النتائج 1 إلى 2 من 2
  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Apr 2003
    المشاركات
    93

    افتراضي الحركات الإسلامية في حوار مع د. ميثم الجنابي

    الحركات الإسلامية في حوار مع د. ميثم الجنابي

    أعد الحوار : زكي العليو
    برزت الحركات الإسلامية بصورة واضحة في العقود الأخيرة وشكلت حضور واضح على مختلف الصعد ، ومع هذه الحركات هناك من يؤيدها ومن يعارضها .. وهنا نحاور د. ميثم الجنابي * في عدد من القضايا المتعلقة بالحركات الإسلامية .
    س . الكثير لا يميز بين الصحوة الإسلامية والحركة الإسلامية. كيف تميز بينهما؟
    د. الجنابي : مما لا شك فيه أن هناك اختلافا بين "الصحوة" و"الحركة". فمن الناحية اللفظية والمعنوية للكلمات يتضح بان كلمة الحركة هي أوسع تعبيرا، انطلاقا من أن كل صحوة هي حركة. ولكننا من جانب آخر نعرف بأنه ليس كل حركة هي صحوة. فالسكران يتحرك، كما أن الميت "يتحرك"، بمعنى يتفسخ. ولكن فيما لو تركنا تشقيق الكلام عن الكلمات الذي لا يغني شيئا بالنسبة لتحقيق المعنى المطلوب من وراء الأسئلة المشابهة، وانتقلنا إلى المعنى القادر على احتواء الأبعاد الفعلية للصحوة والحركة، فإننا سوف نصل إلى ضرورة المطابقة بينهما. أي تحويل الحركة الاجتماعية والسياسية الإسلامية صوب "تصحيح" وعيها الذاتي بحيث تتحول إلى "صحوة" فعلية، أي إلى حركة تدرك "صحوتها" بمعايير الرؤية الثقافية (الإسلامية) للإشكاليات الواقعية وسبل حلها بالشكل الذي يعمق الأبعاد الاجتماعية والسياسية والثقافية للحركات الإسلامية نفسها، ويرسخ وجودها العقلاني ضمن ما يمكن دعوته بمنظومة الوجود العربي. بعبارة أخرى إن "التمييز" بين "الحركة" و"الصحوة" لا ينبغي جعله تمييزا بين مفهومين متعارضين، بقدر ما ينبغي أن يكون توليفا بينهما يجعل منهما "حركة صاحية"، أي حركة فاعلة ضمن مرجعيات ثقافية كبرى معقولة ومقبولة للمجتمع والدولة.
    س . هل نحظى بتعريف دقيق لمصطلح الحركة الإسلامية؟
    د. الجنابي : إن الإجابة على هذا السؤال تنبع من التصورات والأحكام التي استعرضتها قبل قليل. اكرر من جديد إلى أن الجدل حول هذه التفريعات لا يخطو بنا إلى الأمام اكثر مما تعتقده نملة سوداء من سيرها على صخرة صماء في ليلة ظلماء، كما كان يقول الأسلاف. والقضية هنا ليست فقط في انه جدل لا يغني الحقيقة شيئا، بل ولأنه يلهي "الفكر" في تفريعات شبيهة بتلك التي كانت تثير شهية "الفقهاء" في تفريعاتهم عن أمور قد لا تحصل على الإطلاق. وإذا كان لهذه "التفريعات" معناها وتقاليدها الخاصة في "الخيال المبدع" للفقه الإسلامي، ومن ثم قدرتها على شحذ تقاليد "البدائل" والحدس، فان الجدل حول تحديد مصطلح "الحركة الإسلامية" سواء من الناحية العلمية أو العملية سوف يؤدي بالضرورة إلى ترسيخ تقاليد التعصب "العلمي" والمذهبية "الأكاديمية". أي انه سوف يؤدي بالضرورة إلى صياغة "قواعد" تحرّم وتحلل، وان بعبارات جديدة، من هو إسلامي منها وغير إسلامي.
    إنني اعرف دون شك، بوجود "حركات إسلامية"، أي أحزاب ومنظمات سياسية، و"حركات إسلامية"، أي تيارات فكرية وثقافية وعلمية. ولكنني أدعو كل ذلك "بالظاهرة الإسلامية" المعاصرة. وهي "ظاهرة" سوف تتحول بالضرورة إلى "كيان ساري" في الوجود التاريخي للعالم العربي. حينذاك سوف يتحول التمييز والخلاف والاختلاف إلى مكونات طبيعية وضرورية ضمن الإطار العام لمرجعيات الانتماء الثقافي العام للعالم العربي.
    س . هل من الممكن أن ينقسم مؤيدي التيار الإسلامي إلى صحويين - إن جاز التعبير - أي بمعنى منتسب للصحوة الإسلامية، وآخرين حركيين أي منتسبين للحركات الإسلامية؟
    د. الجنابي : وهو الشيء الذي كنت أحذر منه قبل قليل. انه جدل عقيم وتعريفات تضع بصورة متضادة ما هو موحد من حيث المقدمات والغايات. إذ لا تعني محاولات وضع أحدهما بالضد من الآخر أو تمييزهما بالشكل الذي يجعل منهما كيانات قائمة بحد ذاتها مستقلة ومتقابلة ولا تعرف "المساومة" والالتقاء كما لو أنها قضبان لسكك الحديد، سوى الصيغة المذهبية الضيقة المميزة لتقاليد "الفرقة الناجية بمعناها السياسي لا بمعناها المعرفي. طبعا أن ذلك لا ينفي إمكانية وجود "حركيين" بلا صحوة، أو "صحويين" بلا حركة. بهذا المعنى فقط يمكن الاتفاق عن وجود "تيارين". أما محاولة تأسيس أبعاد فكرية أو عقائدية لهما فهو جهل بهيئة معرفة. وهو اخطر أنواع الجهل بالنسبة "للحركة" و"الصحوة".
    س . في ورقة العمل التي قُدمت من قبلكم في إحدى الندوات التي أقيمت ضمن مهرجان الجنادرية عام 1420هـ استخدمت مصطلح "الظاهرة الإسلامية". نأمل تسليط الضوء على استخدامك لهذا المصطلح ؟
    د. الجنابي : إنني انطلق من أن العالم الإسلامي يمر الآن بمرحلة ادعوها بالمركزية الإسلامية. وبالخلاف عن المركزية الأوربية (الكولونيالية) هي مركزية ذاتية من حيث علاقتها بنفسها وبالآخرين. أي أن نياتها ومساعيها وجهودها المدركة وغير المدركة، العقلانية والوجدانية موجهة صوب تفعيل مكوناتها التاريخية - الثقافية الخاصة.
