شيعي إلى الخليج وسُنّي إلى إيران وكردي إلى تركيا!
أحسب كان وراء وفادة: شيعي إلى الخليج، وسُنّي إلى إيران، وكردي إلى تركيا، هاجس تهمة التواطؤ، التي لا يتأخر الإعلام المضاد، وما أكثره، ضد الدولة العراقية، من استغلال حتى الإيماءة. فلربما لا ينجو الشيعي من تهمة تواطؤ مع إيران، ولا التركماني من انسجام مع تركيا، ولا السُنّي من تجاذب مع المحيط السُنّي. كذلك أرادت الدولة العراقية في وفادتها، التي تعد أهم وفادة بعد التاسع من أبريل (نيسان) 2003، لفت الأنظار إلى محاولاتها لتجاوز الولاءات الطائفية والعرقية. ولا يغفل في تراتبية الوفود التفاضل في الأهمية بين الدول، فيبقى الدائر العربي هو الأول مهما تباعدت الآراء.
وإجمالاً، انها رسالة إلى الجوار: ليست هناك طائفة ولا قومية متحكمة، ومضى عصر وفادة سعدون حمادي الشيعي إلى إيران ليقنعها أن الشيعة في الواجهة، أو وفادة طارق عزيز المسيحي إلى الفاتيكان لإقناع الحبر الأعظم بزيارة بلاد الرافدين، وتعقب طريق نبي الله إبراهيم الخليل المفترض من أور الكلدانيين، حيث مدينة الناصرية حالياً، عبر الموصل شمالاً. وكادت الزيارة تتحقق لولا أن صدام حسين أرادها دعاية لإعادة ما فقد نظامه من حظوة دولية. ويعد فشل هذه الزيارة، ثاني فشل للنظام في تحقيق دعاية دولية، فقد سبق أن رُفضت ضيافته لدول عدم الانحياز بسبب الحرب مع إيران.
لا أدري، إذا كان العراق من البلدان النادرة المحاطة بهذا العدد من البلدان، وعلى مختلف المذاهب والشعوب. ستة بلدان، وكل منها يتشابك معه في الجغرافيا والمذهب والقومية، ومعظم مذاهب الجوار تمدد من أرضه. تأسس بكوفته المذهب الشيعي، ثم اختطفته إيران في عهدها الصفوي كمذهب رسمي منذ أواسط القرن السادس عشر الميلادي. ونشأ ببغداد المذهب الحنبلي، على يد الإمام أحمد بن حنبل البغدادي (ت 241هـ)، ثم سرى منها إلى بلدان الخليج العربي. وقبل هذا نشأ بالكوفة المذهب الحنفي، أو مذهب الرأي، على يد إمام التسامح أبي حنيفة النعمان (ت 150هـ)، وتمدد منها إلى إيران وما وراء النهر، والشام، ليحمله العثمانيون الأتراك مذهباً رسمياً.
ومن سامراء، رحلت الفِرقة العلوية أو النصيرية إلى الشام، لتبرز في السلطة، وما تزال، وهي ضرب من ضروب التلاقي بين العصبة المذهبية والحزب السياسي. ظهر العلويون بعد وفاة الإمام الشيعي الحادي عشر الحسن العسكري (ت260هـ): شيعة اتخذوا المهدي المنتظر إماماً، وشيعة اتخذوا أبا شُعيب محمد بن نصير النميري (القرن الثالث الهجري) باباً. على خلفية أن «الباب من جملة التشكيلات الدينية الأساسية» لديهم (الطويل، تاريخ العلويين).
تلح هذه الخلفية التاريخية، والمرصعة بالتشابك الديني والمذهبي وامتداداته إلى خلف الحدود، أن ليس لأهل العراق غير التعايش في ما بينهم البين، وبينهم وبين المحيط، الذي تتعاطف بلدانه مع قومية أو مع مذهب من قومياته ومذاهبه المتعددة. يحيط بالعراق سور سُنّي على امتداد الجنوب والغرب، لم تتأثر علاقاته به سلباً في زمنيه: الملكي والجمهوري، إلا ما ظل عالقاً من مخلفات العثمانيين، واستغل من قِبل الساسة بما يخص الكويت والأحواز.
