بسم الله الرحمن الرحيم
نحو أُمّة عراقية سيّدة حُرّة أصيلة
((1))
الهوية العراقية بين الإستلاب والتعويم والتبعية
حسين درويش العادلي
abuhabib1@hotmail.com
لا شك ؛ أنَّ مستوى وعمق وحجم الكارثة الإنسانية والوطنية التي حلّت بالعراق منذ تولي حزب البعث وشخص الطاغية صدام حسين لمقاليد السلطة والتجربة العراقية منذ عام 1968م ، كانت وما زالت وستبقى أعظم وأكبر كارثة تدميرية حلّت بالعراق على مدى تأريخه المنظور ،.. إنها بحق إختزال واختزان لكل عناوين القهر والتخريب والإرهاب والإفساد التي لم يعرف العراق لها نظيرا ،.. والمعضلة ؛ أنَّ حصيلة هذه الكارثة لم تترك إنساناً أو بيتاً أو مرفقاً أو بناءاً أو أمناً أو ديناً أو قيمةً أو سيادةً أو وحدةً أو أملاً عراقياً إلاّ وأتت عليه استئصالاً أو نفياً أو تخريباً أو تشهوياً أو انتقاصاً ،.. ودونك الملايين من العراقيين كأرقام وشواهد على ضحايا كوارث الإعدامات والتصفيات والحروب والنفي والهجرة ،.. دونك كوارث الأزمات والعاهات والأمراض والفقر والمهانة والإذلال ،.. دونك إختراق الأمن وتمزيق الوطن وارتهان الإرادة وجر الويلات على الوحدة والتراب والسيادة ،.. بل لم يسلم حتى الحاضن العربي والإسلامي والعالمي من تداعيات الحروب والتآمر والتخريب لهذه التجربة الكارثية ،.. ،.. إنها بحق أُم الكوارث التي ولّدت وستولد العديد والعديد من النتائج المدمرة لإنساننا ومجتمعنا ووطننا وعالمنا وإلى أمدٍ بعيد !!
ورغم أنَّ كارثة البعث تميزت عن غيرها بعمق التخريب وشمولية التدمير ،.. إلاّ أنَّ هذه التجربة الكارثية الشاذة لم تنتج عن فراغ ، ومن السذاجة تصويرها على أنها تجربة اختلست الزمان والمكان والمبادرة لتتسلط بغفلة من الزمن العراقي ولتُنتج كل هذه الكوارث !!.. فإضافةً لتأسيسات عهود الإستعمار وحلقات التآمر ومحاولات الإختراق وفروض الهيمنة الأجنبية على تنوعها والتي غذّت تطرّف هذه التجربة ، فإنَّ هناك قواعد أساسية استندتها هذه التجربة الكارثية وستستندها تجارب أخرى ما لم نعمل على تغيير أنظمتنا المغذّية لهكذا لون من التجارب التخريبية .. إننا نرى أنها نتاج أفرزته وغذّته العديد من البُنى التحتية العاملة في واقعنا العراقي ، إنها إفراز لمنظومة ثقافة مجتمعية سياسية تتجلى في طبيعة النظرة إلى الحياة بكل مكوناتها وشؤونها وآفاقها ، وما لم نتدارك واقعنا بالتحليل والتغيير النوعي لن نُدرك التحوّلات الحقيقية في بُنيتنا وتجاربنا القادمة ، وسنُكرر على أرضية هذه البُنى ذات التجارب الكارثية ولو بنسبٍ متفاوتة في التأثير والعمق ،.. لذا فالواجب الوطني يدعونا لقراءةٍ واعيةٍ للذات أولاً ولتشخيص مكامن الخلل ثانياً والمبادرة للتغيير والنهوض النوعي بهذه الذات ثالثاً وذلك وفق مرتكزاتٍ جديدة صالحة وهادفة ومتطورة تتناول مجمل البُنية المُشكّلة للصيرورة الوطنية للتجربة العراقية الجديدة .