    فمما لا شك فيه إننا نقف أمام إجماع خفي متراكم في الوعي الاجتماعي والسياسي المعاصر في العالم الإسلامي على ضرورة تأسيس نظم للحياة تستمد مرجعياتها الفكرية والروحية من التاريخ الثقافي للحضارة الإسلامية وأممها المتنوعة. ومن ثم تحويل جهادها واجتهادها في مختلف الميادين إلى "قطب روحي" فعال في العالم المعاصر. وهو جهاد واجتهاد يؤدي بالضرورة إلى تفعيل سياسي لمكونات الحضارة الإسلامية.
    إن هذا التفعيل - عملية طبيعية وضرورية بالنسبة لعالم الإسلام. وذلك لان تعارض الدين والسياسة هو إشكالية بالنسبة للوعي الأوربي (السياسي والثقافي واللاهوتي)، بينما تشكل علاقة الدين بالسياسة بالنسبة للوعي السياسي والثقافي واللاهوتي في عالم الإسلام مرجعية روحية ومنهجية.
    ذلك يعني أن إشكالية الإسلام والسياسة هي أولا وقبل كل شئ إشكالية الرؤية الأوربية، التي انعكست فيها حصيلة التصورات التاريخية المتراكمة في مجرى تجارب شعوب القارة عن علاقة الدين بالدنيا. فقد تحول فصل الدين عن الدنيا، والكنيسة عن الدولة إلى إحدى المرجعيات السياسية والثقافية في الوعي الأوربي. وعليها جرى بناء صرح القومية والمجتمع المدني والديمقراطيات الرأسمالية. ومن هذه المرجعية وعليها أيضا بنيت كليشات الرؤية الأيديولوجية عما لا يتشابه أو يتطابق معها في تجارب الآخرين.
    ومن هذا المنطلق يمكن فهم "غرس" إشكالية الدين والسياسة الأوربية بطرق شتى ومستويات عديدة في الوعي السياسي للعالم الإسلامي المعاصر على انه نتاج لغياب المرجعيات الثقافية في العالم العربي والإسلامي وضعف أو غياب تاريخهما السياسي المستقل في غضون قرون عديدة. أي أن لهذا "الغرس" مقدماته الواقعية في تاريخ العالم الإسلامي نفسه. وترتب على ذلك جملة نتائج تراكمت مقدماتها مع مجرى انحلال الدول الإسلامية وعدم قدرة الثقافة الإسلامية حينذاك على تقديم إجابات تتمثل تجارب الأسلاف العلمية والعملية وتستجيب لتحديات الزمن وضروراته.
    وحالما أخذت ظاهرة التحدي تبرز إلى الوجود، بعد أن تحسس العالم الإسلامي للمرة الأولى انهياره شبه التام أمام الغزو الأوربي، بدأت تطفو إلى سطح وجوده الاجتماعي والسياسي ردود فعل متنوعة، جرى تصويرها بعبارات التحدي واليقظة والنهضة والانبعاث والثورة والصحوة والتسييس وغيرها. وهي أوصاف تعكس لحد ما جوانب الظاهرة الإسلامية لا حقيقتها.
    وبهذا المنحى سارت اغلب الاجتهادات في العالم العربي والإسلامي المعاصر في محاولاتها تفسير ظاهرة "الصحوة" و"الحركة" الإسلامية الجديدة. فالتفسيرات الاقتصادية حاولت البرهنة على أن الأسباب الأساسية القائمة وراء "الصحوة" ترتبط إما بأزمة التطور الرأسمالي في العالم الإسلامي، أو بسبب فشل التنمية على النمط الغربي، وبسبب ضعف الطبقات والفئات الاجتماعية الحاكمة وطبيعة صيرورتها التاريخية المرتبطة بالغرب الكولونيالي. ومن ثم عجزها البنيوي في تطوير الاقتصاد والعلم بالطريقة التي تحفظ للدولة والأمة استقلالهما الناجز. أما التفسيرات الفكرية - السياسية، فأنها عادة ما تربط ظهور "الصحوة" و"الحركة" أو "الإسلام السياسي" بأسباب منها هزيمة الفكرة القومية على الصعيد الوحدوي والنظام الاجتماعي العادل والديمقراطية السياسية والأمن القومي، أو لعجز الأيديولوجيات الأخرى من ليبرالية واشتراكية وشيوعية وغيرها عن تحقيق بدائلها الاجتماعية - السياسية والثقافية. أما التفسيرات الثقافية - الروحية فتتمحور حول البرهنة على فشل أسلوب التحديث والعصرنة الغربي بسبب افتقاده إلى مقومات الأصالة الذاتية.
    تعاني اغلب هذه التفسيرات والاجتهادات من نقص جوهري يقوم فيما يمكن دعوته بمشاطرة نفسية البحث عن الخلل والآفاق من خلال بناء عناصر التحدي. إلا أن الخلاف بينهم يقوم في أن التفسيرات الأوربية تبني عناصر البحث عن الخلل والتكهن حول الآفاق من خلال فكرة تحدي الغرب، بينما تبني الاجتهادات العربية والإسلامية تصوراتها وبحوثها عن البدائل من خلال تحدي النفس.
    أما الرؤية التقليدية (العربية والإسلامية)، فأنها "تتعالى" على جدل البحث عن العلل، وتقرر وجود الأشياء كدليل بحد ذاته. من هنا سيادة الدعوى القائلة بان الإسلام بحد ذاته سياسة، أو أن الدين والدنيا لا انفكاك لهما في الإسلام، أو أن الدين والسلطان في الإسلام توأمان. وهي دعاوى لها معناها في الماضي، وإشكاليتها في الحاضر.
