الإتجاهات المعاصرة في فهم النبي وآله صلى الله عليه وآله
تنحصر المذاهب والإتجاهات الإسلامية المعاصرة في فهم النبي وآله صلى الله عليه وآله في خمسة: المذهب السني ، والزيدي ، والإسماعيلي ، والشيعي الإمامي ، وأخيراً الإتجاه الشيعي التركيبي .
ولابد لنا أن نستبعد الغلاة الذين يؤلهون أحداً من أهل البيت النبوي عليهم السلام بأي نوع من التأليه ، ونستبعد النواصب الذين ينصبون العداء لأهل البيت النبوي عليهم السلام ، لأنهما اتجاهان خارجان عن الإسلام لايصح عدهما من المذاهب أو الإتجاهات الإسلامية في فهم النبي وآله المعصومين صلى الله عليه وآله .
1 ـ الإتجاه السني في فهم النبي وآله صلى الله عليه وآله
يرى أتباع المذاهب السنية أن النبي صلى الله عليه وآله معصوم في تبليغ الرسالة فقط ، دون بقية سلوكه العام ، وسلوكه الشخصي !
هذا من ناحية نظرية ، أما ناحية عملية فإن مصادرهم تزعم أن النبي صلى الله عليه وآله ارتكب أخطاء عديدة وبعضها في تبليغ الرسالة ! وأن بعضها كان يصححه له جبرئيل عليه السلام ، وبعضها كان يصححه له عمر بن الخطاب ، فيؤيده الوحي!
وكذلك لايرون عصمة أهل بيت النبي وعترته ، علياً وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام ، ويقولون إن لهم فضائل كما لهم أخطاء ، ولايعترفون بأنهم معينون من الله تعالى أوصياء للنبي صلى الله عليه وآله وأئمة للأمة ، ولذا يؤولون الآيات والأحاديث التي تدل على عصمتهم وإمامتهم عليهم السلام ، ويجعلون درجة علي عليه السلام رابع الصحابة لأنه كان الخليفة الرابع ، وأكثرهم يفضل عليه أبا بكر وعمر وعثمان ، وقد يفضلون عائشة على فاطمة الزهراء عليها السلام ، كما يفضلون بعض التابعين العاديين على أئمة أهل البيت عليهم السلام أمثال الإمام زين العابدين ، والإمام محمد الباقر ، والإمام جعفر الصادق عليهم السلام !
ويترتب على هذا الفهم أمور عديدة ، تظهر في المعالم التالية:
الأول: أن النبي صلى الله عليه وآله توفي عندهم بدون وصية كتبية ولاشفهية! وأن الصحابة هم الأصل بعد النبي صلى الله عليه وآله والأفضل من جميع الأمة عبر أجيالها ، وعنهم يتلقون دينهم ، ولايهتمون بالرأي المخالف لهم ، بل يعتبرونه انحرافاً عن الإسلام حتى لو كان صادراً من أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله !
بل تراهم يقرنون الصحابة بالنبي في الصلاة عليه صلى الله عليه وآله ، وقد يحذفون منها الصلاة على آل النبي ، مع أنهم رووا في أصح صحاحهم أن النبي صلى الله عليه وآله علمهم الصلاة عليه وأمرهم أن يقرنوا به آله عليهم السلام فقط !
الثاني: عندما يقولون (الصحابة) فلا يقصدون المئة ألف شخص وأكثر ، الذين رأوا النبي صلى الله عليه وآله وسموهم صحابة ، ولايقصدون أهل بيته علياً وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام الذين هم أهل بيت وصحابة !
بل هم عملياً يقصدون أربعة رجال من الصحابة هم: أبو بكر وعمر وعثمان ومعاوية ، ومن وافقهم ، ومعهم امرأتان هما: عائشة وحفصة ، ومن وافقهما .
أما باقي الصحابة فهم مقبولون عندهم بشرط أن يوافقوا هؤلاء الستة ، ولا عبرة بقول جميع الصحابة إن خالفوا الستة ، أو خالفوا عمر وحده !