تطبعت العلاقة مع المملكة العربية السعودية على ظهر باخرة (لوين) في شباط 1930، حيث اللقاء بين الملكين المؤسسين: عبد العزيز آل سعود وفيصل الأول. ثم التوقيع على معاهدات واتفاقيات ثابتة بمكة 1931. وبهذا انتهى زمن الغارات والحروب، يوم كان العراق عثمانياً، وكان الإخوان السلفيون فاعلين بالحجاز ونجد. وقد دامت العلاقات بين الدولتين بأحسن حال حتى أغسطس (آب) 1990.
واعترفت الدولة التركية بالدولة العراقية 1931، إثر لقاء بأنقرة بين الملك فيصل الأول ومصطفى كمال أتاتورك. وقبل أن تُعرف بلاد فارس بإيران، اعترفت حكومتها بالدولة العراقية، بعد لقاء جرى بين الشاه رضا بهلوي والملك فيصل في ابريل (نيسان) 1932 بطهران (الدليل العراقي 1936). ولم يفصم علاقات الجوار، وفقاً لتأسيسها الأول، إلا الحرب على إيران واجتياح الكويت، والضغط على الكُرد عبر تركيا وإيران معاً.
زار رئيس وزراء العراق، نوري المالكي، المملكة العربية السعودية، وحمل نتائج إيجابية بما يتعلق بالاتفاق على منازلة الإرهاب. فالشعور أن الشيعي، أو حزب الدعوة لم يعد خصماً مذهبياً، في إطار علاقات الجوار وخيارات البلدان في حكمها. وليس هناك أخطر من الإرهاب العائد من العراق، الذي لا دين ولا مذهب له. لقد طوقت استجابة دول الخليج، وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية، لما عرضه نوري المالكي من متطلبات التعاون، هواجس انحياز الطوق السُنّي لجهة دون جهة بالعراق، وأسقطت التوقعات من رفض وجود شيعة على رأس السلطة. ولو كان الموفد سُنيّاً لعزي كل نجاح الزيارة إلى تلك الآصرة. وكذلك الحال في زيارة رئيس البرلمان محمود المشهداني لإيران، وهوشيار زيباري لتركيا.
معلوم، أن إيران وتركيا تصدحان بين الفينة والفينة بالدفاع عن الشيعة والتركمان، وربما مشاجرة بين عائلتين بتلعفر تقود الدولة التركية إلى التصريح بحماية تركمان العراق، أو أنها لا تريد حلولاً لقضية كركوك خارج مشورتها. وكذا الحال، لا تكف إيران عن دعوى الدفاع عن العتبات المقدسة، ومحاولات التأثير عبر مَنْ تعتبرهم امتدادا لها. لكن ما حصل من قِبل جماعة شيعية ضد قنصليتين إيرانيتين وفي منطقتين شيعيتين، وإن كان فعلا سيئا، له معنى أبعد من التجاوز على ملهم هذه الجماعة محمود الصرخي، وهو أن المذهب ليس الفاعل الدائم، بل المصالح هي الأكثر فعلا. ومن قبل، ينبيك اختطاف الشيخ خزعل الكعبي، وهو الشيعي، من قِبل بلاد فارس وهتك حرمة إمارته الأحوازية (1924) ما هو أكثر من هجوم جماعة شيعية ضد مصالح إيرانية. وربما صعب على تركيا أن يكون ضيفها كردياً عراقياً، وهي لم تسمح للكُردي باسخدام لغته. إلا أن قدوم العراق على اختيار الوفود بالطريقة التي حصلت ما هو إلا تأكيد الاعتراف بالواقع الجديد.
على أية حال، بما أن البلدان لا يعنيها الأثر القائل: «الجار قبل الدار»، ومن هذه الحتمية الجغرافية ليس من التعايش بدّ، عبر حدود صحراوية وجبلية مداها 3630 كيلومترا. وحدود بحرية مداها تسعون كيلومترا، مطلة على صوبي الخليج، فتأمل فداحة الخطب إذا اضطربت تلك النهايات، وجرد سلاح الطائفية من غمده، وكل جار يغيث المستغيث به من الطوائف والأعراق!
r_alkhayoun@hotmail.com