..| العقـــل الأمريـــكي يفكـــر- من الحرية الفردية إلى مسخ الكائنات |..شوقي جلال
[align=justify]
____________________________________
العقل الأمريكي يفكر
من الحرية الفردية
إلى مسخ الكائنات
تأليف:شوقي جلال
منتديات الاضواء -ميثم
__________________________________________________
المقدمة
عقل الأمة والتنوير
عقل الأمة مجازاً، هو الإطار الفكري السائد (معارف وقيم شغالة). إذ له الغلبة والشيوع، والحاكم للنظرة والسلوك. إنه حصاد نشاط الإنسان/ المجتمع في نسق بيئي، أو لنقل إنه ثمرة التاريخ الذي هو فعل أو تفاعل إرادي واعٍ على مسرح الجغرافيا حيث الإنسان/ المجتمع والطبيعة يعملان معاً كما يقول فرديناند بروديل. إنه نتاج جدل الفكر والفعل على مسرح الواقع: نسيق بيئى ecosystem وأبنية اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية... الخ. ويلخص العقل قواعد وقيم العمل ونهج تناول ظواهر الحياة وتبرير الوجود وصورة الذات وصورة الآخر، ومناط الصراع من أجل البقاء في إطار تحديات لها خصوصيتها الزمانية المكانية. وهو أيضاً نتاج هذا الصراع في آن واحد . وحسب هذا المعنى يكون عقل الأمة بنية معرفية/ قيمية تاريخية يشكل خصوصية مجتمع بذاته، ويحدد أسلوب استجاباته، لأنه جماع الأحكام والأفكار والتصورات التي تحكم أذهان جماعة بشرية ذات تاريخ ونسق بيئي متمايزين.
لذلك فإن عقل الأمة نسبي تاريخى، مكوناته بشرية وليست مفارقة أو خارقة، لأنه منتج اجتماعي مشروط بثقافة وفكر ولغة ونشاط أي فعالية اجتماعية مطردة ومواجهة أو صراع بقاء في زمان ومكان محددين. وليس للعقل، من حيث هو بنية نسقية، وجوداً مستقلا إلا من حيث النظر، ولكن وجوده رهن الإطار الاجتماعي الذي نشأ وتحرك فيه. إنه متداخل في جديلة واحدة في أفعال الممارسة العملية. فكل خبرة يتلقاها الإنسان/ المجتمع تجري في صيغة بنية تنظم تصور الإنسان للواقع والذات والكون وتكون مرجعاً للتفسير ومرشداً للسلوك.
وليس عقل الأمة واحديا أحاديا بل تعددي تعدديا في التاريخ وفي الحاضر نظراً لتعدد شرائح ومصالح المجتمع وتغير الفعل والنشاط فكراً وأداة. ولكن هذه التعددية لا تنفي وجود سمات مشتركة هي مكونات الخصوصية المميزة التي تكمن أو تتجلى في أسلوب فهم الناس لحاجاتهم المشتركة، ومهامهم في الحياة، وأهدافهم المشتركة ووسائلهم في تحقيقها، ومن ثم تصوغ للمجتمع صورة مشتركة دعامة الانتماء بين أبنائه أي يكون وعياً اجتماعيا في متصل تاريخى، أي تراث، دينامى متطور دائماً؛ يغتنى ويترف، وهو دالة على مشروع وجودى وعلى نهج العمل وصولا إليه. وكما يقول كارل مانهايم فيلسوف سوسيولوجيا المعرفة في كتابة الأيديولوجيا واليوطوبيا إن الانتماء إلى جماعة يعنى من بين أمور أخرى أن أبناء هذه الجماعة يرون العالم ونهج التعامل مع الذات والآخر والطبيعة بطريقة متماثلة مميزة لهذه الجماعة وعقل الأمة هو الإطار الفكري الداعم لهذه الصورة ولهذا النهج في التعامل وإن كان هذا لا ينفي دينامية الانتماء، أعني دينامية العقل نظراً لدينامية الواقع والتعامل الحياتى.
