http://www.asharqalawsat.com/leader....020&issue=9871
الشرق الأوسط - الاربعـاء 07 ذو القعـدة 1426 هـ 7 ديسمبر 2005 العدد 9871
العراق وإيران.. الاستبداد الديني بالسلطة وبأمراء الحرب
يعيد مشهد رئيس جمهورية إيران محمود أحمدي نجاد، وهو يلثم يد مرشد الجمهورية آية الله علي خامنئي، إلى الذاكرة ما كان بين موبذان الدولة الساسانية كرتير وكسرى، مع اختلاف الموقع: كان كسرى ملكاً مطلقاً، وكرتير يؤلف قلوب الرعية له. أما نجاد فمن صناعة المرشد، الذي اجتمع تحت يده الرئيس والمرؤوسون. حصل ذلك بتحريف أُصول الديمقراطية، كي يظهر فيها المرشد ولياً للمسلمين بتفويض إلهي، ويظهر فيها رئيس الجمهورية منتخباً من الناس بمباركة الولي! وبين ادعاء التفويض المقدس والتدخل في الانتخاب يبرز الاستبداد الديني جلياً، ليس ضد الأتباع بل ضد العلماء المعترضين، فالعديد منهم قضى بين اغتيال وسجن وإهمال. ووصل الحال أن تتهم المؤسسة الدينية الحاكمة بالتخلص من نجل قائدها أحمد الخميني، ثم خروج الحفيد على مؤسسة الجد.
تحت الاستبداد الديني بإيران، الذي ينشط حالياً عبر التفويض الإلهي، أخذ الإيمان الديني يتراجع: إيرانيون يلحدون، وآخرون يسخرون من الطقوس الحسينية، ومن رجال الدين، والفلتان الأخلاقي يغلف بغلاف مقدس أيضاً. والسبب أن الدين أصبح سلطة جبرية، وبضاعة بيد السطة، وحسب أحوال تلك السلطة تتأثر روحانيته، وهيمنته على الضمير. ولم يبق غير التحايل ومحاولة التعايش الكاذب. وكلما تشددت الدولة في فرض دينها سعت الرعية إلى مخالفته.
يعلم الإيرانيون قبل غيرهم أن خامنئي ليس أفضل الإيرانيين حتى يدعي التفويض الإلهي. ولم يحمل الخميني لإيران الجنة بثورته، حتى يضاهي مزاره مزار الإمام علي الرضا، ناهيك عن مسؤوليته الشخصية في إطالة الحرب مع العراق، وتصفية الخصوم. لا ينحصر نموذج الاستبداد بالرموز الدينية وحسب، فليس أكثر هزَّاءَة بعقول الناس من تشييد جوزيف ستالين مزاراً لسلفه لينين بعد تحنيطه، وليس أكثر هزَّاءَة بالقائد البلغاري ديمتروف من تحنيطه، ومثول مزاره في قلب صوفيا، ويطاف حوله، ثم يهدم تحت جنح الظلمة، وبأيدي الأتباع أنفسهم.
أقول: كيف سيتعامل ذوو الضحايا مع مزار الخميني؟ سألت هذا السؤال وأنا أنظر إلى طابور زائري قبر الشاه من الإيرانيين، إلى جوار قبر الملك فاروق قريباً من قلعة محمد علي بالقاهرة، وفي الزاوية نُشر العلم الشاهنشاهي، يزوره إيرانيون، ومنهم، لا حباً بل كراهة بمَنْ ورثوه، بعد أن عاشوا الأسوأ باسم الدين والمهدي المنتظر، وقد ذهبت أحلامهم بدولة الحق والقسط المؤملة هباءً.
قرأت لافتة كبيرة سمرت على جدار حسينية قريبة من ضريح السيدة زينب المفترض بدمشق، نقش عليها: «أللهم احفظ لنا الخميني حتى ظهور المهدي». والقائمون على تلك الحسينية لبنانيون، اختلطت عليهم النهايات البلدانية، والخصوصيات الوطنية، حتى أهملوا صورة شجرة الأرز ليعلقوا مكانها صورا تفرض عليهم الاستبداد الديني والمذهبي: خميني، خامنئي، نصر الله. تذكر تلك الصور وتلك الممارسة بما كان يفعله مانغستو هيلا ماريام بأثيوبيا، الذي جعل من صور الثلاثي ماركس وأنجلس ولينين مهزلة عند الفقراء المطحونين جوعاً. رأيتها شاخصة وسط أديس أبابا بقوة الاستبداد والغوغاء الحزبيين، ومهيمنة فوق رؤوس المئات من الشحاذين، وهم لا يعلمون أن ماركس مات متأثراً من نقص التدفئة، ولولا زميله أنجلس لمات جوعاً.