الثالث: لايقول السنيون نظرياً بعصمة هؤلاء الصحابة الستة ، لكنهم عملياً يرون عصمتهم كمجموع ، بل يرون عصمة عمر وأبي بكر خاصة ، فهم لا يقبلون أن يوجه اليهما أي نقد ! ويحاولون تصحيح أفعالهما وأقوالهما حتى في مقابل النبي صلى الله عليه وآله ! ويحكمون بضلال من ينتقدهما ، أو بكفره !
الرابع: أن تاريخ الإسلام في رأيهم صحيح على عمومه ، ونظام الخلافة الذي أسسه أهل السقيفة نظام شرعي، وما ارتكبوه من إقصاء أهل البيت عليهم السلام وما اقترفوه في حقهم وحق من عارضهم، من بطش وتقتيل وتشريد وحروب كلها طبيعية ومغفورة ، والحق فيها مع الصحابة ككل ، فإن لم يمكن جعل الحق مع الكل ، فالحق مع أبي بكر وعمر ، والضلال في من يقابلهم !
كما أن الدعوة الى إقامة نظام إسلامي في عصرنا ، تعني عندهم الدعوة الى تطبيق فقه المذاهب الأربعة ، وإعادة أمجاد نظام حكم الخلافة الإسلامية عبر العصور ، وخاصة خلافة أبي بكر وعمر .
2- الإتجاه الزيدي في فهم النبي وآله صلى الله عليه وآله
وهم يعتقدون أن الإمامة في ذرية علي وفاطمة عليهما السلام ، وأن الإمام بعد الحسين هو الإمام زين العابدين عليهم السلام ، وبعده زيد بن علي بن الحسين ، وبعده من اجتمعت فيه شروط الإمامة التي توجب البيعة والطاعة وهي ثلاثة: أن يكون من ذرية علي وفاطمة عليهما السلام ، وأن يكون عالماً ، وأن يقوم بالسيف .
ولكنهم يعتقدون بعصمة أهل الكساء عليهم السلام ، دون بقية أئمتهم .
3- الإتجاه الإسماعيلي في فهم النبي وآله صلى الله عليه وآله
يرى المذهب الإسماعيلي أن الإمامة في ذريةعلي وفاطمة عليهما السلام ، ويشتركون معنا في إمامة الأئمة من العترة الطاهرة الى الإمام الصادق عليه السلام ، ثم يقولون بإمامة ولده إسماعيل بن الإمام الصادق عليه السلام ، ثم بإمامة العشرات من أئمتهم ، ومنهم كل الخلفاء الفاطميين . وبعضهم يعتقد بعصمتهم جميعاً .
4- الإتجاه الشيعي في فهم النبي وآله صلى الله عليه وآله
نعتقد نحن الشيعة بإمامة الأئمة الإثني عشر عليهم السلام وعصمتهم ، وأنهم أئمة معيَّنون من الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله مفروضةٌ طاعتهم ، بل هم أفضل الخلق بعد نبينا صلى الله عليه وآله ، ولهم مقاماتٌ عظيمة خصهم الله تعالى بها في نشأتهم في هذه الدنيا وقبلها ، ولهم مع جدهم صلى الله عليه وآله مقام الشفاعة العظمى في الآخرة. وقد يعبر علماؤنا عن النبي وآله صلى الله عليه وآله بأنهم وسائط العطاء والرحمة والفيض الإلهي .
ويترتب على هذا الفهم أمور ، تظهر في المعالم التالية:
الأول:أن العصمة التي نعتقد بها للنبي صلى الله عليه وآله عصمةٌ كاملة عن جميع المعاصي الكبائر والصغائر ، قبل البعثة وبعدها ، في تبليغ الرسالة وغيره . وكذلك عصمة الأئمة من عترته عليهم السلام ، مع أنهم أئمة وليسوا أنبياء .
الثاني: أن أهل البيت المعصومين عليهم السلام هم مصدر التلقي الوحيد للكتاب والسنة بعد النبي صلى الله عليه وآله ، والميزان الوحيد لصلاح الصحابة والأمة أو الحكم بانحرافهم عن الإسلام، فالأئمة من العترة النبوية هم الأفضل وهم الأصل، ولا عبرة بقول من خالفهم من الصحابة وغيرهم ، وذلك لثبوت عصمتهم ، وأمر النبي صلى الله عليه وآله باتباعهم والتلقي منهم وحدهم .
