النتائج 1 إلى 7 من 7
  1. #1

    Lightbulb نحو أُمّة عراقية سيّدة حُرّة أصيلة - حسين درويش العادلي

    بسم الله الرحمن الرحيم

    نحو أُمّة عراقية سيّدة حُرّة أصيلة


    ((1))

    الهوية العراقية بين الإستلاب والتعويم والتبعية

    حسين درويش العادلي

    abuhabib1@hotmail.com

    لا شك ؛ أنَّ مستوى وعمق وحجم الكارثة الإنسانية والوطنية التي حلّت بالعراق منذ تولي حزب البعث وشخص الطاغية صدام حسين لمقاليد السلطة والتجربة العراقية منذ عام 1968م ، كانت وما زالت وستبقى أعظم وأكبر كارثة تدميرية حلّت بالعراق على مدى تأريخه المنظور ،.. إنها بحق إختزال واختزان لكل عناوين القهر والتخريب والإرهاب والإفساد التي لم يعرف العراق لها نظيرا ،.. والمعضلة ؛ أنَّ حصيلة هذه الكارثة لم تترك إنساناً أو بيتاً أو مرفقاً أو بناءاً أو أمناً أو ديناً أو قيمةً أو سيادةً أو وحدةً أو أملاً عراقياً إلاّ وأتت عليه استئصالاً أو نفياً أو تخريباً أو تشهوياً أو انتقاصاً ،.. ودونك الملايين من العراقيين كأرقام وشواهد على ضحايا كوارث الإعدامات والتصفيات والحروب والنفي والهجرة ،.. دونك كوارث الأزمات والعاهات والأمراض والفقر والمهانة والإذلال ،.. دونك إختراق الأمن وتمزيق الوطن وارتهان الإرادة وجر الويلات على الوحدة والتراب والسيادة ،.. بل لم يسلم حتى الحاضن العربي والإسلامي والعالمي من تداعيات الحروب والتآمر والتخريب لهذه التجربة الكارثية ،.. ،.. إنها بحق أُم الكوارث التي ولّدت وستولد العديد والعديد من النتائج المدمرة لإنساننا ومجتمعنا ووطننا وعالمنا وإلى أمدٍ بعيد !!
    ورغم أنَّ كارثة البعث تميزت عن غيرها بعمق التخريب وشمولية التدمير ،.. إلاّ أنَّ هذه التجربة الكارثية الشاذة لم تنتج عن فراغ ، ومن السذاجة تصويرها على أنها تجربة اختلست الزمان والمكان والمبادرة لتتسلط بغفلة من الزمن العراقي ولتُنتج كل هذه الكوارث !!.. فإضافةً لتأسيسات عهود الإستعمار وحلقات التآمر ومحاولات الإختراق وفروض الهيمنة الأجنبية على تنوعها والتي غذّت تطرّف هذه التجربة ، فإنَّ هناك قواعد أساسية استندتها هذه التجربة الكارثية وستستندها تجارب أخرى ما لم نعمل على تغيير أنظمتنا المغذّية لهكذا لون من التجارب التخريبية .. إننا نرى أنها نتاج أفرزته وغذّته العديد من البُنى التحتية العاملة في واقعنا العراقي ، إنها إفراز لمنظومة ثقافة مجتمعية سياسية تتجلى في طبيعة النظرة إلى الحياة بكل مكوناتها وشؤونها وآفاقها ، وما لم نتدارك واقعنا بالتحليل والتغيير النوعي لن نُدرك التحوّلات الحقيقية في بُنيتنا وتجاربنا القادمة ، وسنُكرر على أرضية هذه البُنى ذات التجارب الكارثية ولو بنسبٍ متفاوتة في التأثير والعمق ،.. لذا فالواجب الوطني يدعونا لقراءةٍ واعيةٍ للذات أولاً ولتشخيص مكامن الخلل ثانياً والمبادرة للتغيير والنهوض النوعي بهذه الذات ثالثاً وذلك وفق مرتكزاتٍ جديدة صالحة وهادفة ومتطورة تتناول مجمل البُنية المُشكّلة للصيرورة الوطنية للتجربة العراقية الجديدة .
    وقد يتصور البعض منّا ؛ أنَّ مشكلة العراق الداخلية وما ينتج عنها ويرتبط بها من معادلات إقليمية ودولية ، تنتهي بتغيير رأس النظام الفاسد الحاكم في بغداد ، أو بإعتماد المقولات العريضة والبرّاقة من قبيل تبني الديمقراطية والتعددية وتأسيس دولة القانون وتنظيم صيغ التحالفات العراقية وفق مبادئ الحق والسلام وعدم التدخل في الشؤون الداخلية واحترام الإتفاقات والمعاهدات ..الخ من الرؤى التي نحاول إيهام أنفسنا على أنها العلاج النهائي لوقف مسلسل التدهور الكارثي للعراق .
    ورغم أننا لا نُقلل من قيمة هذه الرؤى وأهميتها وضرورتها لتنظيم وإعادة صياغة أوضاع العراق ، إلاّ أننا نرى ؛ أنَّ كافة هذه الرؤى إنما تُعتبر رؤى فوقية قشرية لا يمكنها أن تقوم أو أن تستمر إلاّ بتغيير البُنى التحتية العاملة والتي غدت ثوابت في بنية مجتمعنا العراقي مع تمادي الدهر وتناسي العمل لتغييرها تغييراً جذرياً ،.. وهنا فإننا لم نلمس – إلاّ ما ندر - جهداً عراقياً نوعياً وحقيقياً يُخطط ويُفعّل ويُمكّن لحالات التغيير التحتي والبنيوي المطلوب للذات العراقية الوطنية بما يوافق ويُمهد لتحولات جذرية في طبيعتها وتطبيقاتها .
    وعليه فإننا نزعم : بأنَّ الإخفاقات الكارثية التي مُني وسيُمنى بها العراق تتأتى في أغلبها الأعم من جملة البُنى التحتية الثقافية والفكرية والسياسية التي شكّلت مضمون وماهية وتجربة الهوية العراقية (( والتي هي تعبير عن الذات العراقية في صيرورتها )) ولو منذ تشكيل الدولة العراقية الحديثة عام 1921 م ، وإن كانت الجذور والرواسب لتلك البُنى تمتد في طول وعرض العراق التأريخي كما هو معلوم ،.. فالتعويم والإستلاب والمثالية والتشظي والتبعية أهم معالم الهوية العراقية الحديثة التي أنتجت هذه الشخصية وما قام على أساسها من بناءات وممارسات وخطوط وتجارب على صعيد الإنسان والمجتمع والدولة .
    لقد جهدت وتجهد العديد من القوى على ديمومة هذا الواقع التصوّري والتطبيقي للهوية العراقية !! وكأنه أُريد لهذا البلد أن يكون هجيناً هشّاً هُلامياً في ذاته وهويته وسط ذوات وطنية إقليمية أخذت بالتشكّل والإستقرار وفق أنساقها الذاتية لتمارس دورها الحياتي وفق رؤية واضحة ومسارٍ مُحدد ،.. بينما ما زالت ذاتنا العراقية تتلمس الطريق هنا وهناك لتوكيد وجودها المُغيّب وإنجاز هويتها المُصادَرة وإقرار دورها الضائع !!
    إنَّ التعويم لخصائص ومقومات الهوية العراقية أنتج الإستلاب للخصوصية الذاتية لهويتنا الوطنية سواء كان استلاباً فكرياً أو سياسياً أو حضارياً ،.. ومحاولة إقرار هويات عامة غير قابلة للتخصيص في الواقع أو مثالية تجافي الواقع أو مصطنعة غريبة عن الواقع أو زائفة لا يعرفها الواقع .. زاد ذاتنا الوطنية إنقساماً وتشظياً على عدد طروحات الهويات العامة والحالمة والمثالية والمصطنعة والزائفة ،.. فيما كانت التبعية أشد إفرازات فقدان التميز الذاتي لهويتنا الوطنية ، حتى إنك ترى أن العراقي منّا أشد إدراكاً وحماساً ودفاعاً عن طروحات الآخرين ودولهم وثقافاتهم من إدراكه وحماسه ودفاعه عن ذاته الوطنية التي تمثل وجوده وكيانه في هذا الوجود !!
    ولعل أصدق مثالاً على هذه القراءة ؛ ما يتعلق بتعاطينا وأهم خصائص هويتنا الذاتية ألا وهو مبدأ المواطنة وما يجب أن يُشكّله من بوتقة على الكُل العراقي أن ينصهر به لإنتاج ذاته بما يُناسب خصائصه الموضوعية ،.. فأنت تلحظ بأنَّ أُم الكوارث الوطنية الحديثة والمقترنة بولادة الدولة العراقية والتي ما زلنا نجتر نظرياتها وأدبياتها وخطابها السياسي .. تلك المتمثلة بفشلنا العراقي ((الشيوعي والقومي والإسلامي )) في التقنين والتفعيل لمبدأ المواطنة إنسجاماً مع حقائق الواقع الموضوعي والذي يُفيد بنجاح وثبوت الدولة القطرية وكونها حقيقة قائمة لا يمكن القفز عليها بالشعارات الحالمة والطروحات المثالية .
    فالمُلاحَظ ، أنَّ نشوء تجربة العراق الحديث إقترن بسيطرة وتوجيه وقيادة ثلاثة تيارات رئيسة ، هي ؛ التيار القومي والتيار الشيوعي والتيار الإسلامي ،.. وكافة تياراتنا العراقية هذه أضرّت أيما ضرر بالمواطنة والوطن سواء في نظرياتها السياسية أم في تجاربها الميدانية أم في خطابها التوعوي والتغييري والسياسي ،.. حتى لتجد العراق غائباً بل مُجيّراً لصالح القاهرة لدى القوميين ، ولصالح موسكو لدى الشيوعيين ، ولصالح طهران لدى الإسلاميين !! هكذا سُحقت بغداد تحت وطأة التنظير والولاء والتحالف ، وهكذا انزوى العراق بعيداً عن الحضور والفاعلية في فكرنا وتجاربنا العملية ،.. والشواهد والأرقام التي تؤكد هذه الحقيقة مما لا حصر لها ومما هو واضح لأدنى مستقرءٍ لواقع بلدنا وللقوى العاملة فيه سواء في دوائر السلطة أم في ميادين المعارضة … فإذا ما ذكرت الوطن كمحور للولاء ، والمواطنة كأساسٍ للتمحور .. أُتهمت بالصنمية والقُطرية والشعوبية !! والحال أنَّ العالم كل العالم يتعاطى معنا باسم القانون والجغرافيا والتأريخ والواقع من خلال هويتنا الوطنية ، فأنت عراقي أينما حللت ولن تشفع لك شعاراتك ودعاويك العريضة من أن تُعامَل كبقية مواطني عالمنا العربي أو الإسلامي أو الأُممي .. فغدونا نعيش المثاليات في فكرنا وخيالنا باسم الهويات العامة والحالمة والمثالية والمصطنعة والزائفة !! وواقع الحدود والقوانين والولاءات والمصالح تصدمنا على أرض الحقيقة ،.. بل وتُركنا وحدنا نُداوي جُرحنا ونُعالج نزفنا ونُكابد غربتنا ونُنعي موتانا ونجتّر مصائبنا .. والعالم كل العالم – إلاّ ما شذّ وندر - بين مُساند لجلادنا ومُداهن لقاتلنا ومُنتفع من مُصابنا ،.. بل الأنكى أنك تلحظ تسلّق واختراق الولاءات والقيادات غير العراقية لقضيتنا على تعدد مستوياتها ومصاديقها ودوائرها !! والكُل يُعطي لنفسه الحق في التدخل في شؤوننا الخاصة والعامة باسم الدّين والعروبة والديمقراطية .. بل ويعاملنا معاملة القُصّر وكسيحي التجربة والإرادة والقرار !! وما هذا وذاك إلاّ نتيجة حتمية لإستلاب الهوية وتسطيح الوعي وتعويم الإنتماء وتبعية الدور !! ولقد آن الآوان لكافة قوانا العاملة أن تجهد لصناعة مشروعنا الوطني المتميز والخاص والذاتي ، وفي القلب منه العمل لإعادة بناء ذاتنا الوطنية وصيرورتنا العراقية في مرتكزاتها ومرافقها وشؤونها كافة بما ينفي التعويم والإستلاب والتبعية .
    لذا فأي نهوض نوعي للواقع العراقي لابد وأن يعتمد خارطة إداركية وتطبيقية نوعية مغايرة تأخذ بنظر الإعتبار ماهية هذا الإخفاق الكارثي لتلافيه على صعيد المضمون والتجربة العراقية القادمة
    (:

