 |
-
الموت في المنافي الغريبة الفنان فائق حسن وداعاً - القاضي زهير كاظم عبود
الموت في المنافي الغريبة
الفنان فائق حسن وداعاً
زهير كاظم عبود
يحكى أن سيدنا يوسف (ع) أوصى بأن يحمل تابوته الى مقابر آبائه بعد وفاته ، فمنع أهل مصر ذلك وبقي في أرضهم حتى بعث الله النبي موسى (ع) وأهلك فرعون ، فحمل تابوت يوسف الى مقابر آبائه فقبره بالأرض المقدسة .
وأوصى الإسكندر أن تحمل جثته الى بلاد الروم ليقبر فيها ، وتم تحقيق ذلك إذ تم دفن الرجل في مقابر أهله وقومه .
ومع أن الأصل أن يقبر الميت في المنطقة التي يموت فيها ، الا أن عين الأنسان تبقى تنظر بحنين قاتل الى جهة الوطن .
يقول الشاعر الفرز دق :
وفي الأرض عن دار الفلى متحول وكل بلاد أوطنتك بلاد
ويبقى الأنسان يحمل الوطن بين رموش جفنيه وفي تلافيف العقل والقلب ، ويحمل الناس حفنة من تراب أوطانهم يشمونها في لحظة الوجع والحنين والاستذكار والإحساس بالغربة والوحشة .
بلاد ألفناها على كل حالة وقد يولف الشيء الذي ليس بالحسن
ونستعذب الأرض الذي لاهواء بها ولا ماؤها عذب ولكنها وطن
وهكذا بقيت القبور رموزاً للناس بعد رحيلهم عن الدنيا ، ومن يزور المقابر يشاهد الخليط العجيب من العظماء والعلماء والبؤساء تساووا في رقدة القبر وتوسد التراب ، بالرغم من فوارق شكلية في تصميم القبور أو الشواهد التي تحكي نبذة مختصرة عن الراقد في هذا اللحد الذي ربما تغير أكثر من مرة حتى صار لحداً للذي صار في هذا الزمان .
والغربة مشهد من مشاهد الوجع الإنساني ، ودليل أكيد على عدم استقرار الروح في مكانها الذي أختارته ، تؤنسها جمعة الأهل والخلان والأصدقاء ، وتطريها ذكريات الطفولة والشباب ، وتواسيها مقابر الأهل ودموع الأحبة .
ومنزل الأنسان وطن ، والمدينة وطن ، والأهل وطن .
فكيف بالمرء أذا فقد المنزل والمدينة والأهل ، وفوق كل هذا قبر في الغربة .
فصدق قول الشاعر العربي :
يا منزلا عبث الزمان بأهله فأبادهم بتفرق لا يجمع
ذهب الذين يعاش في أكتافهم وبقى الذين حياتهم لا تنفع
عذابات البشر في الموت الغريب والقبور الغريبة لم تصب أكثر مما أصابت أهل العراق ، ليس لها ما يفسرها سوى قساوة الأنسان ، وسيطرة نوازع الشر التي باتت تتحكم في عقول الكثير من بني آدم في هذا العصر الطافح بالآلام والأثام التي لن يخلصها من عمق الروح سوى المحبة والتسامح وتقديس القيم التي نادت بها الأديان والتي أوصى بها الله ، ومحبة الأنسان بأعتباره من أكرم المخلوقات التي حباها الله بهذه الصفات الجميلة من لحظة الولادة الى لحظة الموت .
مات فائق حسن الفنان العراقي الجميل الذي ملأ الدنيا بألوان فرشاته وبلوحاته الممتدة من غر ناطة الأسبانية الى ولايات المحيط الأطلسي ، بعد أن ترك منها في العراق ، العراق الذي بقي حلماً يراود خياله من أن يضمه قبر في وطنه .
مات الفارس التشكيلي الذي كان يقف شامخاً فوق جواده الأنيق يتطلع باتجاه دجلة والفرات لعله يحمل طيور الشمال المهاجرة بعضاً من شوقه ومحبته وتحياته المكبوتة داخل روحه .
أجل مات فائق حسن غريباً شريداً عن وطنه ، وهذا هو قدر أهل العراق المبعثرين في مجاهل الأرض ، والتي طرزت قبورهم مقابر المدن الغريبة والموحشة والمنسية في ذاكرة الناس .
مات فائق حسن في الزمن الضائع ، والكل يتطلع الى قدره وموته المؤجل ، ويبقى القرار والحكم الذي يطغي على عقل وقلب الحاكم أن لا تدعو جثث العراقيين الخطرة أن تعود ، ففي جثث موتى العراقيين يكمن سر فناء الظلم والطغيان والشر .
:=
ضوابط المشاركة
- لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
- لا تستطيع الرد على المواضيع
- لا تستطيع إرفاق ملفات
- لا تستطيع تعديل مشاركاتك
-
قوانين المنتدى
|
 |