    إن "الظاهرة الإسلامية" التي أتكلم عنها هي أوسع واعقد مما قيل. أنها ليست فرضية أيديولوجية مجردة، كما أنها ليست مجرد "تسييس" للإسلام. فالجدل المتمحور حول ما يسمى "بتسييس" الإسلام هو من بقايا التحزب الأيديولوجي النابع من انعدام أو ضعف إدراكه للحقيقة القائلة بان "الظاهرة الإسلامية" هي أولا وقبل كل شئ الإشكالية الثقافية السياسية الأعقد والأكبر للعالم الإسلامي. من هنا تنوعها وخصوصيتها، والتي ينبغي البحث عنها في كيفية الانقطاع الذي حدث تاريخيا بين المرجعيات الثقافية والواقع المعاصر للإسلام في هذه المنطقة أو تلك. ومن هنا عالمية الظاهرة الإسلامية، باعتبارها بحثا عن المرجعيات الثقافية الذاتية.
    بعبارة أخرى إن الظاهرة الإسلامية هي في جوهرها ظاهرة عالمية. وشأن كل ظاهرة من هذا القبيل والمستوى لا يلزم حصرها بجانب ما معين أو سبب ما واحد وإرجاعها إليه فقط. بل يمكنني القول، بان العالم المعاصر يحتوي على ظاهرتين عالميتين فقط من حيث سعة انتشارهما وتأثيرهما الروحي، ألا وهما الظاهرة الغربية والظاهرة الإسلامية. وهو أحد الأسباب الجوهرية للصراع الخفي والعلني، المباشر وغير المباشر بينهما. وهو صراع حدده بالأساس تكامل البنية العقائدية واختلاف الرؤى العملية للوجود الإنساني وغاياته. أي أن لكل منهما عقائد متنوعة ولكنها تنتمي في الوقت نفسه إلى مرجعيات ثقافية خاصة، مما حدد بدوره خصوصية رؤيتهما لمعضلات ومشاكل الوجود الطبيعي للمجتمع في مختلف مستوياته وميادينه، ومعضلات الوجود الماوراطبيعي.
    وإذا كان زمام المبادرة التاريخية في مجرى القرون الخمسة الأخيرة يعود للظاهرة الغربية (الأوربية)، فان مركزيتها العالمية أخذت بالانحلال مع انحلال إمبراطورياتها(النمساوية والإنجليزية والفرنسية والروسية) في نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. وأخذت بالضعف والتراخي اكثر فاكثر مع هيمنة القطبية السوفيتية - الأمريكية. أما الهيمنة الأمريكية الحالية، فهي صيغة فجة للإمبراطوريات القديمة. أنها عرضة للزوال السريع بسبب ضعف أسسها الروحية. كل ذلك يشير إلى اضمحلال الهيمنة الغربية في مركزيتها الأوربية وصيغتها الأمريكية المعاصرة. وهو واقع يشير أيضا إلى أن القرن الحادي والعشرين هو قرن المواجهات الثقافية(الحضارية).
    وأدى ذلك إلى استثارة "الظاهرة الإسلامية" في عالم الإسلام نفسه. من هنا، فإن صعود الظاهرة الإسلامية نفسها لم يكن رد فعل على الهيمنة الأوربية(المادية والمعنوية)، بقدر ما كان رد فعل على الذات. وفي هذا تكمن إشكاليتها وضرورتها في نفس الوقت.
    س . يطلق البعض مصطلحات عدة على الحركات الإسلامية ، من قبيل مصطلح الحركات الإسلاموية د. محمد أركون نموذج، أو التأسلم السياسي د. رفعت السعيد نموذج . ما هي وجهة نظركم حيال هذه المصطلحات؟
    د. الجنابي : إن الولع "بالمصطلحات" هو دليل فراغ معرفي أو الرغبة في تقديم "الجديد". ونحن نعرف جيدا بأنه ليس كل جديد صحيح كما انه ليس كل قديم خاطئ. إن المعيار السليم هو مدى مطابقة هذا المصطلح للشيء الذي يعبر عنه، أي في مدى قدرته على تحديد حدّ الشيء وحقيقته. فإضافة حرف الواو إلى "الإسلامية" أو اشتقاق "التأسلم" لا يضيف شيئا جديا بالنسبة لتحديد مضمون "الحركات الإسلامية". إذ لا شئ في هذه التعابير يشير إلى حد وحقيقة "الحركة الإسلامية". على العكس انه يموه المضمون، و"يشجع" "الجدد" على "اختبار" كفاءاتهم السيئة في العربية والاشتقاق. إن قيمة المصطلح في دقته. والاهم من كل ذلك هو قدرته على تقديم رؤية منظومية عن الشيء أو الظاهرة المدروسة. والحركات الإسلامية هي ظاهرة غاية في التعقيد، ولا يمكن فهمها من خلال "تفكيك" بعض النصوص أو "تسييس" الآخر منها. إن مصطلح "الاسلاموية" لا اشتقاق عربي ولا معنى ثقافي فيه يستحق البحث. والشيء نفسه يمكن قوله عن "التأسلم". وكلاهما يتضمنان إشارة اقرب إلى ما كان القدماء يدعوه "بالفضائح".
    إن قيمة المصطلح تنبع من تلقائيته الرمزية، المرتبطة عضويا "بحركة" الأفراد والجماعات والأفكار وأثرها الجوهري بالنسبة للمسار السياسي والفكري والثقافي اللاحق. أي أن قيمته في قدرته على شحذ الرؤية المنهجية والقيمية والمواقف العملية. من هنا ثبات "الغلاة" و"الخوارج" و"المرجئة" و"المعتزلة" و"الاشاعرة" ومئات غيرها بوصفها "حركات" فكرية سياسية وثقافية نشأت من تلقائية التطور الثقافي العام وعبرت عنه علميا (منهجيا) وعمليا (بالنسبة لتحديد المواقف). من هنا ثباتها في الذاكرة التاريخية وفاعليتها في الرؤية الثقافية، ومن هنا اضمحلال وزوال وهلامية وتنوع التأويل "السياسي" لمصطلحات "اليسار" و"اليمين". والشيء نفسه يمكن قوله عن "الاسلاموية" و"التأسلم" وما شابه ذلك. وانتهز الفرصة هنا للقول، بأنني اعمل الآن على إنجاز عمل بأربعة أجزاء عن الحضارة الإسلامية أتناول في أحدها وهو بعنوان (الحضارة الإسلامية - ثقافة اليقين والاعتدال) هذه المسألة، أقصد مسألة "المصطلح" وقيمته بالنسبة للعلوم النظرية والعملية.
