب محددة من التراث هي التي نقترب منها بالنقد والنظر ، وهي عادة الجوانب التي تخص الآخر ، فقدرتنا على نقد المختلف عقيديا ومذهبيا لا تشوبها شائبة ، أما عند نقد الذات " والموروث الثقافي " فيتم تجاوز الكثير من الزوايا الحرجة بخفة نادرة ، ربما لسيادة فكرة الحاجة إلى " الإخراج المثالي " عند أغلب الباحثين ، وترتكز الحاجة إلى " الإخراج المثالي " من فكرة مفادها أن الإسلام أو المذهب يتعرض لحملة تشويه مخططة ومدروسة من الخارج ، وأن على أبناءه المساهمة في الدفاع عنه والذب عن حياضه ، وأحد طرق الدفاع أن لا تكون عونا عليه بكشف عوراته ( التكتم على الخطأ ) .

وقد ساهمت الحملة الغربية ضد الإسلام على تشجيع هذا المنحى المتحفظ من النقد ، فأكثر المصلحين جمدوا نشاطهم التصحيحي خشية أن يكون رأيهم معينا للآخر ضد الإسلام وضد قيمه ، وبالتالي تنحرف المسيرة الإصلاحية عن الطريق المراد لها ، وهو مبرر مفهوم في وقته ، ولكنه لا يمكن أن يكون ثابتا ننطلق منه أو من خلاله للتعامل مع مسألة النقد الذاتي ، أضف إلى ذلك أن عددا من دعاة الإصلاح إضطروا للإنزواء بعيدا عن دورهم الإصلاحي نتيجة لضغط الجمهور ، أو ضغط بعض رجال الدين .

على أن المسألة تبدو اليوم أكثر تعقيدا من السابق ، فلم تعد كتب التراث مغلقة وبعيدة عن أعين الجمهور ، بل أصبحت مع التقنيات الحديثة متوفرة بين الأيدي وللجميع دون إستثناء ، والذين يعنون بزيارة منتديات شبكة الإنترنت وهم بالآلاف يوميا ، يدركون الذي أقصده بالضبط ، إذ تتعرض الكثير من المقولات والروايات والأحداث التاريخية إلى ضرب عنيف على جدران المسلمات ( حوارات البالتوك مثالا ) ، وتفتح بعض القنوات الإعلامية ملفات ساخنة تعرض من خلالها بعض الأحداث أو الشخصيات أمام الجمهور بطريقة غير مسبوقة ( الحوار الصريح في تقييم تراث إبن تيمية مثالا ) ، ولكون مجتمعاتنا لم تتعود النقد والتعبير عن الرأي فإن الإسقاط والشتائم تظل هي اللغة السائدة في تلك الحوارات بالصورة التي تذهل ألباب الأتباع ، وتكشف الكثير من الأوراق المستورة مما لم يعتد الأتباع الحديث حوله .

لم يعد مبررا القول أن الظروف العالمية أو الهجمة الغربية على الإسلام تستلزم الصبر عن النقد الذاتي و تأجيل النقد حتى إشعار آخر ، نعم إنها تستلزم وقف المهاترات الطائفية ، ووقف عمليات ضرب الآخرين تحت الحزام ، والعمل من أجل توحيد الصف ، وترميم العلاقة بين الأطراف الإسلامية والعربية ، وتظل لهذه الدعوة أولوية تسبق غيرها ، أما النقد الذاتي وتصحيح المفاهيم وإعادة تركيب قرائتنا للتاريخ وفق الأنساق الفكرية والسلوكية التي يدعونا إليها الإسلام ( الوحدة ، العدالة ، العفو ، التسامح ، الإنسانية ) فتظل من المهام الأساسية التي ينتظر من النخبة أن تقوم بها دون تردد أو تأخير ، للخروج من ضيق الفهم إلى سعة المعنى ، ولإعادة الدين ومن يناصره إلى واجهة الفعل والتأثير بصورة إيجابية منفتحة على العصر ، ولتغيير الصورة النمطية التي رسمها ( الإسلامي ) عن نفسه بسبب إنغلاقه على ذاته والجلوس في قمقم مقفول عبر تنزيه الذات والإنتماء الضيق والنظر بنرجسية إلى الداخل .

أظن أن القوة متلازمة اليوم مع تنقيح ( الذاكرة ) مما شابها من تراكمات سلبية ، ومن ردود أفعال جرحت نقاء الدين وصفائه الأول ، فتفعيل حركة النقد الذاتي سيضعنا دوما في خانة الأقوى ، وسيضاعف من قوتنا الداخلية لمواجهة أي عارض يعبر على هذا الجسد ، وأود الإشارة إلى تجربتين قريبتين في النقد والتصحيح لازلنا نعثر على أثرها الطيب في المسار العام لحركة الإسلام ، اولها النقد الذاتي الذي مارسه الشيخ مرتضى مطهري لجملة من المظاهر والأفكار السائدة في الوسط الشيعي ، وثانيها حركة التصحيح المفاهيمي التي تصدى لها الشيخ محمد الغزالي في الوسط السني ، ولكل من التجربتين آثارهما الإيجابية والخلاقة ،، ولكن من يواصل المسيرة ؟



[frame="2 80"]احمد شهاب - كاتب كويتي -

[email protected] [/frame]