في معمعة النضال ضد الاضطهاد الصدامي الموجه لكل القوى التي تخرج عن رغباته وإرادته وسلطته المطلقة، ومن بينهم القوى الدينية الشيعية والقومية الكردية والاخوان المسلمين السنة، وتحت تأثير الصراع العسكري بين الجارتين المتحاربتين، ايران والعراق، ظهرت احزاب شيعية دينية ردا على قمع صدام للمظاهر الدينية الشيعية والفكر الشيعي االديني المستقل عن الدولة، وهذا الاضطهاد اتخذ اكثر فأكثر منحى طائفي.
في خضم صراع صدام مع القوى الشيعية الدينية التي رفضت هيمنته، وخصوصا الصدر "الاب"، بدأ صدام بتنمية قوى طائفية سنية وتيارها الاكثر همجية "الوهابية" في محاول لخلق صراع جانبي لالهاء القوى الدينية التي ترغب بالخروج من الهيمنة السياسية للبعث، بين بعضها البعض. هذه السياسة القديمة التي تقوم على مبدأ فرق تسد القصيرة النظر والمدمرة.
بعد سقوط صدام واداته حزب البعث، ظهرت الى السطح، إضافة الى القوة التي زرعها صدام "السلفية الوهابية" ايضا القوى المنظمة الوحيدة التي نشأت في خضم الصراع مع نظامه: الاحزاب الشيعية والاحزاب الكردية. ليسيطروا على الساحة السياسية التي اخلاها صدام من بقية الاحزاب السياسية. ويلاحظ ان كلا المجموعتين ظهروا نتيجة القمع الطائفي والقومي. عند تأسيسهم لم يكن الهدف خلق الطائفية وانما رد الظلم الصدامي الممنهج.
اليوم لم تعد هاتان القوتان السياسيتان تعبران عن طموح الواقع العراقي، إلا انهما الوسيلتان الوحيداتان اللتان لهم حضور قوي، بعد القضاء على بقية القوى السياسية التاريخية في المجتمع العراقي.. وبفعل "الوجود" المنظم تمكنوا من السيطرة على المراكز الرئيسية في الدولة، كل في منطقة نفوذه، ليصبحوا احزاب سلطة. وكما هو معهود فأن السلطة تولد مصالحها الخاصة.
إن احزاب طائفية حاكمة لاتستطيع إعادة تنظيم نفسها لانتاج مؤسسة جديدة تعبر عن المصالح الوطنية للشعب كله، بل تجبر على الاستمرار بالتعبير عن الفئة التي تتركب مؤسستها الحزبية منها لتستمر بالعمل بنفس الايديولوجية التي تشكل العمود الرئيسي لوجودها: الطائفية.
إن مؤسسة الطائفية "وهي الان في السلطة" لاتستطيع إلا اعادة انتاج نفسها، لتصبح الطائفية قدر المجتمع. وكما كانت ممارسات صدام المتحيزة لفئة ضد فئة اخرى سببا في انتاج الاحزاب الطائفية، فأن الطائفية نفسها لايمكن إلا ان تنتج طائفية اكبر واكثر تجذرا، لتعم المشاعر الطائفية جميع الطوائف والاديان والقوميات والطبقات، ولتصبح الكراهية والحقد سيد الموقف.
إن الخطاب الطائفي هو كارثة العراق الجديد، وهو لايمكن ان يبني وحدة وطنية، خصوصا في ظل الخطاب الايراني الطائفي والخطاب الوهابي السلفي المتعجرف، اللذان يسعران النرجسية الدينية. ان النموذج العرافي لايبشر بقدرة الاحزاب الدينية على بناء وطن حضاري مزدهر وانما على تسعير الخلافات والمشاعر الدنيا.
وتحاول الاحزاب الدينية اليوم طرح نفسها ممثلة للطائفة معتبرة ان اي نقد يوجه الى سياستها هو نقد موجه ضد الطائفة، وان سياستها هي سياسة الله نفسه، فهي ليست إلا اداة الرب على الارض، في محاول لخلط الاوراق ومصادرة حق النقد ليرد الطرف الاخر بالاسلوب نفسه.
ويجد المواطن نفسه في تردد من توجيه النقد الى الاحزاب التي تارة تأخذ شرعيتها من فتاوي الائمة والملالي والشيوخ وتارة من ادواتها الميليشية المسلحة ومؤسساتها التي تحاصر الحياة اكثر فأكثر. وفي الوقت التي تصبح الاحزاب الدينية هي المسؤولة عن حل المشاكل اليومية، فأن من حق المواطن توجيه النقد الى هذه الاحزاب وبرامجها. وإخفاء النفس خلف كلمة الله يشكل خطر الخلط بين ماهو ديني وماهو دنيوي، وبالتالي خطر توجيه النقد الى الجهة الخطأ. فمن يتحمل المسؤولية في تسيس الدين؟
ان الحكم الطائفي ليس إلا شكلا اخر من حكم مجموعة للاغلبية على اساس قيم لاعلاقة لها بالمؤهلات الافضل ومصالح الوطن ككل، بل انها اقرب الى نمط حكم صدام الفئوي. وبالتأكيد لازال الطريق طويلا لتشبيه الامر بحكم صدام ولكن التاريخ يعلمنا ان الديكتاتورية تقوم على التمييز القومي او الطائفي المذهبي، وبالتالي فنحن على الطريق الصحيح الى هناك. إن مظاهر الوصاية التي شاهدناها في الانتخابات العراقية وطرق التزوير المبتكرة التي اتبعت تشير الى ان السلطة جهاز لايمكن إلا ان يفسد كل مستخدميه بما فيهم الدينيين.
فهل الاحزاب الطائفية الاسلامية السياسية هي حقا الطريق الى الحل في مجتمعاتنا اليوم، ام انهم في طريقهم ليصبحوا الازمة نفسها؟
وهل سنصل الى يوم نقف فيه امام ضرورة انشاء لجنة اجتثاث الاحزاب الدينية؟