    س . يطرح أحد المهتمين بالأوضاع التي تعيشها مجتمعاتنا المعاصرة رأي مفاده أن هناك ثلاثة عوامل للمد الإسلامي: حركة الإحياء الديني، تنامي دائرة الاحتجاج الاجتماعي والمعارضة السياسية، نمو المطالب الأخلاقية في مواجهة تنامي عناصر التحلل والسقوط. هل تتفقون مع هذا الرأي؟
    د. الجنابي : يمكن إضافة عوامل أخرى عديدة لهذا "النمو والتنامي". وهي أحكام سليمة ولكنها عامة، لا تفسر "الظاهرة الإسلامية"، وغير قادرة على احتواء مكوناتها الجوهرية من الناحية التاريخية والثقافية. والأكثر من ذلك غير قادرة على رؤية ما في هذه الظاهرة من "استعداد" على "النمو". ويمكن البحث عن رأي بهذا الصدد في إجابتي التي قدمتها قبل قليل بصدد "الظاهرة الإسلامية".
    س . من المعلوم أن الحركات الإسلامية ليست متطابقة أو متجانسة، بل في أحيان كثيرة نجد أنها متعارضة، والنظر للواقع يكشف أن ثمة حركات إسلامية وليست حركة إسلامية واحدة. كيف ترى التوجهات المختلفة للحركات الإسلامية وكذلك الاختلاف والخلاف فيما بينها؟
    د. الجنابي : إن تنوع وتباين واختلاف وتضاد الحركات الإسلامية أمر لا خلاف فيه. وهو واقع. كما أنها تشترك وتتوحد وتتطابق وتندمج في الكثير من نياتها ومساعيها وأهدافها. وهو واقع أيضا. إن الإشكالية تزول عندما نضع هذا "الخلاف" و"الوحدة" ضمن المعنى العام الذي أشرت إليه عن "الظاهرة الإسلامية". أي إزالة الخلاف في الرؤية المنهجية العامة عبر إدراج القضية مثار الجدل ضمن الإشكاليات الحية والمثيرة بالنسبة للوعي الاجتماعي في بحثه عن حلول لها. بعبارة أخرى أن من الضروري وضع فكرة الخلاف والاختلاف نفسها ضمن إطار المرجعية العامة التي بلورت فيما مضى بعبارة (أو حديث) "اختلاف أمتي رحمة".
    آنذاك يكون من الممكن، بل ومن الضروري الحديث عن "حركة" إسلامية بالمعنى المجرد أو العام للكلمة، أو ما ادعوه بالظاهرة الإسلامية، وعن "حركات" متنوعة ومختلفة ومتضادة ومتصارعة. وهو أمر طبيعي وصحي أيضا.
    أما ما يخص وجود حركات إسلامية مختلفة وليس حركة واحدة. فهذا كما يقال أمر جلي ولا يحتاج إلى تأكيد وتحقيق. فمن المعلوم أن الأمور الجلية عندما تصبح موضوعا للنقاش والجدل فإنها تفقد جلاءها. أي تصبح عصية. ولا اعتقد أن من الضروري الجدل عما إذا كان 2+2=4. قد يكون ذلك ممكنا في سوق الحميدية، لكن الحقيقة والتحليل العلمي لا يتحملان هذه الألاعيب.
    إنني إلى جانب التنوع والاختلاف والخلاف بين الحركات الإسلامية، فهو دليل على حيويتها. الشيء الوحيد المرفوض هنا هو أن يتحول الخلاف والاختلاف إلى معركة "مذهبية"، أي إلى صراع منغلق لا يرى في الآخر سوى تعبيرا عن الزيغ والضلال والابتعاد عن السنة وحقيقة الإسلام وما شابه ذلك. بعبارة أخرى، من الضروري تحريم التحريم وتجريم التجريم، والعمل في نفس الوقت من اجل بناء وتحقيق منظومة المرجعيات العقلانية عن الاعتدال في رؤية الاختلاف والخلاف.
    س . يزعم بعض الإسلاميين أن ثمة تطور وحراك في فهم الحركات الإسلامية لكثير من القضايا والمواقف المحيطة بهم، ولا سيما منذ منتصف الثمانينات وتزايدت مع بداية التسعينات، نجد ذلك في الديمقراطية وحقوق الإنسان والتعددية والنظرة للآخر والعنف على سبيل المثال. ما هي وجهة نظركم في ذلك؟
    د. الجنابي : نعم! هذا واقع. ولكنه لم يتحول بعد إلى حقيقة. أي أن هذا التحول لم يتخذ بعد صيغة منظومية يجعل أي تراجع عنه "خروجا على السنة" و"تاريخ السلف الصالح". وهو أمر طبيعي أيضا. إذ من الصعب توقع تحولات منظومية في الرؤية السلوك على مستوى الأحزاب والحركات السياسية بين ليلة وضحاها. والخلل الذي تعاني منه الحركات الإسلامية المعاصرة هو خلل منظومي في بنية الدولة والمجتمع في العالم العربي. انه يمس اغلب الحركات السياسية في العالم العربي بما في ذلك تلك التي لها "تاريخ" سياسي عريق في "التحديث والعصرنة".
    إن التحولات الفعلية الجارية في باطن الحركات الإسلامية صوب اهتمامها الجوهري وليس العرضي بقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان والتعددية ورفض العنف وغيرها هو دليل على ارتقائها العقلاني. وهو ارتقاء ينبغي أن يتعمق استنادا إلى مرجعيات الثقافة الإسلامية، أي إلى تاريخ "الإسلام الثقافي". طبعا لا ينبغي النظر إلى هذه المطالبة بمقاييس المواقف السياسية. فهي ليست شعارا، بل دعوة تاسيسية لقيمة المرجعيات الثقافية بالنسبة لبناء منظومة العلم والعمل في ميدان نظام الشورى (الديمقراطية)، والحقوق، وعلاقة الجماعة بالأمة، واختلاف وتنوع الفرق والمذاهب، وعشرات بل ومئات القضايا الكبرى.
