النتائج 1 إلى 8 من 8
  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Feb 2003
    المشاركات
    30,109

    ..| العقـــل الأمريـــكي يفكـــر- من الحرية الفردية إلى مسخ الكائنات |..شوقي جلال

    [align=justify]

    ____________________________________

    العقل الأمريكي يفكر
    من الحرية الفردية
    إلى مسخ الكائنات

    تأليف:شوقي جلال

    منتديات الاضواء -ميثم
    __________________________________________________






    المقدمة

    عقل الأمة والتنوير

    عقل الأمة مجازاً، هو الإطار الفكري السائد (معارف وقيم شغالة). إذ له الغلبة والشيوع، والحاكم للنظرة والسلوك. إنه حصاد نشاط الإنسان/ المجتمع في نسق بيئي، أو لنقل إنه ثمرة التاريخ الذي هو فعل أو تفاعل إرادي واعٍ على مسرح الجغرافيا حيث الإنسان/ المجتمع والطبيعة يعملان معاً كما يقول فرديناند بروديل. إنه نتاج جدل الفكر والفعل على مسرح الواقع: نسيق بيئى ecosystem وأبنية اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية... الخ. ويلخص العقل قواعد وقيم العمل ونهج تناول ظواهر الحياة وتبرير الوجود وصورة الذات وصورة الآخر، ومناط الصراع من أجل البقاء في إطار تحديات لها خصوصيتها الزمانية المكانية. وهو أيضاً نتاج هذا الصراع في آن واحد . وحسب هذا المعنى يكون عقل الأمة بنية معرفية/ قيمية تاريخية يشكل خصوصية مجتمع بذاته، ويحدد أسلوب استجاباته، لأنه جماع الأحكام والأفكار والتصورات التي تحكم أذهان جماعة بشرية ذات تاريخ ونسق بيئي متمايزين.

    لذلك فإن عقل الأمة نسبي تاريخى، مكوناته بشرية وليست مفارقة أو خارقة، لأنه منتج اجتماعي مشروط بثقافة وفكر ولغة ونشاط أي فعالية اجتماعية مطردة ومواجهة أو صراع بقاء في زمان ومكان محددين. وليس للعقل، من حيث هو بنية نسقية، وجوداً مستقلا إلا من حيث النظر، ولكن وجوده رهن الإطار الاجتماعي الذي نشأ وتحرك فيه. إنه متداخل في جديلة واحدة في أفعال الممارسة العملية. فكل خبرة يتلقاها الإنسان/ المجتمع تجري في صيغة بنية تنظم تصور الإنسان للواقع والذات والكون وتكون مرجعاً للتفسير ومرشداً للسلوك.


    وليس عقل الأمة واحديا أحاديا بل تعددي تعدديا في التاريخ وفي الحاضر نظراً لتعدد شرائح ومصالح المجتمع وتغير الفعل والنشاط فكراً وأداة. ولكن هذه التعددية لا تنفي وجود سمات مشتركة هي مكونات الخصوصية المميزة التي تكمن أو تتجلى في أسلوب فهم الناس لحاجاتهم المشتركة، ومهامهم في الحياة، وأهدافهم المشتركة ووسائلهم في تحقيقها، ومن ثم تصوغ للمجتمع صورة مشتركة دعامة الانتماء بين أبنائه أي يكون وعياً اجتماعيا في متصل تاريخى، أي تراث، دينامى متطور دائماً؛ يغتنى ويترف، وهو دالة على مشروع وجودى وعلى نهج العمل وصولا إليه. وكما يقول كارل مانهايم فيلسوف سوسيولوجيا المعرفة في كتابة الأيديولوجيا واليوطوبيا إن الانتماء إلى جماعة يعنى من بين أمور أخرى أن أبناء هذه الجماعة يرون العالم ونهج التعامل مع الذات والآخر والطبيعة بطريقة متماثلة مميزة لهذه الجماعة وعقل الأمة هو الإطار الفكري الداعم لهذه الصورة ولهذا النهج في التعامل وإن كان هذا لا ينفي دينامية الانتماء، أعني دينامية العقل نظراً لدينامية الواقع والتعامل الحياتى.


    وفي ضوء ما سبق، ومن منطلق الإيمان بنسبية وتاريخية عقل الأمة، فإن فهم هذا العقل، أي فهم الإطار الفكري لمجتمع ما وطبقاته التاريخية، إنما يكون تأسيساً على دراسة حركة الفكر الاجتماعي من خلال الاحتكاك والصراع ومواجهة التحديات في المجتمع المحلي والعالمي وفي النسق البيئى بعامة. ذلك أن فهم فكر المجتمع إنما يكون في ضوء تاريخ الفكر بتياراته وروافده مجسداً في الإنسان/ المجتمع بشرائح الناس المتباينة وأنشطتهم، وفي ضوء قيم هذا المجتمع النابعة من انتصاراته وهزائمة مع البيئة وداخل المجتمع وبين المجتمعات أو مجسدة فيما يسمى التراث في تاريخيته الاجتماعية. وكما يقول كارل مانهايم أيضاً في كتابه سالف الذكر "إن كل معنى يتعين فهمه في ضوء تاريخ نشأته وتكوينه وتطوره، وفي السياق الأصلي للخبرة المعاشة التي تشكل خلفيته وفي السياق الجمعى (ص 12 ـ 25). لذلك فإن الفهم الأعمق للمجتمع يكون من خلال فهم ومعرفة تاريخ طفولة وتطور المجتمع وصراعاته ومعاناته ومواقفه وغذائه الفكري مع وضع تباين شرائح المجتمع في الحسبان إلخ وسياق ذلك. أعني النشأة والتكوين والسياق وبذا يصاغ الوعي أو ما يسمى عقل الأمة وما انطوى عليه تراثياً من دوافع جمعية لاشعورية تحدد بالاشتراك مع الفاعلية الاجتماعية نمط التفكير الاجتماعي.


    ويعمل عقل الأمة في مجال من الثنائية القطبية: الأنا والآخر الذي هو نقيضه وشرط وجوده. وتشتد حدة هذه الثنائية في اقتران بشروط التطور لتصل إلى درجة الصراع والتطاحن أحياناً وتكون إما أنا أو الآخر. ويتباين خطابه إلى الآخر وفقاً لحالة النشاط والفعالية الذاتية أو حالة الركود والجمود. إذ في الحالة الأولى يكون خطابه إلى الآخر تجسيداً لطموحه ولصورة وجوده المبتغاة وقيمه المدعاة. ويسوق الخطاب عادة بلغة التعميم دون الكشف عن مكنون المصالح. يعرض نفسه دائماً في صورة صاحب رسالة خالدة أو مجتمع عظيم أو عالم جديد أو أخوة إنسانية إلخ يبشر وينذر دون أن يفصح. ويكون على الآخر أن يجري تحليلاً وتفكيكاً للخطاب لفهم المضمون وكشف المستور.


    وحين يفقد المجتمع خاصية جدل الفكر والفعل والتغذية المرتدة بينهما، وهى خاصية رهن الفعالية النشطة الإنتاجية الإبداعية للمجتمع يصاب عقل الأمة بحالة جمود تفضي إلى نكوص، غلبة الأسطورة، أو قل يلوذ بالأسطورة إرثاً وتراثاً ماضياً مقطوع الصلة بالواقع الحى. وهاهنا يغدو بنية أو إطاراً مغلقاً يفقد ديناميته وتاريخيته، ويصبح عقلا إطلاقياً لا تاريخياً محافظاً أو جامداً. ويكون في مجال الثنائية القطبية، أي في تفاعله أو علاقته مع الآخر عقلا منفعلا سالباً ومنكفئاً على ذاته في آن واحد. وهذه إحدى نذر أو سمات الإنهيار الحضاري للمجتمعات.


    وهو في جميع الأحوال عقل أداتى تبريري يتخذ هدفاً له الدفاع عن أو تبرير الهوية الذاتية ومكوناتها ومنهجها ضماناً لهيمنتة أو بقائه. إنه غير قادر أصلا على عملية النقد فهو مزاج قيمي وجودى أو هو قناع تبريري أي أيديولوجيا تصوغ ذهنية الفئات الاجتماعية حين تتهيأ لها السلطة وتنزع إلى المحافظة، وتسعى إلى أن ترسخ توجها وموقفاً ومنهجاً وليس فكراً عقلانياً نقدياً في حركة جدلية مع الوقاع الحي المتغير. ولذلك يصدق وصفه بأنه العقل السياسي. وهو هنا غير العقل العلمي النقدي الخاص بالمجتمع العلمي عند معالجة ظواهر الطبيعة والمجتمع والإنسان، والذي يمثل قوة فاعلة معرفية ودينامية نشطة ومجلى للحرية. العقل هنا أداة تحليل وفهم ناقد لحل مشكلات حياتية تواجه المجتمع. تحليل وفهم الواقع وصياغة مفاهيم ورؤى تلخص معنى المشكلة ودلالتها وسبل تناولها وتقييمها على طريق التغيير قربن رؤية مستقبلية.


    وتأسيساً على ما سبق جاءت هذه المحاولة الاجتهادية المتواضعة لفهم العقل الأمريكى وذلك لأسباب عدة. إنه الآخر القوى المهيمن الذي يفرض نفسه قيَّما على أقدار الضعفاء من الأمم حيث السيادة للأقوى. والحق له أيضاً.

    وسبقت هيمنته الاقتصادية والسياسية والعسكرية على الصعيد العالمى محاولات للهيمنة الثقافية اطردت واتسع نطاقها حتى باتت الثقافة الأمريكية غذاء عالمياً لصناعة العقول والتلاعب بها. منذ مطلع القرن العشرين طغت الثفافة الأمريكية في تزامن مع تحول ميزان القوى العالمية الغربية إلى الغرب الأقصى، أعني من أوروبا إلى الولايات المتحدة الأمريكية. شاعت منذ ذلك التاريخ أفلام هوليود وموسيقى الجاز والروك وكل رموز ثقافة المجتمع الأمريكى والمظاهر المادية لمستوى المعيشة وأسلوب الحياة في المأكل والملبس والحياة الاجتماعية والعادات الاستهلاكية واستثمار وقت الفراغ والنظرة إلى الحياة. وكان هذا نهجا مقصوداً عبر عنه أكثر المفكرين والفلاسفة والساسة ورجال الأعمال الأمريكيين. وفي هذا الصدد قال الرئيس الأمريكى الأسبق تيودور روزفلت (1858 ـ 1919): "أمركة العالم هي مصير وقدر أمتنا". واستثار هذا النهج دول أوروبا ـ القوى العالمية السابقة. ويواجه هذا النهج أيضاً الآن منافسة وتحدياً من قوى صاعدة أو تقليدية. وعبر عن ذلك الرئيس الأمريكي بيل كلينتون الذي جاء إلى الرئاسة يؤكد سعيه إلى التغيير بهدف استعادة الحكم الأمريكي حين قال في خطاب ترشيحه للرئاسة: "أعرف أن منافستنا في المستقبل ستكون مع ألمانيا وبقية أوروبا واليابان وبقية بلدان آسيا. وأعرف أننا بصدد أن نخسر زعامة أمريكا للعالم لأننا نخسر الحلم الأمريكى هنا في الداخل". ترى ما هو الحلم الأمريكى في مجتمع أمريكى عظيم، وما هى حدوده؟ وما هو موقف العالم الثالث بعامة وموقفنا نحن تحديداً إزاء ما يفكر فيه العقل الأمريكي ويرسمه ليصنع مصيرنا وقدرنا؟

    العقل الأمريكي له السيادة متصدراً حضارة عالمية متفوقة مهيمنة وآسرة. يعرف جوانب قوته وضعفه، ويدرك واعياً تحدياته، ويرسم خطى مستقبله للمواجهة. يعي حركة التاريخ ودور أقطاب الحضارة. حضارة عصر ما بعد التصنيع وتفجر المعلومات وما تفرضه عليه من مهام وتطرحه أمامه من أطماع، وسبيله إلى تحقيق الحلم الأمريكي التقليدي بإنشاء المجتمع العظيم الذي تدين له أمم وشعوب العالم بالولاء طاعة أو قسرا.