وقد يتصور البعض منّا ؛ أنَّ مشكلة العراق الداخلية وما ينتج عنها ويرتبط بها من معادلات إقليمية ودولية ، تنتهي بتغيير رأس النظام الفاسد الحاكم في بغداد ، أو بإعتماد المقولات العريضة والبرّاقة من قبيل تبني الديمقراطية والتعددية وتأسيس دولة القانون وتنظيم صيغ التحالفات العراقية وفق مبادئ الحق والسلام وعدم التدخل في الشؤون الداخلية واحترام الإتفاقات والمعاهدات ..الخ من الرؤى التي نحاول إيهام أنفسنا على أنها العلاج النهائي لوقف مسلسل التدهور الكارثي للعراق .
ورغم أننا لا نُقلل من قيمة هذه الرؤى وأهميتها وضرورتها لتنظيم وإعادة صياغة أوضاع العراق ، إلاّ أننا نرى ؛ أنَّ كافة هذه الرؤى إنما تُعتبر رؤى فوقية قشرية لا يمكنها أن تقوم أو أن تستمر إلاّ بتغيير البُنى التحتية العاملة والتي غدت ثوابت في بنية مجتمعنا العراقي مع تمادي الدهر وتناسي العمل لتغييرها تغييراً جذرياً ،.. وهنا فإننا لم نلمس – إلاّ ما ندر - جهداً عراقياً نوعياً وحقيقياً يُخطط ويُفعّل ويُمكّن لحالات التغيير التحتي والبنيوي المطلوب للذات العراقية الوطنية بما يوافق ويُمهد لتحولات جذرية في طبيعتها وتطبيقاتها .
وعليه فإننا نزعم : بأنَّ الإخفاقات الكارثية التي مُني وسيُمنى بها العراق تتأتى في أغلبها الأعم من جملة البُنى التحتية الثقافية والفكرية والسياسية التي شكّلت مضمون وماهية وتجربة الهوية العراقية (( والتي هي تعبير عن الذات العراقية في صيرورتها )) ولو منذ تشكيل الدولة العراقية الحديثة عام 1921 م ، وإن كانت الجذور والرواسب لتلك البُنى تمتد في طول وعرض العراق التأريخي كما هو معلوم ،.. فالتعويم والإستلاب والمثالية والتشظي والتبعية أهم معالم الهوية العراقية الحديثة التي أنتجت هذه الشخصية وما قام على أساسها من بناءات وممارسات وخطوط وتجارب على صعيد الإنسان والمجتمع والدولة .
لقد جهدت وتجهد العديد من القوى على ديمومة هذا الواقع التصوّري والتطبيقي للهوية العراقية !! وكأنه أُريد لهذا البلد أن يكون هجيناً هشّاً هُلامياً في ذاته وهويته وسط ذوات وطنية إقليمية أخذت بالتشكّل والإستقرار وفق أنساقها الذاتية لتمارس دورها الحياتي وفق رؤية واضحة ومسارٍ مُحدد ،.. بينما ما زالت ذاتنا العراقية تتلمس الطريق هنا وهناك لتوكيد وجودها المُغيّب وإنجاز هويتها المُصادَرة وإقرار دورها الضائع !!
إنَّ التعويم لخصائص ومقومات الهوية العراقية أنتج الإستلاب للخصوصية الذاتية لهويتنا الوطنية سواء كان استلاباً فكرياً أو سياسياً أو حضارياً ،.. ومحاولة إقرار هويات عامة غير قابلة للتخصيص في الواقع أو مثالية تجافي الواقع أو مصطنعة غريبة عن الواقع أو زائفة لا يعرفها الواقع .. زاد ذاتنا الوطنية إنقساماً وتشظياً على عدد طروحات الهويات العامة والحالمة والمثالية والمصطنعة والزائفة ،.. فيما كانت التبعية أشد إفرازات فقدان التميز الذاتي لهويتنا الوطنية ، حتى إنك ترى أن العراقي منّا أشد إدراكاً وحماساً ودفاعاً عن طروحات الآخرين ودولهم وثقافاتهم من إدراكه وحماسه ودفاعه عن ذاته الوطنية التي تمثل وجوده وكيانه في هذا الوجود !!