    س . تراجع الحركات الإسلامية مواقفها وهذا ما تسميه بالنقد الذاتي. إلى أي مدى وصل النقد الذاتي لدى الحركات الإسلامية؟
    د. الجنابي : إن الحركات الإسلامية المعاصرة بمختلف أطيافها من معتدلين وغلاة وتقليدين ومتحررين من التقليد الأعمى وغيرها، هم مكون ضروري للحركة الاجتماعية والسياسية والثقافية في العالم العربي. إن هذا التنوع والخلاف والاختلاف هو بحد ذاته إحدى المقدمات الضرورية لتعميق وترسيخ ما كانت تقاليد الإسلام تدعوه فيم مضى بمحاسبة النفس ومراقبتها، أي "نقدها الذاتي".
    إذ من الصعب أن نعقل وجود النقد الذاتي من دون مراقبة ومحاسبة خارجية. فهو رد الفعل على ما نراه عن أنفسنا في مرآة الآخرين. بعبارة أخرى إن النقد الذاتي هو نقد الآخرين بصورة عندية (ذاتية). وهو أمر يعكس في الإطار العام مستوى تطور المراقبة والمحاسبة في المجتمع والدولة. وقد نعثر على أفراد غاية في التحسس من سلوكهم الذاتي وإخضاعهم النيات والخواطر إلى محاسبة شديدة بما يتناسب مع رؤيتهم لقواعد السلوك المثلى، إلا أن ذاك لا يغير كثيرا ما لم تتحول هذه المراقبة إلى منظومة علمية عملية، أي ما لم تصبح جزءا عضويا في منظومة العلاقات الاجتماعية والسياسية للدولة والمجتمع. وهو تحول مرهون بنشاط الحركات السياسية أولا وقبل كل شئ.
    والتحولات الجارية في مراجعة أو محاسبة ومراقة الحركات الإسلامية لنفسها لا يشذ عن هذه القاعدة العامة. وهو أمر مستحسن بل ومطلوب بحد ذاته. ف"إسلامية" المحاسبة لا تعني أن تكون رهينة "السلف الصالح" أو أي من مستوياته المثلى، بل رفقيته من خلال ردها المباشر على النفس في مرآة الحياة السياسية والفكرية والاجتماعية الواقعية. ذلك يعني أن مستوى النقد الذاتي في الحركات الإسلامية وفاعليته المثلى يتوقفان على مستوى وكيفية نقدهما للواقع. بعبارة أخرى إن مستوى وكيفية نقد الذات يتوقفان على مستوى وكيفية نقد الواقع. وكل منهما يحدد الآخر. وفيما لو اتخذنا هذا المعيار حكما على الموقف من "مدى" نقد الذات في الحركات الإسلامية المعاصرة في العالم العربي، فان من السهل تبيان ذلك من خلال تحليل التغيرات والتطورات والتحولات التي جرت في برامجهم السياسية ومواقفهم العلمية من القضايا الواقعية والفعلية و"المصيرية" بالنسبة للدولة والمجتمع والقومية والأمة في العالم العربي.
    س . ترى الحركات الإسلامية أن الدين الإسلامي شامل لجميع جوانب الحياة، ومن هنا نرى الكثير من الإسلاميين يرفضون مصطلح الإسلام السياسي. ما هي وجهة نظركم في ذلك؟
    د. الجنابي : إنني استعمل أحيانا مصطلح "الإسلام السياسي" واضعه دوما بين قوسين. وهو مصطلح ليس دقيق تماما ولكنه مقبول من حيث صيرورته التاريخية والسياسية. انه يعكس أحد ملامح التحولات التي جرت فعلا في انتقال "النهضة" و"الصحوة" الإسلامية إلى ميدان الحياة السياسية من خلال ظهور حركات "إسلامية" بين المسلمين أنفسهم. وهي مفارقة ولكنها واقع. ولا غرابة في الأمر على الإطلاق، كما نقول بظهور حركة القوميين العرب بين العرب. إن سبب ذلك يقوم في ما ادعوه بالانقطاع الفعلي بين التاريخ السياسي والوعي الثقافي في العالم العربي بعد اضمحلال مراكزه الثقافية - السياسية الكبرى، وخضوعه الطويل للسيطرة التركية. فقد أدى ذلك إلى سحق المكونات العربية والإسلامية بنفس القدر. وفي ذلك تمن مفارقة "القومية العربية" و"الإسلامية" في ميدان النظرية والممارسة السياسية. ولكنها مفارقة واقعية وليست منطقية. وبالتالي أنها درجة ضرورية في تطور الوعي السياسي والثقافي. والشيء نفسه يمكن قوله عن "الإسلام السياسي". قد تطرقت إلى هذه القضية في معرض حديثي عن "الظاهرة الإسلامية".
    أما ما يخص فكرة "الإسلام دين شامل للحياة" فان مضمونها يتوقف على تحديد ماهية الإسلام وماهية الدين وماهية الحياة وماهية الشمول. بعبارة أخرى إن إشكالية شمولية الإسلام اكثر تعقيدا بكثير من ضعف أو عدم دقة مصطلح "الإسلام السياسي". من السهل دحض الأخير ولكن من الصعب تحقيق الماهيات التي أشرت إليها. أما الرجوع إلى قيل وقال فانه لا يعني في الواقع سوى انه لا وجود لإسلام ولا دين ولا حياة ولا شمولية. إن الدليل الوحيد الحق للحياة والشمولية هنا هو تقديم رؤية منظومية بديلة للواقع قادرة على استقطاب الحركة الاجتماعية الصاعدة بصورة فعلية على النطاق الوطني والقومي العربي والإسلامي والعالمي.
