الأحزاب الإسلامية في العراق.. كيف تخرج من القوقعة الطائفية؟
الأحزاب الإسلامية في العراق.. كيف تخرج من القوقعة الطائفية؟
ولدت الأحزاب الإسلامية العراقية في منتصف القرن الماضي للرد على الاتجاهات القومية واليسارية والليبرالية التي سادت في العراق، وأنتجت عدة أنماط من الحكم ملكية وجمهورية وعسكرية يمينية ويسارية. وامتاز "الحزب الإسلامي" بتبني عقيدة الإسلام والسعي من أجل إنشاء أو إعادة نظام الخلافة الإسلامية الى كل بقاع العالم الإسلامي. ورغم أصول الحزب السنية باعتباره واجهة لتنظيم الإخوان المسلمين، الا انه طرح منذ البدء شعارات إسلامية عامة، وكان قريبا جدا الى "حزب الدعوة الإسلامية" الذي ولد في نفس الوقت وحمل نفس التوجهات والشعارات والأحلام والتطلعات.
وبعد نضال دام حوالي خمسين عاما، أتيحت الفرصة للحزبين "الإسلامي" و"الدعوة" لأن يتشاركا في حكم العراق، وذلك بعد سقوط نظام صدام حسين ذي التوجهات القومية العلمانية. وبدلا من أن يتحد الحزبان الإسلاميان ويوحدا معها العراق، وجد الحزبان نفسيهما في خضم تجاذب طائفي وسياسي عنيف، كان نتيجة عقود من الظلم والمقاومة للنظام السابق الذي حمل طابعا طائفيا "سنيا" في مقابل "الشيعة" الذين غلب عليهم الشعور بالمظلومية والحرمان. أي ان الحزبين الإسلاميين (الدعوة الشيعي والإسلامي السني) وجدا نفسيهما أسيرين لمخاوف وأحقاد وردود فعل خارجة عن إرادتيهما، فضلا عن أن يكون لهما دور في إذكائها. وذلك بسبب ظروف التوسع والانتشار الجماهيري التي أعقبت سقوط نظام صدام، وتوفر الحرية للنشاط الحزبي، وإقبال الناس على الانتماء لهما، مما أخرج الحزبين عن سيطرة القيادات المؤسسة الأولى ووضعهما تحت ضغط الشارع السني أو الشيعي. ورغم وجود إمكانية فرضية لاستيعاب جماهير حزبية من مختلف الطوائف لكل حزب، الا ان التجربة العملية أثبتت حصر الانتماء لكل حزب على طائفة معينة، وهذا أمر بعيد كل البعد عن شعارات الحزبين الإسلاميين المشتركة والواحدة، وله صلة وثيقة بعلاقة كل حزب بمصالح الفئات والمجموعات المنتمية له والقريبة من هذه الطائفة أو تلك. وبكلمة أخرى ان كل حزب أخذ يعبر عن مصالح أتباعه الطائفية أكثر مما يعبر عن أهدافه وشعاراته الإسلامية العامة. وربما يقدم كل حزب الكثير من المبررات بأنه يقوم بذلك اضطرارا للرد على مواقف وسياسات الأطراف الأخرى "الطائفية". وربما يكون على حق في ذلك. ولكن إذا أراد أي حزب يحمل أهدافا إسلامية عامة، ويفكر بإعادة الخلافة الإسلامية وبناء الحضارة الإسلامية المنهارة من جديد، فان عليه أن يسلك طريقا آخر بعيدا عن المنطق الطائفي ويتعالى على ردود الأفعال الضيقة، التي قد توفر بعض المكاسب الآنية المحدودة ولكنها لن تساعد على الوصول الى الأهداف الحضارية الكبرى، إذا لم يكن تعمل على إرجاع المجتمع الواحد الى الوراء وتقسيمه وشرذمته، وتحطيم الآمال بالمستقبل.
ومن البديهي ان الطائفية تشكل نقيضا للروح والقيم والأخلاق الإسلامية القائمة على العدل والمساواة والنظر الى كفاءة الأشخاص وأعمالهم ومدى تقواهم والتزامهم بالدين حسبما تقول الآية: "إن أكرمكم عند الله أتقاكم". (الحجرات 13) بينما تقوم الطائفية على التمييز العنصري والوهمي أو الاسمي، بغض النظر عن حقيقة الأشخاص، وهو ما يشكل ردة جاهلية تفضل أسوء الأشخاص من هذه الطائفة على أفضل الأشخاص من الطائفة الأخرى.