والآيات والأحاديث التي تدل على ذلك كثيرة رواها الجميع، كقوله صلى الله عليه وآله :
إني أوشك أن أدعى فأجيب وإني تاركٌ فيكم الثقلين، كتاب الله عز وجل وعترتي كتاب الله حبل ممدودٌ من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي. وإن اللطيف الخبير أخبرني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض، فانظروني بِمَ تخلفوني فيهما . (مسند أحمد:3 /17).
وقال السرخسي: قال عليه السلام : إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي، إن تمسكتم بهما لم تضلوا بعدي. وقال تعالى: إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً . (أصول الفقه:1/314)
الثالث: أن مذهب أهل البيت عليهم السلام هو الإسلام كما نزل على رسول الله صلى الله عليه وآله ، وهو استمرار خط النبوة بالأئمة الذين أمر النبي صلى الله عليه وآله الأمة باتباعهم بعده .
ويصح وصف التشيع بأنه مذهب ، لكن بمعنى أشمل من المذاهب الفقهية والكلامية التي أنشئت في القرن الأول والثاني ، في العصرالأموي والعباسي .
الرابع: أن قضية أهل البيت النبوي عليهم السلام هي لبُّ الإسلام ، وظلامتهم هي ظلامة الإسلام ، وفضائلهم فضائل الإسلام ، وأن الأولوية في العمل الإسلامي لتعريف المسلمين والعالم بهم ، ورد الشبهات عنهم وعن شيعتهم ، والدفاع عن حقهم ودفع ظلامتهم ، وتطبيق الإسلام الذي تلقيناه منهم .
الخامس: أن مسار تاريخ الإسلام على عمومه غير صحيح ، ما عدا ما أمضاه الأئمة المعصومون من أهل البيت عليهم السلام وأقروه من الفتوحات التي خطط لفتحها النبي صلى الله عليه وآله وأدار فتوحها علي عليه السلام وقاد تلامذته أهم مراحلها .
ونظام الحكم الذي أسسته قبائل قريش في السقيفة غير شرعي ، ما عدا خلافة أمير المؤمنين عليه السلام ، وخلافة الإمام الحسن عليهما السلام التي عاشت ستة أشهر .
والذي صنعته قبائل قريش وارتكبته مع النبي وأهل بيته صلى الله عليه وآله هو أسوأ أنواع الإنقلابات التي قامت بها أمة في حياة نبيها وبعده ، ضده وضد أوصيائه!
وقد فتحوا بذلك أبواب الظلم والصراع في الأمة ، وحرفوا مسيرة الإسلام عن خطها الصحيح ، حتى يظهر المهدي عليه السلام فيعيد الحق الى نصابه !
ومن هنا كانت البراءة من ظالمي أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله من أصول مذهبنا الى جنب ولايتهم ومودتهم وطاعتهم عليهم السلام .
5- الإتجاه الشيعي التركيبي أو الإلتقاطي في فهم النبي وآله صلى الله عليه وآله .
وهو الإتجاه المتأثر بأفكار السنيين وأحياناً بأفكار الغربيين ، وقد توسعنا فيه ، لأنه يتصل بموضوعنا مباشرة .
وأصحاب هذا الإتجاه ليسوا فرقة متميزة عن الشيعة ، بل هم أفرادٌ في أوساطهم ، ويظهر اتجاههم من أقوالهم وبعض كتاباتهم .
