ارتبط الدين و أبتلي منذ ظهوره بتسلط فئةٍ نفعيةٍ تـُحرفه و تحترفه صنعةً تستدر منها المال و الجاه ، و السلطان أحياناً. هذه الفئة .. تلبس هنداماً معيناً و تنتحل لها ألقاباً و عناوين باهرة ، تضاهي بها صفة الربانيين المخلصين و سمتهم ، لتضفي على نفسها مسحة القداسة و التبجيل الضرورية لممارسة الإحتراف .. و تمرير الإنحراف !
و ليس أول هؤلاء و لا آخرهم الأحبار و الرهبان الذين يعرضون أنفسهم وكلاء لله على خلقه يدلونهم اليه ، و هم في حقيقتهم كهاناً و دجالين يتاجرون بدينه و يصدون عن سبيله!
من هنا نرى أن القرآن الكريم قد هاجمهم في أكثر من موضع منه ، و فضح توجهاتهم و خطرهم على المؤمنين بتعبير دقيق بليغ يحتاج إلى أكثر من تأمل :
يقول تعالى في الآية 34 من سورة التوبة :
(( يا أيها الذين آمنوا ! إن كثيراً من الأحبار و الرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل .. و يصدون عن سبيل الله !... ))
إن في الآية لآفاقاً عجيبة !
فمن هم الأحبار و الرهبان ؟ هؤلاء هم سادات الدين و كبراء الملة و رموزها و مستودع سرها !... و لكن ما صفتهم و ما شأنهم الغالب؟
(( يأكلون أموال الناس بالباطل )) !!
يفترسون حقوق الفقراء و المساكين الغافلين ، ينحتون لهم فتاوى و يخترعون لهم شرائع باطلة يأكلون بها أموالهم باسم الله و باسم دينه !
ثم ماذا بعد ذلك ؟
(( و يصدون عن سبيل الله )) !!
فهم و إن كانوا يتحدثون باسم الله و يزعمون أنهم لسبيله يدعون و به يعتصمون! لكنهم في حقيقة أمرهم و خطير شأنهم حرباً عليه ، يصدون عن سبيله و يمنعون الناس من هديه و ينفرونهم من دينه !
و هل المعني بهذه الآية اليهود و النصارى حصراً ؟
كلا .. إن للآية شأناً خطيراً أبعد من هذا .. إن مدلولها لا ينحصر فقط على رموز السيادة الدينية عند اليهود و النصارى المتمثلة بالأحبار و الرهبان .. ! فهي و إن كانت تشير اليهم ، إلا أنها تخاطب المسلمين الذين آمنوا و تنبئهم بحقيقة صفة الكثير ممن ينتحلون السيادة الدينية امتهاناً لها !
إنها تحذير شديد بليغ للمسلمين ألا يصيبهم مثل ما أصاب الذين أوتوا الكتاب من قبلهم ، من اليهود و النصارى ، الذين اتخذوا أحبارهم و رهبانهم أرباباً من دون الله ! تحذير لهم من أن تختطف دينهم منهم فئة من طراز هؤلاء الأحبار و الرهبان ، يستغلون وطأة الدين و غفلة المساكين ، فيعيثون فيه تحريفاً و يصيرونه غرضاً لأطماعهم و مركباً لجشعهم ، يفرقون أمره و يحيلونه طرائق قددا ، يزرعون الفتنة أينما حلوا باسم الحفاظ على بيضة الدين ، هم في حقيقتهم دجالون و كهنة ، و هم في حقيقتهم حرب على الله وعلى دينه و رسالته !
إن الآية ليست للتشفي بعلماء اليهود و النصارى .. إنها تتكلم عن نمطية من الكهانة و الدجل تتكرر في البشر ، و تصاحب الأديان و تفتك بها و برسالتها. و خطرهم الشديد أنهم هم أول من يعبث بقيم الدين ، و يحرف كلماته و يشوه رسالته و ينفره إلى الناس كافة ، و هم أول من يختلق له أحكاماً و فتاوى تؤسس لأهوائهم و تخدم أغراضهم التي يستأكلون بها أموال الناس بالباطل ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً ، هم من عناهم رب العزة في الآية 79 من سورة البقرة بقوله :
(( فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون ))
ليشتروا به ثمناً قليلاً ... إن الذين يصدون عن سبيل الله هم الذين يتكلمون باسمه و يعملون بغير هديه ، و لا يصد عن سبيل الله من يحاربه علانية!
مالذي يجعل بضاعة هؤلاء رائجة و صنعتهم رابحة على مدى التأريخ ؟
من الواضح إن سبب ذلك يعود لما يملكه الدين من سلطان ساحر على النفوس المتدينة التي ترنوا للإتصال بالله الذي تحس بوجوده و تنفعل بآثاره بفعل الفطرة التي فطرهم عليها ، و ترغب في التقرب إليه و كسب رضاه و بركاته ! فتراها تنقاد لمن تلبس برداء الدين و احترف تسويق رايته ، طائعة راغبة ، مصدقة مطمئنة ، بأكثر مما تنقاد للسلطان كارهة مرغمة ! ففي الوقت الذي تعمل الشرطة و الجند كآلة لإستبداد السلطان ، نرى أن آلة استبداد الكاهن هي الدين نفسه ! و لذلك فالسيادة الدينية هي أخف مؤونة ، و أعظم أثراً في النفوس من السلطان الغالب!
و لأن الكثير من أسس الدين هي الغيبيات ، فنرى أنها كانت هي المدخل الخفي الذي ينفذ منه هؤلاء لعقول البسطاء و المساكين لزرع خرافاتهم و أساطيرهم و هرطقتهم باسم الغيب حتى أحالوا دين الله غير صالح للحياة به أو معه ، تمجه العقول الراشدة و ينفر منه أولوا الألباب و هو ما نزل إلا لهم!
إن اسلامنا ليس فيه بابوات ولارجال دين و لا كهنة .. وليست فيه أسرار عقائدية يختص بعلمها فريق من الناس دون فريق ، وليس فيه فريق من (( النبلاء! )) يستعبدون الناس دون فريق . . وليس فيه حجر على العقول أن تفكر و تنظر في حقائق الأمور !
إن هذا الدين قائم على التفكير الحر من متعلقات الإرث القبلي و المذهبي .. التفكير الحر الذي يرفض أن تستخفه مختلقات الكهنة من الخرافات و الأساطير ، و يرفض أن تحجره الجدر و الموانع الصناعية التي يحيطونه بها هؤلاء باسم الدين كي يظل أسير الأنفاق .. التفكير الحر الذي يأبى أن يقول ((إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون)) و يخشى أن يحشره الله تعالى مع الذين يقولون (( ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا )).
لقد غزتنا هذه البابوية بصور شتى ، و أضحينا أكثر أهل الملل أحباراً و رهباناً و ما زادونا إلا خبالاً ! إن أمتنا تنتج جيوشاً من الفقهاء منذ قرون ، فما بالها لم تزدد إلا انحطاطاً بين الأمم و لم تزدد إلا تفرقاً ، و غدت يستذلها الأذلون؟ إن أمة هذا شأنها لحريٌ بها أن تعيد حساباتها من جديد و تنظر في أصولها و مبناها !
إن الواقع الإسلامي برمته يحتاج إلى استعادة أصوله و تحرير رقبته من قبضة الكهنة و عبث الدجالين ، بحاجة إلى إعادة اكتشاف الإسلام من جذوره و استخلاصه من فتنتهم و دَخَنهم كما يستخلص اللبن من بين الفرث و الدم ، خالصاً ، سائغاً للشاربين!