[align=justify]الفصل الأول
الفكر الأميركي والحرية الفردية
"الحق يمتلكه الشعب القادر على قهر الشعوب الأخرى"
أوليڤر وندل هولمز- فيلسوف وقاض بالمحكمة العليا
1841ـ 1935
الحرية المفهوم والقيمة:
بدون الحرية لن يكون إنسان.هكذا اقتضى منطق التطور الارتقائى البيولوجى؛ وهكذا اقتضى منطق النشوء الاجتماعي والتطور الحضارى. أو هكذا الإنسان: الفرد ـ المجتمع، معا في التاريخ وجهان لبنية تكوينية تاريخية واحدة متداخلة العلاقات؛ حيث لا وجود لأحدهما بدون الآخر، تماماً مثل الذاتي والموضوعي. إنه وجود واحد ذو وجهين ، ومن ثم العلاقات بين الفرد المجتمع حقيقة أصيلة متضايفة لا ينفي وجود أحدهما وجود الأخر ولا يتجاوزه .أنا والآخرون معاً في تمايز ووحدة تاريخية متكاملة .
والحرية في إطار هذا التصور هي ملحمة الوجود الإنساني . مناط الصراع والارتقاء . ملحمة خالدة خلود الوجود الإنساني ذاته : شوق أبدي, ومكابدة لا تنتهي وإن ظلت ترتقي أو يتسع نطاقها بارتقاء الإنسان حضارياً حصاد يزيد مع الزمان ولا يكتمل سخر لها الإنسان كل قواه. وأمضى سلاح في هذه الملحمة: العقل الواعي وانجازاته. ومن ثم الحرية معاناة دائمة للروح البشرى الممتد عبر التاريخ، وسعي أبدي ليتحقق وجود الإنسان من حيث هو إنسان ليحقق ذاته في إبداع متجدد، وهى وعاء ومناخ السلوك أو الطاقة العاقلة وبدونها تسقط أو تنعدم صفة العقلانية بالنسبة للسلوك، فكأن الحريةَ شرطُ إنسانية الوجود ـ وجود (الفرد/ المجتمع وجوداً حضارياً فاعلاً، وشرط عقلانية السلوك أو الفعل الحضاري، وبها يتحقق الاستقلال الذاتى للإنسان ـ الفرد/ المجتمع؛ أي أن يكون وجوده وسلوكه نابعين منه وله، فلا يكون مستلبا أو مغترباً وإنما منتمياً صادق الانتماء إنه هو الوجود الحق، أو يكون هو عين وجوده ذاتا فرداً ومجتماً.
لهذا لا نغالي إذا قلنا: إن مشكلة الحرية هي أهم مشكلة اجتماعية وفلسفية في تاريخ البشرية، ذلك لأنها تؤثر مباشرة على وعي الإنسان، وتطابق سلوكه الفردي والاجتماعي؛ بل وعلى وجوده ذاته. إنها مشكلة إنسانية تخص الإنسان دون سواه من الكائنات، وبدونها يفقد المرء إنسانيته.
ونحن هنا لا نقصد الحرية بمعناها الرومانسي؛ وأن كنا لا نرفضه، بل نعنى بها مكونات وعي الإنسان الاجتماعي، لا الفرد المتوحد ونعنى بها أيضاً المعنى الإنساني التاريخي، الحرية بمضمونها المتطور المرتقي أبداً مع حركة الإنسان الاجتماعي على مدى التاريخ.
والمكابدة من أجل الحرية هي وحدها شهادة جدارة واستحقاق للوجود بالمعنى الإنساني الذي يتجاوز الوجود الحيواني أو الطبيعي الذي هو استمرار نمطي. والحرية ليست نمطية وإلا فقدت ماهيتها، أو لنقل: فقد الإنسان ماهيته إنها إطار ونزوع متنوع النهج والمحتوى، ومن ثم فهي مشروع الوجود الإنساني تزداد ثراء. تتقدم وتنتكس. تتعدل وتغتنى. حسب طبيعة التجربة الإنسانية الاجتماعية المعاشة.
وإن ما يميز الناس ويمايزهم عن سواهم من الكائنات، القدرةُ على وضع تصورات مفاهيمية وأطر فكرية مجردة، هي حصاد نشاطهم البدنى والتأملي ـ حاضراً وتاريخاً في نطاق قدراتهم المتاحة، وظروفهم المعاشة لتكون أساساً لمبادرة أصيلة وتفكير عقلاني حسب الإرادة والمشيئة. وإذا كان هذا النشاط هو نشاط تاريخي فإن هذه القدرة هي نتاج مسيرة تطورية ممتدة بامتداد الوجود الحي على الأرض.