    والعقل الأمريكي بهذا المعنى وبهذا الحضور المهيمن في العالم لم يعد مجرد موضوع للدراسة، أو مجرد مشكلة خارج الذات مطروحة للبحث، بل بات قوة مؤثرة على نسيج خبرات الذات التي هي أداتنا في صناعة عقلنا القوي، أو إطارنا المعرفى/ القيمي ومنطلقنا للتحرر والنهضة وبناء الإنسان المصري العربي. ترى كيف تكون حالة العلاقة معه في التعامل معه؟ هل هى علاقة تفاعل جدلي؟ أم رفض وانكفاء على الذات خارج التاريخ؟ أم احتواء لنا من جانبه؟

    وما هو واقع حالنا الذي يدعم أياً من هذه الإجابات بعيداً عن العبارات الإنشائية؟

    الموقف الإيجابى للتفاعل الجدلى يستلزم فهم الآخر. إذ مثلما أن فعالية المجتمع رهن توفر صورة عقلانية نقدية عن الذات (التاريخ/ الفعالية الراهنة/ الرؤية المستقبلية الهادية للحركة) كذلك لا بد وأن تتوفر معها صورة عن الآخر تأسيساً على معرفة واقعية لا تنزع إلى التهويل والمبالغة المسرفة في تعظيم الآخر من واقع الشعور بالدونية ونكون فريسة له؛ ولا تنزع إلى التهوين من الآخر من منطلق نرجسية زائفة فتضيع من أقدامنا الطريق.


    ان صورتى عن الذات لن تكتمل إلا بتوفر صورة عن الآخر شريطة أن نصوغ هذه الصورة على هدي عقل ندي للذات وللآخر معاً عبر الحقيقة في إطار زمانى مكانى نعايشه؛ أعني عبر معلومات صادقة علمية راهنة غير متوهمة ولا أسطورية، ويجري توظيفها لصالح حركة مستقبلية تعبر عنها استراتيجية تنموية قومية شاملة لكل مجالات أنشطة المجتمع وتصوغ رؤيتنا للحياة والإنسان، للأنا والآخر. إن حركة الجسم والمجتمع رهن بناء أي منهما بناء سليما وفهم عناصر المقاومة أو العناصر الفاعلة في المجال سلباً وإيجاباً، والتزام نهج تحليلى تركيبي لخطاب الأنا التاريخية إلى نفسها؛ أعني نقد التراث، وخطاب الآخر إلينا.


    ولكن حري بنا، ونحن بصدد نقد الذات والآخر، أن نمايز بين: أ ـ توظيف الفكر بمسماه لصالح فئة اجتماعية؛ وبين ب ـ مقتضيات ومستجدات الحقبة الحضارية من حيث الإطار الفكري القيمي في تمايزها عن سوابقها، وفي إضافاتها إلى الحقبة الجديدة والى إنسان/ مجتمع العصر الجديد.


    وهذه تفرقة ضرورية وهامة جداً لأنها أولا تكشف مجلى التزييف الذي واكب جميع الحضارات، ولازم جميع المذاهب والمعتقدات عند التطبيق ومع حركة التاريخ وتغير الواقع وتباين الفكر والمصالح. ولهذا نمايز بين مقومات الحضارة من حيث الفكر والقيم وبين أطماع قوى اجتماعية دالت لها السلطة. وثانياً تبين هذه التفرقة طبيعة القوى الاجتماعية المضارة بهذا التزييف وصاحبة المصلحة في التحالف من أجل التصحيح أو التغيير خاصة بالنسبة لشعوب العالم الثالث التي لها أن تقبل مقومات الحضارة الجديدة وهي على طريق التحديث وتضيفها إلى نسيج حياتها في ثوب حداثي جديد مع الاحتفاظ بالمدلول الاجتماعى الأصيل لهذه المقومات دون تزييف، ولها أن تلتمس حلفاءها بين القوى الاجتماعية الأخرى حتى بين مجتمعات الغرب سعياً نحو مضمون إنسانى شامل للمقومات الحضارية.


    ومن هنا نقول إن هدف محاولتنا الاجتهادية المتواضعة في هذا الكتاب هو في كلمة واحدة التنوير. إذ ليس التنوير كما هو شائع على لسان كثيرين ممن تصدوا للحديث عنه إعادة أو استعادة نصوص كتب مفكري عصر التنوير في أوروبا أو فقهاء لنا سابقين. فهذا نهج سلفى في الصميم، ونهج يغفل حركة الزمان وطبيعة المكان وسياق الأحداث حين نستشهد برأى فقهاء سابقين أو مفكرين من بيئة حضارية غير بيئتنا عانوا مشكلات ومعوقات حضارية غير التي نعانى منها وكان لهم موقفهم الإنساني الذي يتعين نقده في ضوء رؤية جديدة لنا. وإنما التنوير عندنا في عبارة موجزة هو نقد العقل الاجتماعي لذاته وللآخر معاً، بما في ذلك رواد التنوير، في سياق حركة مستقبلية وتغيير اجتماعي مادي لواقعنا، وأن ينبري العقل جريئا في موقفه وفي خطابه من لحظته التاريخية الراهنة دون التخفي وراء أسماء أخرى. معنى هذا نقد الوعي الاجتماعى في تاريخيته، سلبياته وإيجابياته، والظروف التاريخية التي أسهمت في صياغته، والنظر إليه باعتباره إطاراً نسبياً تاريخياً، والكشف عن مقتضيات العصر الجديد وأوجه التناقض بينها وبين القديم السائد في حياتنا والمعوَّق لمسيرتنا، ضمانا لتوفر عناصر الحركة الاجتماعية بأقصى قدر من اليسر والفكر الجمعى الواعي. ويقترن هذا أو يكتمل بنقد عقل الآخر الفاعل المؤثر في مجال حياتنا وحركتنا.

    ولقد حاولنا قدر الطاقة نقد الأنا عن طريق نقد نهجنا الثقافي في تناول الفكر والمذاهب والعقائد؛ وذلك في كتاب "نهاية الماركسية!؟" وحاولنا نقد تراثنا ورؤيتنا للتاريخ في كتابنا "التراث والتاريخ نظرة ثانية". وهنا نقدم رؤية ودراسة نقدية عن الآخر المهيمن الجبار المتحكم الآن في مصائرنا، عسى أن يكون في كل ما قدمناه خطوة على طريق التنوير تكتمل وتنضج بفضل جهود آخرين لتصب في تيار اجتماعي صاعد يهدف إلى التغيير تغيير الفكر والفعل الإنسان/ المجتمع.




    شوقي جلال
    [/SIZE]القاهرة 1996 [/align]





  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Feb 2003
    المشاركات
    30,109

    افتراضي

    [align=justify]
    الفصل الأول
    الفكر الأميركي والحرية الفردية
    "الحق يمتلكه الشعب القادر على قهر الشعوب الأخرى"
    أوليڤر وندل هولمز- فيلسوف وقاض بالمحكمة العليا
    1841ـ 1935




    الحرية المفهوم والقيمة:

    بدون الحرية لن يكون إنسان.هكذا اقتضى منطق التطور الارتقائى البيولوجى؛ وهكذا اقتضى منطق النشوء الاجتماعي والتطور الحضارى. أو هكذا الإنسان: الفرد ـ المجتمع، معا في التاريخ وجهان لبنية تكوينية تاريخية واحدة متداخلة العلاقات؛ حيث لا وجود لأحدهما بدون الآخر، تماماً مثل الذاتي والموضوعي. إنه وجود واحد ذو وجهين ، ومن ثم العلاقات بين الفرد المجتمع حقيقة أصيلة متضايفة لا ينفي وجود أحدهما وجود الأخر ولا يتجاوزه .أنا والآخرون معاً في تمايز ووحدة تاريخية متكاملة .

    والحرية في إطار هذا التصور هي ملحمة الوجود الإنساني . مناط الصراع والارتقاء . ملحمة خالدة خلود الوجود الإنساني ذاته : شوق أبدي, ومكابدة لا تنتهي وإن ظلت ترتقي أو يتسع نطاقها بارتقاء الإنسان حضارياً حصاد يزيد مع الزمان ولا يكتمل سخر لها الإنسان كل قواه. وأمضى سلاح في هذه الملحمة: العقل الواعي وانجازاته. ومن ثم الحرية معاناة دائمة للروح البشرى الممتد عبر التاريخ، وسعي أبدي ليتحقق وجود الإنسان من حيث هو إنسان ليحقق ذاته في إبداع متجدد، وهى وعاء ومناخ السلوك أو الطاقة العاقلة وبدونها تسقط أو تنعدم صفة العقلانية بالنسبة للسلوك، فكأن الحريةَ شرطُ إنسانية الوجود ـ وجود (الفرد/ المجتمع وجوداً حضارياً فاعلاً، وشرط عقلانية السلوك أو الفعل الحضاري، وبها يتحقق الاستقلال الذاتى للإنسان ـ الفرد/ المجتمع؛ أي أن يكون وجوده وسلوكه نابعين منه وله، فلا يكون مستلبا أو مغترباً وإنما منتمياً صادق الانتماء إنه هو الوجود الحق، أو يكون هو عين وجوده ذاتا فرداً ومجتماً.

    لهذا لا نغالي إذا قلنا: إن مشكلة الحرية هي أهم مشكلة اجتماعية وفلسفية في تاريخ البشرية، ذلك لأنها تؤثر مباشرة على وعي الإنسان، وتطابق سلوكه الفردي والاجتماعي؛ بل وعلى وجوده ذاته. إنها مشكلة إنسانية تخص الإنسان دون سواه من الكائنات، وبدونها يفقد المرء إنسانيته.

    ونحن هنا لا نقصد الحرية بمعناها الرومانسي؛ وأن كنا لا نرفضه، بل نعنى بها مكونات وعي الإنسان الاجتماعي، لا الفرد المتوحد ونعنى بها أيضاً المعنى الإنساني التاريخي، الحرية بمضمونها المتطور المرتقي أبداً مع حركة الإنسان الاجتماعي على مدى التاريخ.

    والمكابدة من أجل الحرية هي وحدها شهادة جدارة واستحقاق للوجود بالمعنى الإنساني الذي يتجاوز الوجود الحيواني أو الطبيعي الذي هو استمرار نمطي. والحرية ليست نمطية وإلا فقدت ماهيتها، أو لنقل: فقد الإنسان ماهيته إنها إطار ونزوع متنوع النهج والمحتوى، ومن ثم فهي مشروع الوجود الإنساني تزداد ثراء. تتقدم وتنتكس. تتعدل وتغتنى. حسب طبيعة التجربة الإنسانية الاجتماعية المعاشة.

    وإن ما يميز الناس ويمايزهم عن سواهم من الكائنات، القدرةُ على وضع تصورات مفاهيمية وأطر فكرية مجردة، هي حصاد نشاطهم البدنى والتأملي ـ حاضراً وتاريخاً في نطاق قدراتهم المتاحة، وظروفهم المعاشة لتكون أساساً لمبادرة أصيلة وتفكير عقلاني حسب الإرادة والمشيئة. وإذا كان هذا النشاط هو نشاط تاريخي فإن هذه القدرة هي نتاج مسيرة تطورية ممتدة بامتداد الوجود الحي على الأرض.

    وانعكست هذه المسيرة في أجلى وأرقى صورها حتى الآن لدى الإنسان على هيئة جهاز عصبى راق له نشاطه المميز يؤهل للإنسان: (الفرد/ المجتمع/ التاريخ) ما اصطلحنا على تسميته وعياً وقوة عقلية وقدرة ذهنية لتحديد أفعاله لهذا فإننا حين نسلب الإنسان امكانات استخدام هذه القدرة في اختيار وتحديد أفعاله، في إطار علاقات اجتماعية نشطة؛ إنما نسلبه إنسانيته، ونسقط مرحلة الارتقاء التطوري التي تميزه عن سواه من الكائنات. وليس غريباً ما نشهده في مجتمعات تعطّل امكانات الفعل العقلاني الحر إذا بها مجتمعات راكدة متخلفة، أو بعبارة أخرى عاطلة من الحرية، أو بعبارة ثالثة عاجزة عن الحركة والعطاء. مجتمع متدهور عقيم. وهذه هي سمة الإنهيار الحضاري.