    س . كثيراً ما تزعم بعض الحركات الإسلامية بأن المجتمعات الإسلامية تؤيدها، لأن هذه الحركات خير من يعبر عن تطلعات هذه المجتمعات. هل هناك فعلاً تأييد لهذه الحركات من قبل هذه المجتمعات؟ ومن جهة أخرى هل ترون أن الحركات الإسلامية تمثل حركات اجتماعية حسب منظور العلوم الاجتماعية الحديثة مع الأخذ في الاعتبار أن الحركات السياسية هي حركات اجتماعية كما ترى هذه العلوم؟
    د. الجنابي : إن بعض الإجابة موجود في معرض حديثي عن السؤال السابق. أما بصورة ملموسة فينبغي القول، بان التأييد متوقف ليس فقط على من هو افضل من يمثل تطلعات الشعوب، بل وكيفية تحويل هذا التأييد الكامن (بالقوة) إلى تأييد بالفعل. ولا ضرورة للتشديد على "أننا خير أمة"، لأنه دليل على أننا ليس خير أمة. إن المعيار الواقعي والحقيقي لذلك هو مدى استعداد المجتمعات للعمل من اجل تجسيد الأفكار والشعارات المطروحة من جانب هذه الحركة أو تلك. والحركات الإسلامية تتمتع بتأييد جماهيري كامن كبير. هذا واقع. وليس لأنها "خير" من يعّبر عن تطلعاتها، بل ولارتباطه بالتحولات الخفية العميقة والهائلة التي تجرى ضمن ما أسميته "بالظاهرة الإسلامية". من هنا ضرورة اخذ هذه القضية بنظر الاعتبار، وإلا فان "التأييد" سوف ينقلب رأسا على عقب، سواء من وجهة النظر السياسية التاريخية أو من وجهة النظر الأخلاقية. فالتاريخ يعرف مراحل التأييد والخذلان. والتاريخ العربي المعاصر يكشف عن صعود الحركات القومية والاشتراكية والشيوعية والتأييد الجماهيري العارم لها وهبوطها في وقت لاحق. والشيء نفسه يمكن قوله عن الحركات الإسلامية المعاصرة. أما الجانب الأخلاقي فانه يكمن في ضرورة إدراك وتذوق البعد الملكوتي (الميتافيزيقي) الإسلامي في فكرة "المكر الإلهي".
    أما الشطر الثاني من السؤال، فانه تحصيل حاصل. لذا لا أجد ضرورة للحديث عنه.
    س . يذكر فهمي هويدي في كتابه (حتى لا تكون فتنة) الصادر عن دار الشروق ص 68 النص التالي " فإننا نذهب إلى القول بأن الإسلام الاجتماعي أسبق في الأهمية من الإسلام السياسي، وأنه لا قيام للثاني بغير الأول. وإن الذين يدعون إلى إقامة نظام سياسي إسلامي، بغير نظام اجتماعي إسلامي يرتكبون خطأ عملياً وتاريخياً فادحاً وجسيماً، فهم أسوأ ممن وضع العربة أمام الحصان، لأنهم يقفزون إلى عربة بغير حصان من الأساس". هل على الإسلاميين النظر بجد للمسألة الاجتماعية قبل المسألة السياسية كما يرى هويدي؟
    د. الجنابي : ان أي إطلاق في الفكرة هو خروج على الحق أو ابتعاد عنه أو مجافاة له. وعلى قدر هذا الإطلاق والتأسيس له تتوقف درجات الحكم السابقة. وفي الإطار العام ليس من الصحيح هنا مقارنة الحصان والعربة. أنها ممكنة من الناحية المجردة، ودقيقة في الأمور الجزئية. أما "القضية الاجتماعية" و"القضية السياسية" فهي ليست من الأمور الجزئية. وهي آراء ومصطلحات تذكرنا بما كان يتداوله انطون فرح في رواياته، عندما لم تكن هناك "قضايا اجتماعية وسياسية" بالشكل الموجودة "في أوربا" كما كان يقول.
    طبعا إن هناك أولويات في الفكرة والممارسة. وهي أولويات تتحدد بادراك الأولويات السياسية في هذا الميدان أو ذاك. ففي كل فعل اجتماعي هنا رؤية سياسية، كما أن في كل فعل سياسي حقيقي هناك أبعاد اجتماعية. ووضع أحدهما بالضد من الآخر أو أولويته على أساس ثابت انطلاقا من أولوية "الإسلام الاجتماعي" على "الإسلام السياسي" لا يختلف كثيرا عن الإقرار بالأمر المعاكس. لان منطقهما واحد.
    إن قيمة وفاعلية الأهمية الفعلية لهذا الجانب أو ذاك في "الإسلام" وأسبقيته أو أولويته مرتبطة في ما إذا كانت هناك منظومة للعلم والعمل الإسلامي. حينذاك تتخذ الأسبقية والأولوية معناها العملي أو فائدتها المرجوة لا أن تصبح "عقيدة" جديدة أو "قواعد جامدة" للعمل. وحينذاك تصبح وحدة الاجتماع والسياسة ضرورة. وبهذا المعنى يمكن الإقرار بصحة الفكرة، التي يقولها فهمي هويدي عن أن "إسلام سياسي" بلا "إسلام اجتماعي" هو خطأ تاريخي. والشيء نفسه يمكن أن يقال، بان "إسلام اجتماعي" بدون نظام سياسي إسلامي غير ممكن. غير أن جوهر القضية في اعتقادي يقوم ليس في مجادلة الأولويات وتدقيق المصطلحات، بل في تحديد ماهية النظام السياسي والاجتماعي الإسلامي وكيفية وسبل تأسيسه النظري والعملي.
    س . أوليفيه روا باحث فرنسي يكتب حول الحركات الإسلامية، له كتاب (فشل الإسلام السياسي) تُرجم إلى اللغة العربية عن طريق دار الساقي بلندن تحت عنوان (تجربة الإسلام السياسي). يطرح أوليفيه روا في كتابه فكرة أن الإسلام السياسي لم يستطع أن يقيم اقتصاد إسلامي أو أن يقيم مجتمع جديد أو أن يتجاوز القوميات. كيف تقيمون الفشل والنجاح في تجارب الحركات الإسلامية المعاصرة؟
    د. الجنابي : إن "الفشل" لم يحدث، لان كل ما قيل ويقال عن "نظام سياسي إسلامي" و"اقتصاد إسلامي" هو من فرضيات البدائل النظرية. وهي نظريات مازالت ضعيفة. ووراء هذا الضعف أسباب عديدة لعل أهمها هو الانقطاع الفعلي والتاريخي والثقافي في الحضارة الإسلامية. إذ ليست نظريات "الاقتصاد الإسلامي" و"النظام السياسي الإسلامي" وغيرها سوى شكل من أشكال الرجوع إلى المصادر الأولى. وهي عملية معقدة وصعبة للغاية في ظل الانقطاع المشار إليه آنفا، وفي ظل العولمة المعاصرة. ولكنها عملية ممكنة وواقعية ضمن ما أسميته بالظاهرة الإسلامية، بوصفها مرحلة تاريخية ليست "المركزية الإسلامية" سوى صيرورتها الأولية. وبالتالي لا معنى للحديث عن الفشل هنا. إن ما يطرحه اوليفيه روا هو مجرد تصوراته عن "النجاح". أما هنا، فان القضية متعلقة بماضي وحاضر ومستقبل "البحث عن البدائل". وهي قضية خارج معايير ومقاييس "الفشل والنجاح" العادية. أنها قضية متعلقة بتلقائية البناء السياسي والاقتصادي والقومي أو بتقليدية البناء لتجارب الآخرين، التي لا تؤدي حتى في حال "نجاحها" إلا إلى اجترار الزمن والدوران في فراغ تتضح "مآثره" المدرة بعد فترة.