وأبرز معالم هذا الإتجاه الأمور التالية:
الأول ، أن أصحابه ينكرون عدداً من فضائل الأئمة ومقاماتهم عليهم السلام ، مثل أن الله خلق نورهم قبل خلق العالم ، وأنهم وسائط عطاء الله تعالى وفيضه ، وأن لهم ولاية تكوينية على العالم.. الخ. ويحرصون على تقديم شخصياتهم عليهم السلام بعيدةً عن عناصر الغيب التي فيها ، كأنهم مجرد أئمة مذهبٍ من المذاهب! بينما هم عليهم السلام أئمةٌ ربانيون معينون من الله تعالى ، وعلمهم منه سبحانه ، فهم ورثة الكتاب والعلم الإلهي ، وعندهم مواريث الأنبياء عليهم السلام ، وهم ملهمون من الله تعالى ، فلا يقاس بهم أحد ، ولا تقاس شخصياتهم بغيرهم ، ولا مذهبهم ببقية مذاهب الدول التي اضطهدتهم وأقامت مقابلهم علماء أسسوا لها هذه المذاهب ، وجمعوا أصولها وفروعها خليطاً من مصادر الإسلام ، ومقولات أهل الكتاب ، وظنون مؤسسيها !
الثاني: يدعو أصحاب هذا الإتجاه الشيعة الى تركيز اهتمامهم على الولاية دون البراءة ، وأن يكتفوا بذكر فضائل أهل البيت عليهم السلام دون ذكر مظالمهم ودون البراءة من أعدائهم وظالميهم ، حتى لايثيروا بذلك حساسية أتباع المذاهب السنية ، وغيرتهم على أئمتهم وحكامهم الذين ظلموا أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله !
وقد يفرط بعضهم في التنازل عن ظلامة أهل البيت عليهم السلام فيعتبر أنها مسألة تاريخية لايصح أن نهتم بها كثيراً ، لأن الإهتمام بالقضايا العامة أولى منها !
الثالث: يشارك أصحاب هذا الإتجاه السنيين في نظرتهم الى تاريخ الإسلام بشكل عام ، ويرون أن الدعوة الى إقامة النظام الإسلامي في عصرنا تعني الدعوة الى إعادة ما يسمى أمجاد الحضارة الإسلامية ، وأمجاد نظام حكم الخلافة الإسلامية في صدر الإسلام ، وتطبيق ما يختاره الحاكم من فقه المذاهب الأربعة أو الخمسة .
كما أن نظرتهم الى نظام الخلافة الذي أسسته بطون قريش في السقيفة ، وما نتج عنه من صراع الخلفاء على الحكم ، أقرب الى نظرة السنيين . وإذا ذكرت أمامهم الجرائم التي ارتكبها الخلفاء مع أهل البيت عليهم السلام ، فقد يقرون بهولها ، لكنهم يريدون الإغماض عنها وترك مناقشتها !
والأمر الأسوأ في آرائهم أنهم يريدون من الشيعة أن يقدموا أهل البيت عليهم السلام الى الأمة ويربُّوا أبناءهم على أنهم شخصيات قيادية ضمن المسار العام للأمة وكأن الأئمة عليهم السلام ارتضوا هذا المسار وعملوا في تقويته ! مع أنهم أدانوا كل المسار ، وحكموا بأنه انحراف عن الإسلام ، وتعاملوا معه من باب الضرورة ، لحفظ كيان الأمة ، وما يمكن حفظه من الإسلام ، وتثبيت خطه الصحيح !
الرابع: يتبنى بعض أصحاب هذا الإتجاه مفهوماً خاطئاً للوحدة الإسلامية ، فيتصورون أنها تعني الوحدة الفكرية بين المسلمين على القواسم المشتركة بين المذاهب في العقيدة والفقه ، وأنه يجب إهمال ماعدا المشتركات !
مع أن الوحدة بهذا المعنى هدف خيالي لايمكن تحقيقه إلا بالتنازل عن مجموعة من عقائد المذاهب وأحكامها !
والوحدة الإسلامية الصحيحة هي وحدة المسلمين السياسية في مواجهة أعدائهم ، ووحدتهم بتعاونهم لتحقيق النهوض بشعوبهم ، وهذا لايتنافي مع المحافظة على حرية المذهب ، وحرية البحث العلمي المذهبي مع حفظ الأدب الاسلامي ، ولا مع العمل لبيان ظلامة أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله .
لهذه الأسباب وغيرها ، صحت تسميتهم بأصحاب الإتجاه التركيبي ، وأحياناً تصح تسميتهم بأصحاب الإتجاه الإلتقاطي .
