بسم الله الرحمن الرحيم
أهم الإتجاهات التي تبلورت أو تكونت بسبب الهزة الشيوعية
يتوقف فهم نشوء الإتجاهات الفكرية والسياسية الحديثة في كل مجتمعاتنا الشيعية ، على فهم تأثير الموجة الشيوعية في العراق(1377-1381هـ.1958ـ1962م.) على الحوزة العلمية في النجف الأشرف .
وقد حدثت تلك الموجة بسبب أن زعيم الثورة عبد الكريم قاسم تحالف مع الحزب الشيوعي العراقي ، وكان أقوى حزب شيوعي في البلاد العربية ، واعتمد عليهم في تشكيل حرس الثورة (المقاومة الشعبية) ، وأطلق يدهم في العمل الإجتماعي والسياسي ، فاستغلوا فرصتهم أوسع استغلال ، وساعدتهم على ذلك عوامل داخلية وخارجية ، لايدخل في غرضنا الحديث عنها .
بدأت الموجة الشيوعية في العراق بشعار (الدين أفيون الشعوب) ، ونشطوا في نشر هذا المفهوم القنبلة بكل ما استطاعوا من وسائل ! ولك أن تقدر فعل الدعوة الى الإلحاد ورفض الدين من أساسه ، في شعب مسلم كالعراق !
كانت تحدياً للجميع ، لأصل وجود دين ! وتحدياً خاصاً لأصل وجود الحوزة العلمية في النجف ، ووجود العتبات المقدسة ، والعلماء السنيين ومراكزهم العلمية في بغداد والموصل ، ومشاهد أئمتهم !!
كان المسلم المتدين في تلك الفترة ذليلاً ، كأنه ارتكب بإيمانه بالدين ذنباً يعوق تقدم كل المجتمع !
أما طالب العلم من أمثالنا فكان حسب تهريجهم من بقايا وجود الإقطاع الرأسمالي ، وبقايا الدين الذي يخدر الشعوب عن الثورة والتقدم والرقي !
كنا نعيش الخوف في النهار ، فلا نخرج من مدارسنا وبيوتنا إلا مجموعات وإلى مسافات قصيرة ! أما في الليل فنعيش الرعب من أن تدخل علينا بعض المنظمات الشيوعية المسلحة فتقتلنا ، أو تقتادنا الى السجن !
وكان بعضنا ينتظر أن تصدر أوامر بمنع الدراسات الدينية وحل الحوزات العلمية ، ومنع زيارة المشاهد المشرفة ، لولا أن عبد الكريم قاسم قام بوضع حدوداً لحلفائه الشيوعيين ، بعد أن ضاقت بهم ذرعاً تركيبة المجتمع العراقي الإسلامية القبلية ، التي لا تتحمل هذا النوع من التطرف !
لقد بلغ الأمر أن صاحب دكان في سوق العمارة اسمه محمد أبو اللبن مجاور لمنزل السيد محسن الحكيم قدس سره المرجع العام للشيعة في العالم ، كان إذا رأى السيد خرج الى صلاة الجماعة في الصحن الحيدري الشريف ، رفع صوت المذياع في دكانه بأناشيد الشيوعيين ، فإذا وصل السيد الى أمام دكانه رفع صوته: (عفلقي عفلقي) ! وكان السيد رحمه الله يأمر بعدم جوابه والصبر عليه !!
ومعنى عفلقي: بعثي ، نسبة الى ميشيل عفلق ، فقد كان البعثيون والقوميون حزبيْن ناشئيْن مؤيديْن لجمال عبد الناصر ، يعملان ضد نظام عبد الكريم قاسم ، وكان الشيوعيين يطاردونهم ويتهمون من عارضهم بأنه ضد الثورة والزعيم الأوحد ويصفونه بأنه عفلقي ، وكان من شعاراتهم:
(والمايصفق عفلقي ، والحبال موجودة) أي: من لم يصفق للزعيم الأوحد فهو بعثي جزاؤه القتل ، والحبال حاضرة لسحله في الشوارع !
******
لقد انتهت الموجة الشيوعية الى غير رجعة ، لكن لك أن تقدر ما أحدثته من هزة وتحدٍّ في الحوزة والأمة ، وما نتج عنها من اتجاهات في العمل الديني ، في حوزاتنا ومجتمعاتنا !
كان وما زال لتلك السنوات الأربع أوسع التأثير الفكري ، على الحوزة العلمية والعمل الإسلامي ، ليس في العراق فحسب ، بل في امتدادات الحوزة حيثما يوجد شيعة في البلاد العربية وإيران والعالم !
وبذلك صح أن نسميها: سنوات الهزة ، والتنظير ، والتأسيس لأهم الإتجاهات الفكرية والسياسية الموجودة في حوزاتنا وعالمنا الشيعي الى اليوم .
وما أسهل على من واكب تلك الفترة أن يعرف أصول أكثر الإتجاهات والأفكار ، والكتب والمقالات ، التي يراها اليوم في بيروت أو القطيف أو طهران أو كراتشي..لأنها ليست إلا رشحاً من تلك الينابيع التي نبعت وأخذت مجراها بعد الهزة الشيوعية ، في آخر الخمسينات وأوائل الستينات !
فعلى صعيد المرجعية والحوزة ومشاريع تطوير هيكليتها ومناهجها ، نجد أن الأفكار المطروحة كلها ترجع الى الإتجاهين التقليدي والإصلاحي اللذين احتدم النقاش حولهما ، وطرحت لهما المشاريع المتعددة في تلك السنوات .
وعلى صعيد فهم الإسلام والعمل الإسلامي، فالإتجاهات الثلاثة التقليدي ، والحركي ، والعصري.. ترجع الى تلك الفترة أو تتغذى من فكرها ونتاجها !
لقد تجمعت الأسباب والعوامل يومها لتكوين تلك الإتجاهات في الفكر الشيعي والعمل الشيعي ، وأهمها العوامل الأربعة التالية:
المحفز القوي الذي هو الموجة الشيوعية ، والفراغ الديني ، ووجود نابغين مؤسسين ، ووجود نماذج تحتذى لهم من الفكر والأعمال والتنظيمات .