    س . يرى محمد جمال باروت في كتابه (يثرب الجديدة) ص 13 أن سيد قطب يمثل قطيعة مع حركة الإخوان المسلمين فهو مثلاً يدعو للحاكمية، بينما الإخوان المسلمين يدعون لتطبيق الشريعة، وكذلك يرى أن هناك خطاب معتدل وآخر متطرف في الحركات الإسلامية ومن ثم هناك فارق بينهما. ولا يتفق محمد جمال باروت مع بعض دارسي الحركات الإسلامية المعاصرة الذين ينكرون وجود فارق بين المتطرف والمعتدل في هذه الحركات. هل تؤيدون محمد جمال باروت في ذلك؟
    د. الجنابي : إن فكرة القطيعة ليست دقيقة بحد ذاتها. وهي ليست دقيقة بشكل خاص في ما يتعلق بإبداع المفكر الشهيد سيد قطب وعلاقته بفكر وممارسة الشيخ حسن البنا والإخوان. لقد اجتهد سيد قطب ضمن تقاليد الحركة الاخوانية. وفكرة الحاكمية هي توليف سياسي ووجداني معاصر لأفكار الخوارج "الخلّص" و"منظومية" حسن البنا، مع تطعيم منسجم لها بمزاج الحنبلية التقليدية (لابن حنبل) وتقاليدها العقلية الإصلاحية (ابن تيمية) ووحدانيتها العملية (الوهابية). وهي لا تتعارض مع "تطبيق الشريعة" كما دعت لها حركة الإخوان المسلمين. من هنا تزمتها ومرونتها في نفس الوقت. فهي من جهة تجديد وتثوير للروح الكفاحي في الحركة الاخوانية، ومن جهة أخرى تضييق على روح الاجتهاد فيها بفعل سيادة عناصر الغلو والانغلاق فيها. وهي عناصر صنعتها في الأغلب التجربة الناصرية في التعامل مع الاجتهاد الاجتماعي والسياسي والفكري.
    أما فيما يتعلق بتنوع الاتجاهات الفكرية والسياسية للحركات الإسلامية فهو أمر لا يحتاج إلى كثير جدل وتدليل. ومن غير الصحيح وضع جميع الحركات الإسلامية في سلة واحدة. فهو حكم اقل ما يقال فيه انه غير علمي ولا يستحق الاهتمام به. فالحركات الإسلامية المعاصرة شأنها شأن كل الحركات الكبيرة متعددة الأطياف والمناهل والمصادر النظرية، تفعل ضمن ظروف غير متشابهة وتقف أمام مهمات مختلفة. لهذا لا يمكنها أن تكون واحدة ومتشابهة. أي أن عدم رؤية الاختلاف بينها، وعدم رؤية وجود المعتدل من المتطرف هو تطرف بحد ذاته، بغض النظر عن مقدماته وغاياته.
    س . لماذا في رأيكم يركز الإعلام الغربي والإعلام العربي، ويشاركهم في ذلك أحياناً بعض النخب، على رموز التطرف والتشدد في الحركات الإسلامية أو الصحوة الإسلامية ولا يعيرون اهتماماً بالرموز المعتدلة والمتسامحة؟
    د. الجنابي : البواعث مختلفة ولكنها تلتقي في النتيجة. فالإعلام الغربي يرى في الظاهرة الإسلامية خطرا على مركزيتيه الثقافية والسياسية، والإعلام العربي في الإطار العام هو عربي من حيث اللغة لا من حيث الانتماء والتأسيس للفكرة العربية والثقافة الإسلامية. فهو يفتقد إلى رؤية تاريخية واستراتيجية عن هذه المسألة. و"النخب" العربية التي تشير إليها هي نتاج فعل هذين "الاعلامين". ويتجلى ذلك بوضوح في ضعف الرؤية النقدية والانسياق الأعمى وراء الدعاية الغربية والجهل شبه التام بالثقافة الإسلامية وإبداعها النظري والعملي العملاق. من هنا التركيز على "الفزاعات" عوضا عن المشاركة في تحصين الرؤية الاجتماعية والسياسية للجمهور من خلال الاشتراك لفعال في بنائها.
    أما الالتقاء في النتائج، فلان هذه الدعاية تؤدي إلى عرقلة إمكانية نمو وترسخ تقاليد الاعتدال والعقلانية في الحركة الاجتماعية والسياسية في العالم العربي (والإسلامي). فالحركات الإسلامية هي جزء عضوي من الحركة الاجتماعية - السياسية العربية. وإسقاطها هو إضعاف لهذه الحركة العامة. وهو سلوك يتسم اكثر من غيره بالغلوّ واللاعقلانية.
    س . ما هو رأيكم فيما يطرحه بعض اليساريين من أن الأنظمة العربية هي من أنشأت الحركات الإسلامية من أجل ضرب المعارضة اليسارية؟
    د. الجنابي : هذا اتهام باطل، كما هو باطل من كان يقول بان "يد موسكو" وراء اليسار العربي. نعم قد لا يخلو تأثر بعض الحركات السياسية الإسلامية واليسارية من تأثير أطراف خارجية، إلا أن تفسير ظاهرة تاريخية كبرى وهائلة وعضوية أيضا بتأثيرات خارجية بالشكل الآنف الذكر هو امتهان للفكر والعلم والتاريخ على السواء.