*************
معايشتي لتأثير الموجة الشيوعية على العراق في ولادة الفهم الإلتقاطي
أحمد الله تعالى حيث وفقني في نشأتي لأن أعيش في أجواء المرحوم آية الله السيد عبد الحسين شرف الدين قدس سره ، حيث كان يقضي شهور الصيف في قريتنا ياطر ، من جنوب لبنان ، وكان يفيض على القرية والمنطقة من روحانيته الصافية ، وعمق ولائه لأهل البيت الطاهرين عليهم السلام .
وكان من فضله عليَّ رحمه الله أن شجعني على طلب العلم في سن مبكرة ، وهيأ لي أستاذي آية الله الشيخ ابراهيم سليمان حفظه الله ، الذي كان يعيش أجواء السيد شرف الدين قدس سره في الولاء ، فدرست عنده نحو ثلاث سنوات .
ثم عشت في الحوزة العلمية في النجف الأشرف في أجواء هذا الفهم والولاء لأهل البيت الطاهرين عليهم السلام ، وكنت مهتماً الى جانب دراستي ، بقراءة سيرتهم عليهم السلام والتعرف عليهم أكثر ، فكنت أقضي ساعات طويلة في مكتبة أمير المؤمنين عليه السلام في أوائل تأسيسها في قراءة السيرة من كتاب البحار وغيره ، وكنت أشاهد العلامة الأميني قدس سره مشغولاً في تأليف موسوعة الغدير ، أو أراه في حرم أمير المؤمنين عليه السلام مستغرقاً في الصلاة أو في الزيارة .
في تلك الفترة عايشتُ في النجف الصراع الذي احتدم بين الحوزة الدينية وموجة الشيوعيين(1377-1381هجرية 1958ـ1962ميلادية) ، وشاهدت معاناة الشعب العراقي منهم ، وتحملتُ بعض ما تحمله المتدينون وطلبة الحوزة خاصة من تحديات وإذلال وخطر ، الى أن استطاع المرجع السيد الحكيم قدس سره أن يصدر فتواه في الشيوعية ، ويحدث ضدهم موجةً شعبيةً قويةً .
رأيتُ كيف هبت الحوزة والمسلمون في كل محافظات العراق في موجة إسلامية ضد الشيوعيين وأفكارهم وتصرفاتهم ، ثم رأيت كيف بدأت الحوزة تفكر في انتهاج طرق جديدة في التوعية الإسلامية ، لمواجهة الأخطار الشرسة على الدين والمتدينين .
فقد تصدت الحوزة للموجة الشيوعية بكل فئاتها ، التقليديون والمثقفون أو الواعون كما كنا نسميهم ، لكن الذين واصلوا العمل الحركي مثقفون يكثر فيهم الإتجاه التركيبي في فهم الأئمة عليهم السلام ، وقد أثروا على بعض الحوزويين ، وكنت أتأثر بهم في بعض المفاهيم ، وأناقشهم في بعضها .
وقد تبنينا باعتبارنا اتجاهاً واعياً في الحوزة رؤية لشخصياتهم وسيرتهم عليهم السلام ، وقبلتها يومذاك على تأمل في بعضها ، لكنها لم تُقنع أعماقي ، فكنت في داخلي أبحث عن رؤية أكثر إقناعاً .
كانت رحلتي في البحث عن الفهم الصحيح للنبي والمعصومين عليهم السلام من أصعب الرحلات الفكرية ! لأني قطعت مسافتها وأنا في وسط يتبنى الإتجاه التركيبي ويعمل به !
وقد أنعم الله تعالى عليَّ بحب القراءة ، فقرأت الكافي بمجلداته الثمانية ، والبحار بمجلداته المئة ، وكتب الصدوق كلها، وعشرات الدورات في التفسير والحديث والتاريخ والكلام ، من مصادر الشيعة والسنة ، مضافاً الى الكتب الجديدة ، التي قرأت أكثرها ، أو تصفحته !