وقد قلت ان الطائفية تقوم على التمييز الوهمي، لأنه لا حقيقة لمفهوم السنة والشيعة اليوم، وخاصة في العراق، وذلك لأن التشيع والتسنن مذهبان سياسيان ولدا في القرون الإسلامية الأولى ضمن ظروف الصراع السياسي بين العلويين والعباسيين والأمويين، فقال فريق بأن الإمامة من حق هؤلاء ، وقال فريق آخر بأن الإمامة من حق أولئك. ومع مرور الزمن قبل الشيعة بوجود حاكم "سني" كما قبل الإمام الرضا الخليفة العباسي المأمون، وكما قبل الشريف الرضي، أكبر علماء الشيعة في القرن الخامس الهجري، أن يكون نائبا للخليفة العباسي القادر بالله، هذا من جهة ومن الجهة الأخرى فقد كان السنة يقبلون بأي حاكم ولا يشترطون سوى أن يكون من قريش، ولا ينظرون الى هويته الطائفية سواء كان معتزليا أم سنيا أم شيعيا إسماعيليا أم اثني عشريا، وقد قدموا ولاءهم لمختلف الحكام العباسيين حتى الذين كانوا يضطهدون "أهل السنة" كالمأمون والمعتصم والواثق، وكذلك قدموا ولاءهم للحكام الفاطميين، ولم يعترضوا على الخلفاء العباسيين عندما أعلن بعضهم الانتماء للمذهب الشيعي الاثني عشري، كالخليفة الطائع والمعتضد والناصر لدين الله. وقد تنازل أهل السنة عن شرط القرشية عندما بايعوا الخلفاء العثمانيين.
وينقل عن المرجع الشيعي الأسبق المرحوم السيد محسن الحكيم أنه كان يقول :"نريد حاكما عادلا، سواء كان شيعيا أو سنيا، ولا نريد الحاكم الظالم، سواء كان شيعيا أو سنيا" وهذا عين الصواب فان العدل أو الظلم يعود بالخير أو الشر على الناس، بينما لا تعود الهوية الطائفية للحاكم بأي شيء على الناس الا على نفسه، هذا إذا كانت لها أية مصداقية خارجية.
وفي الحقيقة لا وجود اليوم لكل الفرقاء التاريخيين الذين كانوا يتصارعون في مسرح السياسة، وإذا كان جوهر الخلاف بين المذاهب في السابق يدور حول النظام السياسي، فان العراقيين اليوم يجتمعون على نظام سياسي واحد هو النظام الديموقراطي الذي تتساوى فيه الفرص للجميع. وإذا كانت هنالك من فوارق بين الطرفين فإنما هي فوارق شكلية قشرية تاريخية وهمية، وليست فوارق جوهرية عملية سياسية حقيقية. والدليل على ذلك ان صفة التشيع أو التسنن - بالمعنى الطائفي - تطلق اليوم على الشيوعيين والبعثيين والليبراليين والقوميين، وحتى على من لا ينتمي الى الإسلام، وهو ما يدعونا الى إعادة النظر في حقيقة التسميات والتصنيفات الطائفية، والنظر الى جواهر الأمور والأشخاص. وإذا كنا نلتزم بالدين الإسلامي ونسعى من أجل العمل به فلا بد أن نجعل من الالتزام به وبالالتزام بالنظام الديموقراطي مقياسا لحركتنا ونظرتنا الى الآخرين.
قد يقول البعض ان التمسك بالطائفية أو المحاصصة الطائفية في المناصب السياسية يضمن عدم هيمنة أية طائفة على الطوائف الأخرى، ويوفر الأمن والاطمئنان لمن يشعر بالخوف من الظلم أو عودة الديكتاتورية، وأقول له: ان هذا غير صحيح، إذ قد تعود الديكتاتورية في ثياب طائفية، وقد يعود الظلم والاستغلال كذلك على يدي ابن الطائفة، ونظرة واحدة الى التاريخ والواقع هنا وهناك تثبت أن الظلم لم يكن مقتصرا يوما على أبناء الطوائف الأخرى، وكذلك الديكتاتورية تنمو حتى في ظل البلاد ذات الهوية الطائفة الواحدة. إذن يجب أن نضع أنظمة ومعادلات سياسية تمنع الظلم والعدوان والسرقة والاستغلال والاستبداد بغض النظر عن الهوية الطائفية للحاكم. وإذا كنا في العراق بصدد بناء نظام ديموقراطي حقيقي تتوزع فيه السلطة بين تشريعية وتنفيذية وقضائية، وتتوفر فيه حرية صحافة واستقلال للقضاء، وتتعدد فيه الأحزاب السياسية المتنافسة، فان ذلك سوف يشكل أكبر ضمانة ضد الظلم والديكتاتورية، في حين لا تشكل الهوية الطائفية أية ضمانة حقيقية إذا لم يكن الفرد ملتزما بالقيم الإنسانية والديموقراطية والإسلامية. وإذا كان الشعب غائبا عن المراقبة والمحاسبة والنقد والتوجيه.
هذا إذا كنا نريد أن نبني وطنا واحدا، أما إذا كان البعض منا يسعى لتقسيم العراق على أسس طائفية، فان منطق المحاصصة الطائفية والتمييز الطائفي يشكل مقدمة لتحقيق هذا الغرض البعيد عن الحلم الديموقراطي، والكفيل بتفجير حرب أهلية طائفية لا تبقي ولا تذر.