    وتهيأت للإنسان بفضل هذا الجهاز العصبي الراقي في تطوره، وبفضل الفعل والتفاعل الاجتماعيين، درجة عالية من الحرية أو التحرر من القوى الخارجية والدوافع الطبيعية الأدنى مستوى، وتهيأ له كذلك رصيد من المفاهيم تلخص رؤيته ونهجه، وقابلة للتطور والتكيف، وبذلك لم يعد وجود الإنسان وضعاً طبيعياً مفروضاً مثل الجوامد، وليس اطراداً بيولوجياً محضا وعشوائياً شأن الحيوانات، ولكنه جامع بين امتداد بيولوجى، وبين فعل إرادى أو عقلي على تحديد موقف الذات، التي هي ذات اجتماعية، وتنظيم جهده للحاضر والمستقبل إزاء ما يحيط به وما يرثه من أفكار أو وجود حضارى مادي وفكري. وبذا يكون كياناً ديناميا يتعامل مع العالم المتجدد من خلال وعي عقلاني متجدد تستشيره، ولا عاجزاً عن صياغة تصور ذهنى للواقع؛ بل قادراً على الفعل، وقادراً على الاحجام أيضاً عن الفعل وفق إرادته وحساباته ومن ثم يكون الاختيار موقفاً يتخذه الإنسان في متصل يربط بين بؤرة ذهنية مفاهيمية واعية وحافزة للعمل النشط، وبين موقف اللامبالاة التامة من العالم. وحسب هذا التصور تكون الحرية حركة في إطار معنى للحياة يضفيه الإنسان على الوجود، أو كما يقال: الحرية أبداً محكوم عليها أن تجد معنى للعالم ولحياة الإنسان؛ ممارسة لحريته في هذه الحدود وفعل الإنسان إقداما وإحجاما هو اختيار بين بدائل. اختيار ينطوي على تخطيط وتحليل وتفكير وتقييم. ويجري هذا كله في إطار مفترض من الحرية التي هي غياب لأسباب سلبية؛ أعني غياباً لعوامل القسر والقهر المصطنعة اجتماعيا في صورتها المادية أو المعنوية، وفرصة لإعمال العقل أو الوعي دون إكراه لاختيار الفعل المناسب.

    وتكشف هذه الحرية في الفعل وفي غياب كل من القسر والاطراد العشوائي عن قدرة وأهلية الإنسان على تأصيل أفعاله؛ أعني أن يعيش حياة الأصالة دائما؛ وهي أن ينشئ انطلاقاً من ذاته ومن ظروفه المعنوية والمادية، أي يبدع في سياق حر عملاً من أعمال الوعي متمثلاً في فكر مجرد وانجاز مادي يعبران معاً عن الوجود من حوله ومقتضياته من سلوك ملائم. فالذات الاجتماعية الأصيلة هي وحدها مصدر الفعل الحر، وهي دائماً؛ وبسبب هذه الأصالة، متجددة دوماً تشذ عن اطراد التماثل، وإنما تنزع إلى اطراد الارتقاء الذي يستوعب الماضى ويتجاوزه. ولهذا يمكن أن نقول: إن التاريخ؛ بمعنى من المعاني، هو صناعة الإنسان/ المجتمع لأنه محصلة الفعل الاجتماعي الحر، فهذا وحده هو الفعل الإبداعي، وليس التاريخ محصلة اطراد عفوي متماثل. إن التقليد أو التطابق مع السابق، أو محاكاة الماضي لا يصنع تاريخاً ولا يمثل أصالة. وهذا على نقيض من يرون الأصالة في اطراد الحياة أُسوة بحياة السلف فكراً وسلوكاً؛ فهؤلاء يدعون إلى حياة أشبه بحياة الكائنات الأدنى اطراداً عشوائياً قياساً على الماضي، وعجزاً عن الإبداع؛ أو بمعنى آخر حياة تعطل إنسانية الإنسان المجدد في إطار الوعي الحر اطراداً للانهيار الحضاري ولا تجديد؛ وإنما الحياة نص مكرور.

    ويبدو واضحاً من هذا أن أكثر الأفعال في مسيرة حياة الفرد/ المجتمع هي أفعال غير حرة: إذ ان الناس يعيشون في الغالب الأعم حياة تقليدية التزاماً بمنطق التماثل، وبفضيلة العرف المتواضع عليه بينما مشكلة الحرية هي مشكلة اختيار بين بدائل، وصراع وتجاوز أعني أن الفعل الحر عن أصالة هو إبداع وخلق لأنه ثمرة صراع ومواجهة ليس صراع فرد أعزل أو معتزل متوحد أو معلق في فراغ، بل الفرد/ المجتمع والتاريخ الذي يمثله من بين ما يمثله موروث فكرى أو واقع أيكولوجي ومحيط عقلى Noosphere شاملاً الإنسان / المجتمع/ البيئة / الإطار المعرفي والإرث الفكري والنشاط الإنتاجى إنه الكل في واحد كياناً بيولوجياً راقياً فاعلاً نشطاً بكل ما يحمل من آلية وفكر. وجدان وعقل وعلاقات تصب جميعها في فعل اجتماعي نشط وصولاً إلى هدف.

    ولهذا فإن الحرية هي حرية من اجل شيء من أجل هدف أو لنقل إنها مطلب إنسانى أبدي من أجل فعل إبداعي هادف. وحسب هذا المعنى تغدو الحرية قيمة ابستمولو?ية وانطولو?ية أي وجودية وقيمة أخلاقية. وحيث أنها قيمة فهي تاريخية بمعنى أنها ظاهرة إنسانية، ومفهوماً يمثل أحد مكونات وجهي النسق المعرفي القيمي الحاكم للسلوك الإنساني في مواجهته لتحديات واقعه وعصره، والذي يحدد محتواها وإطار استخدامها والحدود التي ترسمها أو ترخص بها لاستجابات الإنسان وفعاليته في تكامل مع إطاره المعرفي. وهي بهذا متغيرة في الزمان والمكان وليست أبداً مفهوماً صاغته عقيدة أو أسطورة أو مذهب فكرى مرة وإلى الأبد، ولكنها مفهوم إنساني منبعاً ومصباً، مصدراً وغاية، وهي مجلى لتاريخية الفعل والعقل والموروث الثقافي في تطوره.

    وتاريخية الحرية تعني أن حرية الحاضر لم يتحدث عنها السلف، وأن الماضي ليس هو المثل الأعلى المنشود، فلكل عصر قيمه الحاكمة، وأطره الفكرية السائدة، ومشكلاته المطروحة أو المفروضة ثمرة حراك المجتمع ولا يتأتى حلها إلا في إطار فهم جديد لمحتوى ونطاق الحرية إنها متغير تاريخي مع تغير الحضارات والمجتمعات. وحيث أن الإنسان والمجتمع نشوء تكوينى تاريخي؛ فكذلك المفهوم. كل مفهوم هو صنو ثقافة وذو تاريخ نشوئي تكويني قرين هذه الثقافة ويتعذر فهمه دون الإحاطة بعناصر ومكونات الثقافة التي هي بدورها انعكاس لحياة وواقع وعلاقات؛ بل وجغرافيا ونشاط المجتمع في متصل تاريخي. والمفهوم صياغة انسانية تعبر عن رؤية الانسان إلى المجتمع والحياة ابتغاء تحقيق منافع؛ ومن ثم يكون احد عناصر الايديولوجيا، ويصدق هذا على مفهوم الحرية الفردية، معنى هذا ان مفهوم الحرية ليس مقطوع الصلة بصورة الكون والحياة والوجود في المجتمع وما تمليه هذه الصورة من إشكاليات وقضايا تطرحها على الباحث المتأمل، أو ما تفرضه من محرمات.

    والحرية قيمة ابستمولو?ية لأن الفعل الحر فعل هادف؛ ومن ثم فهو رهن المعرفة محتوى وحجماً ومصدراً وأداة ومصداقية، أو من حيث أن المعرفة هي حق إنساني، وحدود هذا الحق في مسيرة التطور التاريخي للمجتمع والمجتمعات معاً، بل إنها قيمة ابستمولو?ية أيضاً من حيث تعارضها مع التقليد؛ حيث إن التقليد مصادرة لحرية الإبداع المعرفي وترسيخ لمقولة "التقليد وحده وعاء المعرفة الجامع".

    والحرية قيمة أنطولوجية من حيث هي فعل نشط هادف إلى تغيير الشروط الوجودية لحياة وعلاقات الإنسان/ المجتمع؛ أي تغيير البيئة التي تجرى في إطارها الحياة وتنعكس في صورة معارف وقيم محدودة للسلوك وهذا الفعل الحر هو تحقق تاريخي لوجود الإنسان، وهو علة إنسانية لهذا الوجود وتطوره الحضارى. إن الحرية بهذا المعنى قرين الطبيعة البشرية وصورة الإنسان وموقف منه من حيث هو قيمة في ذاته؛ أي من حث هو فعل مستقل عن أي قوى خارج نطاق وجوده الفاعل. وهي بهذا نقيض الجبرية التي تجعل الفعل الحر خارج الإنسان، وأن التحديد العليِّ مرده إلى علة كونية شاملة تصادر على حرية الإرادة.

    وحيث إن الحرية فعل فإنها قيمة أخلاقية أيضاً، وبذا لا تكون فضيلة باطنية ضميرية تبرر التوحد والابتعاد عن المواقف بل هي موقف، أو هي الإنسان الموقف. والمشروع الوجودي رهن الاختيار والالتزام والمسؤولية لبناء حاضر تأسيساً لمستقبل.
    [/align]





  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Feb 2003
    المشاركات
    30,109

    افتراضي

    [align=justify]حرية مواطنين لا رعايا:

    ومفهوم الحرية يمكن النظر إليه تاريخياً من جانبين أو زاويتين؛ النقص في أحدهما زيادة في الآخر:

    *جانب إيجابي؛ أي إضافة متطورة باطراد مع حركة المجتمع في التاريخ، ويركز على حرية المشاركة؛ مشاركة الجميع تأسيساً على حق المواطنة، دون تمييز في صنع القرار داخل الجماعة وفعالية الإسهام في دعم بنيتها وتطويرها.

    *جانب سلبي؛ أي غياب أسباب سلب المرء حريته واستلابه في سبيل تحرره وانعتاقه من قيود التسلط بكل أشكاله؛ بما في ذلك التسلط الفكري والثقافي والسياسي والديني والاقتصادي والجنسي والعرقي إلخ ـ داخل المجتمع وفيما بين المجتمعات في سبيل إقرار سيادة الإنسان فرداً ومجتمعاً.

    والجانب الإيجابي هو الذي تطورت في اتجاهه الحرية؛ بمعنى أنه مؤشر ودالة على تطور المضمون. ويشمل عديداً من الحقوق السياسية الأساسية التي برزت وتباينت وتعددت مع الزمن، ولا تزال. ونذكر منها: حق الاقتراع، وحق العمل، وحق تعريف الهوية والتعبير عنها، وحق المشاركة في صنع القرار، وحق المرء في الارتباط مع من يشاركه الرأي أو المصلحة في تنظيم حزبي أو رابطة أو اتحاد، وحق انتقاد السلطة وتداولها، وحق الاعتقاد والتمرد على العقيدة، وحق تقرير المصير واختيار المستقبل الخ. ويركز هذا الجانب الإيجابي على الإيمان بأن الحرية غير المحدودة الطلقة بمعناها الرومانسي تقضي إلى الفوضوية والى نفي القانون الاجتماعي، أو كما يقال مجازاً: سيادة قانون الغابة؛ حيث الغلبة للأقوى بينما القاعدة أنه: "حيث يوجد مجتمع يوجد القانون".