كنت يوماً أقرأ في روضة الكافي حديثاً عن الإمام محمد الباقر عليه السلام يفسر قوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شئ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ.(سورة الأنبياء:30) يقول فيه الإمام الباقر عليه السلام :
إن الله تبارك وتعالى لما أهبط آدم إلى الأرض كانت السماوات رتقاً لاتمطر شيئاً، وكانت الأرض رتقاً لاتنبت شيئاً ، فلما أن تاب الله عز وجل على آدم أمر السماء فتقطرت بالغمام، ثم أمرها فأرخت عزاليها ، ثم أمر الأرض فأنبتت الأشجار وأثمرت الثمار وتفهَّقت بالأنهار، فكان ذلك رتقها ، وهذا فتقها .
قرأت ذلك فقلت في نفسي: ما أغبانا! ركضنا وراء ثقافة الإخوان المسلمين وابتعدنا عن ثقافة أهل البيت الطاهرين عليهم السلام الذين عندهم علم الكتاب !
لقد مضى علينا سنين ونحن نأخذ بقول سيد قطب وأمثاله، ونفسر الآية في تدريسنا ومحاضراتنا بأن السماء والأرض كانتا قطعة واحدة ، ففصَّلَهما الله تعالى الى أرض ونجوم وكواكب... الخ .
تأملْ في الآية لتراها تنطق بصحة تفسير الإمام الباقر عليه السلام لأن المخاطب فيها الكفار لينظروا فصول السنة ، وموضوع الآية نظام التبخير والإمطار ، ولا علاقة له بفصل الأرض عن السماء ، فانظر الى قوله: فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ..!
وقد جاء كلام الإمام الباقر عليه السلام هذا ضمن هذه الرواية التي نوردها لفوائدها :
في الكافي:8/120، عن أبي الربيع قال: حججنا مع أبي جعفر(الإمام الباقر عليه السلام ) في السنة التي كان حج فيها هشام بن عبد الملك وكان معه نافع مولى عبدالله بن عمر بن الخطاب (من علماء النصارى وكان ناصبياً يميل الخوارج) ، فنظر نافع إلى أبي جعفر في ركن البيت وقد اجتمع عليه الناس ، فقال نافع: يا أمير المؤمنين من هذا الذي قد تداكَّ عليه الناس؟!
فقال: هذا نبيُّ أهل الكوفة ، هذا محمد بن علي !
فقال: إشهد لآتينه فلأسألنه عن مسائل لايجيبني فيها إلا نبي أو ابن نبي أو وصي نبي ! قال: فاذهب إليه وسله لعلك تخجله !
فجاء نافع حتى اتكأ على الناس ثم أشرف على أبي جعفر عليه السلام فقال: يا محمد بن علي إني قرأت التوراة والإنجيل والزبور والفرقان ، وقد عرفت حلالها وحرامها ، وقد جئت أسألك عن مسائل لايجيب فيها إلا نبي أو وصي نبي أو ابن نبي! قال: فرفع أبوجعفر عليه السلام رأسه فقال: سل عما بدا لك.
فقال: أخبرني كم بين عيسى وبين محمدمن سنة؟ قال: أخبرك بقولي أو بقولك؟ قال: أخبرني بالقولين جميعاً . قال: أما في قولي فخمس مائة سنة ، وأما في قولك فست مائة سنة .
قال: فأخبرني عن قول الله عز وجل لنبيه: وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ. (سورة الزخرف:45) مَن الذي سأل محمدٌ وكان بينه وبين عيسى خمس مائة سنة؟
قال: فتلا أبو جعفر عليه السلام هذه الآية:سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ، فكان من الآيات التي أراها الله تبارك وتعالى محمداً صلى الله عليه وآله حيث أسرى به إلى بيت المقدس أن حشر الله عز ذكره الأولين والآخرين من النبيين والمرسلين، ثم أمر جبرئيل عليه السلام فأذن شفعاً وأقام شفعاً وقال في أذانه:حي على خير العمل، ثم تقدم محمد صلى الله عليه وآله فصلى بالقوم، فلما انصرف قال لهم: على مَ تشهدون ، وما كنتم تعبدون؟ قالوا: نشهد أن لاإله إلا الله وحده لا شريك له، وأنك رسول الله أخذ على ذلك عهودنا ومواثيقنا !
