 |
-
مفارقات المشهد وأسئلته المدببة- بقلم: فهمي هويدي
مفارقات المشهد وأسئلته المدببة!
بقلم: فهمي هويدي
90 مدينة امريكية اعلنت رفضها الحرب فمتى يسمع صوت المدن العربية؟ يداهمنا السؤال ونحن نتابع نشرة الاخبار فينغرز في الخاصرة كسكين واذ تتوالى الاخبار بعد ذلك مصحوبة قائمة من التساؤلات المدببة والمقارنات المريرة التي تتحول الى سهام ترشق الجسم وتعذب الضمير فإن المرء يخرج منها مثقلا بالهم والحزن بل مثخنا بجراح نازفة اصابت فيه النخوة والكبرياء حتى يستحي من النظر الى وجهه في المرآة.
(1) تفضحنا نشرات الاخبار اذ تبدو اعلانات يومية صارخة تكشف عوراتنا السياسية مشيرة الى غيابنا تارة والى هزيمتنا تارة اخرى فالذين يدقون طبول الحرب والذين يقودون معسكر الموت وهم يحشدون حشودهم فوق الارض العربية ويوجهون صواريخهم وحاملات طائراتهم صوب اهداف عربية لا تشغل بالهم ولا تزعجهم الامة العربية وانما تؤرقهم اوروبا والصين وروسيا والذين يقودون الحملة ضد العرب ويرسلون الوفود الى العراق كي تتحول الى دروع بشرية في مواجهة الحرب ليسوا من العرب ولكنهم قادمون من اقطار اخرى وراء حدودنا الامر الذي يثير اكثر من سؤال حول عدم حضور الجماهير العربية وتفسير غيابها. سيقول قائل ان بعض العواصم العربية شهدت هذا الاسبوع نماذج من تلك المظاهرات الاحتجاجية وسيدعي اخر ان قياديا في هذا الحزب او ذاك صاح قائلا: لا لضرب العراق وان كان يشكر ويقدر موقف هؤلاء وهؤلاء الا ان الذي يعيش في العالم العربي ويسمع نبضه جيدا لا تقنعه مثل هذه المظاهر وبوسعه ان يقول بثقة ان الذي حدث كان من قبيل تلك المظاهرات والاصوات المتواضعة التي تعد جزءا من "الفيلم" اكثر منها تعبيراً عن الحقيقة ذلك ان احداثا جساما كتلك التي نشهدها الان واهوالا من قبيل تلك التي تلوح في افق الغد لا يمكن ان يكون صداها في الشارع العربي بتلك الدرجة من التهافت كما انها تتجاوز بكثير كل ما نسمع او نقرأ من "كلام ساكت" كما يقول السودانيون.
لابد ان يؤرقنا خفوت الصوت العربي ذلك ان ارتفاع ذلك الصوت علاوة على انه يعلن موقفا ويوصل رسالة الا انه وسيلة فعالة للتنفيس وتصريف شحنة الغضب المتراكم واذا سلمنا امرنا لله في الاولى وقلنا ان الرسالة يمكن توصيلها عبر وسائط اخرى فإن السؤال الذي ينبغي ان نفكر فيه طويلا هو اذا لم يتم تصريفها فاين تذهب شحنة الغضب التي تعتمل في صدور الناس؟ القلق يتضاعف حين يلقى علينا السؤال لأن غضبا من العيار الثقيل الذي نحن بصدده ذلك الذي تتراكم طبقاته من جراء اجتراح الكرامة والدوس على الكبرياء يتعذر ابتلاعه ونسيانه كما يتعذر حصاره او كتمانه طويلا اما الاستخفاف به فهو "ام الخطايا" في السياق الذي نحن بصدده ذلك ان الشارع العربي الذي لم يمت والحاصل في فلسطين دليل صحوته وحيويته ــ حين لا يتاح له ان يعبر عن غضبه من خلال الاساليب والقنوات المشروعة فيخشى ان نفاجأ به وقد حاول ان يوصل رسالته باساليب اخرى خارج القانون وخارج العقل والمنطق. قرأت قبل حين لمن قال ان كثيرين غادروا الشارع العربي الذي يبدو لنا احيانا انه خلا من الناس وان هؤلاء اضطروا في نهاية المطاف إلى اللجوء الى السرداب او "البدروم" العربي لذلك ففي حين يبدو الشارع ساكنا وساكتا فإن الصخب كله والغضب كله انتقل الى ذلك السرداب الذي يكبر يوما بعد يوم. حين وقعت على الفكرة قلت:اليس ذلك شأن البراكين دائما؟!