    والجدير بالذكر أنه مع كل نقلة حضارية يجري إبراز مظاهر السلب، وتسود الدعوة إلى إسقاط قيود، ونفي مفاهيم تمهيداً لجانب إيجابي جديد على نحو ما حدث منذ القرن 16 في أوروبا، تمهيداً لحقبة الحضارة الصناعية؛ إذ كان ينظر إلى الحرية أساساً من جانبها السلبي كشيء معارض أو ضد قيود التسلط في الدين أو الحكم أو الاقتصاد. إنها حق متكافئ للجميع في رفض التسلط والقهر والتحكم. وهذا هو مضمون الفلسفة الفردية التي وجدت أدل تعبير لها في عصر النهضة والإصلاح. وهي غير الليبرالية بمعناها الكلاسيكي الذي يعني أقل قدر من تدخل السلطة الحاكمة في شؤون الفرد، وهو التعبير السياسي للمفهوم السلبي عن الحرية. والليبرالية تركز على قيمة الفردية ضد ضغوط الجماعة، ومن ثم تعارض ضغط أو قهر الغالبية.

    وهي بهذا تختلف عن الديموقراطية؛ وإن احتفظت بعلاقة مشتركة معها، حيث تؤكد الديموقراطية على المساواة بين الناس، وأن لكل حق المشاركة في حكم الجماعة دون امتيازات بسبب عقيدة دينية وباعتبار المواطنين متعاقدين أكفاء متساوين اجتماعياً. والديموقراطية بهذا المعنى ليست مفهوماً سياسياً خالصاً كما يظن البعض بحيث نختزلها في شعارات؛ بل هي مفهوم مجتمعي، بمعنى أنها تعبير ونتاج مستوى تطوري حضاري للمجتمع شاملاً كل مقومات البنية المجتمعية. ولعل الأصوب أن نقول مجتمع ديموقراطي لا ان نردد مصطلح الديموقراطية كصفة مجردة. والمجتمع الديموقراطي هو مجتمع مدني نشأت بداياته مع عصر الصناعة؛ أي مع تحول المجتمع الغربي حضارياً، وهو تحول وليد صراع، وكذا تطور الحقوق وليد صراعات متوالية. والمجتمع الديموقراطي هو مجتمع مدني، وحقوق الناس فيه هي المسماة الحقوق المدنية. وفكرة المجتمع المدني تعني أن المجتمع ليس كما ظن وصوره رجال الدين من أهل السلف كياناً روحياً وتجلياً لإرادة إلهية؛ بل كيان مادي حقيقي يمكن للفهم الإنساني أن يدركه، وبهذا يكون العقل مصدر التشريع. وترتب على هذا الفهم الجديد القول بالمواطنة نظراً لأن المجتمع المدني ثمرة العقد الاجتماعي والتمثيل النيابي تعبيراً عدا إرادة الفرد في شؤون الدنيا؛ أي فعالية إرادة الإنسان في الوجود المادي لا الروحي، وفعالية إرادة الفرد في التفويض؛ تفويض السلطة للحاكم، لا بيعة صفوة، ومن ثم تكون الإرادة أو العقل مصدر التشريع والتفويض؛ إرادة وعقل الكافة وليست الشرعية التراثية حسب تأويل الخاصة من رجال الدين هي أساس التفويض في الحكم . ويتضمن مفهوم المجتمع الديموقراطي أو المدني، كمفهوم حديث، المعاملة المتساوية بين أبناء المجتمع وفقاً للقانون المدني. ويعتبر هذا الفهم حجر الزاوية لأن مجتمع حر، حرية شاملة الفرد والمجتمع في تداخل مشترك؛ إذ يحمي المجتمع بذلك الحرية الفردية لمواطنيه، وتكون حرية المجتمع سياجاً ومظلة للحرية الفردية ومكوناً من ثقافته.

    ومن هنا نقول إن حرية الإنسان لا تعني مجرد قدرته على الملاءمة والتكيف مع الظروف التي نشأت تاريخياً في بيئته، ومن ثم يكون سلوكه أو تكيفه تقليداً؛ بل تعني أولاً القدرة على التأثير الإيجابي النشط والابتكاري في هذه الظروف وتحويلها ـ قدر المستطاع ـ لتتلاءم مع أغراضه وأهدافه الاجتماعية العقلانية. وتعني أيضاً أن يكون تلاؤمه تلاؤماً واعياً علمياً خلاقاً بقدر مستوى عصره لا انقياداً ولا تقليداً أو اتباعاً. وأن يكون نشاطه نشاطاً واعياً بالواقع وعناصر حركته، وواعياً بقوانينه، وواعياً بأهدافه هو وبتغييره الإرادي الهادف للواقع، وهكذا يتجاوز المستوى البيولوجي والحيواني، أو القطيعي.
    [/align]





  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Feb 2003
    المشاركات
    30,109

    افتراضي

    [align=justify]معالم على الطريق:

    إن عصور التقدم والازدهار الحضاري هي عصور الحرية. خطوة نحو مزيد من حرية الفرد والجماعة. وانطلاق الفكر، فكر المجتمع الذي هو حصيلة جهود إبداع أبنائه، وانتقال المجتمع إلى صعيد جديد في السيطرة والسيادة أما عصور التخلف والتحلل المفضي إلى الاندثار فهي عصور القمع والتسلط والجمود حتى إن الإمبراطوريات التي تكونت في ظل القمع والتسلط هي إمبراطوريات عسكرية لم يقدر لها أن تعيش طويلاً، حياتها رهن السلاح المصلت على الرقاب ووأد الفكر وخرس اللسان. ولكن سرعان ما يهن السلاح، ويضعف صاحبه، وتصدق الحكمة الصينية القائلة: "إنك لا تستطيع أن تحكم شعباً من فوق صهوة جوادك طويلاً"

    وازدهار الحضارة ازدهار للقدرة على التعبير، وازدهار مكنون الفرد والمجتمع جمالاً وإبداعاً علمياً.؛ لأن الحرية هي فهم الواقع، أو قل من هنا تبدأ لذا فإن العلم والعلماء ومدارس الفن وكل أنشطة الإنسان الإبداعية هي خير وجه يعبر عن موقف المجتمع من الحرية وانطلاقه على الطريق إليها وإحجامه وجموده أسيراً بين براثن التفكير. وهذا لا ينفي العلاقة الجدلية ووأد الحرية. ولكن الحاكم قد يروق له أن يشيع أو يروج مقولات عن إيمانه بالحرية، غير أننا نجد شاهداً على صدق حديثه، أو كذبه، في انطلاقة العلم والعلماء والفنون.

    لهذا قد يكون مناسباً ونحن بصدد الحديث المكرر عن الحرية الفردية أن نسأل أنفسنا: الفرد حر من ماذا؟ ومتى نقول إن الفرد حر أو لديه حرية فردية؟ أو متحرر من أي قيود تحديداًَ؟ ويتبع هذا سؤال آخر: وما هي وظيفة الحرية اجتماعياً؟

    ليس المقصود بداهة تحرر الفرد المطلق من كل القيود والغاء كل مظاهر السلطة المجتمعية على نحو ما يذهب الفوضويون والرومانسيون. وإنما المقصود أن يكون المرء حراً، قدر المستطاع، من قيود تشكل عقبات في سبيل الوصول إلى مستوى أرقى حضارياً، وهو مستوى مجتمعي لا فردي؛ صاغته رؤية مرحلية لحركة المجتمع. ولهذا فإن الحرية قرين الضرورة والعقلانية. إنها حركة واعية هادفة غير أنانية في إطار الضرورة. والضرورة هنا تعني قوانين حركة الواقع: الواقع متمثلاً في تاريخية النفس الإنسانية والمجتمع البشري والطبيعة، وبذات تكون الحرية هنا حرية عالم، لا جاهل، عالم عارف بطبائع الأشياء التي تدخل في محيط نشاطه ووعيه.

    لهذا فإننا حين نقرر أن الحرية تعامل واع هادف، فإننا نعني أنه تعامل علمي حضاري؛ أي تعامل من خلال الرؤية العلمية التي يوفرها العصر لصاحبها فتعطيه قدرة ملائمة على الانطلاق يتجاوز بها مراحل سابقة، وينتقل بها، لا كفرد، بل كمجتمع، إلى مرحلة جديدة في سلسلة التطور الارتقائي للوعي البشري والبناء الاجتماعي وهيمنة الإنسان على الطبيعة (إنساناً ومجتمعاً وبيئة) في إطار نسق معرفي قيمي ينشد خير الوجود الإنساني وإلا أصبح هدما للطبيعة ومن ثم الإنسان، وهاهنا نقول: إن الحرية ارتقاء مطرد مع ارتقاء المعرفة العلمية؛ قرينة القيم، والتي هي معرفة مجتمعية وأداة تحرر مجتمعي وعالمي. إذ مع ارتقاء المعرفة العليمة تزداد فرص المجتمع للتحكم الواعي في مقدرات حركته حاضراً ومستقبلاً، ويصبح الإنسانُ واعياً بمصيره، صانعاً له. والزيادة في الحرية بهذا المعنى هي في آن واحد نقص في الإيمان بالقدرية، وزيادة في نسبة الإرادة العقلانية الخلاقة.

    والحرية الفردية بهذا المعنى، ليست تمحوراً حول الأنا وتهويماتها، ولا انفصالاً عن أهداف المجتمع؛ بل هي مكون من مكونات هذه الأهداف، وأداة لها، وثمرة لحركة المجتمع. وهي ليست حرية قطيع، مثلما أنها ليست انطلاقاً فوضوياً ـ في معمله حر بمعنى حقه في التجريب وتجاوز التقليد؛ بل والتمرد عليه. ولكنه ملتزم بقوانين التجريب، وقواعد وقيم البحث، وقوانين حركة مواد التجريب، وملتزم بأهداف المجتمع وإمكاناته الاقتصادية. الخ. وإذا لم تكن الحرية تعني حرية القطيع فإنها تقتضي، أو قل إنها لن تكون حرية إلا إذا توفر وعي بها؛ وعي بالتحرر من قيود معينة، ووعي بعقبات وأغلال باتت بآلية يلزم تجاوزها، ووعي بهدف منشود يرجى أن تصل إليه الحرية، أو أن نصل إليه بها.

    إن إدراكنا للظروف الموضوعية وللعلاقة الخاصة التي تقوم بين الناس والتي ينمو وعينا لذواتنا في إطارها، لا يعني خضوعنا للقضاء والقدر، وإنما يعني أننا نسلك الطريق الوحيد المفضي إلى الحرية. إن فهم ما يجري حولنا، وما نستطيع أن نفعله لتحقيق اهدافنا معناه الانتقال من نطاق الوضع المفروض، أي من نطاق الضرورة إلى الحرية. والبديل عن ذلك هو الخضوع للواقع الراهن، أو الاستسلام للسلطة الأقوى حاضرة أو غائبة. أليس هذا هو منطق صراع الحضارات أيضاً. الذي ينطوي على صراع ثقافي معرفي. الصراع بين الحضارات بما في ذلك صراع الثقافات، هو تحديات مفروضة تقتضي استجابات واعية على مستوى العصر، ولن تكون كذلك إلا إذا كانت استجابات حرة تأسيساً على فهم حر.وإن انتصار المجتمع في حلبة الصراع الحضاري، بمعنى قدرته على تحقيق الاستجابة الإبداعية الملائمة إزاء التحديات لا يكون إلا بفضل حرية الفهم ـ والفعل الفردي والاجتماعي. وبدون ذلك قد يفر المجتمع في الحديث عن الحرية وعن الاستقلال وعن أمجاد الماضي وعظمه التاريخ، ولكنه مع هذا كله مكبل عاجز عن الاستجابة الإبداعية، عاجز عن الفهم والفعل في حرية.