فقال نافع: صدقت يا أبا جعفر ، فأخبرني عن قول الله عز وجل: أَوَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَئٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُون؟ قال: إن الله تبارك وتعالى لما أهبط آدم إلى الأرض وكانت السماوات رتقاً لاتمطر شيئاً ، وكانت الأرض رتقاً لاتنبت شيئاً ، فلما أن تاب الله عز وجل على آدم عليه السلام أمر السماء فتفطرت بالغمام ، ثم أمرها فأرخت عزاليها ، ثم أمر الأرض فأنبتت الأشجار ، وأثمرت الثمار ، وتفهقت بالأنهار ، فكان ذلك رتقها وهذا فتقها .
قال نافع: صدقت يا ابن رسول الله فأخبرني عن قول الله عز وجل:يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَالأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا للهِ الْوَاحِد ِالْقَهَّار.(سورة ابراهيم:48) أي أرض تبدل يومئذ ؟ فقال أبو جعفر عليه السلام : أرض تبقى خبزة يأكلون منها حتى يفرغ الله عز وجل من الحساب!فقال نافع:إنهم عن الأكل لمشغولون؟ فقال أبو جعفر عليه السلام : أهم يومئذ أشغل أم إذ هم في النار؟ فقال نافع: بل إذ هم في النار. قال: فوالله ما شغلهم إذ دعوا بالطعام فأطعموا الزقوم ، ودعوا بالشراب فسقوا الحميم !
قال: صدقت يا ابن رسول الله ولقد بقيت مسألة واحدة ، قال: وما هي؟ قال: أخبرني عن الله تبارك وتعالى متى كان؟
قال: ويلك متى لم يكن حتى أخبرك متى كان ؟! سبحان من لم يزل ولا يزال ، فرداً صمداً ، لم يتخذ صاحبةً ولا ولداً .
ثم قال: يا نافع أخبرني عما أسألك عنه ، قال: وما هو ؟ قال: ما تقول في أصحاب النهروان؟ فإن قلت: إن أمير المؤمنين قتلهم بحق فقد ارتددت ، وإن قلت: إنه قتلهم باطلاً فقد كفرت؟!
قال: فولى من عنده وهو يقول: أنت والله أعلم الناس حقاً حقاً !
فأتى هشاماً فقال له: ما صنعت؟ قال: دعني من كلامك! هذا والله أعلم الناس حقاً حقاً وهو ابن رسول الله حقاً ، ويحق لأصحابه أن يتخذوه نبياً). انتهى.
وقد ذكر سيد قطب تفسير الآية بفتق الأرض عن السماء في عدة مواضع من تفسيره: قال في أحدها (ص2376): (وقد يشير القرآن أحياناً إلى حقائق كونية كهذه الحقيقة التي يقررها هنا أن السماوات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما ، ونحن نستيقن هذه الحقيقة لمجرد ورودها في القرآن ، وإن كنا لانعرف منه كيف كان فتق السماوات والأرض أو فتق السماوات عن الأرض، ونتقبل النظريات الفلكية التي لاتخالف هذه الحقيقة). انتهى .
وقد أخذه سيد قطب من مفسري الدولة الأموية . (نسبه الطبري:17/25، الى الحسن وقتادة ومجاهد ، ونسبه الرازي الى كعب الأحبار ، كما في البحار:54/14).
إن تفسير هذه الآية ما هو إلا نموذج بسيط ليس فيه معاناة تذكر ، لكن المعاناة كانت عندما تصطدم النصوص التي نقرؤها بتصورنا الذي غرسناه في أذهاننا عن الأئمة عليهم السلام ! فكم فكرت في مشروع فهمهم عليهم السلام الذي تبنيناه في الحركة الإسلامية ، فلم أستطع تطبيقه على نصوص سيرتهم عليهم السلام ، ولاعلى أصول فعل الله تعالى العليم بعلمه المطلق ، الحكيم بحكمته المطلقة .