وفي ضوء ما سبق، ومن منطلق الإيمان بنسبية وتاريخية عقل الأمة، فإن فهم هذا العقل، أي فهم الإطار الفكري لمجتمع ما وطبقاته التاريخية، إنما يكون تأسيساً على دراسة حركة الفكر الاجتماعي من خلال الاحتكاك والصراع ومواجهة التحديات في المجتمع المحلي والعالمي وفي النسق البيئى بعامة. ذلك أن فهم فكر المجتمع إنما يكون في ضوء تاريخ الفكر بتياراته وروافده مجسداً في الإنسان/ المجتمع بشرائح الناس المتباينة وأنشطتهم، وفي ضوء قيم هذا المجتمع النابعة من انتصاراته وهزائمة مع البيئة وداخل المجتمع وبين المجتمعات أو مجسدة فيما يسمى التراث في تاريخيته الاجتماعية. وكما يقول كارل مانهايم أيضاً في كتابه سالف الذكر "إن كل معنى يتعين فهمه في ضوء تاريخ نشأته وتكوينه وتطوره، وفي السياق الأصلي للخبرة المعاشة التي تشكل خلفيته وفي السياق الجمعى (ص 12 ـ 25). لذلك فإن الفهم الأعمق للمجتمع يكون من خلال فهم ومعرفة تاريخ طفولة وتطور المجتمع وصراعاته ومعاناته ومواقفه وغذائه الفكري مع وضع تباين شرائح المجتمع في الحسبان إلخ وسياق ذلك. أعني النشأة والتكوين والسياق وبذا يصاغ الوعي أو ما يسمى عقل الأمة وما انطوى عليه تراثياً من دوافع جمعية لاشعورية تحدد بالاشتراك مع الفاعلية الاجتماعية نمط التفكير الاجتماعي.
ويعمل عقل الأمة في مجال من الثنائية القطبية: الأنا والآخر الذي هو نقيضه وشرط وجوده. وتشتد حدة هذه الثنائية في اقتران بشروط التطور لتصل إلى درجة الصراع والتطاحن أحياناً وتكون إما أنا أو الآخر. ويتباين خطابه إلى الآخر وفقاً لحالة النشاط والفعالية الذاتية أو حالة الركود والجمود. إذ في الحالة الأولى يكون خطابه إلى الآخر تجسيداً لطموحه ولصورة وجوده المبتغاة وقيمه المدعاة. ويسوق الخطاب عادة بلغة التعميم دون الكشف عن مكنون المصالح. يعرض نفسه دائماً في صورة صاحب رسالة خالدة أو مجتمع عظيم أو عالم جديد أو أخوة إنسانية إلخ يبشر وينذر دون أن يفصح. ويكون على الآخر أن يجري تحليلاً وتفكيكاً للخطاب لفهم المضمون وكشف المستور.
وحين يفقد المجتمع خاصية جدل الفكر والفعل والتغذية المرتدة بينهما، وهى خاصية رهن الفعالية النشطة الإنتاجية الإبداعية للمجتمع يصاب عقل الأمة بحالة جمود تفضي إلى نكوص، غلبة الأسطورة، أو قل يلوذ بالأسطورة إرثاً وتراثاً ماضياً مقطوع الصلة بالواقع الحى. وهاهنا يغدو بنية أو إطاراً مغلقاً يفقد ديناميته وتاريخيته، ويصبح عقلا إطلاقياً لا تاريخياً محافظاً أو جامداً. ويكون في مجال الثنائية القطبية، أي في تفاعله أو علاقته مع الآخر عقلا منفعلا سالباً ومنكفئاً على ذاته في آن واحد. وهذه إحدى نذر أو سمات الإنهيار الحضاري للمجتمعات.
وهو في جميع الأحوال عقل أداتى تبريري يتخذ هدفاً له الدفاع عن أو تبرير الهوية الذاتية ومكوناتها ومنهجها ضماناً لهيمنتة أو بقائه. إنه غير قادر أصلا على عملية النقد فهو مزاج قيمي وجودى أو هو قناع تبريري أي أيديولوجيا تصوغ ذهنية الفئات الاجتماعية حين تتهيأ لها السلطة وتنزع إلى المحافظة، وتسعى إلى أن ترسخ توجها وموقفاً ومنهجاً وليس فكراً عقلانياً نقدياً في حركة جدلية مع الوقاع الحي المتغير. ولذلك يصدق وصفه بأنه العقل السياسي. وهو هنا غير العقل العلمي النقدي الخاص بالمجتمع العلمي عند معالجة ظواهر الطبيعة والمجتمع والإنسان، والذي يمثل قوة فاعلة معرفية ودينامية نشطة ومجلى للحرية. العقل هنا أداة تحليل وفهم ناقد لحل مشكلات حياتية تواجه المجتمع. تحليل وفهم الواقع وصياغة مفاهيم ورؤى تلخص معنى المشكلة ودلالتها وسبل تناولها وتقييمها على طريق التغيير قربن رؤية مستقبلية.
وتأسيساً على ما سبق جاءت هذه المحاولة الاجتهادية المتواضعة لفهم العقل الأمريكى وذلك لأسباب عدة. إنه الآخر القوى المهيمن الذي يفرض نفسه قيَّما على أقدار الضعفاء من الأمم حيث السيادة للأقوى. والحق له أيضاً.