    وما لم تكن الحرية قرين العقلانية الناقدة التي هي أساس التكليف والمسؤولية، تصبح حرية قطيع حيواني، ويكون الإنسان هنا، شأنه شأن الحيوان، "حراً" في أن يفعل هذا أو ذاك وفق إحساساته الخاصة، وردود أفعاله المباشرة، وخبرته الذاتية التي ترسبت في مراكزه العصبية. وهنا تسقط عنه الرابطة المجتمعية كما يسقط عنه التراث التجريبي المميز للمجتمع الإنساني كامتداد تاريخي داخل في إطار الوعي، خاضع للفهم والتحليل والنقد، وقابل لأن يكون أساساً لرؤية مستقبلية هادفة. وتتبدي الحرية العقلانية الفاعلة في ذلك التحليل النقدي واختيار الرؤية المستقبلية. ولكن انحصار الإنسان داخل مشاعره أو أحاسيسه الخاصة وتجاربه الذاتية؛ شأنه شأن الحيوان، يعني وقوعه فريسة للاعقلانية والفوضى المعنوية. فإذا كنت أعيش أسيراً لإحساساتي الخاصة فإن أحكامي الأخلاقية ذاتها لن تعدو أن تكون مجرد مشاعر خاصة، أو هي رد فعل آني وأناني يتغير مع تغير الظروف الذاتية المحيطة بي. أما العقلانية الناقدة فتقتضي النظر إلى الحدث الذي يدخل إطار خبرتي الآن باعتباره جزءاً من كل، وأن نربط بينه وبين الأحداث الأخرى السابقة في نسق كامل بين العلاقات الاجتماعية، وأن انظر إليه باعتباره عملية حية نابضة، وليس شيئاً جامداًَ بغير حراك، حدثاً يقع وينتهي دون رابطة سابقة أو لاحقة. وأن انظر، أو قل ننظر إليه، مجتمعاً لا فرداً، باعتباره تاريخاً ومرحلة في تاريخ. ففي هذا مجمل إنسانية الإنسان الحر العقلاني والمسؤول.
    [/align]





  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Feb 2003
    المشاركات
    30,109

    افتراضي

    [align=justify]تنوير وعصر جديد من الحرية:

    "الحرية ـ الإخاء ـ المساواة" بين أبناء المجتمع وبين الشعوب. شعار ردده العامة كما ردده مفكرو أوربا وعلماؤها الذين عانوا من قيود التقليد، وأغلال ارستقراطية الإقطاع ورجال الدين وما خلفه ذلك كله من جمود وظلام خيم على أوروبا قروناً طويلة؛ وإذا بأمجاد الإنسانية تاريخاً مضى واندثر. وشاء العقل الثائر الجديد أن يحطم القيود والأغلال وينطلق إلى ابعد الآفاق. وعبّر مفكرو التنوير عن طموحات عصر جديد، ووضعوا اللبنات الأولى لحضارة إنسانية أو نقلة حضارية أرقى لخصها شعار "الحرية ـ الإخاء ـ المساواة". فكان شعاراً لنهضة واعدة، الحكم فيها للعقل، وأملاً في عدالة اجتماعية، وحلماً راود خيال البشرية ولازم حياتها اليومية، وعبر عنه فكر مثقفيها. ولكن سرعان ما أجهضته تحولات اجتماعية غير مواتية، فوأدته في موطنة، وأنكرته في الخارج على شعوب عانت الأمرين من وطأة الاستعمار لصالح أطماع القوى الحاكمة وصاحبة المصلحة في المغرب.

    لهذا حري بنا ألا يجمح بنا الخيال، ونتصور أن مفكري التنوير قدموا فكرهم الداعي إلى الحرية بالأصالة عن الإنسان أو الإنسانية بعامة؛ وإنما بالأصالة عن الإنسان الأوروبي. وكان العقل الذي يشيرون إليه هو العقل الأوروبي. معنى هذا أن فكرهم انطلق من نزعة ركيزتها المحورية الأوروبية؛ بل والعرقية الآرية؛ أي الانحياز إلى أوروبا وإلى الإنسان الأوروبي. وليس غريباً أن يغدو هذا الفكر الداعي إلى الحرية ركيزة لأيديولوجية الهيمنة الأوروبية على شعوب العالم غير الغربي ماضيهم وحاضرهم ورؤاهم المستقبلية. ولكنه، مع هذا، كان أيضاً طرحاً جديداً لمفهوم جديد عن الحرية الفردية ساحته الغرب، بحكم أسبقية الغرب إلى الحضارة الصناعية. ومن ثم فإنه طرح ينتظر حركة المجتمعات الأخرى لترتقي بالمفهوم الجديد إلى مستوى أرقى شاملاً الإنسانية جمعاً باعتباره حقاً لها تنتزعه من قوى الهيمنة والتسلط محلية أو خارجية .

    ولعل أهم وأخطر ما قدمه عصر التنوير من انجاز ثوري، ويعد بحق معلم الحقبة الحضارية الجديدة، هو شعار الحرية الفردية. فقد جاء شعاراً جديداً، ولا أقول مفتعلاًَ أو دخيلاً، معبراً بصدق عن مقتضيات مرحلة ارتقاء حضاري جديدة لم يسبق لها مثيل. فلم يسبق أن تحدثت مذاهب أو معتقدات عن الحرية الفردية بهذا المضمون الاجتماعي والفردي. جاء الشعار خلاصة أو تلخيصاً لمطالب ثورات الشعوب وطموحات رجال العلم والفكر فتعطله وتشل إمكانات البحث والخروج من أسر آراء ونظرات فرضتها المؤسسة الحاكمة قروناً. كما مهدوا بفكرهم للخلاص من قيود مفروضة على الفلاح فتعوق حركته وتبقيه عبداً رهين الأرض، ومفروضة على التاجر وصاحب المشروعات فتثبط جهودهم وتحبط أعمالهم وهممهم. حرية الفكر والاعتقاد أو التسامح العقائدي، وحرية التملك بعد أن كان الفرد؛ وهنا تعني العبد، محروماً من هذا الحق. وأكد على حرية المرء في أن يكون له رأية الخاص دون أن تفرض عليه السلطة، أي سلطة غير سلطة العقل العلمي الناقد، قيماً وآراء بذاتها؛ أي حرية الرأي الآخر وليس رأيي أنا وحدي، أو رأي صاحب السلطة والسلطان. ودعا إلى حرية الفرص العصر الحديث الذي لخصته حقوق الإنسان، ونادت به ثورات ثلاث متعاقبة: الإنجليزية والأمريكية والفرنسية، ثم من بعدها العديد من المواثيق الدولية: حرية الفرد دون اعتبار لفوارق اللون والعرق والدين والدم والجنس والثروة: وحرية المرء في اختيار عمله وأسلوب حياته وبناء مستقبله.

    كانت حركة التنوير تياراً فكرياً سياسياً واجتماعياً، أوروبي المنبت والمجال. واستهدفت تصحيح أوجه القصور التي يعاني منها المجتمع الأوروبي، التي تحول دون ولادة جديد، وتشل حركة المجتمع وتعوقه عن التقدم المنشود. ودعت في سبيل ذلك إلى تغيير الأخلاق والعادات والسياسة وأسلوب الحياة عن طريق نشر وإذاعة أفكار ومفاهيم جديدة عن الخير والعدل والمعرفة العلمية. ونادت بالعقل والعاطفة معاً؛ فالعقل أداة المعرفة، والوعي له دور حاسم في تطوير المجتمع. والعقل أو المعرفة العلمية كبرى فضائل الإنسان وعلة الخير الإنساني، والجهل كبرى الرذائل وعلة الشر. ولمعت أسماء خلدها التاريخ. واصطلحت جهود الجميع على تقويض أُسس العبودية الإقطاعية وغرس وتأكيد قيم وفضائل حرية الإنسان خاصة؛ وأولها حرية الاعتقاد. ومرة أخرى في أوروبا؛ وإن جاء الحديث مطلقاً.

    وأفادت نداءات الحرية الفردية، ابتداء من عصر النهضة، ثم في عصر ثورة الحضارة الصناعية، حق المرء في التفرد وتنمية ذاته علماً وإبداعاً ومالاً وفهماً متمايزاً لواقع حياته وصورة مستقبله. واقترن هذا بحق المرء في الحصول على فرص متكافئة لتنمية ذاته؛ بمعنى توفير القدرة على التفرد وأصبح لكلمة الفرد، ولأول مرة في تاريخ البشرية، مدلولاً جديداً أهم سماته التمايز والتميز؛ بعد أن كان الفرد عنصراً أو مكوناً عددياً اجتماعياً، وكل المكونات سواء شان لبنات البيت ذائبة في الكل، إلا الحاكم أو السلطان. وبعد أن كانت هوية المرء تنبع من حسبه ونسبه أو قبيلته أو عقيدته أو تبعيته كواحد من الرعايا. الخ، أصبحت، بعد سيادة مفهوم الحرية الفردية، تنبع من امتيازه الفردي وذاتيته ؛ أي كانت هويته قديماً مستمدة من خارج، وهي اليوم مستمدة من إمكاناته الذاتية الفاعلة وإبداعاته الشخصية. وأصبح الفنان أو العامل أو الصانع المبدع هو المتفرد الذي نَّمى ذاته وحصل على خبرات في حياته أثرت نفسه، وأثرى بها الحياة الاجتماعية، فعبّر عن نفسه كفرد، وهيأ له المجتمع الفرص التي مكنته من التنمية والتعبير في استقلال، وفي إطار المسؤولية الاجتماعية.

    وكان هذا الفهم للحرية الفردية بداية ومنطلقاً لفهم آخر أكثر ارتقاء وشمولاً يجمع في وحدة جدلية بين حرية الفرد وحرية المجتمع؛ بل الفرد المتميز في تناغم مع المجموع. إنه حرٌ في إطار الضرورة الاجتماعية التي تمثلها ثقافة المجتمع بدينامياتها الإبداعية، لا الراكدة، والتي يمثلها فهم لطبيعة بناء المجتمع وقوانين حركة التغير في هذا البناء، وإيمان بواقعيته. وهو ما يعني أنها حرية جناحاها: العقلانية والمسؤولية، وركيزتها: فهم واع وعلمي للواقع، واتساق بين أهداف ومصالح الفرد والمجموع.

    وسار مفهوم الحرية الفردية في العصر الحديث عبر تاريخ طويل من الصراعات التي واكبت حركة التطور الاجتماعي، وكان في ذات الوقت تعبيراً عن متطلبات هذه الحركة لكي تمضي قدماً في طريقها، ولا أقول غايتها. ولعل تاريخ هذه الحركة في العصر الحديث يبدأ مع الثورة الإنجليزية أو الحرب الأهلية التي جرت وقائعها في بريطانيا؛ مهد الثورة الصناعية. وتطوّر مفهوم الحرية الفردية واتّسع واغتنى مع تطور واتساع وثراء حركة التطور الاجتماعي في عصرنا الحديث، وهذا أمر له دلالته.

    إذ اننا لا نستطيع أن نزعم مع الزاعمين أن مبادئ الحرية والأخلاق وجدت مكتملة وكاملة في مبادئ وعقائد في الماضي البعيد، وسوف تظل كما هي وإلى الأبد، حتى وإن جاءت صياغتها في صورة مختصرة ومختزلة أو رمزية، ونسقط نحن عليها ما نشاء من معان تتفق وهوانا. ويؤكد هذا أن كل قيمة جديدة خاصة بالحرية الفردية تأتي تعبيراً عن واقع جديد، وعلاقات تجسد هذه القيمة. ولكن ثمة خيط طولي وعرضي يربط الجديد بالنسيج الثقافي الاجتماعي، خيط يؤكد الاتصال دون الانفصال، ويؤكد الإيجابي دون السلبي، ثم قد تتراجع هذه القيم أو ينحرف مضمونها عن طبيعة حركة المجتمعات؛ إن كانت قد احتفظت بزخمها واطراد تطورها؛ أو صادفت عوائق حالت دون اطراد حركتها الحرة وفق قوانين التطور.