  2. #2

    نحو أُمّة عراقية سيّدة حُرّة أصيلة ((2))

    نحو أُمّة عراقية سيّدة حُرّة أصيلة
    ((2))
    الذات العراقية .. بين خَيار الوحدة أو التشظي

    حسين درويش العادلي
    abuhabib1@hotmail.com

    * الناظر للمشهد العراقي الحالي في عروضه وبرامجه ونُخبه المُنتِجة للفكر والفعل السياسي المُعارض يكاد يُصاب بالذهول والغثيان للولادات الأميبية والطروحات الجنينية التي تتكاثر على أرضية التشظي والإنقسام في الرؤى والغايات !! فالتكتلات القومية والإعلانات المذهبية والتجمعات العشائرية والتحزّبات المناطقية أخذت بالتعبير عن نفسها بوضوح بل راحت ترسم حدودها القيمية والنفوذية هنا وهناك على حساب وحدة الذات الوطنية العراقية في مرتسماتها ومدياتها الكلية !! وكأنه لا يكفي حجم الأطماع الخارجية التي تتصارع لتقسيم ( كعكة ) العراق سياسياً واقتصادياً وثقافياً .. بل باشرت نُخب وطلائع الخلاص العراقي لتتصارع بدورها على حصص ونِسَب هذه الكعكة باسم العِرق تارة وباسم الطائفة تارة وباسم الحزب والقبيلة والمدينة والعائلة تارة أخرى !! فعلى أرضية هذا التشظي نتخاطب ونتمحور ونُنتج !! بل وغدت حتى محافلنا السياسية تتحاصص النِّسَب وفق قواعد النفوذ الطائفي والقومي والعشائري والعائلي !! وبدل أن توحدنا كوارث التجربة الصّدامية وحجم التهديدات المحدقة ببلدنا بما يُعزز من كياننا العراقي وهو على أعتاب تحولات مصيرية قد تُلقي به في المجهول السياسي والحضاري ،.. وبدل أن نتسامح ونتقاسم الهم والجُهد والأمل لضمان غدٍ أفضل لأجيالنا ولوطننا .. رحنا نتخندق أحزاباً ونتصارع كُتلاً ونتشظى فكراً وسلوكاً وهدفا !!
    ويبدو أننا ما زلنا نعزف على ذات أوتارنا القديمة التي صاغت أكثر ألحاننا حُزناً ،.. إذ لم نستفد من تجارب نحر الذّات على مذبح الأنا العِرقية والطائفية والمناطقية !! فما زالت مقاصلنا تفعل فعلها في الإقصاء من ساحات الوطن لكل مَنْ يُخالفنا الولاء أو الإنتماء !! ودون أن ننهض على تنوع مشاربنا وألواننا وانتماءاتنا لنُبادر لإنجاز وحدتنا الوطنية الحديثة بما يُحقق لها التميز والتناغم والوحدة ، وبما يقبر كوارث التشتت والتشظي من خلال تدعيم صيرورة أُمّتنا العراقية الجديدة على أساس خطابٍ ومشروعٍ وطني نهضوي حقيقي ينتزع كافة صواعق الفتن التي قد تفجّر الذّات العراقية من الداخل مرةً أُخرى .

    * ما زالت عقولنا ونفوسنا تنساق بإنسيابيةٍ وراء ذاكرتها وتأريخها المنصرم لتُكرر ذات المشاهد وذات التجارب المُنتجة للكوارث ،.. والأغرب ؛ أنَّ البعض يطلب حقوقه من البعض وهم مادة الكُل الوطني !! الشيعي يطلب حقه من السُّني ، والكردي من العربي ، والتركماني من الكردي !! ويبدو أنَّ الذّات العراقية افتقدت بوصلة الإتجاه كذات وطنية كُلية لصالح ذوات ضيّقة قامت على أساس قيم وولاء وانتماء ومصالح وهوية العِرق أو الطائفة أو القبيلة أو الحزب أو النُخبة أو المدينة أو العائلة أو الفرد ، وبدل أن تكون المغذِّيات عامة وشاملة من وإلى وعلى أساس الأنا العراقية الكُلية .. أخذت المغذِّيات الخاصة هي العاملة والمُحدِدة في إنتاج الذات العامة وفي توجيه حركتها وصياغة تجاربها وإن تمسحت بالوطنية إلاّ أنها لا تعدو أن تكون صورة لغلبة الأنا الضيّقة على حساب الأنا العراقية ككل .

    * وهنا سنكتشف أنَّ المشكلة الأساس تمثلّت بالتعاطي مع الذّات العراقية الوطنية الجديدة من خلال منطق الأنا الفكرية أو الحزبية أو العشائرية أو الطائفية أو المناطقية أو العائلية أو الفردية في ظل غياب مطلق للنحن الوطنية كماهية حقيقية فاعلة ومنفعلة وناتجة عن الكُل العراقي بصدق !! فلم يكن للنحن من معنى مُحدد ، أي لم تأخذ النحن صيغتها الجوهرية في بناء الذّات العراقية الحديثة ، بل بقيت الأنا الضيّقة تعمل وتفعل وتُنتج باسم النحن زوراً ،.. فالدولة وهي مؤسسة الكُل الوطني بقيت في إطار الأنا العائلية أو الحزبية أو الطائفية ، وكذلك مؤسساتها في مفاصلها الهامة ، والحال ذاته لدى النُخب ومؤسسات المجتمع المتنوعة ، فهي متوزعة على أساس الأنا التقليدية .. وهنا فإنَّ صياغة الذّات الوطنية العامة صياغة حقيقية بنيوية هاضمة ومستوعبة ومُعبّرة عن كافة الخصوصيات الداخلة في تكوينها الذاتي العام لم تكن هماً ومشروعاً وثقافةً عراقية على المستوى الجوهري بل القشري القابل للتهشّم أمام أول احتكاك بالأنا الخاصة قوميةً كانت أو طائفيةً أو حزبية أو عائلية ..الخ ، والدليل ما تشهده ساحتنا من تغليب الأنا الضيّقة على حساب النّحن الوطنية الكلية في تموضعاتها السياسية والمجتمعية الحالية ،.. وما هذه الولادات الجنينية (( في الفكرة والبرنامج )) التي تشهدها الساحة العراقية اليوم على أساس تكتلٍ ديني وإعلانٍ مذهبي وتأطرٍ قومي وتحزّب مناطقي إلاّ دليلاً على ضعف وفشل ثقافة وحس وانتماء وحضور النّحن قبال الأنّا في أنظمتنا الوطنية .. فلا عجب إن كان سؤالنا الأول عن الإنتماء القومي أو الطائفي أو العشائري أو العائلي للشخص قبل السؤال عن فكره وبرنامجه واطروحته !! بل غدت حتى نُخبنا الحالمة بإقرار البديل الوطني على أساس النحن الوطنية العامة ، غدت تنظّم المؤتمرات وتٌقيم التحالفات على أساس الأنا الضيّقة في أبعادها القومية والطائفية وما إلى ذلك ،.. طبعاً واللافتة التي تختفي خلفها حالات الأنا الخاصة هذه هي الإضطهاد والتنكيل ومصادرة الحقوق .. وهو حق ، ولكن ؛ أن يتم بناء الذّات الوطنية والصيرورة العراقية مُجدداً على أساس تحاصص الأنا الضيّقة في بناء الدولة والتجربة القادمة هو ما سيقضي على رفعة ووحدة وسيادة هذه الذات مجدداً دونما أدنى ريب .. وهي محاولة تقزيمية وورائية أخرى للهوية العراقية ،.. فالثقافة والخطاب الكارثي السائد هو غلبة الأنا على النحن ، فالكُل يطلب حقه من الكُل ، والبعض يطلب حقه من الكُل ، والبعض يطلب حقه من البعض .. في حمى هستيرية لا تتورع عن توظيف كل الممكنات لخدمة هذه الأنا وهذا البعض بما فيها ممكنات التحالف والعلاقة مع دوائر القرار الإقليمي والدولي !!
    لقد أخذت كل طائفة وقومية ومدينة ترسم حدودها القيمية والنفوذية هنا وهناك على حساب الذات الوطنية العراقية ككل دون أن ينهض عقلاء العراق من كافة طوائفه وقومياته ليبادروا لإنجاز ذاتهم الوطنية الحديثة بما يُحقق لها التميز والتناغم والوحدة .

    * إنَّ أخطر ما في حمى الأنا الهستيرية الضيّقة هذه : أنها تؤسس لمعايير ضيقّة على حساب المعايير الوطنية الشاملة ، وعلى الرأي العام العراقي إدراك خطورتها الإستراتيجية على مناحي الحياة العراقية في كافة مناحيها ومفاصلها .
    وبكلمة نقول : إنَّ صناعة الوطن وفق معايير الطائفة والعِرق والقبيلة والعائلة والفرد .. إضافة إلى أنها تستهدف خلق ذوات ضيقّة ضمن الذات الوطنية الواحدة مما سيمزق هذه الذات ويسلب عنها مقومات القوة ،.. كذلك سيؤدي أيضاً إلى العزل السياسي والطائفي والعِرقي والثقافي المتبادل بين أبناء الوطن الواحد لأنه سيقود لخلق كانتونات متحصنة بمعاييرها الذاتية ، وهنا فإنَّ التنافس القائم على رقعة النفوذ ونوع المصالح والتعبير عن الذات سيولد الكراهية جرّاء إختلاف نمط المعايير والمصالح المُعتَمدة لدى كل طائفة وفرقة وما تختزنه من طروحات ورؤى ، وستنتج عن هذه الكراهية حالات التصادم لا محالة .
    لذلك نزعم : أنَّ من أشد صُنّاع الكراهية والتصادم المجتمعي القادم هم صُنّاع المعايير والتجارب الضيّقة ،.. إنهم يعملون بالتضاد مع الوحدة الوطنية التي يجب أن تُؤسس على معايير المواطنة المتكافئة والمتساوية ، ولعل في طليعة طوابير صُنّاع الكراهية والتصادم المجتمعي في بلدنا تأتي السلطة الحاكمة كأكبر قوة صانعة للكراهية والتصادم بين أبناء البلد الواحد وذلك من خلال برامجها القائمة على أساس المعايير الضيّقة كالطائفية والعِرقية والعائلية .. لضمان تسيير المجتمع والسيطرة عليه من خلال تشتيته ،.. وأيضاً فللغرباء المستوطنين لبلدنا ولجسدنا العراقي الحالي في أغلب مفاصله والذين لا تشتملهم المعايير الوطنية وفي طليعتها الإنتماء العراقي .. لهم الدور الحاسم في صناعة معايير التشتت ، لأنَّ أي تطبيق لمعايير المواطنة العراقية واستحقاقاتها سوف تلفظهم خارجاً ، فكيف يمكن قبول تولي غير العراقي لمرافق القيادة والنفوذ والعمل الوطني العراقي سواء كان دينياً أو طائفياً أو قومياً أو سياسياً ؟! من هنا فالتعويم والإستلاب للهوية العراقية واعتماد معايير الأنا الضيّقة في الرؤى والمصالح على حساب المعايير الوطنية الشاملة ستمكنهم من الإستيطان والتحكم والنفوذ في بلدنا ومجتمعنا ،.. والحال نفسه ينطبق على القوى الخارجية الطامعة .

    * إذن : فالمشكلة في بُعدها الحقيقي تتمثل أساساً بقدرتنا على إعادة إنتاج ذاتنا العراقية على أساس معايير وطنية راسخة تتوحد كوجود متناغم ومتكامل تُحدد الأنا العراقية بوضوح قبال الآخَر أيّاً كان ،.. فالذّات العراقية متداخلة والآخَر لحد النخاع !! فالكُل ومن خلال كافة المسميات الطائفية والعِرقية والمصالحية داخل فينا كأحدنا ، ونحن خارج دائرته !! إنك لن تجد ذاتاً وطنيةً مُستباحة كذاتنا العراقية !! فهل من وقفة نعي فيها صيرورتنا ومستقبلنا ؟

    :=

  3. #3

    نحو أُمّة عراقية سيّدة حُرّة أصيلة ((3))

    نحو أُمّة عراقية سيّدة حُرّة أصيلة
    ((3))
    الذات العراقية .. والمضمون البُنيوي

    حسين درويش العادلي

    abuhabib1@hotmail.com


    * التلازم بين إنجاز أية ذات وبين المضمون البُنيوي الذي تعتمده وتختزنه هو تلازم جوهري لا غنى عنه لتحديد الشخصية المجتمعية والهوية الوطنية لأية أُمّة ،.. فالأُمم لا تتشكّل اعتباطاً ، وليس لصُدف التلفيق من فعلٍ جوهري في إنجاز أية ذات حقيقية فاعلة ومُنتجة ومُتجذّرة ، وليس للوجود الكمّي لأي شعب من قيمة فيما لو افتقد المضمون والمرتكز البُنيوي الذي يهب للكم الكيف وللإطار الصورة وللبرواز المعنى والخصوصية والرسالة والغاية ،.. من هنا فلا وجود حقيقي لأُمّة بلا مضمون مُحدد ، ولا مضمون من دون معالم ومرتكزات بُنيوية واضحة تعتمدها الأُمة لتحديد ذاتها ووجودها ونكهتها المميزة بين الأُمم ،.. لذا فأي إنهيار حقيقي لأية أُمة إنما هو في عمقه انهيار لمضمونها المتصل بمرتكزاتها البنيوية .
    وكلما كانت المرتكزات البنيوية حقيقية غير زائفة وجوهرية غير طارئة ومتناغمة غير متعارضة ، تتوحد وتتكامل على أرضية مشروع مُستوعب لكافة خصوصيات الأُمّة ومديات النهوض المتقدم بها .. كلما أُنتجت أُمّةً متماسكة ومُبدعة قادرة على الفعل والبقاء ، وأي غياب لأي جذرٍ مضموني أو خلل في أي أُسٍ بنيوي سيعود بالإضطراب والتصادم والإندحار لذات الأُمة من الداخل بما يُهدد وجودها الكياني ككل .

    * وإنطلاقاً من أنَّ صيرورة أية أُمّة تتشكّل من خلال تكامل العناصر الأساسية في مرتكزاتها البنيوية وصولاً لإنجاز ذاتها وهويتها ووجودها النوعي المتميز ، وأنَّ وحدتها وقوتها وتراصها سلباً أو إيجاباً مقترن بوحدة وقوة وتراص أنظمتها الذاتية المُشكّلة لكينونتها في الوجود ،.. إنطلاقاً من هذا ، فإننا نزعم : أنَّ كافة مظاهر الخلل والإندحار في تجربتنا العراقية طيلة العقود الثمانية الماضية ، إنما هي تعبير جلي عن أنَّ ذات وهوية أُمتنا العراقية لم تُنتج بعد بشكل متوازنٍ ومُتكاملٍ وأصيل .
    والسبب الأساس يتمثل بافتقاد الأُمّة العراقية للمضمون البنيوي على المستوى الوطني الشامل والمتناسب مع وجودها المقترن بولادة الدولة العراقية الحديثة عام 1921م ، ورسم حدودها النهائية مع زوال الإستعمار البريطاني المباشر وتشكيل التركيبة الوطنية العراقية على ما هي عليه الآن ،.. فهذه التركيبة التي تحددت تقسيماتها العِرقية والطائفية والثقافية وتحددت بها الدولة العراقية القائمة والتي هي تركيبة حديثة قامت على أنقاض العراق التأريخي المعروف .. لم تجد مَن يُحدد لها الذات ويُشكّل لها المضمون وفق أنساق بنيوية سليمة تأخذ بنظر الإعتبار الولادة الجديدة للعراق سياسياً واجتماعياً وحضارياً ،.. وهذا ما يُحاول المقال تسليط الضوء عليه كجزءٍ من وعي الذات وتشخيص مرتسمات تجربتنا العراقية القادمة .

    * ولقد حاول العديد من مفكّرينا الإجتماعيين والسياسيين تلمس التكوين المضطرب للذّات والشخصية العراقية الحديثة وما أُفرِز على أساسه من تجارب ، فطرحوا نظرياتهم الراصدة لمكامن هذا الإضطراب البنيوي ، فقرروا أنَّ الصراع ناجم عن إختلاف أنظمة القيم الإجتماعية إمّاجرّاء اختلاف الحاضن الإجتماعي كالإختلاف بين قيم البداوة وقيم الحضارة ، أو جرّاء اختلاف الحاضن البيئي كاختلاف قيم الريف وقيم المدينة ، أو جرّاء الإلتحام الصّرف والكامل بالذاكرة التأريخية ، أو جرّاء تأثيرات المناخ أو الأرض أو غزو الثقافات أو لتأسيسات عهود الإستعمار ..الخ .
    ولعل لكافة هذه العوامل تأثيرها هنا وهناك في عملية الإنتاج الكلي للشخصية والذات العراقية ، ويجب عدم إهمالها في التحليل والإستنتاج في الرؤى والحلول التطبيقية القادمة ، ولكن من الخطأ المنهجي التعويل على عاملٍ أو عاملين في منظومة التحليل والإستناج ، فالعديد من انتكاسات هذه الذات لم يكن إفرازاً لتعارض قيمي بين البداوة والحضارة أو بين الريف والمدينة .. فالتجارب المدرسية فكرية كانت أم سياسية أم مجتمعية والتي شهدها العراق طيلة العقود الثمانية المنصرمة كانت في جانبٍ منها عبارة عن صور لتعارض قيمي وفكري ومدرسي ناجم بدرجة كبيرة عن طبيعة النظرة البنيوية العقدية والثقافية والحضارية للذات العراقية الحديثة ، والتي كانت تحكم قناعة وسلوك العديد من النُخب العراقية وما زالت ،.. أي أن مغذّيات التعارض المُسبب لإضطراب الشخصية العراقية استلهم وجوده هنا من خلفيات ايديولوجية وقيمية وثقافية متعددة شاركت في صياغة تشظي الذات الوطنية العراقية واضطرابها ،.. إضافةً للمغذّيات التقليدية الأُخرى ،.. وهذا هو حال التركيبة المجتمعية ومسائلها والتي تتداخل في تكوينها جملة من المؤثرات العامة والخاصة في إنتاج وصياغة الشخصية والتجارب البنيوية على مستوى الأُمّة .
    وعليه ، فالأوّلى أخذ الذّات الوطنية العراقية كوحدة كلية ثم النظر في مسببات اضطرابها وفشلها في أدوارها الداخلية والخارجية ،.. ولا شك أنَّ لهذا الإضطراب وما أنتجه من تشظي للذات واندحار للتجربة العراقية والذي عبّر عن نفسه من خلال العديد من التجارب على صعيد الدولة والسلطة والمعارضة ، جاء كنتيجة موضوعية لتداخل عوامل عدّة شكلّت البُنى التحتية والمؤسِسة لإندحار التجربة والدور معاً ،.. وهي تندرج ككل ضمن إطار فشل واندحار المشروع البنيوي الوطني المعني بتناول الذّات الوطنية العراقية الحديثة كبناء وترشيد وتنمية وعلى مختلف الصُعُد والتطبيقات منذ عام 1921 م .

    * من هنا نقول : إنَّ التركيبة المجتمعية التي قامت على أساس هذا التشكيل الوطني لم تفلح خلال العقود المنصرمة في تحديد ماهيتها كبُنية ومضمون وطني مُحدد ،.. فلا الدولة العراقية نهضت بهذا الدور ، كونها أساساً أفُرزت وأُقرّت على أساس البُنى التقليدية المُحتضِنة للتشظي الوطني كالبُنى الطائفية والعِرقية والعائلية ، إضافة إلى أنَّ تشكّلها كان تلفيقياً (( بإرادة ووجوه إنكليزية وبقايا مخلفات الحُكم العثماني )) مما أفقدها شرعية الولادة الطبيعية والموضوعية التي تستطيع من خلالها ممارسة دورها البنيوي إنطلاقاً من وحدتها النوعية مع مجتمعها ،.. ولا النُخب المجتمعية العراقية الأصيلة كانت واعية لأهمية إعادة بناء الذّات الحديثة ، ولا مستوى الإدراك العراقي الشعبي العام كان مؤهلاّ للنهوض بمهام إنجاز الهوية الجديدة ،.. يُضاف إليه أنَّ معظم مراكز القوة والنفوذ السلطوي والنخبوي والتوجيهي والتربوي كانت أجنبية (( في الإنتماء أو الولاء )) سواء على الصعيد الديني أو السياسي أو الإقتصادي أو الثقافي ، فقد أقامت هذه المراكز خطابها وبرامجها ومشاريعها عل أُسس طائفية أو إثنية أو ثقافية ضيّقة على حساب الكُل العراقي ، وفي كثير من الأحايين لم تندمج مع البلد الذي احتضنها بل اختارت العزلة والتقوقع ، وغالباً ما تميّزت نظرتها للأوساط العراقية الشعبية بالإحتقار والتعالي !! إنَّ عدم شعورها بالإنتماء وخلفياتها الثقافية المغايرة للوسط العراقي العام وعدم انصهارها وانخراطها في حركة المجتمع الكلية .. أوجد مراكز نخبوية منفصلة عن المجتمع العراقي أو منخرطة في أوساطه ولكن برؤية منحازة وتجزيئية ضيّقة ،.. لقد تم هذا الأمر لدى أهم المفاصل التأريخية من عمر تشكّل مجتمعنا ودولتنا العراقية ، مما ساعد في تعويم واستلاب هويتنا وذاتنا البنيوية في بُعدها الوطني الجديد الآخذ بالتشكّل تدريجياً .

    * ودون التوسع نقول ؛ لم تفلح الذات العراقية في إنجاز هويتها وقد وجدت نفسها قد تحددت بأُطر الدولة العراقية الحديثة على أنقاض العراق التأريخي المختلف عنها شكلاً ومضموناً ،.. فراحت تتلمس الطريق هنا وهناك لإنجاز هذه الذات وفق مرتكزات ومضامين بنيوية بسيطة أو ناقصة أو مُنحرفة أو متباينة .
    لقد وجدت ذاتنا الوطنية نفسها بين لُجج التحولات والتغيرات الدرامية المتسارعة في تجلياتها الفكرية والسياسية والإجتماعية والإقتصادية ،.. فيما مثّلت الأُميّة والإستعمار والإنقلابات وتحكّم الأغراب بمراكز النفوذ .. الحواضن لمحاولات بناء الذات العراقية الحديثة ،.. أرادت من خلال هذا الواقع المضطرب والمتداخل والقلق أن تُنجز وجودها الماهوي من دون مشروع بنيوي وطني واضح ومُحدد تقوم على أساسٍ منه كافة برامجها وتجلياتها كوجود جديد يُغاير تأريخه في أكثر عروضه وأنساقه وتطلعاته !! ومن أين لها هذا المشروع البنيوي ومعظم مراكز التنظير والتوجيه والسيطرة كانت جزءاً من تشتت وضياع الذّات الوطنية لا جزءاً من برامج إنجازها وتكاملها سواء على صعيد الدولة أو النُخب المنُتجِة للفكر والطروحات والتجارب الميدانية !! وهنا ، فإنَّ جذر المشكلة العراقية المُنتج لكافة هذه التقلبات النافية للوحدة والإستقرار والنمو المضطرد ، يعود في عمقه إلى الخلل البنيوي الذي أصاب كينونتنا الوطنية بالصميم .

    (:

  4. #4

    Red face نحو أُمّة عراقية سيّدة حُرّة أصيلة ((4))

    نحو أُمّة عراقية سيّدة حُرّة أصيلة
    ((4))
    الذات العراقية .. والتجارب البُنيوية

    حسين درويش العادلي

    abuhabib1@hotmail.com

    * إنطلقت النُخب والطلائع الوطنية العراقية ومنذ تأسيس دولتنا الحديثة في مهام تجربية لإنجاز كينونتنا وهويتنا وذاتنا الوطنية ، وذلك وفق أنساق متباينة ومتعارضة في الرؤى والطروحات ،.. فإنَّ كافة تجارب السلطة والمعارضة كانت وما زالت تجارب بنيوية في حقيقتها ، أرادت بها ومن خلالها إنجار ذاتنا الوطنية وفق برامجها الخاصة ،.. ونجزم بأننا لم نفلح بعد في عملية الإنجاز الكُلي والمتكامل لذّاتنا الوطنية العراقية !! وما هذه الإخفاقات والكوارث سوى صورة لفشلنا النخبوي والشعبي لإنتاج كينونتنا العراقية .
    فالمشكلة في عمقها تتمثل بفشل تجاربنا البنيوية والتي هي الأساس في تأكيد الوجود وإفراز العطاء وإقرار التقدم ، لذا لم تصمد لدينا كافة بناءات الدولة والمجتمع ، ولم تُنتج تكاملاً متصاعداً بل تراجعاً متسارعاً قل نظيره في مسيرة الأُمم الحديثة !! ولنُعطي نظرةً كليّة دالّة على ذلك ، ولنتعاطى معها بشيءٍ من الموضوعية وبشيءٍ من التجرد عن انتماءاتنا وخلفياتنا العقدية والسياسية المسبقة والتي قد تُعيق نظرتنا الحيادية في التحليل والإستنتاج ، فنقول :

    * في محاولة لبناء الذات وإنجاز الوجود العراقي الحديث ، إنساقت بعض طبقاتنا الحديثة في مستوياتها النخبوية والحزبية إلى إستيراد نتاج الآخرين المدرسي والبنيوي القيمي والفكري والسياسي والمجتمعي دونما وعي لإختلاف طبيعتنا القيمية وخصائصنا المجتمعية ، أرادت إنتاج ذاتنا الوطنية من خلال تجارب الآخرين البنيوية دون مراعاة لتميز الأُمم واختلاف المجتمعات في نظرتها الكونية وخصائصها الطبيعية إبتداءاً من مكونات الدّين والقيم والتراث .. إلى مقومات الفكر والتكوين والحضارة ،.. فكان عملها كمن يزرع نبتاً بغير أرضه وغير مناخه وغير بيئته ، ليكون شاذاً غريباً ، وليأتي بحصادٍ لا ينفع زرّاعه ولا مُنتظريه .. ولتزيد هذه التجارب بالتبع والتي رفعت لواء إنجاز الذات والماهية العراقية الجديدة على الأُسس التقدمية واليسارية .. لتزيد ذاتنا العراقية غربةً وتشوهاً وانقساماً وتبعية ، لأنها اختارت بل انحازت إلى نموذجٍ بنيوي غريب مُستورد مقطوع الصلة بقيم وتأريخ وتراث وحضارة أمتنا العراقية .

    * ومن جهةٍ أُخرى إنساقت بعض نُخبنا القومية في تجاربها الفكرية والسياسية والمجتمعية إلى تحويل الإنتماء العربي البريء لأغلب سكان العراق إلى إيديولوجية بنيوية فكرية ومذهبية في عملية بناء الذات العراقية الحديثة على صعيد الدولة والمجتمع .. فولّدت اتجاهات قومية متطرفة في العديد من رؤاها وسياساتها الداخلية ، مما ساعدت في تأزيم الوضع الداخلي ، بل وفي زيادة التشظي المجتمعي للتركيبة السكانية العراقية ،.. ورغم أنَّ القومية بذاتها لا تعدو أن تكون سوى رابطة عِرقية ولغوية وتأريخية بريئة ومحايدة ، إلاّ أنَّ تسيسها الإيديولوجي أراد منها أن تكون ذات فلسفة ونظام تقوم على أساسه الذات العراقية الحديثة ، ولقد اضطرها هذا التعسف الفكري والسياسي إلى استيراد رؤية كونية وأنظمة سياسية وبرامج حياتية امتازت بالتلفيق والترقيع الواضح ، لأنَّ القومية بذاتها لا تحمل فلسفةً أو نظاماً معيناً ، فهي رابطة وانتماء بذاته ، فكان لابد لروّادها أن يستوردوا لها مضموناً ونظاماً يهب للذات الوطنية المشروع والبرنامج ، ويمنح للدولة الإيديولوجية النظام العملي لتسيير المجتمع ،.. فكان أن توجه أصحاب الإتجاه القومي صوب الإشتراكية في أغلبهم الأعم ، ليضخّوا لنظريتهم القومية النظام والمشروع الإشتراكي !! فزاد ذلك بُنيتنا العراقية غربةً وانقساماً ، فلا القومية السياسية بذاتها قادرة على الإنسجام والتركيبة السكانية العراقية المتعددة عِرقياً ، ولا النظرية والمناهج الإشتراكية الجديدة قادرة على الإنسجام مع مكونات وركائز بُنيتنا القيمية والمجتمعية والحضارية ،.. ولم تُدرك هذه التجارب البُنيوية أنها تؤسس بنفسها وعلى أساس مشروعها الرسمي التباين المجتمعي والتشظي الوطني بل حتى التجزئة والإنقسام على صعيد الأرض والسيادة ، فكيف يمكن قبول صيغة حكم إيديولوجية تقوم على أساس عِرق معين أن تحكم عرقٍ آخر ضمن الوطن الواحد والمفترض تساويهم فيه في الحقوق والواجبات على ضوء قاعدة الشراكة الوطنية ؟!! فتأسيس الذات والمجتمع والدولة على أساس إيديولوجي قومي معين يمنح المواطنين من القوميات الأخرى حق الرفض لها ومعاداتها بل حتى الإنفصال عنها ، لأنها لا تمثلهم ولا تشتملهم ولا تعترف بهم وفق منطقها الإيديولوجي الحاكم !!
    إنَّ الإنتماء القومي لأية قومية لهو حق طبيعي لا يجوز القفز عليه أو التقليل من حجمه أو السعي لتقزيمه وتهميشه أو إلغاء استحقاقاته المشروعة ، فهو حق ذاتي محترم ، على أن لا يكون مصدراً للتمايز والتعالي الفوقي ، أو أن يُسعى لأدلجته العقدية والبرامجية بما يُخرجه من إطاره الطبيعي كإنتماء .. إلى نظرية عنصرية تعتمد تراتب الأقوام على أساس نقاوة العِرق أو إلى مظلة هيمنة عندما تحتكر تمثيل الكُل الوطني وتُلغي القوميات الأُخرى المنظوية ضمن مظلة الوطن المشترك ،.. وهنا نقول ؛ إنَّ تحطيم الذات الوطنية العراقية وتشتيتها كان من أكبر خطايا أدلجة القومية وتسيسها البنيوي والبرامجي سواء كان أدلجة للقومية العربية أو غيرها ، وهو ما عانى ويُعاني منه عراقنا المعذّب منذ تأسيس كيانه الحديث .
    والحال ذاته ينطبق على محاولة إعادة بناء الذات الوطنية العراقية الحديثة وفق قواعد الأُسس الطائفية ، فقد مُني العراق – منذ تأسيسه الحديث - بسببها ذاتاً وهويةً ومجتمعاً ودولةً بأفدح الكوارث البُنيوية التي صادرت وحدته واستقراره وأمنه .
    لقد قامت نظرية الدولة العراقية وبرامجها وخططها على أُسس طائفية حقيقية لم تتهاون فيها في أشد الأوقات حرجاً !! ورغم أنَّ الماهية المجتمعية العراقية ماهية متناغمة ومتعايشة ومُنّدكة لا تُجيد فن العُزلة ولا لحن التجزئة طيلة عهدها الوجودي منذ تشكيل الدولة العراقية .. إلاّ أن روّاد بناء الذات الوطنية العراقية الحديثة رغم علمانيتهم ورغم تنوع مشاربهم السياسية ومدراسهم الفكرية ومناخاتهم الثقافية آثروا أن يؤسسوا لطائفية الذات والهوية والدولة العراقية !! مما عاد بالأثر التدميري على إنجاز صيرورتنا العراقية وتجلياتها السياسية والإجتماعية والحضارية .
    إنَّ الإنتماء لأية طائفة حق ذاتي مشروع لأي فرد ولأية شريحة ضمن قناعاتها العقدية والثقافية ، فالطائفة ضمن دولة المواطنين مُشاعة ومُجازة ولكن المحظور والمُحرّم هو تحويل الطائفة إلى طائفية ، أي تحويل الإنتماء العقدي والثقافي إلى نظرية سياسية حاكمة أو مُديرة للكُل الوطني المتعدد بذاته بالطوائف الدينية والثقافية ،.. وهنا فإنَّ أي عمل يعمد إلى تكريس النظرية الطائفية في بناء الذات والهوية والدولة العراقية لا يعدو أن يكون سوى تحطيماً وتمزيقاً وتشتيتاً للوحدة والتناغم والتآلف الوطني العراقي .

    * ومن جهة أُخرى ، انبعثت بعض حركاتنا المجتمعية لإعادة بناء الذّات الوطنية وفق فروض ومرتسمات دينية - سياسية كحل لأزمة الهوية العراقية الحديثة ،.. ورغم اشتمالها على عناصر الأصالة في خطابها وخطها العام ، وتعبيرها الجلي عن هوية الأُمّة العقدية والقيمية ، إلاّ أنَّ هذه الحركات أهملت فروض واستحقاقات الحداثة في أنظمتها المُنتجة للدولة وللمؤسسات المجتمعية البانية للذّات الوطنية ، بل لم تفلح في إنتاج صيرورة حقيقية متناغمة بين جوهرين : الأصالة والحداثة ، وبقي خطابها إطلاقياً لا يولي للواقع الموضوعي والعملي أهمية بنيوية ، وبقي خطها يُعنى بالمباديء الكلية المفتقر للمناهج العملية التي تؤسس للتجارب البنيوية في أبعادها السياسية والإجتماعية والإقتصادية ، وبقي فكرها تجريدياً لا يعي فقه الضرورة وفقه الصراع وفقه الإستجابة وفقه البناء ، وبقي نتاجها تعبوياً على صعيد الشعارات لا على صعيد البرامج ، وبقي انموذجها مثالياً قافزاً على حقائق الواقع وفي طليعته نجاح وثبوت الدولة القطرية وبروز قيم ومفاهيم وانتماءات جديدة (( كالمواطنة )) تحتاج إلى تأصيل وتقنين برامجي واضح ومُحدد سواء في الخطاب أو الأنظمة أو القيادة أو الولاء أو التحالف ..الخ ،.. لقد أمسكت قوانا الدينية بطرف المعادلة دون شقّها الآخر ، ولم تنجح في إنتاج ذاتٍ عراقية متوازنة واعية ، فزادت ذاتنا تعويماً واستلاباً وطنياً .

    *فيما كانت الذّات العراقية كحالة عامة وبكل أطيافها المدرسية والمذهبية والقيمية وعلى اختلاف مستوياتها النُخبوية والشعبية في الوعي واللاوعي .. كانت وما زالت تنساق وراء ذاكرتها التأريخية لإعادة بناء ذاتها العراقية الحديثة ، ولم تُدرك ؛ أنها وليدة موروثها السلبي والإيجابي على حدٍ سواء ، الأمر الذي يستحيل صناعة الهوية العراقية دون أن تقوم بجهود جبارة على صعيد الهضم والتمثيل لسُنن الإجتماع والتأريخ والواقع لتخرج للدنيا بماهية مُحددة ونسيجٍ خاص يُلائم واقعها الجديد ،.. بل حاولت استيراد الماضي في وعيها الحديث ، ونسيت أنها ذات قد ازدحمت بصور المجد والإنحطاط ،.. فصحيح أنها أول ذات إنسانية أبدعت الحضارة ورسمت الكتابة وسنّت القوانين وأنتجت أكد وبابل وآشور وبغداد والبصرة والكوفة كحواضر للمجد ،.. صحيح أنَّ دولتها غدت عاصمة الدنيا ومنارة العلم وقُبة الحكمة ،.. إلاّ أنها نسيت في الوقت نفسه أنها قد دُكّت بحقد كورش الأخميني ، وصيرتها الأقدار إلى خرائب للمغول والتتر ، وأطلالٍ للصفويين والعثمانيين والإنكليز !! فساقها هذا التعارض لتعيش المجد والتشكّل في اللاوعي بينما هي ترفل تحت قيود وعي الضياع !!
    وصحيح أيضاً أنها كانت منبتاً لمدارس الإعتزال والأشاعرة والتصوف وعلوم الكلام ، وإليها تعود مذاهب الفقه والأصول والحكمة ، ومن حواضرها تُوجت الّلغة بحلي النحو والصرف والبيان ،.. إلاّ أنَّها نسيت أيضاً أنَّ هذا التنوع أنتج ماهية منقسمة على نفسها لدرجة التشظي ،.. لم تعِ أنها كانت الولاّدة التي تلد الفكر وضده ، والبرواز والإطار الذي جمع كل هذه الولادات المتعارضة التي صيّرتها متحفاً متحركاً لكل معروضات التأريخ بلا تحديد وتميز وهوية موحدة ،.. من هنا نفهم لماذا حاز العراق على أكبر نسبة من ولادات الفِرق والحروب والكوارث على أرضه ، ومن هذا المنطلق يجب أن ندرس عدم إنجاز ذاتنا الحديثة إنجازاً تاماً ،.. فكانت والتأريخ صنوان ، لا يغرب عنها إلاّ بخرابٍ أو عمران ، للعقل والنّفس والمدنية ، وبعد للفرد والمجتمع والهوية !!!
    لقد أنتج كل هذا التأريخ الممتد والمتناقض مع نفسه ، ذاتاً غير مُنجَزة إنجازاً يُحدد لها الإنتماء والخط والمنهج ، لأنها وفي كل دورة حياة جديدة تستصحب كل الموروثات المتعارضة عبر تأريخها المزدهر والمنحدر على حدٍ سواء ، ضمن خليطٍ من النقائض والأضداد في طول وعَرض تكوينها التأريخي الجمعي الحضاري ، ودون أن تُبادر للفرز والتقييم والحسم المفاهيمي والتطبيقي لإنجاز ذاتها مُجدداً وفق شروط تكوينها البنيوي المعاصر ، ودون أن تجرؤ من تمثل التأريخ كعبرة وتجربة فتترك ما هو تأريخي للتأريخ وتُبقي ما هو حاضر ومستقبل للحاضر والمستقبل ،.. فكانت الذات العراقية الحديثة كالبيت المنقسم على نفسه في التكوين والوعي والتقييم والممارسة والدور والوظيفة !! وما زالت تتعاطى وكافة الطروحات البنيوية وفق أرضية هذا الإنقسام في اللاوعي قبل الوعي !!
    وهذه هي قصة تجاربنا البنيوية في خطوطها العامة ، فهل يمكن إنجاز ذات وكينونة وهوية وطنية متكاملة ومتناغمة ومتطورة معها ؟!


    :=

  5. #5

    افتراضي

    للرفع

  6. #6

    Thumbs up

    نحو أُمّة عراقية سيّدة حُرّة أصيلة
    ((5))
    الذّات العراقية ، والمشروع البُنيوي المطلوب

    حسين درويش العادلي

    abuhabib1@hotmail.com

    * قُلنا ؛ بأنَّ العديد من الأخطاء الكارثية التي أنتجتها تجاربنا النخبوية والحزبية والمؤسساتية منذ تأسيس دولتنا الحديثة أتت على أرضية إنجاز الذّات الوطنية العراقية - وما يترشح عنها من سلطات ومؤسسات وأنظمة ومناهج وولاءات - وفق المعايير الضيّقة كالطائفية والعِرقية والمناطقية والعائلية ، وذلك على حساب المعايير الوطنية الجامعة والعادلة والمتكافئة والحاضنة للكُل الوطني العراقي على تنوعه ، فكانت المحصلة لغلبة الأنا والمعيار الضيّق هي : شيوع الإستبداد والقمع ومصادرة الإستقرار والوحدة .
    وأيضاً ، فإنَّ من أخطائنا البنيوية والتجريبية : إقرار طروحات ومركّبات وتجارب وطنية ناقصة أو مشوّهة أو مثالية على صعيد المنطلقات والآليات والمشاريع مما ساعد في تشظي ذاتنا الوطنية وسيادة الكوارث المتوالية في أنظمتنا الإجتماعية والسياسية ، فالطروحات والتجارب البنيوية في خطها العام والتي أُقرت واعتُمدت كأساس لبناء ذاتنا الوطنية الحديثة إما : حداثية منقطعة عن القيم الأصيلة لأُمتنا العراقية سواء في الوعي أو النتاج أو البرامج مما أنتج الغربة والإستلاب ، أو طروحات تعمد الأصالة المنقطعة عن فروض الحداثة والتنظيم المجتمعي والمدني المعاصر مما أنتج العُزلة والإنقطاع عن التواصل مع الواقع ، أو طروحات جامعة بشكلٍ وآخر لفروض الأصالة واستحقاقات الحداثة إلاّ أنها تفتقد الرؤية التنموية الشاملة للإنسان والمجتمع والدولة ، فكانت محصلتها تُحفة من الأفكار الجيدة لا تُحفة من المشاريع البُنيوية الجيدة .
    وعليه ، فإنَّ إنجاز تجربتنا القادمة في مستوياتها وتطبيقاتها كافة ، لابد لها وأن تستجمع كافة عناصر ومقومات وآليات الأصالة والحداثة والتنمية ، لضمان خلق أُمة عراقية أصيلة ومتطورة وفاعلة ، بعيداً عن الهجانة والتلفيق أو الخواء والإنزواء أو المراوحة والتقهقر .

    * من هنا نرى ضرورة اعتماد عملية الإنجاز للأُمّة العراقية القادمة ، على ثلاثة مرتكزات جوهرية تمثل الروافد الأساسية في تغذية وتحديد وإنتاج ذاتنا وهويتنا الوطنية ، وهي : الأصالة ، الحداثة ، التنمية ، ضمن مُركّب بُنيوي تعتمده كافة برامج التجربة العراقية الذاتية على تنوع مصاديقها وتطبيقاتها العملية ، ونرى أنَّ إبداع المشاريع والبرامج والمؤسسات الوطنية على أرضية مضامين هذه المرتكزات سيُمكننا من إنجاز (( الأنا العراقية )) مما يؤهلها لممارسة أدورها بتميز وثقة ووضوح .
    إنَّ الأصالة بما تعنيه وتختزنه من منظومات دينية وعقدية وفكرية وقيمية وحضارية في جوانبها الثابتة والمتحركة والتي تمثل الأبعاد المضمونية لشعبنا على تنوعه ،..وأيضاً فيما تعنيه من انتماء عِرقي أصيل لمكونات مجتمعنا العراقي على تنوع قومياته وأعراقه ،.. والحداثة بما تعنيه وتُؤشّر عليه من منظومات التقنين والتطبيق والتفعيل لمفردات الدولة والسلطة والإدارة والعمل والتنظيم والإبداع والتطور والتحديث المجتمعي ،.. والتنمية بما تعنيه وتتطلبه من نهوض نوعي شامل بالإنسان والمجتمع والدولة وما يتصل بهذه الدوائر من تخطيط وإنتاج وتنمية ، وعلم وتقنية ومناهج ، وثروات وموارد وحاجات ، وتربية وتأهيل وإعداد ، وحرية وحقوق ومشاركة ،.. لهو المُركّب البنيوي الذي يضمن لنا من خلال تقنينه وبرمجته وطرحه والإلتزام به (( كمشروع وطني شامل )) من إنتاج وتحديد الأُمّة العراقية النوعية الجديدة .
    على أنَّ هذا المُركّب البنيوي يجب يستند إلى مناهج تحليلية وتركيبية ونقدية مُبدعة قادرة على إعادة قراءة وإنتاج البُنى والمشاريع ، وإلى طاقة وهمّة وتصميم وطني دائم ينفي حالات الدّعة والإسترخاء واللا مسؤولية ، وإلى إرادة عراقية حرّة متمردة على أي رضوخ أو انحناء أو استسلامٍ لماضي الكوارث ، وإلى فضاءات حيوية من الحريات القادرة على التعبير والمشاركة في صنع القرار والموقف والمصير ، وإلى نهوض كُلي مُنظّم ومتناسق بين مختلف عوامل التقدم والرقي ضمن رؤية شمولية لأنساق بناء الذّات وإقرار وجودها الكياني برمّته .

    * ونرى أنَّ الكُل الوطني العراقي وعلى تنوع نُخبه وحركاته ومستوياته ، مسؤول مسؤولية وطنية كُبرى للنهوض بمشروع وطني بنيوي شامل يُحدد البُنى التحتية ويُنتج المنظومات الإجرائية والتطبيقية لضخ مضامين صالحة وهادفة ومتطورة لذاتنا الوطنية ككل بُغية إنجاز الأُمّة العراقية على أرضية الأصالة والحداثة والتنمية ، ولعل أهم الملفات البنيوية المُنتجة لصيرورتنا الجديدة ، هي :

    1- ملف الخصوصية العراقية (( الأنا العراقية الذاتية )) : وذلك لإبرازها وتأكيدها بما يجعل منها وحدة مفصلية في التنظير والتجربة معاً على مختلف الصُعُد وبما يميّزها عن الذوات الوطنية الأُخرى في حركة التعاطي والتفاعل . ومثل هذا التميز أساسي وجوهري لإدراك ووعي الأنا العراقية بكل خصائصها الذاتية كي نُقصي حالات الإستباحة لذاتنا الوطنية من خلال التداخل القائم حالياً مع الذّوات الوطنية الأُخرى تحت عناوين طائفية وعِرقية وثقافية عديدة عادت على خصوصيتنا الوطنية بالإستلاب لصالح خصوصيات وغايات تلكم الذّوات وأهدافها .
    وعليه فإنَّ إنتاج الأنا العراقية الذاتية يستند على إنتاج وتحديد وضبط خصوصيات هذه الذّات والتي منها : الخصوصية الدينية ، الخصوصية السياسية ، الخصوصية المجتمعية ، الخصوصية الثقافية ، الخصوصية التأريخية والحضارية .

    2- ملف الدولة العراقية الحديثة (( الأنا العراقية الرسمية )) : ويشتمل على الملفات البنيوية المعنية بنُظُم التشييد للدولة العراقية الحديثة وفصلها عن السلطة كأجهزة وهياكل سيادية ، وضبط مؤسسات وصلاحيات الدولة والسلطة معاً وتنظيمها وفق الآليات الديمقراطية والمدنية الحديثة في التقنين والإدارة والتخطيط ، والنهوض النوعي بمشاريعها المُنتجة للوحدة الوطنية الجامعة والمترفعة عن القيم والولاءات الضيّقة والتشتيتية ، وإنتاج الذّات الرسمية العراقية وفق أنظمة التوازن والتكافؤ والعدالة والمساواة والتطور .
    ومن الملفات البنيوية المُنتجة للأنا الرسمية الحديثة ، ملفات : الشرعية ، المشروعية ، الدولة ، السلطة ، المجلس النيابي ، القضاء ، الدستور ، الجيش ، الإقتصاد ، التنمية ، التعليم ، التربية ، ..الخ .

    3- ملف المواطنة العراقية (( الأنا العراقية الوطنية )) : وهو الملف المعني بإعادة إنتاج مبدأ المواطنة كمنظومة متكاملة تُعيد تنظيم شبكة العلائق الإجتماعية على أساس المواطنة كقيمة وانتماء عام وشامل يحتضن الكُل العراقي على تنوعه الديني والقومي والطائفي والثقافي والسياسي ، تنتظم به ومن خلاله كافة حقوقهم الدستورية والمدنية بما ينفي أي تمييز أو استحقاق غير قانوني ، وهو المعني بإعادة الإعتبار للمعايير الوطنية العامة كمظلة جامعة للكُل العراقي بعيداً عن أُطر المعايير الضيّقة كالطائفية والعِرقية .. فأية نقلة نوعية بالذّات العراقية نحو وحدتها وقوتها لا يتأتى إلاّ باعتماد المواطنة كمحور كُلي يلتقي عليه ويتمتع بعطائه الكُل العراقي على تنوعه .
    ويشتمل ملف المواطنة على ملفات عدّة متنوعة ليتجذّر وينهض بمهام إعادة إنتاج الأنا الوطنية ، منها ؛ الملف الديني للمواطنة ، السياسي للمواطنة ، الثقافي للمواطنة ، الإجتماعي للمواطنة ، القانوني للمواطنة ، وذلك على ضوء الخصوصية العراقية واستحقاقات الواقع .

    4- ملف النُظُم الثقافية (( الأنا العراقية الثقافية )) : ونريد به تحديد وإنتاج أنساق وبرامج النُظُم الثقافية المُشكّلة للخط العام للشخصية العراقية ، والمتحكّمة بالفهم والتجربة المجتمعية الجديدة ، والمتناسبة مع التطلعات والآمال النوعية في صياغة منظومة إجتماعية ثقافية قادرة على التعاطي الإيجابي مع تكوينها ومتطلباتها القادمة . إنَّ إنتاج الأنا الثقافية يعني توفير الأساس الثقافي الحاضن لكافة برامج التأهيل الجديد للذّات العراقية في أدوارها كافة وعلى تعدد مصاديقها عملياً ، ومثل هذا الحاضن لهو فاعل جوهري سيضمن التعاطي الإيجابي والخلاّق مع برامج التأهيل والتحوّل الوطني الشامل المراد تحقيقها للأُمّة العراقية .
    ويحتوي هذا الملف على العديد من الملفات ؛ كملف النُظُم الثقافية التلقائية (القواعد والمعايير) ، وملف النُظُم الثقافية التطبيقية ، وملف النُظُم الثقافية الضابطة (القانونية) .

    5- ملف القيادات على تنوعها الحقلي والميداني (( الأنا العراقية القيادية )) : إستناداً إلى ما للقيادة (( سواء كانت الدينية أم السياسية أم الإجتماعية أم الفكرية )) من أهمية في إقرار وتنفيذ وحماية المُنجَز البُنيوي للذّات الوطنية العراقية القادمة كمشروع وعي ومشروع تخصص ومشروع إنتاج . ولا شك أنَّ من أهم عوامل انتكاستنا البنيوية في تحديد هويتنا وإقرار مشاريعنا الوطنية تمثلّت ؛ بضعف ثقافة الفرز للمؤسسات والرموز القيادية ، وبالفشل في إنتاج حواضن تخصصية لإنتاج القيادات ، وبالإستصحاب لثقافة التوهين والتقزيم والعزل للكفاءات القيادية العراقية على تعدد وتنوع مستوياتها ، وبالتغافل والتسامح بإختراق حصن عراقية القيادة كمبدأ وتجربة من خلال السماح بتسلل قيادات غير عراقية سواء بالإنتماء أو الولاء ، مما أنتج أفدح الكوارث في أهم مقاطع بناء الذّات والهوية أو فصول المواجهة والتحدي ،.. فكان لابد من التدارك النوعي لأهمية مبدأ القيادة كشروط ومقومات وآليات ونتائج ، والهدف إيجاد الثقافة والإلتزام باستحقاقات عراقية القيادة على تنوع ميادينها ، ونفي وإقصاء ثقافة التبعية القيادية في الفكرة والمثال والرمز والمؤسسة لغير العراقيين إنتماءاً وولاءاً .
    ويحتوي هذا الملف عدّة من الملفات ، كملف : عراقية القيادة السياسية ، عراقية القيادة الدينية ، عراقية المؤسسة القيادية على تنوعها المجتمعي والفكري والحركي والتنفيذي .

    6- ملف مشاريع التأهيل والتحديث المجتمعي (( الأنا العراقية المدنية )) : وهي جملة المشاريع التأسيسية المعنية بإنتاج منظومات فكرية وبرامجية وتنظيمية تتناول مجمل العمليات المجتمعية المؤهلة والمطلوبة للتحديث المدني ، وذلك لتحويل الحالة والحركة الجماهيرية من العفوية التلقائية إلى الحالة المؤسساتية الأكثر تنظيماً ونتاجاً وحيوية . ومثل هذه الحركة الجوهرية والبنيوية للجماهير في الوقت الذي تدفع بالوعي الشعبي لمستويات متقدمة في الحفاظ على الحقوق الأساسية للمجتمع والحيلولة دون تجاوزها ، و في الوقت الذي تضمن وعي أمثل للذّات الوطنية وإدراكٍ أعلى للمسؤوليات العامة ولنشوءٍ أرقى لروح التفاهم والتناغم والتواصل المجتمعي ، فإنها تضمن في نفس الوقت خلق مجتمعٍ سيادي له جوهر وأصالة وحركية حقيقية لا تستطيع السلطة تجاهله أو تجاوزه أو تهميشه ، ومجتمعٍ فاعلٍ كهذا في الوقت الذي يكون هو الحاضن والمُنتج للدولة والسلطة ، فإنه سيُساهم بفاعلية أيضاً في توجيه وتطوير الدولة والسلطة معاً من خلال قواه ومؤسساته الحيّة والفاعلة والمعنية بالحريات والحقوق والأهداف والمصالح الوطنية .
    وهنا ، فإنَّ ملفات المجتمع المدني تتعدد بتعدد الفاعليات الإجتماعية واهتماماتها وتوجهاتها ، وتتنوع بين : الإتحادات ، النقابات ، الجمعيات ، المؤسسات ، التنظيمات ، دور النشر ، الحواضن التعليمية والتأهيلية والخيرية ..الخ .

    7- ملف العلاقات العراقية مع الدول (( الأنا العراقية الخارجية )) : والتي يجب أن تُؤسَس وفق منظومة بنيوية وبرامجية تعتمد خصائص ومعالم ومصالح الأُمّة العراقية أولاً ، لضمان النهوض والتقدم النوعي السياسي والمجتمعي والعلمي والحضاري بإنساننا ومجتمعنا ودولتنا ، وهذا لا يعني إنكفاءاً أو تقوقعاً على الذّات العراقية بما يحول دون التواصل مع الحاضن العربي أو الإسلامي أو الدولي ، بقدر ما يعني وعياً للذّات وأولوياتها في العمل والإهتمام والمصلحة ، فحجم التركة الكارثية في بُنى الهوية والحياة العامة ستضطرنا لجذب وتراكم كل الطاقات والإمكانات صوب نواة الأنا العراقية لا محالة ، وسنضمن أيضاً من خلال جعل الأنا العراقية هي المحور : إعادة إنتاج العلاقات العراقية مع الآخر أيّاً كان وفق مبادئ التكافؤ والنّدية وعدم التدخل ونفي التأثير وإقصاء الهيمنة الدينية والطائفية والسياسية ، بما يُعزز من منعة الذّات الوطنية في علائقها الخارجية وبما يحفظ مصالحها .
    ويشتمل هذا الملف على العديد من الملفات ، منها ؛ ملف العلاقات الدينية والطائفية ، العلاقات السياسية والإقتصادية ، العلاقات الإجتماعية والثقافية .

    * إننا نرى : أنَّ إنجاز الأناّ العراقية في أُطرها ومستوياتها وفق مشروع وطني شامل يعتمد المركب البنيوي (( الأصالة والحداثة والتنمية )) ، سيضمن لنا تكوين أُمّة عراقية نوعية جديدة قادرة على تحديد هويتها وإنتاج كينونتها الحديثة بشكلٍ أصيلٍ ومتناسقٍ وفاعلٍ بعيداً عن الإغتراب أو الإستلاب أو الإندحار .

    ** ** **

    :=

  7. #7
    نحو أُمّة عراقية سيّدة حُرّة أصيلة
    ((6))
    الأُمّة العراقية .. وبوصلة التوظيف

    حسين درويش العادلي

    abuhabib1@hotmail.com

    * يُلاحظ القاريء الكريم : أنَّ بوصلة التوظيف اتجهت لدينا نحو مصطلح (( الأُمّة العراقية )) كعنوان عام وتسمية جامعة للإشارة إلى ذاتنا وكينونتنا وهويتنا ووجودنا العراقي برمته ، وهو استخدام مقصود سنأتي على المعاني المُستهدَفة من استعماله ، وسنتناول جملة من الإشارات المرتبطة بشعاع مفهوم الأُمّة وركائزه ومقوماته .
    والحقيقة ، أنَّ الذي اضطرنا إلى هذا التأصيل بعد تناول الحلقات الأولى من هذه الدراسة هو : هذا الكم من التجاذب السياسي والمفاهيمي القائم حالياً بين القبول والرفض أو التّساهل والتّشدد تجاه مصطلح الأُمة العراقية ،.. ومثل هذا التجاذب بنظرنا إنما هو في الحقيقة نتاج مناهجنا المدرسية البُنيوية التقليدية المعتمدة لأساليب القبول الكلي غير المشروط أو الرفض الكلي غير المُبرَّر !!

    * ورغم أننا سنلتقي والمراد من مصطلح الأُمّة ، إلاّ أننا لا نريد الوقوف طويلاً عند عتبة المصطلح على حساب المبدأ المُستهدَف منه ، فالذي يهمنا هو المضمون المراد تحقيقه على أرض التجربة المجتمعية العراقية أكثر من اعتنائنا بالعراك المصطلحي الذي تشهده ساحتنا السياسية اليوم ،.. كون الهدف الأسمى يبقى في إدراك جوهر المبدأ الذي يُنتجه المصطلح وبناءاته الحقيقية على أرض الواقع ، وإنما يُقبل أو يُرفض المبدأ على أساس مخزونه القيمي وبنائه البُنيوي وما ينتج عنهما من تجارب تلامس الغايات الصالحة والنبيلة والإنقاذية لأية تجربة أو أُمّة ، فينبغي ألاّ نُضحي بالناتج العملي ونُقصي هدفيته لصالح تجاذبات فكرية وسياسية عقيمة تُقصي الواقع لحساب التنظير .
    إنَّ المُلاحَظ لدى العديد من أوساطنا النُخبوية وهي تمارس التنظير لواقعنا العراقي في تجاربه القادمة : أنها غالباً ما تُضحي بإلتزامات واستحقاقات الواقع العملي المراد تأسيسه لحساب تجاذب سياسي واحتراب تنظيري !! وهي بذلك تكون ممن يُساعد في تعقيد عمليات التحوّل المجتمعي عندما تُغرق الساحة بألوان التنظير المدرسي بما يُصادر بناء الواقع بالتبع ،.. فإنَّ المسألة الجوهرية التي لابد وأن تكون حاضرة في أذهاننا هي ؛ أنَّ بوصلة التوظيف الأنسب والأمثل والمتناغم مع حالتنا العراقية يجب أن تكون هي الدّالة والفاعلة دوماً في خضم تنظيرنا المدرسي السياسي ، وإلاّ نكون ممن يستبدل الواقع بالخيال ، وممن يُشارك في تكريس الواقع القائم بكل مآسيه واتجاهاته الكارثية بدلاً من تغييره .