وانعكست هذه المسيرة في أجلى وأرقى صورها حتى الآن لدى الإنسان على هيئة جهاز عصبى راق له نشاطه المميز يؤهل للإنسان: (الفرد/ المجتمع/ التاريخ) ما اصطلحنا على تسميته وعياً وقوة عقلية وقدرة ذهنية لتحديد أفعاله لهذا فإننا حين نسلب الإنسان امكانات استخدام هذه القدرة في اختيار وتحديد أفعاله، في إطار علاقات اجتماعية نشطة؛ إنما نسلبه إنسانيته، ونسقط مرحلة الارتقاء التطوري التي تميزه عن سواه من الكائنات. وليس غريباً ما نشهده في مجتمعات تعطّل امكانات الفعل العقلاني الحر إذا بها مجتمعات راكدة متخلفة، أو بعبارة أخرى عاطلة من الحرية، أو بعبارة ثالثة عاجزة عن الحركة والعطاء. مجتمع متدهور عقيم. وهذه هي سمة الإنهيار الحضاري.
وتهيأت للإنسان بفضل هذا الجهاز العصبي الراقي في تطوره، وبفضل الفعل والتفاعل الاجتماعيين، درجة عالية من الحرية أو التحرر من القوى الخارجية والدوافع الطبيعية الأدنى مستوى، وتهيأ له كذلك رصيد من المفاهيم تلخص رؤيته ونهجه، وقابلة للتطور والتكيف، وبذلك لم يعد وجود الإنسان وضعاً طبيعياً مفروضاً مثل الجوامد، وليس اطراداً بيولوجياً محضا وعشوائياً شأن الحيوانات، ولكنه جامع بين امتداد بيولوجى، وبين فعل إرادى أو عقلي على تحديد موقف الذات، التي هي ذات اجتماعية، وتنظيم جهده للحاضر والمستقبل إزاء ما يحيط به وما يرثه من أفكار أو وجود حضارى مادي وفكري. وبذا يكون كياناً ديناميا يتعامل مع العالم المتجدد من خلال وعي عقلاني متجدد تستشيره، ولا عاجزاً عن صياغة تصور ذهنى للواقع؛ بل قادراً على الفعل، وقادراً على الاحجام أيضاً عن الفعل وفق إرادته وحساباته ومن ثم يكون الاختيار موقفاً يتخذه الإنسان في متصل يربط بين بؤرة ذهنية مفاهيمية واعية وحافزة للعمل النشط، وبين موقف اللامبالاة التامة من العالم. وحسب هذا التصور تكون الحرية حركة في إطار معنى للحياة يضفيه الإنسان على الوجود، أو كما يقال: الحرية أبداً محكوم عليها أن تجد معنى للعالم ولحياة الإنسان؛ ممارسة لحريته في هذه الحدود وفعل الإنسان إقداما وإحجاما هو اختيار بين بدائل. اختيار ينطوي على تخطيط وتحليل وتفكير وتقييم. ويجري هذا كله في إطار مفترض من الحرية التي هي غياب لأسباب سلبية؛ أعني غياباً لعوامل القسر والقهر المصطنعة اجتماعيا في صورتها المادية أو المعنوية، وفرصة لإعمال العقل أو الوعي دون إكراه لاختيار الفعل المناسب.
وتكشف هذه الحرية في الفعل وفي غياب كل من القسر والاطراد العشوائي عن قدرة وأهلية الإنسان على تأصيل أفعاله؛ أعني أن يعيش حياة الأصالة دائما؛ وهي أن ينشئ انطلاقاً من ذاته ومن ظروفه المعنوية والمادية، أي يبدع في سياق حر عملاً من أعمال الوعي متمثلاً في فكر مجرد وانجاز مادي يعبران معاً عن الوجود من حوله ومقتضياته من سلوك ملائم. فالذات الاجتماعية الأصيلة هي وحدها مصدر الفعل الحر، وهي دائماً؛ وبسبب هذه الأصالة، متجددة دوماً تشذ عن اطراد التماثل، وإنما تنزع إلى اطراد الارتقاء الذي يستوعب الماضى ويتجاوزه. ولهذا يمكن أن نقول: إن التاريخ؛ بمعنى من المعاني، هو صناعة الإنسان/ المجتمع لأنه محصلة الفعل الاجتماعي الحر، فهذا وحده هو الفعل الإبداعي، وليس التاريخ محصلة اطراد عفوي متماثل. إن التقليد أو التطابق مع السابق، أو محاكاة الماضي لا يصنع تاريخاً ولا يمثل أصالة. وهذا على نقيض من يرون الأصالة في اطراد الحياة أُسوة بحياة السلف فكراً وسلوكاً؛ فهؤلاء يدعون إلى حياة أشبه بحياة الكائنات الأدنى اطراداً عشوائياً قياساً على الماضي، وعجزاً عن الإبداع؛ أو بمعنى آخر حياة تعطل إنسانية الإنسان المجدد في إطار الوعي الحر اطراداً للانهيار الحضاري ولا تجديد؛ وإنما الحياة نص مكرور.