وسبقت هيمنته الاقتصادية والسياسية والعسكرية على الصعيد العالمى محاولات للهيمنة الثقافية اطردت واتسع نطاقها حتى باتت الثقافة الأمريكية غذاء عالمياً لصناعة العقول والتلاعب بها. منذ مطلع القرن العشرين طغت الثفافة الأمريكية في تزامن مع تحول ميزان القوى العالمية الغربية إلى الغرب الأقصى، أعني من أوروبا إلى الولايات المتحدة الأمريكية. شاعت منذ ذلك التاريخ أفلام هوليود وموسيقى الجاز والروك وكل رموز ثقافة المجتمع الأمريكى والمظاهر المادية لمستوى المعيشة وأسلوب الحياة في المأكل والملبس والحياة الاجتماعية والعادات الاستهلاكية واستثمار وقت الفراغ والنظرة إلى الحياة. وكان هذا نهجا مقصوداً عبر عنه أكثر المفكرين والفلاسفة والساسة ورجال الأعمال الأمريكيين. وفي هذا الصدد قال الرئيس الأمريكى الأسبق تيودور روزفلت (1858 ـ 1919): "أمركة العالم هي مصير وقدر أمتنا". واستثار هذا النهج دول أوروبا ـ القوى العالمية السابقة. ويواجه هذا النهج أيضاً الآن منافسة وتحدياً من قوى صاعدة أو تقليدية. وعبر عن ذلك الرئيس الأمريكي بيل كلينتون الذي جاء إلى الرئاسة يؤكد سعيه إلى التغيير بهدف استعادة الحكم الأمريكي حين قال في خطاب ترشيحه للرئاسة: "أعرف أن منافستنا في المستقبل ستكون مع ألمانيا وبقية أوروبا واليابان وبقية بلدان آسيا. وأعرف أننا بصدد أن نخسر زعامة أمريكا للعالم لأننا نخسر الحلم الأمريكى هنا في الداخل". ترى ما هو الحلم الأمريكى في مجتمع أمريكى عظيم، وما هى حدوده؟ وما هو موقف العالم الثالث بعامة وموقفنا نحن تحديداً إزاء ما يفكر فيه العقل الأمريكي ويرسمه ليصنع مصيرنا وقدرنا؟
العقل الأمريكي له السيادة متصدراً حضارة عالمية متفوقة مهيمنة وآسرة. يعرف جوانب قوته وضعفه، ويدرك واعياً تحدياته، ويرسم خطى مستقبله للمواجهة. يعي حركة التاريخ ودور أقطاب الحضارة. حضارة عصر ما بعد التصنيع وتفجر المعلومات وما تفرضه عليه من مهام وتطرحه أمامه من أطماع، وسبيله إلى تحقيق الحلم الأمريكي التقليدي بإنشاء المجتمع العظيم الذي تدين له أمم وشعوب العالم بالولاء طاعة أو قسرا.
والعقل الأمريكي بهذا المعنى وبهذا الحضور المهيمن في العالم لم يعد مجرد موضوع للدراسة، أو مجرد مشكلة خارج الذات مطروحة للبحث، بل بات قوة مؤثرة على نسيج خبرات الذات التي هي أداتنا في صناعة عقلنا القوي، أو إطارنا المعرفى/ القيمي ومنطلقنا للتحرر والنهضة وبناء الإنسان المصري العربي. ترى كيف تكون حالة العلاقة معه في التعامل معه؟ هل هى علاقة تفاعل جدلي؟ أم رفض وانكفاء على الذات خارج التاريخ؟ أم احتواء لنا من جانبه؟
وما هو واقع حالنا الذي يدعم أياً من هذه الإجابات بعيداً عن العبارات الإنشائية؟
الموقف الإيجابى للتفاعل الجدلى يستلزم فهم الآخر. إذ مثلما أن فعالية المجتمع رهن توفر صورة عقلانية نقدية عن الذات (التاريخ/ الفعالية الراهنة/ الرؤية المستقبلية الهادية للحركة) كذلك لا بد وأن تتوفر معها صورة عن الآخر تأسيساً على معرفة واقعية لا تنزع إلى التهويل والمبالغة المسرفة في تعظيم الآخر من واقع الشعور بالدونية ونكون فريسة له؛ ولا تنزع إلى التهوين من الآخر من منطلق نرجسية زائفة فتضيع من أقدامنا الطريق.