(2) في الخامس من فبراير الحالي عقد مؤتمر مشترك للعديد من الكنائس صدر عنه بيان قوي رافض للحرب التي اعتبرها غير مبررة اخلاقيا ودينيا وتضمن البيان تنديدا بمبدأ اللجوء الى القوة العسكرية بدلا من المساعي السياسية لحل الخلافات، راجعت قائمة المشاركين في المؤتمر فوجدته ضم ممثلين عن: مجلس الكنائس العالمي ومؤتمر الكنائس الاوروبي والمجلس الوطني لكنائس المسيح في الولايات المتحدة ومجلس كنائس الشرق الاوسط واذ تزامن ذلك مع نداء البابا بولس الثاني في الفاتيكان فإنني لم استطع ان اكتم شعورا بالحسرة عبر عنه سؤال عن موقف المنظمات والمراجع الاسلامية الرسمية من الحرب التي لم يسمع لها بدورها صوت يذكر وان سمعنا اصواتا قوية لعدد من العلماء في هذا القطر العربي او ذاك. لم اكن وحدي في الشعور بالحسرة فقد قرأت مقالة لاحد الالمان من اصل عربي هو جمال قارصلي المنتخب نائبا في برلمان ولاية شمال الراين ردد فيها ذات السؤال قائلا: اليس مخجلا ان تعلن الكنائس مجتمعة رفضها الحرب ضد العراق فيما لا نسمع صوتا مماثلا للمؤسسات الاسلامية الدينية منفردة او مجتمعة؟ وهل يمكن ان تكون تلك الكنائس اكثر حرصا على حقن دماء الشعب العراقي (المسلم) من المراجع الاسلامية (القدس العربي ــ 14/2). وجدت في مقالة قارصلي العديد من الاسئلة والملاحظات الاخرى الموجعة والمربكة فقد كان عنوانها: متى يستطيع العرب ان يقفوا موقف الالمان؟ وهو سؤال استنكاري وليس استفهاميا سمعته بصيغة اخرى على لسان مراسل لاحدى الفضائيات كان يتابع المظاهرات الحاشدة التي خرجت في روما مناهضة للحرب حين قال: هل يمكن ان يكون الطليان اكثر عروبة من العرب؟ صحيح ان لكل حساباته ودوافعه الخاصة التي ليس بينها بالضرورة التضامن مع الشعوب العربية لكن الحاصل ان تلك المواقف انصبت في نهاية المطاف في وعاء المصلحة العربية.
لقد تساءل صاحبنا الالماني/العربي: ماذا سيكون الموقف الامريكي لو رفضت دول الجامعة العربية بصوت واحد ذلك الصلف والعدوان الامريكيين؟ لماذا لا تتبلور سياسات عربية تجاه الدول الداعمة للحرب وتلك الداعية الى السلم؟ لماذا تنهال الاستثمارات العربية على امريكا وبريطانيا وليس على المانيا وفرنسا اللتين هنا اكثر عدالة تجاه القضايا العربية بغض النظر عن انطلاقهما من مصالحهما الخاص؟ لماذا لا تقوم الهيئات والمنظمات المدنية بخلق وعي لدى المستهلك العادي بحيث تدفعه الى شراء السلع التي يؤكد مصدرها بأنها ليست من شركات تدعم الجهد الحربي او تابعة لدولة تدعو إلى الحرب؟ (ملحوظة: ارتفعت في الولايات المتحدة اصوات تنادي بمقاطعة النبيذ والاجبان الفرنسية للرد على موقف الحكومة الفرنسية في حين احبطت وانتقدت الاصوات التي نادت في العالم العربي بمقاطعة البضائع الامريكية). اخيراً ذكر قارصلي ان الكاتب الالماني الكبير جونتر جراس الحائز جائزة نوبل في الاداب امتلك الشجاعة الادبية واعلن ان الرئيس الامريكي جورج بوش "شخصية مهددة للسلم العالمي" ثم تساءل عن موقف الرموز الادبية العربية وفي المقدمة منهم اديبنا الكبير الاستاذ نجيب محفوظ العربي الوحيد الفائز بجائزة نوبل للاداب؟
(3) لقد كان علماء السلف يستغربون الاوضاع المقلوبة والمفارقات الشديدة حتى ذهب بعضهم الى اعتبارها مقدمة لنهاية العالم وذهبوا الى انها من "علامات الساعة الصغرى" وقالوا ان من تلك العلامات مثلا "ان تلد الامة ربتها" وهو مايغريني ــ ليس بالضرورة من باب التندر ــ بأن اضيف الى القائمة مفارقات اخرى من قبيل تلك التي تراءت لنا ونحن نتابع مشهد الحرب العبثية التي نحن بصددها اذكر بتلك القيادات السياسية الاوروبية التي بدت من وجهة نظرنا اكثر عروبة من بعض العرب وانوه الى كتابات عربية ايدت بحماس مدهش المزاعم والادعاءات الامريكية بحق العراق حتى بدت امريكية اكثر من بعض الامريكيين واخرى اعتبرت ان العراق وحده التي بيده ان يوقف الحرب وكأنه الطرف الذي بادر الى اعلانها ضد الولايات المتحدة. من تلك المفارقات ان ثلاث دول اوروبية (المانيا وفرنسا وبلجيكا) رفضت في اجتماعات حلف "الناتو" ما اعتبرته مشاركة منها في الحرب ضد دولة عربية هي العراق بينما نشرت مجلة "نيوزويك" في عدد 4/2 خريطة بينت انطلاق القوات الامريكية في تلك الحرب من اكثر من 25 قاعدة عسكرية موزعة على اراضي "الاشقاء" العرب! واذ كان مألوفا ومفهوما ان العرب حين يصادفون ازمة في علاقاتهم مع الولايات المتحدة فإنهم كانوا يلجأون الى اوروبا ويستقوون بها لكننا وجدنا في الاونة الاخيرة ان فرنسا حين اختلفت مع امريكا في شأن يخص العرب فإنها هي التي حاولت الاستعانة بالعرب ودعتهم الى مساندة الموقف المناهض للحرب ضد العراق.