ويجب أن نعترف بأن ثمة على أرض الواقع من يمارس نهجا طائفيا عدوانيا، ويقوم بأعمال قتل وتهجير وتفجير وتعذيب بحق رجال من أبناء الطائفة الأخرى، بدافع التكفير أو الثأر والانتقام أو رد الفعل، وهو ما يشكل لونا مصغرا من ألوان الحرب الأهلية، من الممكن أن يجر البلاد كلها الى أتون حرب أهلية طاغية، دون أن ينظر الى التاريخ المشترك أو المصالح المشتركة أو القيم والمبادئ الإسلامية، وإنما ينطلق من حسابات تكفيرية تنظر الى الطائفة الأخرى نظرة العدو الكافر، الذي يستحيل معه التعايش.
ولكي نخرج من هذه الفتنة أو الأزمة أو المأزق الطائفي الذي قد نجد أنفسنا واقعين فيه رغم إرادتنا، لا بد من:
1- الزهد في الدنيا والتواضع، ونبذ التكبر والاستعلاء على الآخرين، أو محاولة السيطرة عليهم.
2- التمسك بالأخلاق الإسلامية، أخلاق القرآن التي تعلمنا رد الإساءة بالإحسان، كما في هذه الآية :"ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم". (فصلت 34) إذ لا يجوز أن نبادر بالرد على عمليات الاعتداء التي يقوم بها مجهولون بحق مواطنين من أبناء طائفتنا بعمليات اعتداء غير مبررة على مواطنين من أبناء الطائفة الأخرى، وإنما يجب أن نبادر الى التعاطف مع الضحايا من كل الطوائف وخاصة من أبناء الطائفة الأخرى، حتى نبلسم الجراح ونطفئ الفتنة وندافع عن المظلومين في كل مكان.
3- التمسك بميزان العدل والحق في تعاملنا مع الآخرين، كما تقول الآية الكريمة :" يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله ان الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب". (ص 26) وليس من العدل الدفاع فقط عمن ينتمي الى طائفتنا، وغض النظر عما يحدث لأبناء الطوائف الأخرى.
صحيح ان كل حزب يحاول دفع الضرر عن نفسه وعن أتباعه وجماهيره، وجلب المنفعة له ولهم، ولكن الأحزاب الإسلامية مدعوة للمحافظة بشكل أقوى على قيمها ومبادئها وأخلاقها "الإسلامية" العامة فوق الطائفية. والى أن تكون عماد الوحدة الإسلامية وصمام الأمان من وقوع الشعب في الفتنة الطائفية. وفي أية فتنة أخرى قومية أو عنصرية أو قبلية أو حزبية.
4- قراءة الواقع السياسي والشعبي بعيدا عن العقد والأوهام العنصرية والطائفية، والتعرف على التيارات المختلفة داخل كل حزب وكل طائفة، والتمييز بين المعتدلين والمتطرفين، وتكثيف الحوارات مع المعتدلين من أجل عزل المتطرفين وتحجيمهم.
5- اتباع سياسة إعلامية ملتزمة بالحياد والإنصاف والاهتمام بكل قضايا الناس من مختلف الطوائف، وعدم النظر الى الأمور من زاوية واحدة محلية ضيقة، فان ذلك كفيل بإبعاد جماهير الطوائف الأخرى عن الاستماع الى المنابر الإعلامية الخاصة بالحزب، واتهامه بالطائفية، فلا يجوز مثلا الاهتمام بعد الضحايا من هذه الطائفة وإهمال الضحايا من الطرف الآخر.
5- الخروج من القوقعة التنظيمية السرية السابقة التي اعتاد عليها كل حزب في طريقة اجتذاب المريدين والأتباع، وفتح المجال أمام كل أبناء الشعب من كل طائفة، وإقناع الرأي العام باتباع الحزب سياسة وطنية غير طائفية، والاستعداد لتقبل ترؤس أي شخص يلتزم بمبادئ الحزب الإسلامية حتى لو كان من الطائفة الأخرى. وفي الحقيقة إذا استعد كل حزب للانفتاح التنظيمي على أبناء الشعب من مختلف الطوائف فإن ذلك سوف يفتح الطريق أمام إنشاء حزب إسلامي واحد لكل العراق، حيث لا توجد أية فوارق مهمة في برامج الأحزاب الاسلامية كلها.
6- وأخيرا لا بد من نشر الفكر الإسلامي الوحدوي الديموقراطي، ومحاربة الأفكار المتطرفة التكفيرية والأسطورية التي تشيع العداوة والبغضاء بين المسلمين، وتعيش في التاريخ السحيق بدلا من الاهتمام بالواقع والمستقبل. إذ لا يكفي أن ترفع الأحزاب الإسلامية شعارات الإسلام الوحدوية وإنما عليها أن تنجح في امتحان الطائفية بتجاوزها بسلام.
أحمد الكاتب www.alkatib.co.uk ahmad@alkatib.co.uk
أحب في الله من يبغضني في الله