الفرقاءُ السياسيون في العراق .. وستراتيجيّة الكسب الهدّام



كتابات - محمد الحمدي



التعدّد الإثني والطائفي والسياسي ـ الأيديولوجي في العراق، أمرٌ واقع وطبيعي، وليس العراق البلد الوحيد في العالم من هذه الناحية، ولكنَّ عقوداً طويلةً من الاستبداد المزدوج (الإثني ـ الطائفي) بالسلطة، وصلَ إلى درجة القومية الحاكمة، وداخل القوميّة الحاكمة، الطائفة الحاكمة، وداخل الطائفة الحاكمة المدنية ـ القرية ـ العشيرة ـ العائلة ـ الفرد الحاكم والمتحكّم بالبلاد والعباد دون منازع! فالأقلية الحاكمة عند مواجهتها الأكراد، يستحضر الشعار القومي العربي، الذي يجمع الشيعة بالسنّة، وعندما تواجه الشيعة، تستحضر الشعار الطائفي السّنّي، الذي يجمع الأكراد بالعرب السنّة، وهكذا في فترات الأزمات، ولكنَّ الخط العام للأقليّة الحاكمة، هو تجربة العرب الشيعة، والأكراد من حق المواطنة، برفع شعار مزدوج (قومي، طائفي ـ سياسي) أي يرفع الشعار من أجل مكسب سياسي: السلطة وامتيازاتها. فالشيعة يجرّدون من حق المواطنة بإخراجهم من العروبة وإلحاقهم بفارس، والأكراد لقوميتهم. وهكذا استمرّت الحال لعقود من الزمن، من ساطع الحُصري وحتى حارث الضاري ومن دعى دعوته ونعقَ نعيقه..

هكذا صُنعت أرضية الفتنة الفئوية، وبعد سقوط النظام البائد، شكَّل مجلس الحكم، ليمثّلَ جميع أطياف المجتمع العراقي، لينتهيَ عصر الاستبداد والأقلية الحاكمة، وينطلق الجميع في صنع الواقع العراقي الجديد مشاركةً.. أو هكذا هو المفترض.. فتعالت أصوات الطائفية السياسية وأغلبها من الخارج ومن دولٍ عربيّةٍ بالذات، لتدعم سعي الأقلية الخاسرة لاستعادة السلطة من جديد. واتهم المجلس بأنه دعوة إلى الطائفية، وأنه يهمّش دور العرب السنّة، رغم أنهم مُمَثّلون فيه!! وسكتوا عن عقودٍ طويلة من الاستبداد الطائفي بالسلطة وكل امتيازاتها، وعمّا فعلتُهُ السلطة من جرائم وتخريب طالَ العراق وغيره من دول الجوار.

وهكذا أتهم العهد الجديد بالطائفية، وأتخذ ذلك ذريعةً لأعمال العنف والقتل على الهوية والتخريب لكل ما يمكن أن يدعم بناء الدولة، وتركزت هذهِ الدعوة ـ المدعومة عربياً ـ في المناطق الجغرافية التي كان ينحدر منها رموز السلطة الطائفية السابقة، رافعةً شعارات إسلامية وقومية عربية ووطنية، دون أن تنسى هذهِ المرة وتركز على الشيعة واتهامهم بالصفوية والمجوسية و...، وكذلك رفعت شعار أخراج المحتل ـ التي ما زالت على تواصل وحوار معه ـ كل ذلك بهدف استعادة الملك الزائل، أو تحقيق مكاسب سياسية على طريقة (الخاوة) في نهجٍ سياسي يُظهر العمق الثقافي لأصحابه.

من جهةٍ أخرى فإن الأكراد، استطاعوا بناء إقليم مستقل، بعد فرض الحضر الجوّي والأرضي وإعلان المناطق الكردية مناطق آمنه من قبل أمريكا، وبعد فترة تناحر ودماء بين الحزبين الرئيسيين في كردستان،اصطلحوا بعد ضغوط خارجية وداخلية، وحققوا الاستقرار النسبي وبناء مؤسسات الدولة والمجتمع، فكانوا الطرف الأكثر استقراراً بعد انهيار النظام السابق، خصوصاً إن باقي مدن العراق عانت محنةٍ كبيرة منذُ 1991 ، ساهمت إلى حدٍ كبير في إخفاء معلم الدولة والمجتمع فيها.استطاع الأكراد أن يلعبوا على أوراق الاختلاف الطائفي العربي، ويستفيدوا منه لانتزاع كل ما يمكن انتزاعه من مكاسب سياسية وغير سياسية، تعوّضهم عن عصور القهر والإذلال والتهميش السابقة. فقدموا أنفسهم بشكل اللاأبالي إلاّ بالقضايا الكردية الخاصة.

وبقي الشيعة في المنتصف، وكأنهم هم المعنيون وحدهم بوحدة وبناء العراق، وتقديم التنازلات أيضاً. والتنافس على السلطة، فحتى الائتلاف وجد صعوبة في الاتفاق على ترشيح مرشحٍ واحد لرئاسة الوزراء، وبعد مناورات وتحالفات داخلية، بقي مرشحان من أصل أربعة، ولم يحسم الترشيح إلاّ على أساس التصويت الذي حسم بتحالفات وتنازلات داخلية أخرى، لا بقناعة مشتركة.

وما يمرُّ به البلد الآن، من رفض القوائم الأخرى لمرشح قائمة الائتلاف، وإصرار القائمة على مرشحها، إلاّ دليلٌ على سوء الأداء السياسي لأطراف المشهد السياسي العراقي، المبني على أساس الكسب الفئوي، حتى ولو أدّى إلى هدم الوحدة الوطنية العراقية، ولا بناء قادراً على الوقوف خارجها، وربما هذهِ قناعتي أنا، وعند البعض قناعة أخرى..

ولكن الكسب في سوق غنيّة نابضة بالحياة، أكبر وأفضل من الكسب في سوق فقيرة وفوضوية، إلاّ إذا استُغلّت الفوضى وغياب الأمن في هذهِ السوق، من أجل السرقة والنهب المسلّح!!

إنّ أكبر ما هدمهُ النظام البائد، هو الوحدة الوطنية والهوية العراقية، وإنّ أكبر ما يمكن بناؤه الآن، هو ذات الوطنية والهوية، هذا هو الأساس الأقوى لتحمّل أكبر أحلامنا وأمانينا وطموحاتنا جميعاً على الأرض.