ولعل أصدق مثالاً على هذه القراءة ؛ ما يتعلق بتعاطينا وأهم خصائص هويتنا الذاتية ألا وهو مبدأ المواطنة وما يجب أن يُشكّله من بوتقة على الكُل العراقي أن ينصهر به لإنتاج ذاته بما يُناسب خصائصه الموضوعية ،.. فأنت تلحظ بأنَّ أُم الكوارث الوطنية الحديثة والمقترنة بولادة الدولة العراقية والتي ما زلنا نجتر نظرياتها وأدبياتها وخطابها السياسي .. تلك المتمثلة بفشلنا العراقي ((الشيوعي والقومي والإسلامي )) في التقنين والتفعيل لمبدأ المواطنة إنسجاماً مع حقائق الواقع الموضوعي والذي يُفيد بنجاح وثبوت الدولة القطرية وكونها حقيقة قائمة لا يمكن القفز عليها بالشعارات الحالمة والطروحات المثالية .
فالمُلاحَظ ، أنَّ نشوء تجربة العراق الحديث إقترن بسيطرة وتوجيه وقيادة ثلاثة تيارات رئيسة ، هي ؛ التيار القومي والتيار الشيوعي والتيار الإسلامي ،.. وكافة تياراتنا العراقية هذه أضرّت أيما ضرر بالمواطنة والوطن سواء في نظرياتها السياسية أم في تجاربها الميدانية أم في خطابها التوعوي والتغييري والسياسي ،.. حتى لتجد العراق غائباً بل مُجيّراً لصالح القاهرة لدى القوميين ، ولصالح موسكو لدى الشيوعيين ، ولصالح طهران لدى الإسلاميين !! هكذا سُحقت بغداد تحت وطأة التنظير والولاء والتحالف ، وهكذا انزوى العراق بعيداً عن الحضور والفاعلية في فكرنا وتجاربنا العملية ،.. والشواهد والأرقام التي تؤكد هذه الحقيقة مما لا حصر لها ومما هو واضح لأدنى مستقرءٍ لواقع بلدنا وللقوى العاملة فيه سواء في دوائر السلطة أم في ميادين المعارضة … فإذا ما ذكرت الوطن كمحور للولاء ، والمواطنة كأساسٍ للتمحور .. أُتهمت بالصنمية والقُطرية والشعوبية !! والحال أنَّ العالم كل العالم يتعاطى معنا باسم القانون والجغرافيا والتأريخ والواقع من خلال هويتنا الوطنية ، فأنت عراقي أينما حللت ولن تشفع لك شعاراتك ودعاويك العريضة من أن تُعامَل كبقية مواطني عالمنا العربي أو الإسلامي أو الأُممي .. فغدونا نعيش المثاليات في فكرنا وخيالنا باسم الهويات العامة والحالمة والمثالية والمصطنعة والزائفة !! وواقع الحدود والقوانين والولاءات والمصالح تصدمنا على أرض الحقيقة ،.. بل وتُركنا وحدنا نُداوي جُرحنا ونُعالج نزفنا ونُكابد غربتنا ونُنعي موتانا ونجتّر مصائبنا .. والعالم كل العالم – إلاّ ما شذّ وندر - بين مُساند لجلادنا ومُداهن لقاتلنا ومُنتفع من مُصابنا ،.. بل الأنكى أنك تلحظ تسلّق واختراق الولاءات والقيادات غير العراقية لقضيتنا على تعدد مستوياتها ومصاديقها ودوائرها !! والكُل يُعطي لنفسه الحق في التدخل في شؤوننا الخاصة والعامة باسم الدّين والعروبة والديمقراطية .. بل ويعاملنا معاملة القُصّر وكسيحي التجربة والإرادة والقرار !! وما هذا وذاك إلاّ نتيجة حتمية لإستلاب الهوية وتسطيح الوعي وتعويم الإنتماء وتبعية الدور !! ولقد آن الآوان لكافة قوانا العاملة أن تجهد لصناعة مشروعنا الوطني المتميز والخاص والذاتي ، وفي القلب منه العمل لإعادة بناء ذاتنا الوطنية وصيرورتنا العراقية في مرتكزاتها ومرافقها وشؤونها كافة بما ينفي التعويم والإستلاب والتبعية .
لذا فأي نهوض نوعي للواقع العراقي لابد وأن يعتمد خارطة إداركية وتطبيقية نوعية مغايرة تأخذ بنظر الإعتبار ماهية هذا الإخفاق الكارثي لتلافيه على صعيد المضمون والتجربة العراقية القادمة
(: