النتائج 1 إلى 5 من 5
  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jul 2004
    الدولة
    هناك
    المشاركات
    28,205

    افتراضي جولة في أفكار الشهيد المطهري حول الملحمة الحسينية

    كربلاء قضية متجذرة في الوعي الإسلامي، ساهمت في تشكل الوعي الحركي الثائر على الظلم والفساد، وباتت مع تقادم الزمن أكثر رسوخاً في وجدان الأمة، وبعبارة أخرى إنها تلك الواقعة التي قفزت فوق الزمان والمكان مستمدة من نور مشكاة النبوة رمزيتها، ومن لون البذل عنفوانها، فاستحالت نهجاً يحمل شعلة متوقدة تسمو بالإنسان في آفاق العزة والكرامة، وتعبر في مدلولاتها عن محورية الصراع الدائر بين الاستكبار والاستضعاف، وبين رمز العدالة والتفاني في الله ورمز الاستغراق في حطام الدنيا الفانية.
    تجلى التعبير عن عاشوراء بأساليب وأشكال مختلفة، لعلّ من أبرزها المجالس العاشورائية، حيث يقوم الخطيب أو العالم بسرد وقائع هذه الحادثة والإسهاب في عرض موضوعاتها، وللاستزادة في التشويق والانجذاب كان يطلق العنان لخياله الروائي ليحلّق في آفاقها دونما حسيب أو رقيب، فيدخل عليها الكثير من الزيادات والمبالغات. ما دفع ببعض العلماء إلى التصدي لهذه الظاهرة، ولعل كتاب "الملحمة الحسينية" للشهيد مطهري، وهو مؤلف في ثلاثة أجزاء من الكتب التي عالجت هذه الظاهرة معالجة وافية، وانطلاقاً من رؤية عميقة، ولذلك سنحاول التوقف عند أهم المحطات التي ذكرها الشهيد في كتابه.



    [align=center]الانحرافات في السيرة وسبل مقاومتها[/align]


    يحذّر الشهيد في مستهل كتابه من الإنحرافات التي أدخلت على عاشوراء، باعتبار ما ينطوي على هذا السلوك من سلبيات في حركة الأمة والشعب، وما تخلفه من تداعيات في النظرة إلى شخصية الإمام الحسين(ع)، حيث يقول: "وحادثة كربلاء شئنا أم أبينا حادثة اجتماعية كبرى بالنسبة لشعبنا وأمتنا، أي أنها حادثة مؤثرة للغاية في تربية أهلنا وعاداتهم وسلوكهم" (ج1، ص11).
    ولذلك ترى الناس يندفعون لإحياء هذه الذكرى بشكل طوعي ومن تلقاء أنفسهم، وفوق ذلك يصرفون الكثير من الجهد والمال من أجل الاستماع إلى هذه الحادثة وما يرتبط بها من قضايا "إنها الحادثة التي تدفع بشعبنا بشكل آلي ودون تدخل أية قدرة خارجية إلى أن يتوجه الملايين منه لصرف ملايين الساعات من جهدهم وإنفاق الملايين لسماع ما يرتبط بها من قضايا.." (ج1، ص11).
    وانطلاقاً من أهمية هذه الواقعة وخشية الانحراف عن مسارها الحقيقي، يدعو الشهيد إلى التمسك بمضمون هذه الحادثة وعرضها كما هي بكل مفرداتها الواقعية، ويحذر من الانزلاق في خيالات الوهم لما يجلب من ضرر على الأمة، فيقول: "إن هذه القضية ينبغي عرضها كما هي دون زيادة أو نقصان لأنه في حالة أي تدخل أو تصرف في اللفظ أو المعنى مهما كان بسيطاً سيرتب بلا شك حرف اتجاه الحادثة عن مسارها، وبالتالي إلحاق الضرر بأمتنا بالتأكيد بدلاً من إفادتها منها" (ج1، ص11ـ12) محملاً مسؤولية ما يحصل للعلماء والرواة وحتى عامة الناس، حيث يقول و" بكل مرارة: إن التحريفات التي أصابت هذه القضية على أيدينا كانت كلها باتجاه التقليل من قيمة الحادثة ومسخها وتحويلها إلى حادثة لا طعم لها ولا معنى، والمسؤولية هنا تقع على الرواة والعلماء، كما تقع على العامة من الناس" (ج1، ص12).
    ولم يقتصر المطهري في حديثه على مظاهر التحريف المعاصرة بل يعود بالذكرى إلى الميرزا حسين النوري أستاذ المرحوم الشيخ عباس القمي، الذي يتطرق إلى ما ألصق بكربلاء من أكاذيب دون أن يقوم أحد بفضحها، ولفت إلى المنحى الخطير الذي لحق بهذه الواقعة نتيجة تلك الالصاقات، فالميرزا النوري يدعو إلى البكاء على الحسين، ولكن ليس بسبب ما ناله جسده الطاهر من سيوف ورماح، بل بسبب الأكاذيب التي ألصقت بالواقعة (ج1، ص13).
    وكما ذكرنا يحمّل (الشهيد) مسؤولية ما يحصل في هذه الذكرى للناس بإعتبارين:
    الإعتبار الأول: إن النهي عن المنكر واجب على الجميع، وعليه فإن من يعرف بأن ما يقال على المنابر كذب وافتراء ـ وأكثر الناس تعرف ذلك ـ فإن من واجبه عدم الجلوس في هذه المجالس، لأنه عمل حرام والواجب يتطلب منه مقاومة هذا الكذب وفضحه.
    الإعتبار الثاني: لا بد لنا جميعاً من قهر هذه الرغبة اللامسؤولة المنتشرة بين الناس والخطباء، والتي تتوقع من المجالس الحسينية أن تصبح مجالس حارة وحماسية، أو كما يصطلح عليها البعض "كربلاء ثانية"، فالخطيب المسكين تراه أحياناً يقع في حيرة إذا ما تكلم الصدق وقال الحقائق دون زيادة أو نقصان من على المنبر الحسيني، إذ إن نتيجة ذلك ستكون نعت مجلسه بالمجلس البارد وغير الحماسي، وبالتالي عدم رغبة الناس بدعوة هذا الخطيب مجدداً، مما يضطره إلى اختراع بعض القصص الخيالية لإدخال الحرارة إلى مجلسه" (ج1، ص14).
    وهنا يدعو الشهيد مطهري الناس إلى مقاومة هذه الرغبة اللامسؤولة وإثبات ذلك بسلوكهم، فلا يقوموا بتشجيع مثل هذا الخطيب الحسيني الذي يريد تحويل مجلسه إلى كربلاء ثانية بأي ثمن كان. (ج1، ص14ـ15) وتكمن معالجة ذلك في استماع الناس إلى المأتم الحسيني الصادق حتى تتسع معارفهم وينمو مستوى التفكير لديهم ويعرفوا بأن اهتزاز روحهم مع أية كلمة من كلمات المأتم الحسيني يعني تحليقها وانصهارها مع روح الحسين بن علي(ع)، وبالتالي فإن دمعة واحدة إذا ما خرجت من مآقيهم كافية لمنحهم ذلك المقام الكبير الذي ناله أنصار الحسين(ع)، أما الدموع التي تخرج من خلال العرض المأساوي ورسم المجزرة وتشريح الذبح والمذبحة فلا تساوي شيئاً حتى لو كانت بحراً من الدموع! (راجع ج1، ص15).
    وباختصار يمكن القول إن هذه الرغبة اللامسؤولة لرؤية واقعة كربلاء بشكلها المأساوي من طرف الناس كانت هي الدافع لاختلاق الأكاذيب، ولذلك فإن أغلب التزوير والكذب الذي أدخل في مواعظ التعزية كان سببه الرغبة في الخروج من سياق الوعظ والتحليق في خيال الفاجعة. ومن الواضح أن الشهيد لم يقتصر في إلقاء تبعات ما وصلت إليه المجالس الحسينية على الناس فحسب، بل يغمز من قناة الخطباء والعلماء، حيث يقول: "فمن أجل شدّ الناس إلى صورة الفاجعة التاريخية وتصويرها المأساوي ودفع الناس إلى البكاء والنحيب ليس إلا، كان الواعظ على الدوام مضطراً للتزوير والاختلاق"(ج1،ص16).

    ولذلك يعتبر أن اختلاق الأكاذيب وإطلاق العنان للخيال إنما يخفضان من شأن الإمام الحسين(ع) ومقامه، ولا يرفعان من شأنه.
    ومن اللافت أن الشهيد يُخضع ما كان يدور في كربلاء إلى المنطق والعقل، فيجري العمليات الحسابية، ويعرض الحادثة أولاً ثم يبيّن معايبها، بأسلوب منطقي عقلاني مدعم بالوثائق التاريخية والبحث الجاد عن المكان والزمان لدحض المزاعم والاختلاقات التي دخلت إلى صلب عاشوراء (راجع ج1، ص16ـ 28).
    وهنا ينتقد الشهيد هذه الظاهرة، مستشهداً بكلام الحاج نوري الذي يرى أن الأمور وصلت إلى وضع مأساوي، فيدعو إلى البكاء على الحسين(ع) لكثرة الأكاذيب والاختلاقات التي تنسب إلى واقعة عاشوراء، حيث يقول: "إذن لا بد أن نصدق كلام الحاج نوري عندما يقول: إذا أراد أحد أن يبكي أبا عبد الله الحسين اليوم ويذكر مصائبه فعليه أن يبكي مصائب الحسين الجديدة، أن يبكي حسيناً لكثرة الأكاذيب والاختلاقات التي نسبت إلى واقعة عاشوراء وشخصية الإمام" (ج1، ص22).
    وهذه الأكاذيب ـ كما يقول الشهيد ـ لم يكن مردها إلى ضعف الأسانيد وإلى النقص في الوثائق:"إن الشيء الذي يحزّ في القلب هو كون واقعة كربلاء من أغنى الوقائع التاريخية المدعمة بالوثائق الأسانيد المعتبرة. في السابق كنت أتصور أن سبب كل هذه الأكاذيب التي ألصقت بهذه الحادثة يكمن في عدم معرفة الوقائع الصحيحة للواقعة، ولكنني بعد المطالعة والتدقيق لاحظت أنه ربما كانت واقعة كربلاء واحدة من أندر الوقائع التاريخية المدعمة بكل تلك الأسانيد التاريخية الباقية منذ ذلك التاريخ البعيد، أي منذ أربعة عشر قرناً خلت" (ج1، ص22ـ23).



    [align=center]دوافع التحريف: [/align]

    أما عن دوافع التحريف فيرجعها الشهيد إلى نوعين، وهي إما أن تكون دوافع عامة لا تخص عاشوراء بالذات، وغالباً ما يكون العدو هو الذي يحرك هذه الدعايات ويروّج الاتهامات، لتحقيق أهدافه والوصول إلى مراميه باتباعه بعض الأساليب الملتوية، حيث تراه "عادة ما يتوسّل إيجاد التغيير والتبديل في سير حوادث التاريخ، وإذا لم يتمكن فإنه يتدخل في تفسير وشرح حركة التاريخ بما يتلاءم ووجهة نظره المفترضة"
    ولم تكن الثورة الحسينية بمنأى عن هذه الدعايات والتحريفات، وذلك في قوله: "..لكنني أؤكد بأن حادثة كربلاء كان لها نصيب أيضاً من هذا العامل، أي أن الأعداء صمموا منذ البداية على تحريف وتزييف النهضة والثورة الحسينية" (ج1، ص30).
    وهناك دوافع خاصة لهذا التحريف تتعلق بميل الإنسان لخلق الأساطير، وهذا أمر يتكرر في كل تواريخ العالم ـ حسبما يرى الشهيد ـ فالبشر على العموم يمتلكون حس عبادة الأبطال وتقديسهم، الأمر الذي يدفعهم إلى خلق الأسطورة من أبطالهم القوميين أو الدينيين، والدليل الواضح على ذلك ما يتداول بين الناس من أساطير متعددة حول ابن سينا والشيخ البهائي وما إلى ذلك..(ج1، ص31) إلا أن اختلاق الأساطير أمر لا ينحصر في موقع معين، وإنما يمتد إلى مختلف المواقع، مميزاً بين نوعين من المواقع، فتارة لا يلحق بالموقع الذي دخلته الأسطورة أي ضرر، كما هو الحال في الحديث عن ابن سينا، وموقع آخر يلحقه الضرر لا محالة، وهذا "يكون في الأفراد الذين يمتلكون شخصية طليعية، والذين تعتبر أقوالهم وأعمالهم ونهضتهم وثورتهم سنداً وحجة ووثيقة تاريخية لا يجوز تحريف أحاديثهم ولا شخصيتهم ولا تاريخهم" (ج1، ص32).
    وفي هذا المجال يرفض الشهيد تلك التحريفات، فيقول: "حقاً إن بعض التحريفات التي حصلت في واقعة كربلاء سببها وجود حس الأسطورة لدينا، والذي كان له دور كبير في تشكيل حياتنا". ويحذر من ترك خيالات الأسطورة تفعل فعلها، لذلك لا يجوز لنا أن نُسلم أمر مثل هذه القضية التاريخية الهامة لأيدي صنّاع الأساطير، وقد ورد في الحديث: "فإن فينا أهل البيت في كل خلف عدولاً ينفون عنه تحريف الضالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين" (ج1، ص34ـ35).
    ورب قائل إن تعليمات أئمة الدين منذ زمن النبي الأكرم(ص) والأئمة الأطهار(ع) تؤكد على ضرورة إحياء اسم الحسين بن علي(ع) وتجديد عقد الولاء معه سنوياً وذكر مصيبته كل عام..، هذا صحيح ولكن هذه الإحياءات لمجالس العزاء الحسينية ـ حسب رأي الشهيد ـ "لا يكون كيفما اتفق أو عبثياً أو لمجرد البكاء على الحسين بحد ذاته، بل من أجل التعرف على أهداف المدرسة الحسينية والتعرف على فلسفة النهضة الحسينية ومعرفة شخصية الحسين التاريخية.." (ج1، ص37).
    ويعتبر أن إقامة المجالس الحسينية والبكاء على الحسين(ع) كوسيلة للتكفير عن الذنوب هو أمر مرفوض إسلامياً، وفي حين ينطلق هذا الفهم من رحم "المدرسة الميكيافيلية"صاحبة شعار "الغاية تبرر الوسيلة" التي تقول بأنه ما دامت الغاية جيدة فليس مهماً نوع الوسيلة المستخدمة! وهكذا يحرّف هذا البعض أهداف المدرسة الحسينية عندما يقولون: ما دام الهدف مقدساً ومنـزهاً وهو البكاء على الحسين، فإن كل وسيلة تستخدم لتحقيقه هي لا شك أمر جيد وينبغي أن تُمارس، ولكن لا يكفي أن تحصل على البكاء وأن تسيل الدموع بهذه الوسائل أو التبريرات!!" (ج1، ص38).
    لقد حذر المطهري من استخدام الوسائل التي ترضي المزاج خاصة أن قضية الحسين(ع) تختلف عن بقية القضايا، ولذلك قال:" لا يجوز لنا استخدام الوسيلة التي تعجبنا كي نبكي بواسطتها الناس، فإن هذا الوهم وهذا الخيال الكاذب والخطأ الفادح المعشش في أذهاننا يصبح بحد ذاته عاملاً ودافعاً كبيراً لحصول الاختلاق والتزوير"(ج1، ص39)، ولأن هذا يؤدي إلى تشويه صورة الإمام الحسين(ع) والانحراف عن تعاليم الإسلام التي "قتل الإمام الحسين(ع)، من أجلها، وهي أن تبقى سنن الإسلام حية وتعاليمه وقوانينه خالدة، لا أن يكون مقتله حجة وتبريراً لمخالفة تلك السنن والاستهتار بها. إننا بهذه الأعمال خلقنا من الحسين صورة المخرب والعياذ بالله، فالحسين(ع) الذي نرسمه نحن في مخيلتنا هو ذلك الحسين المخرّب والمهدّم للإسلام (ج1، ص40).
    ولشعور الشهيد بجسامة الأخطار المحدقة التي ألمت بكربلاء نتيجة التحريفات نراه يشاطر الحاج نوري قلقه من هذه الظاهرة، فيقول بصريح العبارة: "عندما يلقي المرء نظرة عامة على التاريخ سيرى بوضوح حجم التحريف والخيانة التي لحقت بهذه الواقعة، وأقسم بالله لقد كان كلام الحاج نوري صحيحاً ومنطقياً عندما قال بأن من يريد أن يبكي على الحسين اليوم ينبغي عليه أن يبكي أولاً على هذه التحريفات، وهذا المسخ وهذه الأكاذيب التي ألصقت بهذه الواقعة" (ج1، ص41).
    ويرتكز الشهيد في تأكيده أن تاريخ عاشوراء هو من أكثر التواريخ المليئة بالمصادر الصحيحة والوثائق المعتبرة والحية..ويُركز على نص للمرحوم آخوند الخراساني الذي يذكر فيه المصادر التي يجب أن تستقى السيرة منها، وقد جاء كان ذلك في حديث له موجه للوعّاظ وقرّاء التعزية الذين يبحثون عن الجدة والانفراد في قراءة تعزية لم يسمع بها أحد من قبل: حيث قال الأخوند: "فليذهب هؤلاء الوعاظ ويستخرجوا التعازي الحقيقية للحسين(ع)، فإن جمهورنا لم يسمع بها حتى الآن، وليقرأوا خطب الإمام في مكة أو في الحجاز بشكل عام ثم في الطريق إلى كربلاء ، وليقرأوا كل الخطب التي نطق بها أصحابه(ع)، بالإضافة إلى الحوار الذي كان يجري بينه(ع) وبين أصحابه والرسائل المتبادلة بينه وبين أنصاره، وكذلك الرسائل المتبادلة بين أطراف معسكر العدو، هذا علاوة على تعليقات من حضر واقعة عاشوراء وبقي حياً بعد الواقعة. فهناك ثلاثة أو أربعة من أنصار الحسين(ع) حضروا المعركة وظلّوا أحياءً ونقلوا وقائعها ومن بينهم العبد لمولاه عقبة بن سمعان الذي خرج مع الحسين من مكة وسجل في رأسه كل ما حصل لإمامه طوال الرحلة حتى يوم العاشر من محرم، حيث اعتقل من قِبَل العدو ثم أطلق سراحه عندما قال لهم بأنه ليس إلا غلاماً وعبداً من العاملين عند سيده الحسين(ع).
    وفي معسكر العدو أيضاً كان هناك من سجّل وقائع المعركة وظلّ حياً بعد انتهائها وهو حميد بن مسلم الذي يمكن اعتباره بمثابة المرافق الأساسي لعمر بن سعد. ثم إن أحد شهود المعركة شخص الإمام زين العابدين(ع) الذي نقل كل وقائع المعركة والقضايا المحيطة بها. وفي الحقيقة إن المرء لا يجد نقطة إبهام أو غموض واحدة في تاريخ الإمام الحسين(ع)"، فعلى سبيل المثال فإن الحسين(ع) قد ذكر بنفسه سبب نهضته وقيامه: "إني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي" ثم يضيف: "أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدي وأبي".
    وفي مواجهة الآراء التي ترى في بكاء الناس على الحسين سبباً لغفران جميع الذنوب، يعيد الشهيد مصدر المؤثرات الوافدة إلينا من الأفكار الأخرى كالمسيحية مثلاً، حيث يقول: "من المعروف أن أحد أركان الفكر المسيحي يستند إلى فكرة صلب المسيح المخلص، والفادي المخلص، هي ألقاب المسيح عندهم، فالمسيحية تعتبر أن جزءاً أساسياً من عقيدتها إنما يقوم على أن عيسى ما صلب إلا ليكفر عن ذنوب أمته، أي إنهم بهذا يرمون بذنوبهم على أكتاف عيسى" (ج1، ص60).
    و هنا يدعو إلى التأمل والتفكر بهذه المقولة فيقول: "هل فكرنا نحن المسلمين جيداً بأن كلام المسيحية هذا لا ينسجم ولا يتناسب مع روح الإسلام الذي نؤمن به، ولا ينسجم مع أقوال الحسين(ع)" (ج1، ص60)، وما ذلك إلا لأن الحسين(ع) قام للمقارعة ضد كل الأوضاع والظروف التي تسمح بارتكاب الذنوب، وإذا بنا جئنا لنجعل منه متراساً لارتكاب الذنوب وللمذنبين(باعتباره يشفع لمن يبكي عليه وتمادينا كثيراً في هذا الاتجاه عندما قلنا بأن الحسين قد أسس شركة للضمان، وأي ضمان؟ ضمان ضد الذنوب! وصرنا ندعو الناس للتسجيل في هذه الشركة مقابل أقساط من الدمع!. (ج1، ص60).
    ولذلك نرى المطهري يشكك بأولئك الذين ساهموا بإفراغ نهضة الإمام الحسين(ع) من محتواها العميق، ويتهمهم بأنهم ارتكبوا الجريمة بحقه، فيقول" أنا لا أعرف من هو المجرم أو المجرمون الجناة الذين ارتكبوا هذه الجريمة بحق الحسين بن علي(ع) عندما وجهوا السهام السامة إلى الحسين بقولهم إن الحسين قد عرّض نفسه إلى القتل ليحمل على كتفه ذنوب أمته وهو القول الشائع بين المسيحيين عن المسيح(ع)"، ولا يلبث الشهيد مطهري أن يتساءل عن هوية المجرمين والدوافع التي حرضتهم على هذا الفعل، ورمي الحسين بتبعات أعمالهم ، وهذا ما عكسه بقوله:"فهل أرادوا لأنفسهم من وراء ذلك أن يرتكبوا ما استطاعوا من المحرمات دون خوف أو وجل، وهل كان المذنبون قلائل حتى يزيد عددهم بهذا التحريف؟! ولذلك ترى أن الوجه الذي يسوّد معركة عاشوراء بعد هذا التحريف هو ذلك الوجه المظلم والأسود للمعركة، وصرنا لا نسمع إلا الرثاء ولا نسمع إلا المصيبة حول عاشوراء(ج1، ص99)، ومن جهة ثانية يرى الشهيد "بأننا نحن من يتحمل مسؤولية هذه القراءة ـ للجانب المظلم ـ ويعدنا من الجناة المشاركين في الجريمة، والمساهمون في عملية التحريف، وكل من يساهم في حرف معركة كربلاء عن أهدافها الحقيقية يمكن اعتباره من الجناة بحق الإمام الحسين(ع)"راجع (ج1، ص98).
    والشهيد هنا لايقول بعدم ضرورة رواية وقراءة ذلك الوجه المظلم، لكنه يرى أن هذا الرثاء الحسيني لا بد وأن يأتي ممزوجاً بالحماس، فعندما يقال بأن رثاء الحسين بن علي(ع) يجب أن يُخلَّد فإن ذلك حقيقة نطق بها رسول الله(ص) وأوصى بها أئمتنا(ع)، وإذا كان لا بد من إبكاء الناس عليها باستمرار، لا بدّ من رثاء البطل(ج1، ص99ـ100)، ولكي يكون الرثاء للبطل فاعلاً ومجدياً يجب أولاً تثبيت شخصية الحسين البطل في أذهاننا، ومن ثم نجلس لنرثيه في ذكراه، نرثيه بطلاً حتى يتولّد لدينا إحساساً بالبطولة والشجاعة، وتنعكس ظلال روح البطل على أرواحنا وتزداد غيرتنا تجاه الحق والحقيقة، ونعرف معنى عزة النفس والشرف، ومعنى الحرية والكرامة، وإلا فإن رثاء رجل مسكين مستكين مظلوم لا حيلة له ولا قوة فيما جرى ويجري في التاريخ أمر لا يحتاج إلى بكاء ولا معنى لبكاء الأمة عليه (ج1، ص100).
    و هنا يرى الشهيد ضرورة قراءة وجهي الحادثة النوراني والرثائي، ولكنه يشترط قراءة الوجه النوراني للتاريخ الحسيني أولاً ، للتمكن من الاستفادة من الوجه الرثائي للواقعة، وإلا فإن الوجه الرثائي لوحده لا فائدة منه، ويعبر عن ذلك بقوله:"فهل تتصورون أن الحسين بن علي جالس بانتظار من يأتي ليشفق عليه، أو العياذ بالله أن فاطمة الزهراء(ع) وهي التي تسكن في جوار رحمة ربها تنتظر من يأتيها من أمثالنا نحن صغار البشر ليواسيها ويخفف من معاناتها بعزاء الحسين(ع) بعد مرور أكثر من ألف وثلاثمائة عام على تلك الفاجعة"!!(ج1،ص100).
    ويقرأ الشهيد واقعة عاشوراء من الناحية الاجتماعية من زاوية العمل الجنائي الذي تم ارتكابه، فيعتبرها مظهراً من مظاهر الانحطاط في المجتمع الإسلامي (ج1،ص102).
    ويلفت من ناحية ثانية إلى ضرورة إقامة المجالس ويعتبرها حاجة وضرورة من أجل صقل الأحاسيس الإسلامية والإنسانية لدى شعوبنا، ولكن بشرط أن ندرك ما نقوم به، وفي هذا الأمر دعوة منه للقيام بتصحيح شؤوننا الدينية وإجراء الإصلاحات اللازمة عليها في "منهج تفكيرنا وطريقة تعاملنا وتعاطينا مع الشؤون الدينية، وليس الدين نفسه، فأخطاؤنا لا يمكن حسابها من الدين".. (ج1،ص 102).


    [align=center]رموز الملحمة المقدسة[/align]

    يعتبر الشهيد أن ملحمة الحسين(ع) ملحمة مقدسة وتختلف عن غيرها من الملاحم، وذلك لميزات ثلاث:
    أولها: لأن رمز الملحمة المقدسة هو ذلك الشخص الذي تعلو روحه إلى ما فوق ذاته وما فوق العرق القومي الذي ينتمي إليه شعبه والقارة التي تقع فيها بلاده، إنه ذلك الرمز الذي لا يمكن أن يرى شخصه في الميزان، إنه لا يرى أمامه إلا الحق والحقيقة، وإذا لم نشأ التقليل من أهميته ينبغي لنا القول بأنه يرى البشرية أمامه (ج1، ص108).
    الميزة الثانية لقدسية هذه النهضات والملاحم هو حدوثها في ظروف خاصة للغاية، أي في ظل أجواء لا يتوقعها أحد على الإطلاق، بعبارة أخرى ترى أن أمر حدوثها يشبه انبلاج نور شعلة كبيرة في ظل جو مظلم وقاتم السواد للغاية، وهو أشبه ما يكون بنداء العدالة الصارخ بوجه الاستبداد والظلم المطلق، إنه حركة وسط السكون، وحالة الرعب السائدة، وهو ذلك الكلام والخطاب الهادف في ظل جو من الظلمة القاتلة (ج1، ص108).
    أما الميزة الثالثة لقدسية النهضة الحسينية، انطلاقاً من درجة الرشد التي اتصفت بها هذه النهضة، والنظر الثاقب البعيد لصاحبها، أي أن هذه الملحمة والنهضة إنما تتبلور قدسيتها في صاحب النهضة الذي يرى ما لا يراه الآخرون، كما يقول المثل المعروف: "يرى في الآجر ما لا يراه الآخرون في المرآة" (ج1، ص110).
    وللتدليل على وجود هذه الميزات في نهضة الإمام الحسين(ع) يقول:"لو واجهت أي شخصية تاريخية أخرى ما واجهه الحسين بن علي(ع) في ليلة العاشر من محرم، حيث كانت عوامل انتصاره معدومة، والطرق الدنيوية كلها قد سدّت في وجهه، وصار يقيناً أمر حتفه وحتف أصحابه على يد العدو، وفي مثل هذه الظروف كان لا بد لأي امرىء أن يتوجه بلومه وعتابه على الدهر وهذا ما يثبته التاريخ" (ج1، ص118)، لكن الحسين بن علي(ع) يجمع أصحابه وتراه وكأن روحه قد تلألأت بين جنبيه لرؤية علامة التوفيق والنجاح، ويقول مخاطباً صحبه الميامين: "اثني على الله أحسن الثناء وأحمده على السراء والضراء، اللهم إني أحمدك على أن كرّمتنا بالنبوة، وعلّمتنا وفقّهتنا في الدين"، ويبدو الإمام وكأن الشروط المساعدة كافة قد اجتمعت له، وهو كذلك، لأن الذي يتشاءم في مثل هذه الظروف هو ذلك الساعي إلى السلطة الدنيوية فقط (ج1، ص118ـ119).



    [align=center]التحريف بين العلماء والعوام[/align]

    يؤكد الشهيد حصول تحريفات متعددة على مرّ الزمان في هذه الواقعة التاريخية العظيمة جداً، ويرى أن مسؤولية كبيرة تقع على كاهل الجميع من علماء وناس عاديين في مواجهة هذه التحريفات والنضال ضدها، ولكن قبل الولوج في البحث في من يتحمل المسؤولية يعرض لمسألتين خاصتين كمقدمة للدخول في البحث العام، وتتمثل في ضرورة النظر إلى الماضي والبحث عن المسؤول عن حصول هذه التحريفات، ولكنهّ يفرّق بين معرفة ما هو واجبنا اليوم تجاه هذه القضية وعلى عاتق من تقع كل هذه المسؤولية وهذه الوظيفة، وبين من هو المسؤول والمذنب الماضي(ج1، ص72).
    وفي إطار الاتهامات المتبادلة عن المسؤولية في هذه القضية بين العلماء والناس ، "فالعلماء يقولون بأن الذنب هو عوام الناس وجهل الشعب، وإن الناس جهّال وحمقى وأغبياء وغير واعين لأي شيء، الأمر الذي يجعلهم أهلاً لسماع مثل هذه المهازل والتُرهات ومن ثمّ لا يستحقون سماع الحقائق"، ويورد لاثبات صحة ذلك ما سمعه شخصياً من المرحوم آية الله الصدر من "أنّ العلامة تاج نيشابوري كان يُلقي بترهاته من على منبر الحسين باستمرار، ولمّا اعترض عليه أحدهم يوماً وقال له: لماذا لا تحترم كل هؤلاء الحاضرين وتتحدث إليهم بكلام لائق بهم؟ قال: إن الناس لا يستأُهلون! ثم صار يحاول إثبات ذلك بالدليل"!(ج1، ص73).
    أما الناس فمن جانبهم ينحون باللائمة على العلماء، ولهم ـ كما يقول الشهيد ـ منطقهم أيضاً في التعامل مع الخواص في مثل هذه الأمور، إذ إنهم دائماً ما يستخدمون هذا المنطق ويقولون المثل المعروف: "إن السمكة تفسد من رأسها لا من ذنبها". والعلماء هم بمثابة رأس السمكة ونحن ذنبها.
    وهنا يعلن الشهيد رأيه بصراحة ويحمل الطرفين المسؤولية عن هذه القضية حيث يقول:"ولكن الحقيقة في هذا الموضوع أن كِلا الطرفين مقصّران ومسؤولان عمّا يجري في هذا المجال، سواء الخواص أو العوام، وليكن واضحاً لديكم بأن عامة الناس مسؤولين أيضاً عن قضايا التحريف لأنّ عامة الناس وجمهور العامة هم الذين يقتلون الحقائق ويشيعون الخرافات"(ج1، ص73).
    ولكنه يلفت من جانب آخر إلى بعض العلماء الذين وقفوا بوجه الانحرافات انطلاقاً من واجبهم الديني وأثنى على موقفهم، حيث قال: لحسن الحظ فإنّ وسائل هذا الكفاح وأدواته موجودة كما أن هناك عدداً لا بأس به من العلماء ممن وقفوا هذا الموقف المشرّف حتى الآن، وما كتاب "اللؤلؤ والمرجان" الذي يتعرض فيه مؤلفه الحاج نوري رضوان الله إلى واقعة عاشوراء التاريخية، ما هو إلا تطبيق عملي ومصداق حي لهذه الوظيفة المقدسة، والتي قام بها هذا الرجل العظيم على أحسن وجه، وهي المصداق الحي للقسم الأول من حديث الرسول(ص): "إذا ظهرت البِدَع في أمتي فليظهر العالم علمه.."(ج1، ص83).
    ولم يلبث أن يسهب في الحديث عن دور العلماء في محاربة هذه الانحرافات، وضرورة الكشف عن الحقيقة، وكذلك التشهير بمن يشك في صدقه، بل يدعو إلى أكثر من ذلك في البحث عن ملاكات الحدث والدوافع التي تقف وراءه، مطالباً بالكشف عن المكذبين وتعريتهم وفضحهم على رؤوس الأشهاد، وقدجاء في قوله: "من واجب العلماء في مثل هذه الحالات عرض الحقائق على الناس دون أية مواربة حتى وإن أنفت الناس من أقوالهم، وإن من واجب العلماء أيضاً مكافحة الأكاذيب وكشف المكذّبين وفضحهم على رؤوس الأشهاد. إن لدى الفقهاء مبحثاً خاصاً في باب الغيبة يقولون فيه بجواز الغيبة في الحالات الاستثنائية. وإنّ إحدى موارد جواز الغيبة والتي يمارسها كافة العلماء الكبار، بل ويرون لزوم حصولها، بل وأحياناً وجوب ممارستها هي عملية تجريح الراوي، فما هي عملية تجريح الراوي؟ فعلى سبيل المثال لو جاء شخص ونقل لنا روايةً ما عن رسول الله(ص) أو عن أحد الأئمة الأطهار، فهل علينا تصديقه على الفور؟ كلا، فالمطلوب أولاً إجراء التحقيق حول هذا الشخص الراوي وعما إذا كان معروفاً بالصدق أو بالكذب؟ فلو حصل أن اكتشفت مثلاً نقطة ضعف ما في سيرة هذا الرجل أو أية نقيصة أو عيب يذكر، وأنه ثبت لك اشتهاره بالكذب أو الفسق، فهنا يلزم عليك بل يجب أن تفضح هذا الرجل في الكتب. وهذا العمل يطلق عليه: التجريح. وعلى الرغم من أن هذا العمل يمكن نعته بالغيبة أو النميمة وأن الغيبة والنميمة غير جائزين، سواء على الحي أو على الميت، إلا أنه ما دام الأمر هنا يتعلق بتحريف الحقائق وقلبها، فإنه ينبغي فضح ذلك الرجل مهما كلف الأمر، فالكذب يجب فضحه مهما كانت النتائج"(ج1، ص 83 ـ 84).
    ويبدو أن الشهيد لم يجعل المعيار لصحة الرواية أو كذبها في الاعتماد على صدق الراوي أو كذبه وحسن سيرته وحتى موقعه العلمي، بل لفت إلى نقطة جوهرية تتمثل في ضرورة امتلاك الفقيه أو العالم ملكة الوعي في المواقع كافة، وبحيث لا يقع من حيث يقصد أو لا يقصد في المتاهات والانحرافات، وهذا ما أشار إليه بقوله :"فمن الممكن مثلاً أن يبرز عالم ما بمواصفاته العلمائية في مجال ما بشكل جيد، مثل الملا حسين الكاشفي وهو العالم الديني المعروف! لكن كتابه المعروف باسم "روضة الشهداء" كتاب مليء بالكذب حين تقوّل فيه على الجميع وحرّف أعمال العدو والصديق بمن فيهم ابن زياد وعمر بن سعد. فلقد كتب مثلاً أن ابن زياد قد منح خمسين رطلاً من الذهب الأحمر لعمر بن سعد من أجل الذهاب إلى كربلاء ومقاتلة الحسين(ع! فكل من يسمع بمثل هذا الحديث مثلاً سيفكر بأن ابن سعد ليس رجلاً سيئاً إلى هذا الحد الذي ينقل عنه الرواة، فخمسين رطلاً من الذهب الأحمر كانت كافية لإغراء أي إنسان ليذهب ويقاتل الحسين"(ج1، ص84).
    "أما بشأن العلامة ملاّ آقا الدربندي مثلاً، فإن هناك اتفاقاً عاماً حول حُسن سيرته، حتى الحاج نوري الذي ينتقد كتابه بحق فإنه يقول عنه أيضاً بأنه رجل حسن السيرة والسلوك. وكما ينقل عنه فإنه كان رجلاً مخلصاً للإمام الحسين(ع)، وأنه كلما كان يذكر إسم الحسين أمامه كانت دموعه تسيل من مآقيه، إضافة إلى كونه عالماً بالفقه والأصول، وهو من جهته كان يُصنّف نفسه من فقهاء الدرجة الأولى، ولكن الأمر ليس كذلك فهو من فقهاء الدرجة الثانية أو الثالثة، فهذا العالم مثلاً يعرف عنه بأنه ألّف كتاباً باسم "الخزائن" وهو عبارة عن دورة كاملة في باب الفقه وقد تمّت طباعته، والمؤلف من المعاصرين لصاحب الجواهر"(ج1، 84)، لكن هذا الرجل على ما عُرف عنه من العلم فإنه بكتابه "أسرار الشهادة" قد ساهم في تحريف واقعة كربلاء كلياً. إنه في الحقيقة قد قلب الحقائق رأساً على عقب ونزع عن الواقعة أي أثر إيجابي يذكر، فيما ملأ كتابه بالأكاذيب"!(ج1، ص85).
    ويضيف المطهري قائلاً: "فهل يجوز القول في مثل هذه الحالة بأن كون الرجل عالماً ورجلاً ذا تقوى، ومن المشهورين بإخلاصه للإمام الحسين(ع)، يسمح لنا بالسكوت عنه، أو القول بأن المفروض من الحاج نوري مثلاً السكوت عن كتابه المعروف باسم "أسرار الشهادة"؟ أبداً فهذا الرجل يجب أن يُجرح وهذه وظيفة العلماء ورسالتهم الخطيرة"(ج1، ص85).



    [align=center]الشخصية المستقلة[/align]

    والنهضة الحسينية بنظر الشهيد هي عامل مهم في تبلور الشخصية المستقلة للمجتمع العالمي، وهذا ما أفرد به محاضرة ناقشت فيها ما يخلفه الاستشهاد، حيث يقول: "لو كانت شهادة الحسين بن علي(ع) مجرد حادثة حزن أو محض مصيبة أو ليست أكثر من عملية إهراق لدم شخصية من الشخصيات الاجتماعية وإن كانت بارزة جداً، فإنه لا يمكن أن تعطي كل تلك الآثار، ولما استطاعت أن تكون تعبيراً للنهضة أو ملحمة إسلامية وإلهية كبرى، إنها لم تكن أبداً عبارة عن قصة وواقعة كارثية ولا محض جريمة أو ظلم ارتكبه عدو من الظلمة والجناة، بل إنها بطولة عظيمة، وعظيمة جداً، رسم معالمها ذلك الطرف الذي ارتكبت بحقه الجرائم. إن شهادة الحسين بن علي نفخت روحاً جديدة في الإسلام. إنها تعبير عن حركة الدماء وغليانها في الأبدان؟؟(ج1، ص122).
    ويميز الشهيد بين نوعين من الظواهر الاجتماعية فيرى أن بعضها "تسبب الكدورة للروح الاجتماعية، كما توجد الرعب والخوف في الناس، وتخلق حالة من الإحساس بالأسر والعبودية، لكن بعضها الآخر يمنح الصفاء والنورانية والإشراق للمجتمع كما تزيل الخوف من صفوفه وتطرد كل إحساس بالأسر والعبودية لديه ثم تشحن النفوس بالجرأة والشهامة" (ج1، ص122 ـ 123)
    وشهادة الإمام الحسين(ع) هي من نوع الظاهرة الثانية التي تسمو بالنفوس وتحلق في أجواء الحرية، وتُولد في نفوس المسلمين روح المقاومة وتكسر حاجز الخوف والاستعباد في عملية صياغة جديدة للشخصية الاسلامية، وهذا ما أشار إليه الشهيد بقوله "وهذا ما حصل بالضبط بعد استشهاد الإمام الحسين، حيث انبعث الإسلام برونق جديد، وهذا الأثر النوراني إنما برز من خلال حركة المقاومة والصمود الحسينية التي أحيت روح المسلمين وأزالت عنهم حس العبودية والأسر التي كانت سائدة منذ أواخر عصر عثمان، وفي أثناء دورة حكم معاوية وكسرت حاجز الخوف المتزايد لديهم، بعبارة أخرى أعادت صياغة الشخصية للمجتمع الإسلامي ليشعر المجتمع من خلالها بوجود شخصية خاصة به، ويتولد عنده إحساس بالعزة والكرامة وامتلاك القيم المثالية التي تخصه دون غيره من المجتمعات الأخرى، بحيث إنه يصبح مكتفياً ذاتياً، وعندما يصل مجتمع ما في سلم التطور إلى مثل هذه الحالة، أي أن تصبح لديه فلسفة مستقلة في الحياة، يستطيع المباهاة بها، والفخر بحياته المستقلة القائمة على تلك الفلسفة، عندها يمكن القول بأن هذا المجتمع استطاع الحفاظ على حماسه وملحمته، ذلك أنه استطاع أن يحافظ على فلسفته المستقلة الخاصة النابعة من كيانه ووجوده وأن يؤمن بها ويعتقد بأنها هي الأفضل والأرقى والأحسن، وأن من حقه التباهي بها بين الأمم" (ج1،ص123).
    ومع فقدان الأمة لفلسفتها المستقلة فإنها تفقد مقومات وجودها وسيكون مصيرها الذوبان في الأمم الأخرى، في حين أن الأمة التي تحافظ على مثل هذه العقيدة، حتى وإن سلبوا منها كل شيء تستطيع، أن تصمد وتقف على قدميها، وبعبارة أخرى يمكن القول بأن القوة الوحيدة التي تمنع ذوبان أي أمة في أمة أخرى أو أي فرد في فرد آخر هي القوة النابعة من هذا الخلق العظيم، خلق امتلاك الشخصية المستقلة (ج1، ص124).
    ولذلك نراه اليوم يتوجه إلى الأمة الإسلامية، حيث يرى أنها أمة مستلبة، فيقول: "تعساً لحالة الاستلاب هذه وهي الحالة التي تسود مجتمعنا اليوم بكل أسف" (ج1، ص124).
    وفي مكان آخر يقول: "إن الأمة التي تفقد الإيمان بفلسفتها الخاصة المستقلة للحياة وتصبح مرعوبة من قِبَل أمة أخرى، تصبح تابعة لتلك الأمة في كل تفكيرها وتتصور أن الآخرين هم الذين يفكرون بدلاً عنها، وأنها في الأساس غير قادرة على الحكم والبتّ في قضايا الحياة بدون الآخرين" (ج1، ص124ـ125).


    [align=center]أبعاد الثورة الحسينية[/align]


    ينطلق الشهيد في حديثه عن النهضة الحسينية من نظرة شمولية بحيث يعتبرها نهضة ذات معانٍ ووجوه وأبعاد مختلفة، ويرفض تجزئتها، ويرجع السبب في وجود التفسيرات المتعددة لهذه النهضة لمحاذاة العوامل لبعضها البعض وتداخل تأثيرها، ولذلك نراه يتناول بعض العوامل المتداخلة فيها كل على حدى ليثبت فيما بعد أن هذه العوامل جمعاء تشكل الأبعاد الحقيقية للنهضة.
    ولذلك يقول أنه عندما يتم تناولها من زاوية بعض العوامل المتداخلة "نرى أنها تظهر وكأنها محض تمرد وعدم استسلام للسلطة الجائرة، ورفض الرضوخ لمطالب الحكم غير الشرعية، فمن هذه الزاوية نرى أن هذه النهضة عبارة عن عملية نفي وعدم تسليم للأمر الواقع، وهذه الناحية نعرفها جميعاً(ج1، ص140).
    والعامل الآخر الذي يتداخل في هذه النهضة هو عنصر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو ما ورد بوضوح وبشكل صارم في أقوال الحسين بن علي(ع) وبيّنته الشواهد والدلائل الكثيرة، ويضاف إلى ذلك عامل إتمام الحجة، الذي يتجلى بما أرسله أهل الكوفة من رسائل واستجابة الحسين(ع) لهم (ج1،ص141).
    ومن ناحية الأبعاد الأخرى لهذه الحركة هو بعدها التبليغي، وباختصار فإن هذه النهضة في الوقت الذي كانت فيه تعني الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من جهة، وإتماماً للحجة من جهة أخرى ،وفي ذات الوقت الذي شكّلت فيه نوعاً من عدم الاستسلام لشروط ومطالب السلطات الغاشمة لذلك العصر والزمان، فإنها شكلت في أحد أبعادها معنى التبليغ وأداء الرسالة والتعريف بالإسلام (ج1، ص142).
    ومن المفيد الإشارة إلى أن الشهيد يميز بين العمل التبليغي ومسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.



    [align=center]شروط نجاح الرسالة[/align]

    أما عن شروط نجاح أية رسالة فيرى أنه يجب أن تتوفر فيها أربعة شروط أساسية، وإذا لو لم تتوافر هذه الشروط مجتمعة، فإنها ستخلق أشكالاً أخرى مختلفة عن الأصل، وهذه الشروط الأربعة كما حددها الشهيد هي:
    الشرط الأول: عقلانية الرسالة وقوة محتواها، أي أن تكون منسجمة مع الطرح الفكري والعقلي للإنسان، وبالتالي قادرة على جذب عقل الإنسان نحوها (ج1، ص149)، وأن تكون متطابقة مع الحاجات البشرية العامة، لأن الرسالة التي تتصادم مع الحاجات الطبيعية للبشر لا تستطيع أن تكون رسالة موفقة (ج1،ص150)، وبعبارة أخرى فإن نجاح أي رسالة يرتبط بالرسالة نفسها، بمقدار غناها وقدرتها المعنوية وبتعبير القرآن بحقانية الرسالة نفسها، وهذا شرط لا يتعلق بالرسول، بل بالرسالة نفسها (ج1، ص159).
    والشرط الثاني هو ضرورة وجود الرسول الذي يتمتع بمميزات وخصائص تؤهله للقيام دوره الرسالي، وفي ذلك يقول: "هناك عوامل أخرى لنجاح أي رسالة لا ترتبط بماهية ومحتوى الرسالة، بل ترتبط بالرسول الذي لا بد أن يمتلك خصائص وكفاءات يتحلى بها"( ج1، ص160).
    والشرط الثالث المطلوب توفره يتعلق بالوسائل والأدوات المستخدمة في إبلاغ الرسالة، فالرسول لا بد أنه بحاجة إلى سلسلة من الأدوات والوسائل الضرورية والتي بدونها لا يمكنه إبلاغ رسالته إلى الناس.
    والشرط الرابع يتمثل في الطريقة والمنهج والأسلوب الذي يتبعه الرسول، أي كيفية إبلاغ الرسالة (ج1، ص160).
    أما في ما يخصّ الوسائل والأدوات اللازمة لإبلاغ الرسالة، فإن الشرط الأول يتمثل بمشروعية الوسائل المستخدمة في التبليغ، ولا يجوز القول بأن "الغاية تبرر الوسيلة"، لأن هذا المبدأ مرفوض في منهج الإسلام (ج1، ص161).
    فهناك للأسف البعض يستخدم وسائل وأدوات غير مشروعة من أجل الوصول إلى أهداف بحد ذاتها مشروعة، ولو دققنا في هؤلاء الناس نرى أنهم في الحقيقة إنما يتخذون من تلك الوسائل بالذات أهدافاً وغايات وما حديثهم عن الغايات المشروعة سوى محض ادعاء (ج1، ص161).
    ولذلك يحذر من الانصراف عن الهدف الحقيقي إلى مسائل شكلية تصبح هي الهدف بحد ذاته أو أن يصبح مجرد القيام بها هدفاً ليس إلاّ، ولذلك يعرض على سبيل المثال موضوع التمثيل والمسرحية التي تقام في عاشوراء (وتسمى بمسرح الحسين) وهو أمر كان كثير التداول في طهران سابقاً، وهو في الواقع نوع من التمثيل المسرحي لحادثة كربلاء، وتمثيل قضية كربلاء بحد ذاته ليس فيه إشكال ما دام الأمر لا يتعدى موضوع عرض واقعة كربلاء على شكل مسرحية، ولكننا رأينا بأم العين وكما هو ظاهر للجميع، بأن مسألة التمثيل أصبحت بحد ذاتها هدفاً للناس، ولم يعد الموضوع موضوع الإمام الحسين(ع) وعرض قصة كربلاء، وتمثيل الواقعة، لأن عناصر وقضايا كثيرة دخلت على عرض الواقعة جعلتها أشبه بكل شيء عدا حادثة كربلاء وقضية الإمام الحسين(ع) (ج1، ص162).
    أما بقية الوسائل كالشعر ـ والألحان المشروعة ـ والدعاء ـ والأناشيد _ واستخدام الميكروفون ، فيعتبرها جميعاً وسائل لا بد منها، ولا يجوز لنا إغفال هذه الوسائل والإمكانيات الحديثة، فقد ظهرت وسائل في العصر الحديث لم تكن متداولة في العصر القديم، ولا يجوز لنا الاكتفاء بوسائل العصر القديم، المهم أن نميّز بين الوسيلة المشروعة والوسيلة غير المشروعة (ج1، ص175).
    ويذهب في ميدان استدلاله على الوسائل المشروعة في خدمة قضية الإمام الحسين(ع) إلى ما قام به الإمام الحسين(ع) نفسه وأصحابه حيث أنهم "لم يتركوا وسيلة ممكنة إلا واستخدموها في حربهم للظالمين، حتى وهم تحت حرارة الشمس اللاهبة، وذلك من أجل إبلاغ رسالة الحسين وإيصال رسالة الإسلام، فكانت الخطب المهيّجة والعاطفية والمحركة للقلوب والعقول، مع الحرص والحفاظ على جمالها وفصاحتها وبلاغتها المتناهية (ج1، ص175)، كما أنهم عبأوا كل الوسائل والإمكانيات التي بحوزتهم في خدمة التبليغ والدعاية للمعركة الفاصلة، حتى أن الصورة التي عكسها ترتيب الخيم، ومسرح العمليات الحربية، فقد رسمت شكل عرض تاريخي مثير، وكأن الإمام الحسين(ع) أراد لهذه الصورة أن تبقى مشهداً تاريخياً عظيماً يهز الأبدان والنفوس في الأجيال إلى يوم يبعثون (ج1، ص177).




    موقع بينات
    يا محوّل الحول والاحوال ، حوّل حالنا إلى أحسن الحال......








  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jul 2004
    الدولة
    هناك
    المشاركات
    28,205

    افتراضي

    [align=center]منهج التبليغ وأساليبه [/align]

    إن الشهيد مطهري وفي حديثه عن منهج التبليغ والأساليب المتبعة لنجاحه يقول: إن أحد شروط نجاح أي عمل تكمن في اختيار وانتخاب الطريقة والأسلوب الصحيح (ج1، ص182) لنقل وإيصال الرسالة إلى الناس، أي توعية الناس بالرسالة وإقناعهم بها وجذبهم إليها... ولو حصل أن اختار الإنسان الأسلوب المعاكس، فإنه ليس فقط سوف لا يحصل على نتيجة إيجابية من العمل، بل إنه سيجني حتماً نتيجة معاكسة تماماً..(ج1، ص184).
    ويلفت الشهيد إلى أن القرآن الكريم قد بيّن الطريقة والأسلوب والمنهج الواجب اتباعه في التبليغ، إما بواسطة آياته مباشرة، أو عن طريق أحاديث الأنبياء، وعلى ألسنتهم، ومن القضايا المهمة التي أكد عليها القرآن الكريم في مجال أسلوب وطريقة التبليغ هي كلمة "البلاغ المبين" (ج1، ص184).
    ولذلك ـ يقول ـ فإن على المبلغ والرسول الذي يريد أن ينطق بلسان الأنبياء، ويتكلم مثلهم، وينهج طريقهم، عليه حقاً أن يكون بلاغه بلاغاً مبيناً (ج1، ص185)، وكذلك على المبلغ أن يكون ناصحاً وخالصاً ومخلصاً، أي أن لا يهدف في تحقيق أي هدف أو غرض أو غاية، سوى إبلاغ وإيصال الرسالة المترتبة عليه، أي الخير للطرف المقابل، وذلك بكل إخلاص وخلوص نية (ج1، ص186)، إضافة إلى ذلك فإن من المسائل المتوجبة في التبليغ عدم التكلف والتواضع، حيث ينبغي على المبلغ الابتعاد عن مظاهر الادّعاء والأنانية (ج1، ص189).
    ويضاف إلى ذلك مسألة الرفق واللين، أي الابتعاد عن مظاهر الخشونة، ولكن من جانب آخر يجب أن يكون الإنسان صلباً، ومحكم البنية، وشجاعاً لا يخاف أحداً غير الله (ج1، ص191)، وغير ذلك من أمور كالصبر والاستقامة(ج1، ص195).
    كما أن القرآن أكّد على ضرورة اتباع إحدى الخصائص البارزة جداً في الأسلوب التبليغي الذي اتّبعه الرسل والأنبياء، ألا وهو عدم التفريق بين طبقات الناس في تبليغ الإسلام (ج1، ص193).
    ثم لا يلبث أن يتناول عملية التبليغ وسبل إيصال مضمون الرسالة أو الواقعة، فيرى أن حادثة عاشوراء تحمل قابليات تحولها إلى مسرح فيقول: كما أن كلمات وآيات القرآن الكريم قابلة لاستيعاب نوع خاص من الألحان بسهولة بلحاظ لفظها وفصاحتها وبلاغتها وسلاستها، وهو ما يشكّل بدوره آية كبيرة جداً من آيات الحكمة الربانية ينفذ من خلالها القرآن إلى القلوب، فإن المرء عندما يطالع تاريخ واقعة عاشوراء يلاحظ فيه استعداد وقابلية تحول هذه الواقعة إلى مسرح وتمثيلية تاريخية، وكما أن القرآن الكريم لم يأتِ بهدف استيعاب الألحان لكنه يحمل في طياته هذه القابلية، كذلك حادثة كربلاء لم تصنع بهدف أن تصبح مسرحية أو تمثيلية، لكنها تحمل هذه القابلية (ج1، ص206).



    [align=center]واقعة كربلاء تجسيم عملي للإسلام [/align]

    بالاضافة إلى ما ذكره الشهيد من أن هذه الحادثة تحمل في طياتها قابلية التمثيل، وإمكانية العرض المسرحي، وأنها تحمل موضوعات كثيرة في سياقها العام، كما لو أنها أعدت للعرض والتمثيل. فإنه يقول بـ"أن هذه الناحية من حادثة كربلاء فيها سر آخر"، ولكي يعطي مدلولاً أفضل لقضية الحسين(ع)فإنه يستخدم تعبير حادثة وليس نهضة أو ثورة، لأن هاتين الكلمتين باعتقاده لا تعبران تماماً عن عظمة هذه القضية، وفي ذلك قوله:"ولمّا كنت لم أعثر على كلمة مناسبة تبيّن هذه العظمة، لذلك ارتأيت استخدام هذا التعبير الكلي، وأقول حادثة كربلاء ولا أقول ثورة، لأنها أكثر من ثورة، ولا أقول نهضة، لأنها أكثر من نهضة"(ج1، ص220).
    ويذهب الشهيد في تعظيمه لهذه الحادثة إلى درجة أنه جعلها ـ وهو كذلك ـ تجسم عملياً الإسلام في كافة أبعاده ونواحيه، في العقيدة وفي السياق الفكري وفي العمل وفي مرحلة التحقق والتطبيق، وهذا الذي يجعلها قابلة للتمثيل والعرض المسرحي (ج1، ص220).
    ولكن الشهيد لا يترك الأمور تجري على غاربها فيحدد الفروقات بين "التجسيم الميت الفاقد للروح والتجسيم الحي للفكرة، فالكائن الحي عندما يجسم الفكرة تصبح الفكرة حقيقة، وهذا ما لا يمكن أن يؤديه أي تمثيل وأي مسرح كان، لا سيما تلك المسرحيات التي تقام اليوم هنا وهناك، فهذه مسرحيات وتمثيليات عارية عن الحقيقة" (ج1، ص221)، ولكن التمثيل الحقيقي ـ برأيه ـ هو ليس ذلك التمثيل الذي يتجاوز دور التمثيل فقط، بل الذي يتعداه إلى الرسم الواقعي للحقيقة، أي عملية تفريغ واقعي للحدث (ج1، ص221).
    وحادثة كربلاء هذه ينطبق عليها المبدأ الثاني لأنها "عبارة عن تمثيل وتصوير واقعي لجنود الإسلام، ولكن ليس محض تمثيل أو تصوير خارجي لا يتعدى صناعة الشخصيات الخيالية والعرائس والألعاب التمثيلية التي لا تمتّ إلى الواقع بصلة، فأنت ترى مثلاً الآية الكريمة {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة}، قد طبقت بشكل عملي في واقعة كربلاء، كما أن غيرها من الآيات الأخرى من القرآن الكريم (ج1، ص221) التي تتحدث عن هذا الموضوع قد طبقت في الواقعة.
    وفي إطار معالجته لواقعة كربلاء لم يُغفل الشهيد البعد الزماني وما يعكسه من مفاهيم ثقافية وتصورات تأتي غالباً منسجمة مع الجو الفكري والثقافي السائد في مرحلته، كما أنه يلحظ في الوقت نفسه عنصر الذهنيات وما ينطبع فيها من تحليلات وتصورات تعكس رؤية أصحابها للواقع ـ الحدث، ولذلك نراه يصيغ تصوراته للقضية الحسينية ونظرته الشاملة من زواياها المتعددة، وهذا ما يعكسه بقوله: نحن نرى أن التحليلات والانطباعات عن واقعة كربلاء متفاوتة على طول التاريخ، ذلك ان انطباع دعبل الخزاعي وهو من الشعراء المعاصرين للإمام الرضا(ع) الذي رأى جوانب التمرد والرفض في القضية يختلف عن انطباع ورؤية الكميت الأسدي، وهو من الشعراء المعاصرين للإمامين السجاد والباقر(ع)، وهذا بدوره يختلف عن رؤية المحتشم الكاشاني الذي رأى الجوانب المحزنة والمؤثرة والرثائية في القضية، أو الساماني أو صفي عليشاه مثلاً، فهذان الشاعران حلّلا الحادثة بشكل يختلف عن رؤية الكاشاني لها حيث كانت انطباعاتهما انطباعات عرفانية، وتدور حول مفاهيم العشق الإلهي، وما إلى ذلك ولإقبال اللاهوري أيضاً رؤيته الخاصة عن واقعة كربلاء. (ج1، ص222 ـ 223).
    وانطلاقاً مما تقدم يرى الشهيد أن هذه الانطباعات كلها صحيحة في الأساس، ولكن كل واحدة منها لا تمثل إلاّ بعداً واحداً، لأن قراءتها من خلال النظرة الآحادية إلى الحدث، تجعل نظرتنا له خاضعة إلى طغيان العامل الواحد "فهذا رأى فيها الجانب الأخلاقي، وذاك تحدث عن الجانب الحماسي، وآخر تطرق إلى جانب الوعظ والإرشاد، وكلهم قد قالوا حقاً بشأن القضية، ولكن كل واحد منهم إنما تحدث عن جانب واحد، وعضو واحد من الكيان، وليس عن تمام الكيان" ولذلك وانسجاماً مع نظرته الشمولية يدعو "إلى مراجعة ومطالعة القضية الحسينية حيث طبق الامام الحسين(ع) كليات الاسلام عملياً في واقعة كربلاء، وجسّمها تجسيماً حياً حقيقياً وواقعياً، وليس تجسيماً لا روح فيه" (ج1، ص223).
    وكربلاء هذه قد دعا الشهيد إلى مراجعتها وقراءتها بتأن، لأن من يسبر أغوارها بعمق "يرى أموراً محيرةً ولا يقدر أن يتصور أنها أمور حصلت مجرّد صدفة، ولذلك فإن السر وراء الإصرار المتزايد للأئمة الأطهار وتوصياتهم المحققة بضرورة إحياء وتخليد هذه الذكرى يعود في الواقع إلى رغبتهم وإرادتهم القاضية بضرورة إحياء وتخليد الإسلام المجسّم المتمثّل بهذه الحادثة...(ج1، ص223)
    ويرى الشهيد أن التجسيم الحقيقي لواقعة كربلاء إنما يأتي في سياق حركة التكامل بين مختلف الفئات والشرائح الاجتماعية ومختلف الأقوام والأجناس، لأن هذا التكامل هو الذي جعلها شاملة ومستوعبة لكل الأبعاد حيث لعب فيها الجميع أدواراً ريادية الرجل والمرأة، الشيخ والشاب والطفل.. الأبيض والأسود، العرب وغير العرب، والطبقات الاجتماعية المختلفة (ج1، ص224)، كذلك جاءت شاملة لكل جوانب الإسلام الأخلاقية والاجتماعية بالإضافة إلى جوانب الموعظة والحكمة والتمرد والتوحيد والعرفان والعقيدة، والتي جاءت مجسّمةً ومبلورةً في الحسين وأصحاب الحسين وأهل بيته (ج1،ص234).



    [align=center]شروط المبلغ والتأثير الدعائي (التبليغي)[/align]


    ويتطرق الشهيد في معالجته لقضية الخطيب والمبلغ فيؤكد على أهمية الجانب الإجتماعي والتاريخي في التركيز على القضايا، فيرى أن قضية شروط المبلِّغ والرسول هي من المسائل التي تم إهمالها من قبل المجتمعات الاسلامية، في الوقت الذي تمت فيه المحافظة على قيمة بعض القضايا والعناوين، ويضرب بعض الامثلة من الواقع الحسي والملموس عن بعض المواقع التي لا تزال تحتفظ بأهميتها كمقام الإفتاء والمرجعية الدينية ـ مرجع التقليد ـ وهو مقام روحاني رفيع، الذي ما إن يسمع المطّلع والعارف بالشؤون الدينية على هذا المقام "فإنه سيتبادر إلى ذهنه على الفور ذلك الرجل الذي لا يقلّ عمره كحدّ أدنى عن أربعين أو خمسين عاماً قضاها في السعي، والتحصيل والمعاناة ودراسة القرآن والتفسير والحديث والفقه لدى عدد من الأساتذة العظام، إضافة إلى سنوات التدريس التي أمضاها في تخريج طلبة العلم وكتابة الكتب التي حررها قلمه الشريف"(ج1، ص260)
    وذلك على عكس ما كان سائداً في عصور الإسلام الماضية حيث لم يكن الأمر كذلك، فيقول: "لو راجعنا كتب الرجال سنرى أن عدداً كبيراً من العلماء كان يعرف باسم الواعظ والخطيب، كالخطيب الرازي والخطيب التبريزي والخطيب البغدادي والخطيب الدمشقي، وكلمة الخطيب هذه لم تكن إلا جزءاً من أسمائهم، فما هو مقام هؤلاء العلماء الذين ذكرناهم الآن؟(ج1، ص261)
    ويُجري المطهري مقارنة بين هؤلاء الخطباء وما هو سائد اليوم في ساحة الوعّاظ أو قرّاء التعزية، فيجد أن هناك فرقاً شاسعاً بين أولئك الخطباء حيث أن كل واحد من هؤلاء الذين لُقّبوا بالخطباء بحد ذاته بحراً من العلم وبمستوى مقام مرجع التقليد، وكان مقامه يستوحى منه واجب التعريف بالإسلام (ج1، ص261)
    ونرى الشهيد لايسلم بأهلية الخطيب (الواعظ أو قارئ التعزية) ومستواه العلمي إلا بعد إجراء الفحص والاختبار والقيام بعملية تقصي شاملة للتأكد من أهليته، كما هو الحال في عملية التأكد من أهلية مرجع التقليد، وفي ذلك قوله: "يعني تماماً أنه لو جاءك اليوم أحدهم وادّعى بأنه صاحب رسالة في المسائل الفقهية والدينية العامة، وأنه من مراجع التقليد فإنه من المستحيل أن تقبل به هكذا، بل إنك ستسأله على الفور أين قرأت وعلى يد أي مجتهد تتلمذت؟ أو أنه كيف صار مجتهداً وهو لا يزال في سن الأربعين مثلاً؟ فلقد كانوا في الماضي ينظرون إلى مقام المبلِّغ بهذه الدقة أيضاً، فالأمر ليس سهلاً بهذه الصورة حتى يأتي أحدهم ويدّعي المرجعية وهو لا يزال في سن الأربعين، ولا يدري أن المسألة تحتاج إلى الدرس الكثير، وربما تحتاج القضية إلى أربعين أو خمسين عاماً من الدرس والتحصيل والتدريس حتى يستطيع المرء الوصول إلى هذه المرتبة التي تسمح للآخرين منحه لقب المجتهد والفقيه والمُفتي بحق، ويصبح عندها جديراً وكفؤاً ولاستنباط واستخراج الأحكام الفقهية والشرعية" (ج1، ص262).
    وعلى ضوء هذا يُظهر الشهيد خشيته من انحراف المجتمع نحو أشخاص من دون أن يراعوا تحصيل الشروط والقيم، التي تؤهل الفقيه لكي يكون مرجعاً للتقليد تماماً كما جرى التعاطي مع الخطباء غير المؤهلين وعند ذلك "يبدأ الناس بقبول أشخاص في سلك المرجعية ممن ليس لهم صلاحية مثل هذا المقام والموقع، لكن هذا المقام محفوظ والحمد لله ويجب أن نحافظ عليه أكثر" (ج1، ص264).
    والشهيد يعتبر "أن مقام المبلِّغ للإسلام والداعية الإسلامي الذي يُبلِّغ الرسالة الإسلامية لعموم الناس والتعريف بالإسلام باعتباره مدرسة الحياة، هو في الواقع ليس أقل قيمةً من مرجع تقليد المسلمين، لا يحتاج الأمر منكم إلى العجب، فمقام بهذه الحدود، يجب أن يمتلك مؤهلات كبيرة، مع العلم أن هناك أموراً مطلوب توافرها في مرجع التقليد، لكنها غير مطلوبة في شروط المبلِّغ" (ج1، ص264).
    ومرة أخرى يُحمل المطهري المجتمع مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع، لأنه يهمل المعايير الواجب توفرها في الخطيب، ويعرض للطريقة التي يرتقي فيها الخطيب سلم المقام التبليغي لواقعة عاشوراء، فيرى "أن أي فرد في المجتمع اليوم يملك صوتاً جميلاً ولديه قدرة بسيطة في تلحين الشعر وحفظ عددٍ بسيط من الأشعار تراهُ يتدرّج شيئاً فشيئاً ليصبح مداحاً في المناسبات الحسينية، فيقف جنب المنبر الحسيني ويبدأ بقراءة بعض المديح وبعض المراثي الحسينية في البداية" (ج1، ص264).
    ثم تراه فجأةً بعد مرور فترةٍ بسيطة قد وضع شالاً (أسوداً أو أخضراً) على كتفه وأخذ يقف هذه المرة على الدرجة الأولى من المنبر الحسيني ـ وليس بجانبه ـ ثم يبدأ بالقراءة والخطاب الحسيني مدةً من الزمان، وسرعان ما يبدأ الفرد ينقل من كتاب (الجودي) أو (الجوهري) أو (جامع التفصيل) قصةً من هنا وحكايةً من هناك، وإذا سألته من أين لك بهذه الحكاية قال لك من "صدر الواعظين" أو "لسان الواعظين" فتتصور أنك للوهلة الأولى أنه يُحدِّثك عن كتاب لا تعرفه أو لم تسمع به، ولكنك إذا ما دققت قليلاً تفهم أنه يقصد أن أحداً من الوعّاظ قد نقل له شفهياً هذه الحكاية أو تلك القصة، وبالتالي فإنّ حكاياته أغلبها قد سمعها من هذا أو ذاك من الناس، ولا يهمه إن كانت صحيحة أو كاذبة أو مُلفّقة، فهو لا يدري ما الخبر أصلاً وعمّ يدور الحديث، فكل ما يهمه هو الاستمرار في المهمة بهذا الشكل التصاعدي، حيث تراه بعد حين قد جمع في هذه الأثناء عدداً من المنبريين الخاصين به من مستمعيه، وشيئاً فشيئاً تراه يصعد الدرجة الثانية من المنبر الحسيني، ويبدأ عوام الناس بالالتفاف حوله. ولما كانت أكثرية الناس تبحث عن المجالس المكتظة، ولما كان أصحاب المجالس الحسينية لا يهمهم في الدرجة الأولى سوى كثافة الحاضرين، فإن أمثال هؤلاء الوعاظ! يزدادون وينتشر سوقهم دون أن يفكر صاحب المجلس الحسيني عن السبب وراء هذا الحشد من الناس. فهل المهم أن يكتظ المجلس بالمستمعين أم أنّ المهم ماذا سيسمعون؟! إنها خيانة للإسلام أن يكون الوعظ والتبليغ قد بدأ من مرتبة القدرة على تلحين بعض الأشعار(ج1، ص264 ـ 265).
    ويضيف الشهيد: "يبدو أن هذا الأمر قد أصبح قاعدة عامة ومنتشرة في كل مكان، وقد أصبح للأسف معياراً وملاكاً، وهو ما رأيناه ولمسناه في كثير من الأماكن التي زرناها، ولكن الويل لنا إذا ما بقينا على ما نحن عليه في هذا المجال، فنحن الآن نعيش عصر العلم والشك والتردّد، إننا نعيش عصراً مليئاً بالشبهات التي تُثار حول الإسلام ويزداد فيه المخالفون للإسلام، وليس هناك يوم يمر إلا ويقرأ الإنسان مقالة أو حديثاً أو خبراً ضد الإسلام في المجلات والصحف اليومية أو يسمع من هذا القبيل عن طريق الراديو أو التلفزيون وسائر الوسائل الإعلامية الحديثة"( ج1، ص265)، في حين يفهم الشعب إسلامه من مثل هؤلاء الأفراد.
    وبعد أن يستعرض الشهيد الطريقة التي يرتقي فيها الخطيب سلم المقام التبليغي، يتحدث الشهيد عن الواقع الصعب الذي يواجه الخطيب في هذه الأيام ، ويرى أنه يجب على المبلِّغ أن يُحسن القول ويملك القدرة على الاستدلال، وأن يتحلى بعدد من الخصال وأن تتوفر فيه جملة من الشروط منها:


    الشرط الأول الذي ينبغي أن يتوفر في أي مبلِّغ هو معرفته بالرسالة التي يريد تبليغها أن يكون مُدركاً لهدفها وأسسها ومبادئها، وأن يعرف الطريق الموصل إلى تحقيق ذلك، والإطلاع على ما تحتويه تلك الرسالة من قيم أخلاقية واقتصادية وسياسية ومعرفية، والمنهج الذي تعتمده وما تتضمنه من شرائع وأحكام ومقررات، وإلا فكيف يمكننا أن نتصوّر أن بإمكان أحدٍ أن يُبلّغ رسالة ما إلى الناس دون أن يعرفها ويُدرك معناها؟ فهل بإمكان المرء أن يصبح مرجع تقليد الأمة ويُصدر الفتاوى الفقهية دون أن يكون قد قرأ الفقه!! وهل نتصور المرء طبيباً ولم يدرس الطب مثلاً! من هنا يتبيّن لنا حجم وسعة المعلومات العلمية والمعرفية المطلوبة من أي مبلِّغ يُريد تبليغ الإسلام، فالإسلام مدرسة متكاملة ومجموعة عظيمة منسجمة ومتناسقة، أي إنه لا يُفيد فهم الإسلام بشكل مجتزأ، بل لا بد للمرء من أن يفهم لإسلام بشكل متكامل (ج1، ص266).

    الشرط الثاني الذي ينبغي أن يتوفر في حامل الرسالة ومُبلِّغها هو معرفته طرق وأساليب التبليغ، ومعرفة الوسائل التي يجب الاستفادة منها، والإمكانات الطبيعية التي ينبغي عليه أن يمتلكها (ج1، ص267).
    وفي المقابل ينطلق الشهيد من رؤية ثاقبة ومنصفة في آن، ففي الوقت الذي يتحدث فيه عن خطباء ارتقوا سلم المقام التبيلغي من غير مؤهلات، يرى أن هناك جماعة من الخطباء الأقوياء والقديرين، سواء بلحاظ بيانهم أو قدراتهم وملكاتهم الأخرى، بذلوا جهوداً مهمة وسعوا باستمرار في سبيل تطوير وتنمية ملكاتهم بمقدار ما كانت الظروف مساعدة لهم (ج1، ص269).
    و في سياق تعرضه للحديث عن التبليغ يعكس الشهيد نظرة المجتمع بعلمائه وناسه إلى هذه العملية، ويرى أنها نظرة مغايرة للمفهوم للقرآني، وهذا ما يؤثر سلباً على العمل التبليغي، ففي الوقت الذي يعتبر فيه القرآن عمل التبليغ والهداية والإرشاد عملاً صعباً وشاقاً للغاية ينظر المجتمع إلى هذا العمل باستخفاف حتى وصل الأمر بأهل العلم والفضل والثقافة أن يخجلوا من صعود المنبر وتولي أمر الخطابة، والناس بدورها قد ساهمت في سيادة هذه الأفكار، حتى أضحى من وجهة نظرهم أن الطلب من العالم صعود المنبر والقيام بمهمة التبليغ يحط من شأنه (ج1، ص272).
    ولكن الشهيد يقول إنه في مقابل ذلك يوجد أفراد يحملون الفضيلتين معاً، أي أنهم في موقع إمام الجماعة وفي الوقت ذاته لم يتركوا عمل الخطابة والتبليغ، غير أن مجتمعنا للأسف ينظر إلى إمام الجماعة نظرة احترام وتقدير أفضل مما هي نظرته إلى الخطيب والمُبلِّغ، في حين أن القيام بواجب إمام الجماعة بالوقوف أمام المصلّين والصلاة بالناس لا يحتاج إلى فن (ج1، ص273).


    [align=center]قضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر [/align]

    يدعو الشهيد إلى القيام بمراجعة نقدية شاملة تبحث في الوسائل والأساليب، التي تطرح فيها القضايا، للتحقق من القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على أكمل ما يرام، فيقول: "دعونا نراجع بدقة سير عمل هذه المجالس التبليغية والإرشادية، لنرى الجهد العام المبذول في هذا المجال، والمستوى الذي تطرح فيه القضايا، ومن ثم نوع القضايا التي عادة ما يتم طرحها في مثل هذه المجالس" ثم يركز على دور الكتاب وخاصة الكتاب الإسلامي الذي لا يزال يحتل المرتبة الأولى التعريف بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وكيفية تطبيقها فدعا إلى التحقق من مستوى هذه الكتب، والتدقيق في قيمتها المعنوية، بل والنظر في مستوى الكتاب المتصدين لهذه المهمة، والوقوف على أهدافها، ومضمونها، والمستوى الذي يتم من خلالها مخاطبة المسلمين، وما تعالجه من قضايا ومسائل، فإذا فعلنا ذلك، عندها سيصبح بإمكاننا تقييم نموّنا الاجتماعي، ومستوى تطّور قضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (ج2، ص138 ـ 139).


    [align=center]شعارات عاشوراء
    [/align]


    لنجاح أي عمل أو تحرك رسالي وضمان ديمومته، لا بد من أن تكون شعاراته منطلقة من رحم المبادىء التي يدعو إلى تطبيقها، وبما أن قضية الحسين(ع) من القضايا التي تعطي حيزاً كبيراً للشعار باعتباره الوسيلة التي تعبر عن مدلولات هذه الحادثة وقوة مضامينها، يطلب الشهيد بأن تكون الشعارات التي ترفع في اللطميات الحسينية، شعارات حسينية، كما أنه يطالب بالمواءمة بين ما نتج عن هذه الحادثة من مظاهر كالبكاء والحزن، والنواح على الحسين(ع) ومن أهدافها الإحيائية والنهضوية، فالأئمة الأطهار كانوا يطلبون على الدوام من الشعراء، وأصحاب المقامات، ومدّاحي أهل البيت، أن يقرأوا الشعر، ويُذكِّروا العالم بمصائب أهل البيت، وكانوا هم أنفسهم يبكون، ويذرفون الدموع الغزيرة، ولكنه يدعو إلى أن تكون الشعارت شعارات رسالية تختزن في مضمونها المعاني الجليلة لهذه الرسالة العظيمة، وليست شعارات نابعة من عنديات الناس، كأن يرفُع شعار: "يا علي الأكبر يا بني، أين شبابك.." فهذه الشعارات ـ يقول الشهيد ـ هي ليست من الحسين(ع) في شيء، لأن شعاراته من نوع آخر متميز، وذلك من قبيل "ألا ترون أن الحق لا يُعمل به، وأن الباطل لا يتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء الله محقاً"(ج2، ص194).
    ويقول أيضاً: "لا أرى الموت إلا سعادة، والحياة مع الظالمين إلاّ برماً". وعليه يمكننا القول إنّ شعارات الحسين(ع)، كانت شعارات إحيائية {يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم}(ج2، ص194).
    وهكذا كان الإمام الحسين (ع) واضحاً في تحركه، حيث عبر عن طبيعة أهدافه في رسالته التي بعث بها إلى أخيه محمد بن الحنفية، واعتبرت بمثابة الوصية: "إني لم أخرج أشراً، ولا بطراً، ولا مفسداً، ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدي وأبي"(ج2، ص194).
    لقد كُتبت الوصية في المدينة المنورة، أي منذ الانطلاقة الأولى حتى يعرف العالم أجمع أهداف التحرك الحسيني الذي لخّصه عليه السلام، في ضرورة الإصلاح في أمة جده، وإحياء سيرته صلى الله عليه وآله، تلك السيرة التي كادت أن تموت لولا قيامه عليه السلام (ج1، ص195).
    ومن هنا ـ يقول الشهيد ـ الآن نستطيع أن ندرك معنى إصرار الأئمة عليهم السلام، وتأكيدهم علينا، لضرورة إحياء عاشوراء وتخليدها، ومعنى الثواب والأجر العظيم الذي ينتظر كل من يساهم في عزاء أبي عبد الله (ج2، ص195).
    ويتابع قوله في تبيان الهدف من إقامة العزاء الذي يتميّز عن العزاء الذي يقام عندما يموت أي إنسان عادي لأن موت هذا الإنسان لا يرافقه أيّ أهدافٌ أو قيمٌة عليا، بينما المراد من قول الأئمة، بضرورة إحياء عاشوراء، وتخليدها، هو تخليد تلك المدرسة، التي كان يمثلها الحسين بن علي(ع)، ذلك الرمز والقوة الخالدة(ج2، 195).
    وإذا كان الحسين بن علي بشخصه، لم يعد موجوداً بيننا، فإن المطلوب أن يفتح الناس أعينهم، وينهضوا في كل عام، ومع طلوع كل محرم، ليسمعوا نداء الحسين يرن في آذانهم: "ألا ترون أن الحق لا يعمل به، وأن الباطل لا يتناهى عنه؟(ج2، ص195) "ليرغب المؤمن في لقاء الله محقاً"، وذلك من أجل أن نحيي ونحرك بصدق في أوساط شيعتنا إرادة الحياة، والرغبة الجامحة لجهة الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإصلاح مفاسد أمور المسلمين (ج2، ص195).
    وعليه إذا ما سُئلنا عما نريد قوله من خلال النداءات التي نطلقها بإسم الحسين في يوم عاشوراء، وما يرافقها من مظاهر أخرى كاللطم وغيره ، فإننا نستطيع القول بأننا نريد تكرار حديث سادتنا وأئمتنا، وينطلق الشهيد إلى أبعد من ذلك عندما يدعو إلى أن نجدد الحياة في المحيط الذي حولنا، لنُعلن: {يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم}، بحيث تكون عاشوراء كما يراها يوم إحياء، وتطهير الأنفس في الكوثر الحسيني، ولتكون مناسبة لنتعلم منها مبادئ الإسلام، وأسس الدين وبعث روح الحياة (ج2، 196).
    وانطلاقاً مما تقدم يرفض الشهيد نسيان واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما يرفض لحسّ الشهادة والجهاد والتضحية في سبيل الحق، أن يبتعد عنا، وأن تموت فينا روح الفداء في سبيل الحق (ج2، ص196 ـ 197).
    هذه هي فلسفة عاشوراء الحقيقة، لا كما يُريدها البعض لارتكاب الذنوب، ثم تأتي المناسبة، فنشترك فيها، حتى تغفر لنا ذنوبنا‍! ويقول إن الذنوب تغفر في الواقع، عندما تُجبل أرواحنا مع روح الحسين بن علي، ولكن علامة الغفران لا تتحقق إلاّ بعدم العودة إلى الذنوب مُجدداً، أمّا أن نرتكب الذنوب، ثم ـ كما يقال ـ نحضر مجلس الحسين(ع)، ونخرج منه، فنرتكب الذنوب مرة أخرى، فمعنى ذلك، أنّ روحنا، لم تتحد حقاً مع روح الحسين بن علي(ع).
    وتأكيداً لما كان قد تحدث عنه الشهيد من أنّ شعارات أبي عبد الله هي شعارات إحياء الإسلام، تراه عليه السلام يتساءل عن سبب احتكار البعض لبيت مال المسلمين وعن سبب تحليلهم لحرام الله، وتحريمهم لحلاله، وتقسيمهم للناس إلى فقير لا يجد قوته، وغني مُتخم مُصاب ببطنة تمنعه من الحركة؟ فيدخل هذه التساؤلات في مسار الحركة، فمثلاً تراه يذِّكره بحديث رسول الله(ص) الذي يقول فيه إنه "من رأى سُلطاناً جائراً...." ولم يُغير عليه في شيء، ويسكت على ذلك الظلم فإنه كان حقاً على الله أن يُدخله مدخله" إلى أن يقول (ع): "ألا وإني أحقُ من غيري..."(ج2، ص197).
    و يختصر الشهيد أهداف مدرسة عاشوراء ومضمون شعاراتها، فيقول: وهكذا يجب أن تكون شعاراتنا في المجالس، والمسيرات، والمآتم الحسينية، شعارات إحيائية، وحماسية، وليست شعارات مُخدرة، ومُميتة للشعور، لأنها إن كانت كذلك، لن تصبح دون أجرٍ أو ثواب فحسب، بل إنها تُبعدنا عن الحسين(ع)، ولكي يكون في سكب الدمع على الحسين(ع) أجرٌ وثواب كثير، ويشترط الشهيد أن نفهم الحسين(ع) كما هو، وأن يدخل قلوبنا على حقيقته، لأن للحسين محبةً مكنونة في قلوب المؤمنين، ذلك أنّه (ع) تجسيد ح للإيمان (ج2، ص198)، فحيث كان يقف ينادي، وهو في تلك لحالة من جفاف الفم واللسان: "لا حول، ولا قوة، إلا بالله العلي العظيم". أي أن هذه القوة التي ترونها في الحسين ليست من الحسين، وما هي في الواقع إلاّ القوة الإلهية، التي تُنفخ في الحُسين (ج2، ص199).
    وقد كان وهو يعيش في أشد اللحظات حراجة "يرفع شعار التوحيد، في نفس اللحظة التي كان يمنح فيها الطمأنينة، لزينب، وآل البيت، بأنه لا زال على قيد الحياة، لا سيما وأنه كان قد أمرهم بعدم الخروج من الخيام، ما دام هو على قيد الحياة" (ج2، ص199).
    يا محوّل الحول والاحوال ، حوّل حالنا إلى أحسن الحال......








  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Oct 2004
    المشاركات
    401

    افتراضي

    أحسنتي أختي الكريمة منازار و شكراً جزيلاً لكِ.
    كما عودتنا فأن مواضعيك دائماً متميزة و مفيدة.

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Jul 2004
    الدولة
    هناك
    المشاركات
    28,205

    افتراضي

    احسن الله لكم وعظم الله اجوركم. ما عملنا الا نقطة مقابل مشاركاتكم وعملك الدؤوب لتنشيط واحة الكتب والبحوث موفقين باذن الله
    يا محوّل الحول والاحوال ، حوّل حالنا إلى أحسن الحال......








  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Jan 2010
    المشاركات
    2,154

    افتراضي

    موضوع يستحق القراءة بتأني ونشره بين الناس كي نميز بين مايطرح هذه الايام من قصص ليس لها واقع في معركة الطف الخالدة فقضية الحسين اعمق مما نتصور وفيها محطات لم يتناولها الخطباء وركزو على الجانب العاطفي فقط مع الاسف الشديد
    سننتخب من صوت ايجابا لقانون البنى التحتية

    وسنحرم من رفض اقراره ..اصبعنا البنفسجي

    لانهم انتقمو منا لاننا رفضنا رواتبهم التقاعدية



    وان غدا لناظره قريب (الخفاجي)

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
 
شبكة المحسن عليه السلام لخدمات التصميم   شبكة حنة الحسين عليه السلام للانتاج الفني