    وهكذا نجد صورة واضحة لما نقصد إليه في مسار حركة الحرية الفردية كقيمة اجتماعية. وكانت البداية مع عصر النهضة التي تفتحت براعمها الأولى في إيطاليا مع انهيار عصر الإقطاع، إيذانا بميلاد المجتمع البرجوازي من القرن الـ (15) إلى مطلع القرن الـ (17). واقترنت النهضة بالحركة الإنسانية وإحياء تراث الأقدمين؛ بعد قطيعة مفروضة، إحياءً قوامه تأويلاً إبداعياً في إطار متطلبات العصر، وكسر الجمود، واقترن ذلك أيضاً بسلسلة من الاكتشافات العلمية الهامة في العلوم الطبيعية، ساعدت على التحرر من سطوة المؤسسة الدينية. واشتهرت أسماء ماكيافيللى وجاليليو وليوناردو دافنشى. وتجلى التحول الأخلاقي والسياسي في صورة مختزلة قاصرة؛ إذ صورت المجتمع على أنه تجمع أفراد. وأكدت الفلسفة آنذاك على النزعة الفردية والإيمان بالعقل. وكانت هذه هي الخطوة الأولى نحو التحرر من نير الجمود الكلاسيكي، وإعلان الولاء للعقل الفردي.

    ثم كانت الخطوة الثانية أو الطور الثاني مع الثورة الإنجليزية الأولى (1642 ـ 1649)؛ حيث أول مجتمع عانى مخاض التحول إلى عصر الصناعة، واستلزم الوفاء بمتطلبات هذا التحول الاجتماعي. وكان مطلب الحرية الفردية في واقع الأمر هو حرية حركة الأفراد في إطار علاقات اجتماعية جديدة لازمة لإنجاز التحول الثوري، فهى ليست حرية عزلاء. وتمثل أدبيات التاريخ السياسي والاجتماعي لانجلترا في بداية عصر الثورة الصناعية التأكيد على الحرية الفردية ضد طغيان الملك أو الحاكم بعامة؛ ومن ذلك حق المتهم في المثول أمام قاضية، حقه في رفض الاعتراف بجريمته، وتأمينه ضد الاعتقاد، وحقه في عدم التفتيش، وإقرار حرمة الشخص والمنزل، وتحرر الفرد من الخوف: الخوف على أمنه الشخصي وأمن ممتلكاته. وحقه في الانتقال وتغيير محل ومجال عمله، وحقه أو حريته في أن يكتب ويعبر، وأن يجتمع مع من يشاء. وحقه في الدعوة إلى إصلاح وتعديل القوانين ونقد السياسات وسرية الاقتراع . وضرورة إحاطة الحريات الفردية بضمانات قانونية صريحة وتأمين تنفيذها. وإن كان أقوى تأمين لها هو المساندة الاجتماعية المنظمة. واستندت هذه الحقوق الجديدة الخاصة بالحرية الفردية إلى نظريات الحقوق الطبيعية والعقد الاجتماعي، وتأكيد كرامة الإنسان والمساواة بين الجميع، وأن يكون هذا كله أساساً للتشريع.[/align]





  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Feb 2003
    المشاركات
    30,109

    افتراضي

    [align=justify]التطور العلمي والحرية الفردية:

    أحدثت الثورة الإنجليزية، أو كما تسمّى الحرب الأهلية البريطانية، ثورة حقيقية، وكانت فرصة صراع حاد بشأن الديموقراطية وحقوق الإنسان المدنية في حدود متطلبات العصر. وانتهت الصراعات لصالح الديموقراطية الحديثة، أو الوليدة، بفضل تأييد العلماء والفلاسفة ومساندتهم النزعة البرلمانية. حتى ان بعض العلماء عبروا عن أهدافهم وقتذاك بقولهم: "كل ما نريده هو إشباع رغبتنا في أن نتنفس هواء حراً، ونجري حواراً بغير قيود، وأن نتخلص من أغلال عصور بالية. ونلتمس فسحة للاختلاف دون أن يحيلنا الاختلاف في الرأي إلى أعداء يحارب بعضنا بعضاً" .

    وليس غريباً أن يكون للعلماء دورهم البارز كطلائع تدافع عن مطلب حرية الفكر والتعبير إيماناً بأن هذه الحرية ركن أساسي من أركان مفهوم الحرية الفردية. فقد كانوا هم وقود وضحايا البطش الفكري. وسيرة حياة جاليليو جاليلي وغيره شاهد على ذلك. ومع اطراد حركة الواقع الذي يفرض نفسه، تتجمع أحداث التاريخ كما تتجمع مياه النهر وراء أحد السدود، ثم يزيد الضغط ويعنف شيئاً فشيئاً حتى يكون الواقع أقوى من كل السدود، فلا يلبث أن يهدمها ويقوض أركانها ويندفع يشق طريقه فلا يبقى ولا يذر. ولقد اقترنت الثورة الصناعية التي كانت بداية تراكم أحداثها وتحولاتها في انجلترا، بثورة علمية انعكست على كل مجالات وأطر الفكر الإنساني، وتجاوز أثرها ميدان الصناعة. وكان العلماء في انجلترا، ثم في فرنسا وغيرها، هم أساساً أصحاب فكر راديكالي ليبرالي؛ إذ شعروا بالحاجة الملحة إلى حرية الفكر والحوار والاستكشاف والخروج على سلطة التقليد. وكانوا في شعورهم هذا أسبق من رجال السياسة؛ ناهيك عن رجل الشارع.

    ثانياً، كانت مرحلة الثورة الصناعية في انجلترا، ومن بعدها الثورة السياسية في أمريكا وفرنسا، عصر تحول اجتماعي في العلم والفكر والأخلاق والسياسة والاقتصاد؛ بحث تداخلت خيوط العلم والتكنيك والاقتصاد والسياسة في نسيج واحد لتصوغ تحولاً ثقافياً متكاملاً ومتجانساًَ، وهي مرحلة حاسمة في تاريخ البشرية بكل محتواها الجديد، وخطوة عملاقة في سبيل سيطرة الإنسان على الطبيعة لتكون ذلولة له، وفي سبيل شعوره بذاتيته كائناً فعالاً. وكان النصف الثاني من القرن الـ (17) هو زمان المرحلة الحاسمة في تثبيت أركان العلم الحديث، بعد أن مهّد الفلاسفة لذلك بتقويض دعائم الفكر الاجتماعي الكلاسيكي، الذي ساد بنمطيته قروناً عطل خلالها الفكر الإبداعي، وأنكر على الفرد؛ عالماً أو فيلسوفاً أو فناناً، حقه في التفكير الحر أو الخروج عن النصّ وعن التقليد ومجافاة النهج المرسوم شكلاً ومحتوى. واحتكرت الكنيسة آنذاك، أو مؤسسة الصفوة صاحب السلطان، المعرفة وحق تحديد الصواب والخطأ، والخير والشر. وكانت المعرفة في حدود التصور الرسمي لهذه الصفوة الحاكمة معرفة نظرية تأملية استاتيكية تفتقر إلى نبض الحياة وواقعها، على نقيض المعرفة التي يبشر بها العلم الوليد آنذاك؛ وهي معرفة خبرة وعمل ونظر معاً. وطبيعي أن المعرفة الأولى تتسق تماماً مع نظام تقليدي جامد يستمد معارفه من نصوص قديمة مقطوعة الصلة بالواقع، ويقف ضد التغيير حماية لنفسه، وحفاظاً على وضعه. ولم يكن غريباً أن يكون سلاح مؤسسة الصفوة الحاكمة؛ وعلى مدى قرون، إعلان أن الخارج عن ذلك مارقٌ كافر وليس حراً.

    ولكن هذا الوضع لم يكن له أن يدوم في وجه تحديات التطور الاقتصادي والتقني الذي صاحب النمو الحضاري، وأصبح التوسع في نطاق المعرفة ضرورياً؛ المعرفة النابعة من تصفح كتاب الطبيعة واستقراء الواقع المتجدد، والتوسع في أعداد المشاركين فيها. وبات لزاماً أن تغدو المعرفة خبرة وعملاً، معرفة فعالة تفضي إلى التغيير أو التطوير والارتقاء؛ وليست معرفة استاتيكية جامدة، حتى وإن تعارضت مع أهوائنا. وبدأ واضحاً أن تقدم العلم حركة، وأن اكتساب المعرفة تطور ونمو، وأن الحقيقة وليدة البحث والاستكشاف والحوار المؤسس على البرهان، وليست وديعة في خزائن أو رؤوس الصفوة. وعززت الفلسفة هذا التوجه الذي فرضه العلم استجابة للتحولات الحضارية التي ما كان لها أن تتقدم دون إقرار الحرية الفردية بضمونها الجديد.

    ومن ثم كان القرن الـ (17) هو القرن الذي أكد فيه الفلاسفة؛ لسان حال الواقع والعلم في رؤيته الشاملة الجديدة، أن هناك إطاراً بديلاً لما كان سائداً في العصور الوسطى. وعملوا على توسيع نطاق هذه الرؤية وإشاعتها مقترنة بنمط سياسي واقتصادي جديد يحدد دور الإنسان من منظور مغاير تماماً لما كان سائداً قبل ذلك. وهكذا كان القرن الـ (17) قرن هدم وتقويض؛ إذا جاز هذا التعبير، وتجاوز إرساء دعائم وأسس المرحلة الجديدة، ليأتي القرن الـ (18) ويكون هو قرن تمثُّل وهضم أحداث التقدم العلمي والفكر الفلسفي المصاحب أو الداعم له الذي جرت أحداثه. في القرن السابق.

    لقد كانت المرحلة التمهيدية من الثورة العلمية مرحلة وصف ونقد قبل أن تكون بناء وتشييد. ولكنه نقد هادف وفقاً لمتطلبات فرضها الواقع المتغير. ثم بدأت مرحلة البناء على نطاق واسع وجماهيري بعد ذلك في القرن الـ (18)؛ إذ كان لا بد وأن يأتي أولاً استكشاف آفاق واسعة، وتحدى السلطة القديمة فكراً وقيماً أخلاقية خاصة ما يتعلق منها بالأحكام الفردية والمسؤولية الفردية كشرط أولي لانتصار التحول الاقتصادي الجديد. لقد اقترن الفكر الحر بالعالم، وما كان بالإمكان أن يتقدم العلم بدون هذه القيم الجديدة عن الحرية الفردية. وهي خطوة لا رجوع عنها لأنها مطلب أساسي وحيوي لواقع لا راد له، يتمثل في التقدم الاقتصادي الصناعي والحضاري بعامة الذي بدأ ولن يتوقف. وطرح التقدم الصناعي مشكلات علمية جديدة تستلزم الحل وتعطي نظرة جديدة إلى العلم والى الإنسان.

    ومن هنا جاءت نظرية القانون الطبيعي في ثوبها الجديد، أو صيغتها المغايرة للصورة التقليدية الموروثة. وبدأت هذه الصورة مع ماكياڤيللى (1469 ـ 1527)؛ ثم توماس هوبز (1585 ـ 1679) اللّذان أكدا أن القانون الطبيعي ليس؛ كما كان الاعتقاد سابقاً، وليد السماء بل وليد الإنسان نفسه؛ أي نابعاً من طبيعة الإنسان ذاته وتعبيراً عنه. ذلك لأن الطبيعة لا تقدم لنا نموذجاً للدولة الجيدة، بل إنه لا توجد في حالة الطبيعة دولة أو حكومة؛ وإنما رغبة فردية وحرية فردية، ولكل فرد الحق المطلق في الحفاظ على نفسه وممتلكاته. وتجنباً للصراع فإن الإنسان يلوذ بعقله يلتمس منه المشورة بشأن حماية نفسه وتحديد الأُسس القانونية لضمان السلام؛ سلام نفسه وسلام المجتمع.

    وجاء من بعدهما جون لوك الفيلسوف الإنجليزي (1632 ـ 1704)، الذي أكد أن بنود السلام هذه هي قوانين الطبيعة وجوهر التشريع، وإنما يتنازل الفرد عن بعض حقوقه راضياً، أو يقبل بعض القيود نظير حماية نفسه؛ طالما فعل الآخرون نفس الشيء. والحقوق الطبيعية الأُخرى مستمدة من حق الحفاظ على النفس ومن بينها حق الحياة والحرية وتحقيق السعادة. وقال أيضاً : إن كل حكومة تستمد شرعيتها من الوفاء بهذه الحقوق لمواطنيها، وإلا فقدت شرعيتها، ويصير من حق الغالبية؛ مصدر التشريع، إقالتها. وهو ما يعني في نظر لوك أن الناس سواء أمام الحكومة لهم حقوق متساوية ولا يجوز المساس بها بحكم القانون الطبيعي، وأن تكوين المجتمع على هذا النحو أشبه بعقد اجتماعي يقضي بحماية حقوق الأفراد المستمدة من هذا القانون. ولعل هذا ما لخصه بعد ذلك: شعار "الأمة، والتي هي جماع الأفراد، مصدر السلطات"؛ فهي دون سواها مصدر مشروعية النظام والحكم.