    * وعوداً على بدء : فإننا نرى أنَّ إصطلاح (( الأُمّة العراقية )) هو الأمثل في وصف وجودنا والدّلالة على كياننا العراقي ، فالأُمة هي الجماعية الواعية في اختيارها والتي يجمعها أمر ومقصد واحد تتوحد فيه ومن خلاله في هيئتها وكيانها ووجودها الخارجي ، وهي تشكيل حقيقي وواقعي وموضوعي لمكونات عِرقية ودينية وطائفية وثقافية متنوعة ، تجتمع على أرضٍ واحدة وانتماءٍ بيئي وجغرافي ووطني محدد ومقاصد وغايات ومصالح مشتركة لتُكوّن جماعية بشرية وطنية . فالأُمّة هنا إطار تشكُّل ينتج عنه - بفعل الزمن والتأثير المتبادل والعيش المشترك – صيرورة جديدة تتخذ طابع الجوهر المشترك في الدّلالة على كافة المكونات القيمية والعِرقية والثقافية الداخلة في تكوين أبناء الجماعة الواحدة في الوطن الواحد ،.. وعلى هذا المعنى فالأُمّة ليست تركيباً تلفيقياً لأجناس وأقوام وثقافات لا جامع لها ، بل هي تعبير عن إطار جامع حيوي وحقيقي يحمل في أحشائه كينونة مُعبّرة عن الكُل العراقي عن طريق الروح والهيئة الوطنية التي سيخلقها هذا الإطار وهذه الكينونة ، وهذا ما يُعبّر عنه بالثقافة أو الروح أو السمات العامة والمشتركة التي تطبع أمة معينة لتميزها عن الأُمم الوطنية الأُخرى .
    مع ملاحظة أساسية : أنَّ مفهوم الأُمّة يحمل في داخله الحفاظ على الخصوصيات الذاتية للتنوعات القومية والطائفية والثقافية الداخلة في تكوينه ، فهو لا يهدف إلى مسخ هذا التنوع عن طريق نزع خصائصه الذاتية والطبيعية ، بل هو إطار جامع لإحتواء هذا التنوع ، وصيغة كلية سينتج عنها ثقافة وكينونة مشتركة لا محالة من خلال هذا الكُل الفسيفسائي الداخل في تكوينه وتأليفه .
    وعليه ، فاختيار مصطلح الأُمّة اختيار مناسب لوصف الفسيفساء العِرقي والديني والطائفي والثقافي العراقي ، والجوهر الذي تتشكّل فيه ومن خلاله كينونة هذه الأُمّة إنما هو تعبير عن خصوصيات هذا الفسيفساء الممتزج والمنضبط بالمعايير والأنظمة والبرامج والمصالح الوطنية المشتركة ، وهذا إقرار موضوعي لصالح خصائص كل تكوين عراقي داخل مظلة الأُمّة العراقية فلا يُصادرها أو يُقصيها لا من التكوين الوطني ولا من الإنتماء والهوية والمصلحة الوطنية ،.. بخلاف حتى مصطلح (( الشعب )) ، فعندما نُعبّر عن الأُمّة العراقية بالشعب العراقي فإنَّ هذا التعبير يشي ويُفيد بأُحادية شعبٍ أي عِرقٍ مُعين على أرض العراق ، والحال أنَّ الوطن العراقي متنوع بأعراقه ، فيجب عندها أن نقول شعوب العراق للدّلالة على كافة مكوناته ، وهو ما سيقود إلى خلق كانتونات على صعيد العِرق والنفوذ والولاء والمصلحة ، مما سيؤدي لا محالة إلى التشتت فالإنقسام فالتصادم المجتمعي والوطني ، وهو ما لا يُقبل .
    والحال ذاته فيما لو استخدمنا مصطلح الدولة أو الوطن أو المجتمع القومي ، لأنه يُفيد بسيادة قومية معينة على الأرض والوطن والدولة ، مما سيُسقطنا في مستنقع الإختلاف والتشرذم والتجزئة ، لأنَّ واقع بلدنا لا تنفرد به قومية بذاتها ، بل يمتاز بالتنوع القومي والعِرقي ، وهنا فلا خيار أمام القوميات الأخرى سوى الإنصهار في قومية الدولة والمجتمع السائد أو مواجهتها والإنفصام عنها .. وكِلا الخيارين كارثي على الوحدة الوطنية ،.. وعليه فكل اصطلاح لا يُعبّر عن هذه التشكيلة الفسيفسائية المكونة للمشهد العراقي سيقودنا إلى الإختلاف والتشظي الوطني الشامل .
    لذا لا نجد بديلاً تأسيسياً ضامناً لكياننا الوطني سوى توظيفنا لمصطلح الأُمّة العراقية ، فهو الإطار الكلي لهذا التنوع الفسيفسائي ، والصيغة الوحدوية الجامعة للتعدد الداخلي والذي سيُنتج لا محالة صيرورة جديدة تمثل الجوهر الوطني المشترك والذي أبدعته وأقرته كافة المكونات الداخلة في تشكيله ،.. ولا خوف عندها على رقعة أو ثقل أو تمثيل أو مصلحة أو حقوق أية قومية أو ديانة أو طائفة أو ثقافة ، فكافة هذه المكونات ستأخذ حقها ودورها الطبيعي في التعبير عن ذاتها ضمن إطار المجتمع الواحد والدولة الواحدة التي تمثلهم جميعاً .
    ولعلنا نتفق كعراقيين على تنوع أعراقنا وانتماءاتنا ، أنَّ من أولى مقومات نهضتنا الجديدة بعد زوال النظام الدموي الحاكم في بغداد ، هي : الوحدة والأمن والإستقرار للعراق إنساناً ومجتمعاً ودولةً ، وعليه فكل ما من شأنه أن يُصادر الوحدة ويُخل بالأمن وينفي الإستقرار .. يجب نزع الصائق عنه لحماية ذاتنا الوطنية من الإنفجار من داخلها ، ويأتي مصطلح الأُمّة العراقية ضمن إطار إبداع أمثل الصيغ الوطنية للحفاظ على هذه القيمة الإنسانية والوطنية العُليا ، كونه يضمن إندكاك كافة مكوناتنا العراقية في بوتقة موحدة تُعبّر عن الكُل ، وتضمن الإنتماء والقدرة على إطلاق الحيوية الإجتماعية والسياسية والحضارية للعراقيين كافة دونما أدنى عزل أو إقصاء أو تهميش .

    * أما فيما يتعلق ببوصلة التوظيف للمضامين البُنيوية للأُمّة العراقية ، فإنَّ المعادلة أشد خطورةً وعمقاً من مجرد الإختلاف المصطلحي حول تعبير الأُمة ، فالتجاذب الكائن حالياً هو تجاذب حول المضامين والمرتكزات التي يجب أن تتقوم وتعتمد عليها الأُمّة العراقية الجديدة ، وهنا يكمن الصراع المدرسي والتباين الخطي بين اتجاهات ساحتنا الفكرية والقيمية والوطنية .
    في البدء ، أرى نفسي مضطراً إلى الإشارة : بأنَّ المعضلة التي لم تجد قاعدة معرفية وتياراً مجتمعياً بعد يستطيع حل إشكالية هذا التحارب المدرسي والبُنيوي والسياسي تكمن في هذا التقابل الحاد بين منهجين في حركة التعاطي المجتمعي الحضاري لدينا ، وأعني بهما منهج التماهي غير المشروط بالآخر والذي لا يجد ذاته في منظوماتنا وبين منهج الإنغلاق غير المُبرر تجاه الآخر والذي لا يجد ذاته في منظومات الآخر ، الأمر الذي أفقدنا القدرة على إنتاج ذاتنا وتجربتنا العراقية الحديثة لتأخذ مكانها الطبيعي والمشروع بين المجتمعات الحضارية الحيّة .
    لقد أفشل هذا التقابل الحاد بين ما هو ديني ووضعي ، إسلامي وعلماني ، حداثي وقيمي ، دنيوي وآخروي ، روحي ومادي ..الخ ، كافة المحاولات الجادة لإعادة تمثلنا الكياني منذ تأسيس الدولة العراقية 1921م ، ففشلنا كسلطات ونُخب وشرائح في تحرير طاقاتنا صوب الوحدة والبناء والتنمية ، وعجزنا عن تحقيق ذاتنا بما يحفظ لها عناصر الأصالة وفي نفس الوقت يضمن لها الإنفتاح والتعاون والمشاركة الإيجابية مع عصرها لتكون ذات فاعلة ذات قيمة نوعية حقيقية لا يمكن تجاوزها أو تفادي دورها ونتاجها الإنساني ، ولم نكن لنحصد كل هذا النتاج المرّ لو باشرنا بموضوعية وواقعية في العمل المدروس والجاد لإعادة بناء ذاتنا المجتمعية وهويتنا الوطنية بما يوافق عناصر الأصالة والحداثة والتتنمية والهضم لتنوعات الواقع الموضوعي واستحقاقاته .

    * وهنا نتساءل : هل يستطيع الإتجاه الحداثي أن ينفي أو يُصادر أو يقتلع فروض واستحقاقات الأصالة من منظوماتنا المجتمعية ليؤسس لمجتمعٍ حداثي مقطوع الصلة والجذور والإنتماء والخط بدين وعقيدة وتراث الأُمّة العراقية ؟ وبالمقابل ، هل يستطيع اتجاه الأصالة أن يتغافل أو يتجاهل أو يرفض استحقاقات وفروض الحداثة بكل ما تعنيه من تطور في المناهج والآليات والبرامج ليؤسس لعراقٍ متطورٍ فاعل ؟ وإذا كان الجواب بالرفض فما هو الحل لمعضلة الإنتماء والهوية والوجود ؟ ومَنْ هو إذن المستفيد من هذا التقابل الحاد بين منهج التماهي بالحداثة والنافي للأصالة والمُنتج لإستلاب الهوية وفقدان الإنتماء ، وبين منهج الإنغلاق تجاه الآخر بعنوان الحفاظ على الأصالة والذي أنتج التقوقع والتأخر والتصادم ؟!! وهنا تكمن أهم المنـزلقات الكارثية التي أنتجت أما الضياع وأما الإحتراب في دوائرنا الذاتية أو مع الآخر أيّا كان ،.. وكان الأجدر بنا ونحن شركاء وطن واحد ومصير مشترك أن ننهض لتأسيس مركّبات بُنيوية جامعة نستطيع من خلالها تأسيس مجتمعٍ متوازن تتفاعل فيه كافة التيارات لتنمية الأفكار وإنتاج وتفعيل البرامج الوطنية الشاملة !! لكننا آثرنا ثقافة ونهج الإقصاء أحدنا للآخر لتغطية فشلنا في إبداع منظومة بنيوية تقوم على المساحات المشتركة في تكويننا ومصالحنا الوطنية .

    * المفكرون والمنظّرون والسّاسة وصُنّاع القرار والثقافة والمناهج .. يجب أن يعلموا : أنهم سيرثون بقايا إنسانٍ ومجتمعٍ ودولة ، سيرثون وطناً مأزوماً أنهكه التضاد البنيوي والإحتراب الثقافي ومناهج الإقصاء والنفي واللعن ، سيرثون تجارب الدّم والمقاصل والكوارث ،.. فهل رسالتهم الوطنية تقتضي إعادة عجلة الإحتراب والتضاد والنفي والإقصاء المتقابل بين شركاء الوطن الواحد ؟ وهل من الحكمة أن نقع مرةً أُخرى باسم الحداثة أو الأصالة أو الوطنية في فخ التجارب البُنيوية المُشظّية والمُشتتة لذاتنا الوطنية ؟ أوليس من الحكمة بل ومن الواجب الإنساني والوطني أن نتشارك لإبداع مُركّب بُنيوي صالحٍ وهادفٍ ومتطور يُساعدنا على إنتاج تجارب وطنية تقبر كوارث الإستلاب والتعويم والتبعية والتخلف ؟

    * إن رؤيتنا الوطنية تقوم على ضرورة اعتماد مركّب بُنيوي يرتكز مقومات الأصالة والحداثة والتنمية ، ونرى في إبداع مشرع وطني شامل يعتمد هذا المُركّب سيضمن للأُمتنا العراقية صياغة هويتها وبناء ذاتها وإنجاز وجودها الحديث وفق أمثل الأنساق الممكنة ،.. فعراقنا عريق بأعّراقه ، عريق بحضاراته ، عريق بعقائده ، عريق بقيمه ، عريق بعطائه ونتاجه وسماته ،.. ولا سبيل لنـزعه من حواضنه التأريخية والقيمية والعِرقية ،.. هو الوارث لمجد الحضارات ، ولا سبيل لإندثاره ،.. وما علينا سوى النهوض بوعيٍ وتسامحٍ وتصميم لتمثّل تأريخنا بعمق وأصالتنا بحكمة وقيمنا بتوظيف وواقعنا باستيعاب ومرونة وانفتاح ، لضمان التمازج مع فروض الحداثة ومستحقات التنمية ،.. والهدف كل الهدف هو : خلق أُمّة عراقية سيّدة حُرّة أصيلة فاعلة متطورة ، يجد فيها القيمي ذاته والحداثي ذاته ، وتنعم فيها كل الأعراق والأديان والطوائف بالمساواة والرّخاء والرُّقي .

    ** ** **


    :=

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
 
شبكة المحسن عليه السلام لخدمات التصميم   شبكة حنة الحسين عليه السلام للانتاج الفني