ويبدو واضحاً من هذا أن أكثر الأفعال في مسيرة حياة الفرد/ المجتمع هي أفعال غير حرة: إذ ان الناس يعيشون في الغالب الأعم حياة تقليدية التزاماً بمنطق التماثل، وبفضيلة العرف المتواضع عليه بينما مشكلة الحرية هي مشكلة اختيار بين بدائل، وصراع وتجاوز أعني أن الفعل الحر عن أصالة هو إبداع وخلق لأنه ثمرة صراع ومواجهة ليس صراع فرد أعزل أو معتزل متوحد أو معلق في فراغ، بل الفرد/ المجتمع والتاريخ الذي يمثله من بين ما يمثله موروث فكرى أو واقع أيكولوجي ومحيط عقلى Noosphere شاملاً الإنسان / المجتمع/ البيئة / الإطار المعرفي والإرث الفكري والنشاط الإنتاجى إنه الكل في واحد كياناً بيولوجياً راقياً فاعلاً نشطاً بكل ما يحمل من آلية وفكر. وجدان وعقل وعلاقات تصب جميعها في فعل اجتماعي نشط وصولاً إلى هدف.
ولهذا فإن الحرية هي حرية من اجل شيء من أجل هدف أو لنقل إنها مطلب إنسانى أبدي من أجل فعل إبداعي هادف. وحسب هذا المعنى تغدو الحرية قيمة ابستمولو?ية وانطولو?ية أي وجودية وقيمة أخلاقية. وحيث أنها قيمة فهي تاريخية بمعنى أنها ظاهرة إنسانية، ومفهوماً يمثل أحد مكونات وجهي النسق المعرفي القيمي الحاكم للسلوك الإنساني في مواجهته لتحديات واقعه وعصره، والذي يحدد محتواها وإطار استخدامها والحدود التي ترسمها أو ترخص بها لاستجابات الإنسان وفعاليته في تكامل مع إطاره المعرفي. وهي بهذا متغيرة في الزمان والمكان وليست أبداً مفهوماً صاغته عقيدة أو أسطورة أو مذهب فكرى مرة وإلى الأبد، ولكنها مفهوم إنساني منبعاً ومصباً، مصدراً وغاية، وهي مجلى لتاريخية الفعل والعقل والموروث الثقافي في تطوره.
وتاريخية الحرية تعني أن حرية الحاضر لم يتحدث عنها السلف، وأن الماضي ليس هو المثل الأعلى المنشود، فلكل عصر قيمه الحاكمة، وأطره الفكرية السائدة، ومشكلاته المطروحة أو المفروضة ثمرة حراك المجتمع ولا يتأتى حلها إلا في إطار فهم جديد لمحتوى ونطاق الحرية إنها متغير تاريخي مع تغير الحضارات والمجتمعات. وحيث أن الإنسان والمجتمع نشوء تكوينى تاريخي؛ فكذلك المفهوم. كل مفهوم هو صنو ثقافة وذو تاريخ نشوئي تكويني قرين هذه الثقافة ويتعذر فهمه دون الإحاطة بعناصر ومكونات الثقافة التي هي بدورها انعكاس لحياة وواقع وعلاقات؛ بل وجغرافيا ونشاط المجتمع في متصل تاريخي. والمفهوم صياغة انسانية تعبر عن رؤية الانسان إلى المجتمع والحياة ابتغاء تحقيق منافع؛ ومن ثم يكون احد عناصر الايديولوجيا، ويصدق هذا على مفهوم الحرية الفردية، معنى هذا ان مفهوم الحرية ليس مقطوع الصلة بصورة الكون والحياة والوجود في المجتمع وما تمليه هذه الصورة من إشكاليات وقضايا تطرحها على الباحث المتأمل، أو ما تفرضه من محرمات.
والحرية قيمة ابستمولو?ية لأن الفعل الحر فعل هادف؛ ومن ثم فهو رهن المعرفة محتوى وحجماً ومصدراً وأداة ومصداقية، أو من حيث أن المعرفة هي حق إنساني، وحدود هذا الحق في مسيرة التطور التاريخي للمجتمع والمجتمعات معاً، بل إنها قيمة ابستمولو?ية أيضاً من حيث تعارضها مع التقليد؛ حيث إن التقليد مصادرة لحرية الإبداع المعرفي وترسيخ لمقولة "التقليد وحده وعاء المعرفة الجامع".
والحرية قيمة أنطولوجية من حيث هي فعل نشط هادف إلى تغيير الشروط الوجودية لحياة وعلاقات الإنسان/ المجتمع؛ أي تغيير البيئة التي تجرى في إطارها الحياة وتنعكس في صورة معارف وقيم محدودة للسلوك وهذا الفعل الحر هو تحقق تاريخي لوجود الإنسان، وهو علة إنسانية لهذا الوجود وتطوره الحضارى. إن الحرية بهذا المعنى قرين الطبيعة البشرية وصورة الإنسان وموقف منه من حيث هو قيمة في ذاته؛ أي من حث هو فعل مستقل عن أي قوى خارج نطاق وجوده الفاعل. وهي بهذا نقيض الجبرية التي تجعل الفعل الحر خارج الإنسان، وأن التحديد العليِّ مرده إلى علة كونية شاملة تصادر على حرية الإرادة.
وحيث إن الحرية فعل فإنها قيمة أخلاقية أيضاً، وبذا لا تكون فضيلة باطنية ضميرية تبرر التوحد والابتعاد عن المواقف بل هي موقف، أو هي الإنسان الموقف. والمشروع الوجودي رهن الاختيار والالتزام والمسؤولية لبناء حاضر تأسيساً لمستقبل.
[/align]