    وأفاد جون لوك في هذا من الأفكار الجديدة للعلم لتبرير نظام الحكم الذي تمخضت عنه ثورة (1688)، التي دافع عنها جون لوك دفاعاً مجيداً، ووضع خلالها نظريته عن الحكم التي أثرت بدورها في تطور الحقوق المدنية في انجلترا، ثم الولايات المتحدة و كل الغرب . وصدرت و ثيقة الحقوق في بريطانيا لعام (1689) معبرة عن هذا كله وهي الوثيقة التي أقرت بأن كل السلطات لتجار المدن وأرستقراطية ملاك الأراضي في ظل نظام برلماني، وكان كل ما طالب به هؤلاء هو الأمان، والتخلص من عسف السلطة الملكية ومن تدخلها واغتصابها لأراضيهم. وأعلنوا في المقابل، أنهم يقبلون إدارة شؤون البلاد شريطة التزامهم بالقانون الذي ينظم سلطات الحكم ونظامه في شؤون الحياة في إطار التصورّ الجديد للحرية الفردية ودور الفرد.

    أما الجانب الفكري الإنساني الذي عبر عنه هذا التحول، متمثلاً في نظرة كل من جون لوك وساحق نيوتن؛ العالم الإنجليزي وصديق لوك، فيؤكد إيمانه الكامل بالإنسان (مرة أخرى الأوروبي) وبقدرته على بلوغ الكمال عن طريق المؤسسات الحرة والتعليم بعد إسقاط أغلال مؤسسة الكنيسة والملكية.

    وانتقلت هذه الأفكار وتطورت على أيدي مفكري التنوير والثورة الفرنسية؛ فوليتر وروسو والموسوعيين، وغيرهم، فكانت دعماً لنظرتهم الوليدة إزاء مشكلات واقعهم، وانتقلت كذلك إلى أمريكا؛ إذ ألهمت هذه الأفكار دعاة الثورة والإيمان بالإنسان والإنسانية في الثورتين، ولكن حسب النموذج الأساسي للإطار الفكري الغربي. وأفضت الهبة الثورية في أمريكا وحرب الاستقلال إلى تحولات هامة في النسيج الاجتماعي والثقافي الأمريكي. وتمثلت هذه التحولات في الجهود المناهضة للارستقراطية، وتوارث الثروات والامتيازات، كما تمثلت في المطالبة بالحرية: حرية العقيدة، وإلغاء العبودية وحق التعليم، وخلق المواطن المستنير وحرية التفكير، وفصل الكنيسة عن الدولة .
    [/align]





  7. #7
    تاريخ التسجيل
    Feb 2003
    المشاركات
    30,109

    افتراضي

    [align=justify]الردة والأمل المفقود:

    ولكن شعار الثورتين الفرنسية والأمريكية؛ وريثتي حركة التنوير، تحول إلى مساواة شكلية أمام القانون. وأكدت وقائع التاريخ، ومسار التحولات الاجتماعية أن مجتمعاً يقوم على التمييز العنصري أو الطبقي أو الديني أو غير ذلك مما يناقض المضمون الأول والأساسي لشعار حركة التنوير، أو يقوم على الملكية الاستغلالية لثروات خرافية _ واحتكار المقدرات البلاد المادية والعلمية، وغلبة النزعات الأنانية ـ إنما هو مجتمع ينتفي فيه القانون الطبيعي؛ بالمعنى الذي افترضه فلاسفة التنير، وتتهاوى شعارات الديموقراطية التي روج لها دعاتها الأولون تحت وطأة طاحونة الاستغلال والفقر وانحصار جهود الحياة داخل دائرة الحرص على البقاء؛ حتى ولو كان مجرد بقاء بيولوجي.

    وإزاء الهوَّة الفاصلة بين التطلعات الاجتماعية للجماهير، وبين الواقع الاجتماعي للطبقة الحاكمة صاحبة السيادة والمصالح المتميزة، يعمد المفكرون من أبناء هذه الطبقة إلى تبرير هذه الهوة، بما يطرحونه من أفكار ونظريات . إنهم لا يسقطون الشعار؛ بل يفرغونه من مضمونه، ويثيرون الشكوك في قيمته الحقيقية، يظن الناس أن الحرية أو المساواة إن هي إلا كلمات أو ألفاظ أو موجات صوتية تخرج من أفواهنا ,وما نقول إلا كذباً, إذ ليس لها من مدلول في واقع حياة الإنسان والمجتمع. إنها عملة زائفة بغير رصيد,أو تميمة خلعنا عليها من ذواتنا قدسية خاصة هي منها براء.وهذه ظاهرة واضحة متواترة يحكيها لنا التاريخ دائماً بالنسبة لكل المبادئ والعقائد والنظريات الاجتماعية, إذ تكون في البداية فعالة ومتسقة مع مطالب أساسية للمجتمع, وقوة حضارية دافعة, ثم لا يلبث أن يتحرك الواقع حركته المطردة أبداً, وتبدأ الهوة بين قطبي الحركة الاجتماعية :الفكر والواقع .ثم تأخذ الهوة في الاتساع شيئاً فشيئاً دون ملاءمة دينامية واعية بين الفكر ومشكلات المجتمع ,أو الواقع الحي . ويتطلع الناس إلى الماضي ويرونه حلماً, وعصراً ذهبياً ولّى وانقضى ,يحلون به ,وتداعبهم رؤاه حين تضيق بهم السبل، وحين يفقد الفكر خصوبته وحريته.

    لقد تطورت المفاهيم الرأسمالية عن "الحرية الفردية" وفق منطق غريب وشاذ. فمع ازدياد مظاهر الفقر المادي، وفقدان الأمن وغلبة القلق وعدم الاستقرار الاجتماعيين، لم تعد شعارات عصر التنوير والتغيير ملائمة لأصحاب المصلحة في الحفاظ على الوضع القائم. وتيهأت الظروف في ذات الوقت لكي تتبنى فئات اجتماعية أخرى شعار الحرية الفردية، وترى فيه مطلباً اجتماعياً لحركة ارتقائية جديدة. ولكن السلطات تسمح بالحديث، لمجرد أنه حديث، يفيد في تفريغ شحنات مكبوتة خيراً من أن تنفجر وتهدد النظام، أو تترتب عليها أحداث "مؤسفة" غير محمودة العواقب. وتشيع تفسيرات وتأويلات عديدة تخدم هذا الهدف، منها مثلا: أن الحرية اسم بغير مضمون، أو أنها لا تعني سوى حرية الفرد دون مدلول اجتماعي، أو التمسك بالمعنى الرومانسي والاستشهاد بما قد يفضي إليه من فوضى اجتماعية، أو النظر إلى الحرية في إطار سيكولوجي خالص من حيث شكل السلوك، أو الزعم بأن الإنسان طاقة غريزية نزاعة إلى الشر، أمارة بالسوء، ثم تقف عند هذا الحد دون البحث عن الأسباب الاجتماعية وراء ذلك. أو القول: إن المرء لا يمكن أن يحصل على ما يشتهي في وقت واحد، وإنما عليه أن يضحي ببعض المثل العليا الاجتماعية حرصاً على مُثُل عليا أخرى؛ أي نطبق نظام المقايضة. وتوضع الحرية هنا كإحدى القيم الاجتّماعية التي يمكن أن نحظى بها مقابل تنازلنا عن البعض الآخر من القيم التي نمجدها حقاً بعبارة أخرى أكثر صراحة: إن الحرية الفردية ـ في زعمهم ـ ثمنها عدم المساواة، وتحمل بعض المظالم الاجتماعية المادية.

    نعم، ظل الغرب طوال هذه القرون الثلاثة ميداناً لصراع فكري واقتصادي وسياسي، أو قل ساحة صراع في جميع الجبهات بين أقطاب وقوى المجتمع. وعبرت مراكز السلطة عن مستوى قوى أطراف الصراع. وكسبت قوى المعارضة أرضاً لها وثبتت أقدامها فيما نراه من مكاسب ديموقراطية. ولكن المحصلة العامة لهذا الصراع الذي ابتدأ مع بداية الثورة الصناعية أن تحول شعار النهضة ـ "حرية ـ أخاء ـ مساواة" ـ إلى شعار شكلي. تحول إلى تراث إنساني، أو حلم عن عصر ذهبي. تحقق قدر من الحرية ممثلاً في المكاسب الديموقراطية السياسية أساساً، وأخفق عنصر الإخاء والمساواة في داخل البلاد، بينما أخفق الشعار كله فيما يختص بسلوك سلطات الغرب الاستعماري مع المستعمرات؛ إذ كشفت هذه السلطات عن أطماع أنانية انتهكت في سبيلها كل قيم الحرية والإخاء والمساواة. ولم يكن هذا غريباً، فإن الغرس الأولي لنوازع الظلم كانت بادية، وعبر عنها؛ ولكن على استحياء، بعض مفكري القوى الرأسمالية الصاعدة الكامنة، ثم ما لبث أن تكشف المستور، واتسعت الهوة الأيديولوجية في الداخل بين قوى شعوب راودها أمل التحرر والإخاء والمساواة، وبين قوى باتت تحكم وتملك سلطة المال والسياسة، وخرجت إلى شعوب العالم في آسيا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية تستذلها وتهتك ثقافتها وتراثها، وتستبد بها وفاءً لأطماعها الاستغلالية. وبدا وكأن الصراع بين مفهومي الحرية والمساواة يجري في الحياة العملية.

    وأضحت المجتمعات على نطاق الساحة العالمية ميداناً لتناقضات جديدة. وفي ظل هذا الظلام الاستعماري والاستبدادي الذي خيم على شعوب العالم الثالث المقهور، وعلى الرغم من التحولات السياسية والاقتصادية في الغرب، إلا أنه يمكن القول: إن الفرد في الغرب؛ والمجتمع الغربي بعامة، ومن خلال الصراع الاجتماعي والدؤوب، خطا خطوات كبيرة إلى الأمام على طريق ازدهار الذات، والنمو الحضاري للإنسان، وتأكيد دور الفرد، وتأكيد حقه في التطلع إلى مستقبل أفضل يحدد هو معالمه في ضوء مشكلاته ومعاناته، وتحديد أطر أو أسس يدور الصراع الداخلي على أساسها. وأضحى الرأي العام قوة لها ثقلها في الدعوة إلى التغيير. ولا يزال مطلب التغيير نابعاً من منطلق الشعار الحلم "الحرية ـ الإخاء ـ المساواة"، ومن منطلق واقع حال المشكلات الاجتماعية وعلاقات تناقضات القوى في الساحة. وشهد العالم مطالب جديدة، وبزغت أفكار وطموحات عكست طبيعة الأزمة في النصف الثاني من القرن الماضي، ثم أخذت سبيلها إلى التحقق مع مطلع القرن الحالي، حيث شهدت هذه الحقبة ارهاصات لثورات الحركة الوطنية في العالم الثالث في مواقع متفرقة من أجل التحرر من نير المستعمر وبناء مجتمعاتها واستعادة وعيها بذاتها من خلال تراثها الممتد وتحديات واقعها، على نحو ما عبر بصدق وإبداع، كمثال في مصر، رائد النهضة الثقافية المصرية الحديثة رفاعة رافع الطهطاوي، وكأن هذه المجتمعات تنشد ذات الشعار: "حرية ـ إخاء ـ مساواة".