وفي حين دأبت واشنطون على اقناع الامريكيين بأن العراق رمز الشر ومصدر الخطر فإننا وجدناها في الاسبوع الماضي قد رفعت حالة التأهب داخل الولايات المتحدة الى الدرجة شبه القصوى بعدما اكتشفت فجأة ان الخطر الذي يهدد البلاد ليس مصدره العراق وانما اتت اشاراته من تنظيم "القاعدة" وعناصره الناشطة او النائمة على الارض الامريكية. لكن ذلك كله في كفة وموقف الولايات المتحدة من حكاية اسلحة الدمار الشامل في كفة اخرى ذلك ان المرء يكاد ينفجر من الغيظ والمرارة حيث يلاحظ ان المفتشين الدوليين يبحثون عن اسلحة الدمار الشامل العراقية في الخرائب المهجورة واروقة المساجد وغرف النوم وحقائب الطالبات ومصانع الالبان بينما لا يثير اهتمامهم مفاعل "ديمونا" الاسرائيلي القابع على بعد اميال منهم وفيه تتكدس مئات القنابل النووية القادرة على تدمير نصف الكرة الارضية اما الاسلحة الكيماوية والجرثومية والبيولوجية وغير ذلك من وسائل تشويه الحياة الانسانية وتدميرها فبدورها تخزن في اسرائيل بعلم الجميع وبغير حسيب او رقيب.
يتضاعف الشعور بالغيظ والمرارة حين يقارن المرء موقف الولايات المتحدة من العراق بموقفها من كوريا الشمالية فالعراق نفى وجود اسلحة الدمار الشامل على ارضه واكد انه تخلص مما كان لديه منها وفتح كل ابوابه للمفتشين الدوليين الذين زاروا حتى الان اكثر من 600 موقع وامتثل لكل ما طلب منه ومع ذلك تصر الولايات المتحدة على تركيعه واذلاله وتحشد الحشود العسكرية لاجتياحه واسقاط نظامه والاستيلاء على نفطه واخضاعه لحكم شرعي من قبلها، اما كوريا الشمالية فإنها اعلنت على الملأ ملكيتها لاسلحة الدمار الشامل وطردت المفتشين الدوليين وذكرت صراحة ان لديها مدافع وصواريخ قادرة على اصابة كاليفورنيا في الولايات المتحدة فضلا عن القواعد الامريكية في مختلف انحاء العالم مع ذلك فإن واشنطون التي نصبت من نفسها في الحالة العراقية حارسة لامن العالم ومن ثم استجمعت قواها لتأديب العراق وترويضه هي ذاتها التي تحلت بكل ما تملك من صبر وتسامح وراحت تربت على اكتاف الكوريين وتدللهم متحدثة بصوت ناعم ورخيم عن "حلول دبلوماسية" للمسألة!