مارست الثورة الإيرانية الاستبداد الديني، بداية من فرض ولاية الفقيه، الممثل بقائد الثورة ثم مرشدها، بعد أن صادرت آراء أكابر فقهاء المذهب وأساطينه، الذين حاولوا قدر الإمكان الابتعاد عن ممارسة السلطة العرفية السياسية، بل وحدوا من سلطة الحسبة. لأنهم على علم أن الفقيه لا يحل محل النبي ولا الإمام المعصوم. لذا قدم أولئك الأكابر رأياً كان مثالاً في نكران الذات، تجنبوا التصدي للسلطة لمنح الناس حرية التصرف في شأنهم الدنيوي، وترتيب سلطتهم السياسية دون تدخل مقدس، حتى يظهر صاحب الأمر أو صاحب الزمان. لكن ليس على طريقة فريق إيراني آخر يدعى الحجتية، من شروطه دعم مفسدة الظلم كي يعجل بالظهور. ولا وفقاً لرأي محمد باقر المجلسي (ت1111هـ)، اعتبار السطان الصفوي موصلاً بالمهدي المنتظر (نظرات الحكم في الفقه الشيعي). ومع ذلك يحسب لهذا الفقيه القول بنبذ الظلم، وتفضيل العدل على الإيمان. قال: «الملك يبقى مع الكفر ولا يبقى مع الظلم» (الشيعة والحاكمون).
قد لا يتكرر نموذج إيران في الاستبداد الديني بالعراق عبر سلطة دينية، رغم الجوار العريق تاريخياً، والشاسع جغرافياً. ذلك أن الأحزاب الدينية الشيعية تدرك قتامة أفق الحالة الإيرانية، والتباعد بين المؤسسة الدينية الحاكمة والرعية. تضاف جملة من الموانع: التوازن المذهبي، وتصاعد الصوت الليبرالي، وخلاف النجف مع ولاية الفقيه، ونبذها من قبل المحيط العربي والتركي السُنَّي، والدور الأمريكي الفاعل على الأرض. مع هذه الموانع أشك في سعاية آل الحكيم إلى تبني الاستبداد الديني الإيراني. ومعلوم، أن أكثر أسباب التشظي في حزب الدعوة كان بسبب الخلاف حول الموقف من إيران. إيران صالحت نظام البعث بُعيد غزو الكويت، وضايقت العراقيين إلى حد الهروب، وقضى مَنْ قضى منهم غرقى في أعماق البحار. حصل هذا للعراقيين الشيعة، ومن منتسبي الأحزاب الدينية بالذات، التي كانت ترى يوماً ما في النموذج الإيراني مثالها الأقدس.
لكن في الحالة العراقية، وخارج إطار شرعية السلطة، هناك دعم للاستبداد الديني، يفشي تحت حماية الجماعات المسلحة، يقودها ما يشبه أمراء الحرب، يتحركون بألقاب دينية: آيات الله، وحجج الإسلام والمسلمين والشيوخ. يعلنون استبدادهم بمظاهر الصور والشعارات، وإصدار الفتاوى، والسيطرة على المساجد والحسينيات، بل وعلى مدن كاملة. وكل هؤلاء المستبدين يدعون التفويض الإلهي والإمامي، راياتهم تمتد إلى الجنوب، ورايات القاعدة وشيوخ الهيئة تمتد إلى أقصى الغرب، فتأمل محنة الديمقراطية، ومحنة مَنْ يرفع شعار عراق بلا دماء، وخال من الاستبداد.
ولك تأمل إقحام الدين وروحانيته لمصلحة هذا الحزب أو تلك الفئة. باسم الدين اسقط فقهاء شيعة في العشرينيات إيمان وشهادة المنتخب والمؤيد للدستور، وفي العام الماضي اسقطوا إيمان وشهادة غير المنتخب والرافض للدستور. وباسم الدين أيضاً حرم فقهاء هيئة علماء المسلمين الانتخابات السابقة، وجعلوها رجساً من عمل الشيطان، وعادوا اليوم باسم الدين أيضاً وجعلوها طاهرة من الإيمان. أقول: «يا ليت شعري مَنْ الصحيح»!