    وشهدت هذه الحقبة أيضاً ثورات وتحركات اجتماعية في مواقع أخرى من العالم، رأى زعماؤها، ورأت معهم شعوب كثيرة، أن هذه الثورات هي السبيل لتصحيح المسار واستكمال ما فات . وقد صور لورد أكتون Acton هذا التناقض على الساحة الغربية منذ فترة باكرة في مقال له في عام 1878 قال فيه: "كانت الحرية هي شعار الطبقة الوسطى أما المساواة فقد كانت شعار الطبقة الدنيا أو العامة. ولقد كانت الطبقة الدنيا هي وقود معارك النضال وهي المنتصر، إذ انها هي التي استولت على الباستيل وجعلت فرنسا جمهورية دستورية. وطالبوا بحقهم في مكاسب الثورة. ولكن الطبقة الوسطى أقامت نظاماً جديداً كفل لها الاستئثار بالامتيازات وفرض أشكال من الظلم الاجتماعي. وحرمت شركاءها في الثورة من حق التصويت. وبذا لم تكن الثورة قد اكتملت ولا أوفت بوعدها بالنسبة لأبناء الطبقة الدنيا. إذ لم تتحقق المساواة المنشودة" .

    لقد كان عصر النهضة والتنوير عصر العقل، إذ استرد فيه العقل اعتباره وأهليته وسلطاته. وحقق العقل انتصارات وفتوحات مذهلة، وفق قواعد منهجه الجديد في مجال العلوم والبحوث المختلفة. وشهد النصف الثاني من القرن الحالي أخطر وأعمق تحول في تاريخ البشرية أو تاريخ العقل الإنساني وإنجازاته، ونعني بذلك ثورة في العلم والتكنولوجيا والمعلومات وسرعة الإنجاز، والتي تعرف باسم عصر ما بعد التصنيع. واقترنت هذه الثورة أيضاً بمزيد من بعد الشقة بين حلم الإنسانية "الحرية ـ الإخاء ـ المساواة"، وبين وقاع الحال وما يبيته من يملكون أسباب الهيمنة، وما يروجون له من نظريات ويمارسونه من تسلط، ويبشرون به من مجتمع القطيع ويهدد بسلب الإنسان إنسانيته.

    عقد الإنسان الأمل على أن يصل به العقل إلى برَّ الأمن والأمان، وسكينة النفس ورخاء الحياة، وسمو الوجدان وإثراء إنسانية الإنسان. ولكنه فقد المساواة حينا، والحرية حينا آخر، وفقد الإخاء في جميع الأحيان. وتأتي التكنولوجيا والعلم في أيدي أصحاب السلطان، في عصر ما بعد التصنيع، ليسدا السبل إلى حياة العدل والأمان، ويكونا سيف إذلال وعامل ترويع، وقوة لمزيد من السيطرة والاستبداد. لا لأن هذه هي طبيعة العقل، ولا هذه هي رسالة العالم والتكنولوجيا حكم وسلطان. هذا فضلاً عما أثارته الحقبة الجديدة من مشكلات لم تكن في الحسبان، عندما ظن الإنسان أن القيمة الأولى للعلم هي السيطرة على الطبيعة وتسخيرها لسعادة الإنسان؛ إذ حقق العلم انتصاراته, وغزا آفاقاً جديدة رحبة بعيدة, ولكن بدت الطبيعة وحشاً يستعصى ترويضه؛ بل لقد أحدث التقدم العلمي والتكنولوجي خللا وتلوثاً في الطبيعة، وفرض على الإنسان مشكلات مصيريّة جديدة، وهيأ للإنسان إمكانات رهيبة لإفساد توازن البيئة أو الكون القريب من حوله قد يفضي إلى الدمار والفناء. أو خلق كائنات دقيقة بفعل العبث بقوانين الطبيعة وتغيير ناموسها، أو إعادة تنظيم شفرات الجينات بعد أن تكشفت له بعض قواعدها بفضل علوم جديدة مثل الهندسة الوراثية وما قد يجره هذا كله من أخطار قد تهدد كرامة الإنسان أو تجلب أخطاراً تعادل أخطار الانفجارات النووية أو تزيد. ويبدو الإنسان هنا قادراً على الفعل ولكن عاجزا عن المواجهة والتحكم، عاطلاً من المعايير التي تهدي وتلزم. وفي كل هذا، ومعه، الإنسان أبعد ما يكون عن قيم النهضة وآمال عصر العقل.

    وتفاقمت الصراعات الدموية بين أصحاب القوة. والانتصارات العلمية، على الرغم مما تحمله وتبشر به من إمكانات الخير. إلاّ أن الظاهر والمطروح في السوق ينذر الإنسانية بالمزيد من شرور الحرب وأخطار الطبيعة وإذلال الإنسان وتحويله إلى آلة أو مسخ بشري. نعم، كان الشعار الحلم "حرية ـ إخاء ـ مساواة". ولكنّ الإخاء يعني أن تمتد النهضة بمضمونها العقلاني الرشيد إلى العلاقة بين الأشخاص والمجتمعات والدول. وهو ما لم يتحقق. وبات التساؤل المطروح: هل كان ذلك أسطورة كذّبتها الأحداث؟ لقد جرت عقلنة لعلاقة الإنسان بالوجود أو عالم الطبيعة، حققت قدراً كبيراً أو قليلاً من النجاح؛ ولكن أخفقت تماماً محاولات عقلنة علاقة الإنسان بالإنسان؛ والإنسان بالمجتمع.

    لذلك لم يكن غريباً أن ينادي مناد بين الناس، هنا أو هناك، يقول يائساً في خوف وهلع: ليس العقل أو العلم هو سبيلنا إلى الإخاء والحب، وهو العنصر الثالث في شعار النهضة؛ بل سبيلنا إليهما هو الوجدان. هكذا نرى الآن شباباً ضاق صدره، في الغرب، بجرائم الإنسان أو الحكام، وغلبة العداوة والبغضاء، وغاض الأملُ في عينيه، وانطوى صدره على الأحزان، وبدا المستقبل كئيباً، وواقع الحياة منذراً بالأخطار؛ بل والدمار. وتلمّس الشباب الخلاص أو راحة النفس وسكينة الضمير في الهرب من العقل إلى الوجدان. وتعددت مسميات الوجدان وسبل الخلاص في الشرق الأدنى وفي الشرق الأقصى وفي أوروبا وأمريكا. تعددت الأسماء والجوهر واحد. الهرب من العقل ومن الواقع،. أو الهرب من الخوف، والبحث عن أساس للإخاء والحب بين الناس، وبين الإنسان والطبيعة. نوع من وحدة الوجود أو الصوفية، قد تعيد، في ظنهم الأمل المفقود، وتغرس السكينة في النفوس، ويهدا معها البال المثقل بالهموم. ويبدو السلوك في ظاهرة اتهاماً صريحاً لمسيرة العقل على مدى القرون القليلة الماضية التي كان المأمول أنها قرون واعدة، ولكن كان الخذلان القاسي نصيب محبي الحرية والإخاء والمساواة. تحقق قدر من الحرية هنا، وقدر من المساواة المرحلية هناك، وضاع الحب أو الإخاء في كل مكان، وأجدب الوجدان. وقيل السبب طغيان العقل. وهو حكم لا يزال بحاجة إلى بيان.

    ولكن المعركة أو الأزمة، تبدأ على أرضية جديدة غير أرضية عصر النهضة، وإن ظل الحلم واحداً، وهو المحرك، أو الدافع الأساسي للإنسانية ومؤشر الأزمة، وتتمثل الأرضية الجديدة في أن العلم والتكنولوجيا غيَّرا الواقع فعلاً، وانتقلا بالإنسانية نقلة كيفيّة جديدة، ووضعا تحت سيطرتها إمكانات كفاية لأن تفنى وتدمر، وأن تبنى وتعمّر. وارتقى الإنسان بفكره وبإمكاناته إلى مستوى أرحب من الحرية الفردية والمجتمعية، وفيما بين المجتمعات. قدم العلم والتكولوجيا منافع مبشرة، أو انطويا على أخطار منذرة، وهما في الحالين لغة عالمية مشتركة غير مسبوقة، وواقع حال لا راد له؛ ولم يعد بالإمكان النظر إلى الكون والحياة والمجتمع والإنسان إلا من خلال منجزاتهما. وتقارب الناس والمجتمعات بفضلهما، وبات التأثير المتبادل بينهم واضحاً وفعالاً. ولا فكاك من أن يكونا هما مفتاح الأزمة التحول الكيفي المأمول نحو رفاهة وجدانية ومادية. هذا أو ردة إلى الهمجية التي لن تبقي ولن تذر. لا بد من إبداع ثقافة جديدة تكون إطاراً للعلم والتكنولوجيا نحو نهضة أو مرحلة حضارية متمايزة تصالح بين العقل والوجدان، أو ترسخ العقل وتشبع الوجدان بعد طول إهمال لأسباب أنانية الإنسان.

    وقد يتراءى للناظر وكأن الإنسانية عندما تمسك بخناقها الأزمات، وتضعف حيلتها أمام الطغيان؛ طغيان السياسة والمال، وإفسادهما للعقل، لا نجد من سبيل إلا أن تنسحب على ذاتها تلملم شملها، وتستجمع قواها، وتعيد حساباتها، وتخلو إلى نفسها أو روحها تسترجع ماضيها، وتستقرئ واقعها من زاوية جديدة، وتقيَّم إمكاناتها، وتتخفف حيناً من أفعال أو أوزار معركة بناء جافة أرَّقتها أو خذلتها. وكأن هذا كله ايذان باكتمال دورة حضارية على طريق الارتقاء الإنساني الممتد، ثم تتهيأ لقفزة كيفية جديدة من منطلق رؤية مغايرة تسقط سوالب الماضي وعلة أزمته. ربما. أم أنها ردة بغير حساب؟

    هذا حال الغرب في مسيرته التاريخية القريبة مع شعار النهضة والتنوير. أما نحن في العالم الثالث فلا نزال نعيش عصراً غير العصر؛ وإن كان الحلمُ لا يزال هو ذات الحلم؛ وإن افتقر إلى الحيثيات. ولا فكاك من أن يكون للعالم الثالث، بثقافاته المتباينة، حضوره الفعال من خلال حركة إنسانية وفكر تنويري أصيلين نابعين من واقعه، ويمثلان حلقة مكمَّلة لسلسلة الفكر الحضاري الإنساني فيكونا امتداداً وتصحيحاً لحركة التنوير الغربي برؤية إنسانية شاملة. وإذا كان لزاماً على مجتمعات العالم الثالث أن تعيد بناء ذاتها في ضوء نظره تحليلية تركيبية لتاريخها ولواقعها المحلي والعالمي المعاصر وتعتمد التفكير العلمي أساساً لها، فإن ثمة سؤال من بين أسئلة أخرى كثيرة فيما يفكر عقل القوة الأعظم في الغرب، وريثة أوروبا، التي تعلن ميلاد نظام عالمي جديد انعقد لها فيه لواء الزعامة، وهي صاحبة حلم المجتمع العظيم الذي بشر به وعبر عنه المؤرخ والفيلسوف الأمريكي جون فايسك (1842 ـ 1901) في حديثه عن المصير الواضع للولايات المتحدة التي يحدها الدب القطبي شمالاً، وتقدم الاعتدالين جنوباً، والعماء البدائي شرقاً، ويوم القيامة غرباً. بدأت الولايات المتحدة ثورتها من أجل الاستقلال حاملة لواء الحرية الفردية؛ وإن أخفت أو تغافلت عن تاريخها السابق مع أبناء البلاد الأصليين ومع السود. ولكن كيف تطور شعارها مع تطور حركة المجتمع الأمريكي وعلاقته بالعالم؛ من الحرية الفردية إلى مسخ الكائنات؟ الإجابة تشكل مكونا أساسياً لفكر جديد. هذا إذا شئنا أن نقف مع التنوير، وأن نلتزم بالإطار المعرفي القيمي لحضارة العصر من خلال رؤية عقلانية نقدية تهدي خطواتنا على طريق صاعد، شاق وطويل.
    [/align]





  8. #8
    تاريخ التسجيل
    Feb 2003
    المشاركات
    30,109

    افتراضي

    نهـــــ الفصل الأول ـــــاية





ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
 
شبكة المحسن عليه السلام لخدمات التصميم   شبكة حنة الحسين عليه السلام للانتاج الفني