ان صورتى عن الذات لن تكتمل إلا بتوفر صورة عن الآخر شريطة أن نصوغ هذه الصورة على هدي عقل ندي للذات وللآخر معاً عبر الحقيقة في إطار زمانى مكانى نعايشه؛ أعني عبر معلومات صادقة علمية راهنة غير متوهمة ولا أسطورية، ويجري توظيفها لصالح حركة مستقبلية تعبر عنها استراتيجية تنموية قومية شاملة لكل مجالات أنشطة المجتمع وتصوغ رؤيتنا للحياة والإنسان، للأنا والآخر. إن حركة الجسم والمجتمع رهن بناء أي منهما بناء سليما وفهم عناصر المقاومة أو العناصر الفاعلة في المجال سلباً وإيجاباً، والتزام نهج تحليلى تركيبي لخطاب الأنا التاريخية إلى نفسها؛ أعني نقد التراث، وخطاب الآخر إلينا.
ولكن حري بنا، ونحن بصدد نقد الذات والآخر، أن نمايز بين: أ ـ توظيف الفكر بمسماه لصالح فئة اجتماعية؛ وبين ب ـ مقتضيات ومستجدات الحقبة الحضارية من حيث الإطار الفكري القيمي في تمايزها عن سوابقها، وفي إضافاتها إلى الحقبة الجديدة والى إنسان/ مجتمع العصر الجديد.
وهذه تفرقة ضرورية وهامة جداً لأنها أولا تكشف مجلى التزييف الذي واكب جميع الحضارات، ولازم جميع المذاهب والمعتقدات عند التطبيق ومع حركة التاريخ وتغير الواقع وتباين الفكر والمصالح. ولهذا نمايز بين مقومات الحضارة من حيث الفكر والقيم وبين أطماع قوى اجتماعية دالت لها السلطة. وثانياً تبين هذه التفرقة طبيعة القوى الاجتماعية المضارة بهذا التزييف وصاحبة المصلحة في التحالف من أجل التصحيح أو التغيير خاصة بالنسبة لشعوب العالم الثالث التي لها أن تقبل مقومات الحضارة الجديدة وهي على طريق التحديث وتضيفها إلى نسيج حياتها في ثوب حداثي جديد مع الاحتفاظ بالمدلول الاجتماعى الأصيل لهذه المقومات دون تزييف، ولها أن تلتمس حلفاءها بين القوى الاجتماعية الأخرى حتى بين مجتمعات الغرب سعياً نحو مضمون إنسانى شامل للمقومات الحضارية.
ومن هنا نقول إن هدف محاولتنا الاجتهادية المتواضعة في هذا الكتاب هو في كلمة واحدة التنوير. إذ ليس التنوير كما هو شائع على لسان كثيرين ممن تصدوا للحديث عنه إعادة أو استعادة نصوص كتب مفكري عصر التنوير في أوروبا أو فقهاء لنا سابقين. فهذا نهج سلفى في الصميم، ونهج يغفل حركة الزمان وطبيعة المكان وسياق الأحداث حين نستشهد برأى فقهاء سابقين أو مفكرين من بيئة حضارية غير بيئتنا عانوا مشكلات ومعوقات حضارية غير التي نعانى منها وكان لهم موقفهم الإنساني الذي يتعين نقده في ضوء رؤية جديدة لنا. وإنما التنوير عندنا في عبارة موجزة هو نقد العقل الاجتماعي لذاته وللآخر معاً، بما في ذلك رواد التنوير، في سياق حركة مستقبلية وتغيير اجتماعي مادي لواقعنا، وأن ينبري العقل جريئا في موقفه وفي خطابه من لحظته التاريخية الراهنة دون التخفي وراء أسماء أخرى. معنى هذا نقد الوعي الاجتماعى في تاريخيته، سلبياته وإيجابياته، والظروف التاريخية التي أسهمت في صياغته، والنظر إليه باعتباره إطاراً نسبياً تاريخياً، والكشف عن مقتضيات العصر الجديد وأوجه التناقض بينها وبين القديم السائد في حياتنا والمعوَّق لمسيرتنا، ضمانا لتوفر عناصر الحركة الاجتماعية بأقصى قدر من اليسر والفكر الجمعى الواعي. ويقترن هذا أو يكتمل بنقد عقل الآخر الفاعل المؤثر في مجال حياتنا وحركتنا.
ولقد حاولنا قدر الطاقة نقد الأنا عن طريق نقد نهجنا الثقافي في تناول الفكر والمذاهب والعقائد؛ وذلك في كتاب "نهاية الماركسية!؟" وحاولنا نقد تراثنا ورؤيتنا للتاريخ في كتابنا "التراث والتاريخ نظرة ثانية". وهنا نقدم رؤية ودراسة نقدية عن الآخر المهيمن الجبار المتحكم الآن في مصائرنا، عسى أن يكون في كل ما قدمناه خطوة على طريق التنوير تكتمل وتنضج بفضل جهود آخرين لتصب في تيار اجتماعي صاعد يهدف إلى التغيير تغيير الفكر والفعل الإنسان/ المجتمع.
شوقي جلال
[/SIZE]القاهرة 1996 [/align]