(4) حتى يكتمل المشهد فإن العناوين الملتبسة والمخادعة تنضاف الى قائمة الاسئلة والمفارقات الموجعة لكي يقترن الالم بالحيرة والبلبلة. فقد اصبح عنوان "الشرعية الدولية" انشودة الموسم ومضغة في افواه الجميع وموضوعا للغيرة والحماس منقطعي النظير وسمعنا اكثر من مرة صوت الرئيس الامريكي واصوات غيره من اركان فريقه وهم يطالبون مجلس الامن بالدفاع عن قراراته وبأن يثبت العالم انه جاد فيما يصدر عنه وانه حريص على الدفاع عن صدقيته وكرامته. في الوقت ذاته فإن اولئك الذين يتحدثون عن "قدسية" قرارات مجلس الامن هم الذين لم يترددوا في ان يدوسوا على الامم المتحدة باحذيتهم وهم يعلنون بين الحين والاخر انهم سينفذون مخططاتهم سواء اصدر مجلس الامن قراراه ام لم يصدر وهم الذين تحدوا الشرعية الدولية في معاهدة "كيوتو" للبيئة وفي موضوع المحكمة الجنائية الدولية وانتهكوا الضوابط التي تعارف عليها المجتمع الدولي المتعلقة بمبدأ استخدام القوة وحالات الدفاع الشرعي وهم الذين استباحوا لانفسهم قصف اي بلد بحجة "الضربات الاستباقية" واعداد قوائم باسماء مطلوب قتلها دون محاكمة ودون التزام بقواعد السيادة ناهيك عن القانون. تلك الغيرة على كرامة الامم المتحدة وتلك القدسية التي جرى اضفاؤها على قرارات مجلس الامن ظهرت فقط في الحالة العراقية ثم ديست بالنعال في الحالة الاسرائيلية بل ان الولايات المتحدة اعلنت نفسها كفيلا وضامنا لاسرائيل اكثر من اهان المنظمة الدولية وازدرى قراراتها حتى صدر بحقها 150 قرارا من الامم المتحدة لم يتنفذ واحد منها ولم يقل احد انها لم تحترم الشرعية الدولية ولم يحاسبها احد على ما مارسته من تحد وازدراء.
في المشهد ايضا "لقطة" فضحت مدى التلفيق والافتعال في عنوان "صدام الحضارات" الذي ما برح البعض يروج له ويحتفي به ويخوفنا منه خصوصا بعد 11 سبتمبر الذي صوره البعض بانه من ارهاصات المواجهة بين الاسلام والغرب ذلك ان المبشرين بالفكرة اعتبروا الغرب كتلة واحدة ووضعوا الاسلام والمسلمين في كتلة اخرى مقابلة في حين ان ما نراه الان قلب المعادلة الى حد كبير فأنظمة الساحة الاسلامية بدت هي الهادئة والساكنة بينما المواجهة والتحدي الحقيقيين قائمان داخل المعسكر الغربي ذاته بل ان المظاهرات المعادية للحرب هي في العالم المسيحي اقوى منها بكثير في العالم الاسلامي الامر الذي قدم برهانا قوض النظرية وبين لكل ذي عينين اننا بصدد صراع مصالح وارادات وليس صراع حضارات وان فكرة ذلك الصراع الاخير تعبر عن امنيات نفر من الغلاة على الجانبين باكثر مما تعبر عن قراءة منصفة وموضوعية لخرائط الواقع وتضاريسه.
اثناء الجدل والتراشق الدائر بين الادارة الامريكية وبين المانيا وفرنسا استخدمت اشارات وعبارات مسكونة بمعاني الغمز واللمز كان من بينها تورط وزير الدفاع الامريكي في وصف البلدين بأنهما يمثلان اوروبا القديمة التي عفا عليها الزمن لكن خبيرا امريكيا معتبرا هو جراهام فوللر الذي كان في السابق من كبار ضباط المخابرات المركزية ونائبا لرئيسها نشر مقالة رد فيها على كلام الوزير رامسفيلد قائلا ان المانيا وفرنسا تمثلان اوروبا الجديدة في حقيقة الامر بينما الولايات المتحدة هي التي تمثل القوة القديمة ــ لماذا؟ في رأيه ان المانيا وفرنسا نموذج لبلدين نجحا في تجاوز خمسة قرون من الحروب المتبادلة والمشاركة في تكوين اتحاد اوروبي يعد نموذجا نادرا في التاريخ باعتبار انه قائم على تنازل دول الاتحاد عن جزء كبير من سيادتها القومية لاقامة مشروع حضاري كبير يستند الى ديمقراطية حقيقية والى التزام بحقوق الانسان ويتطلع إلى بناء قوة جديدة في العالم ترتكز على القبول والرغبة المشتركة بدلا من العنف والغزو وهذه ظواهر يصعب وصفها بأنها تنتمي الى "اوروبا القديمة". بالمقابل ــ اضاف فوللر ــ ان الولايات المتحدة هي التي تمثل العالم القديم لأنها تمارس الهيمنة وتخاطب الاخرين بلغة القوة بدلا من الرضى وعوضا عن القانون ومنطق القوة هذا هو الذي كان سائدا في العالم القديم الذي مازالت امريكا متعلقة به وعجزت عن ان تخرج من اساره حتى الان. ان في الفم ماء كثيرا ودما ايضا!
ضوابط المشاركة
- لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
- لا تستطيع الرد على المواضيع
- لا تستطيع إرفاق ملفات
- لا تستطيع تعديل مشاركاتك
-
قوانين المنتدى
|
 |