    مما لا شك فيه أن التاريخ والواقع لا يخلوان في ميدان العلاقات السياسية من محاولات البعض التقليل من الأطرف الأخرى أو تشويه سمعتها أو سعي البعض الآخر إن توفرت الإمكانية، لصنع ذيول له وما شابه ذلك. وهو سلوك سوف يبقى مازالت هناك "دولة" وصراع مصالح وغياب للقانون وضعف الأخلاق. ومن الصعب الآن التكهن بإمكانية اضمحلال هذه الأساليب، إلا أن مما لاشك فيه أيضا هو أن الصراع ضد هذه الأساليب هو الجزء غير المرئي وغير المباشر ضد صنع "الذيول". فالدول العربية أن ساهمت فعلا في صنع ذيول لها بين الحركات الإسلامية، فان التيار الإسلامي العام كان أيضا ردا سياسيا على هذه الممارسة. والشيء نفسه يمكن قوله عن اليسار العربي.
    وأخيرا أن وضع القضية بهذا الإطار والمستوى هو إضعاف للعقلانية والاعتدال وروح الانفتاح والتعددية واحترام الآخرين، باعتبارها شروط ضرورية لتكامل الوعي الاجتماعي السياسي وفاعليته بالنسبة لبناء نظام اجتماعي سياسي في العالم العربي قادر على خدمة مصالحه القومية العليا.
    س . في ظل الأوضاع العربية السياسية المتأزمة، على سبيل المثال احتكار الأنظمة العربية السلطة وعدم السماح للقوى السياسية والاجتماعية بمشاركتها في السلطة واتخاذ القرارات أو عدم سماح بعض الأنظمة العربية لشعوبها بتكوين أحزاب سياسية. ألا ترون أن هناك ظلم يقع على الإسلاميين ونوع من سوء النية عند البعض باتهام الإسلاميين بعدم القدرة على تقديم برامج سياسية أو القدرة على إدارة شئون الدولة، ألا يحق للإسلاميين أن يشاركوا في السلطة أو على أقل تقدير إعطائهم شرعية سياسية بالسماح لهم بتكوين أحزاب ومن ثم يحكم على تجربتهم السياسية؟
    د. الجنابي : لقد أجبت ضمنا عن هذه الأسئلة في معرض حديثي السابق، وبالأخص ما يتعلق منه بالأسئلة الأربعة الأخيرة.
    س . ثمة حالة استقطاب موجودة حالياً في مجتمعاتنا العربية الإسلامية وتحديداً بين العلمانيين والإسلاميين ويمتد ذلك إلى الثقافة. هل تؤيدون هذا الرأي، وما هو دور الحركات الإسلامية في ذلك؟
    د. الجنابي : إن الاختلاف "العقائدي" بين الدنيويين (العلمانيين) والإسلاميين هو خلاف مفتعل. انه نتاج الجهل المعرفي والتاريخي بالنفس. كما انه اختلاف "مفروض" بحكم الانقطاع الفعلي بين التاريخ السياسي والوعي الثقافي في العالم العربي. ومحاولة استقطابه من أي طرف كان هو سير في اتجاه جعل الانقطاع الآنف الذكر "مرجعية" عملية جديدة، تؤدي في نهاية المطاف إلى تدمير القوى الاجتماعية والسياسية والروحية في العالم العربي.
    أما امتداد هذه الاستقطاب والخلاف إلى ميدان الثقافة، فانه الأكثر تدميرا، وذلك لأنه يجعل البعض مالكا للماضي، والبعض الآخر مالكا للمستقبل. وهي أملاك وهمية، والأكثر من ذلك أنها أوهام مخربة وذلك بفعل إمكانياتها القوية على التدمير.
    وبصدد الشطر الأخير من السؤال، يلزم القول بان دور الحركات الإسلامية ليس اقل ممن يعارضها. فالجميع تشترك بدرجات متباينة أحيانا ولكنها تصب في نهاية المطاف في صنع الصحراء الثقافية. والمهمة الأساسية المطروح الآن بهذا الصدد تقوم في إيجاد النسبة المعقولة للاختلاف والإقرار به بوصفه جزءا أو أسلوبا أو شكلا للاجتهاد بمعناه الثقافي والفكري لا بالمعنى "الديني" القديم للكلمة ولا بالمعنى "الدنيوي" المضاد. إن هذا الاستقطاب لا يصنع غير مذهبية عقائدية ضيقة ويدفع الأطراف للتطرف والغلوّ، أي انه لا يصنع عقلانية ولا اعتدال.
    س . تطرف بعض الحركات الإسلامية، ألا يقابله تطرف لدى بعض العلمانيين؟
    د. الجنابي : نعم! وهو الشيء الذي كنت أتكلم عنه قبل قليل. إن التطرف أو الغلوّ لا يرتبط بفئة دون أخرى أو بشكل للوعي الاجتماعي دون آخر. بعبارة أخرى، إن سبب التطرف أو الغلوّ يقوم في الخروج عن حد الاعتدال العقلاني - الأخلاقي والوقوف بالضد منه. لهذا يمكن أن يتقاسمه الجميع بدون استثناء. وليس لأي جهة (دينية أو دنيوية) أفضلية على الآخر بهذا الصدد. إن الحصانة الوحيدة من الوقوع في فخ الغلوّ يقوم في تجريد النفس منه. وهي مهمة ملزمة للحركات والاتجاهات الدينية والدنيوية على السواء. آنذاك سيكون الخلاف بينهما معقولا بمعايير الرؤية السياسية والثقافية فقط، وسوف لن يرتقي إلى مستوى العقائدية المغلقة.
    س . هناك نماذج عدة للحركات الإسلامية، الحركة الإسلامية في تركيا متمثلة في تجربة حزب الرفاه، حركة النهضة التونسية، حزب الله اللبناني. كيف تقيمون هذه التجارب؟
    د. الجنابي : إن تقييم التجارب السياسية للأحزاب يفترض كحد أدنى الإلمام بتاريخ نشوئها وتطورها والظروف التي أحاطت بذلك، من اجل ألا يكون الحكم مبتسرا. ثم هناك فرق بين أن تحكم على تجربة هذا الحزب أو ذاك من داخله أو من خارجه. لكل تجربة من هذه التجارب خصوصيتها. وفي الإطار العام أننا نقف أمام تجارب سياسية كبيرة بالنسبة لحزب الرفاه في تركيا وحزب الله في لبنان. وهي تجارب إيجابية كبيرة. وأخص بالذكر هنا تجربة حزب الله في لبنان. أنها برهنت عمليا على قدر هائل من الروح الكفاحية والبقاء في حيز العقلانية السياسية والاعتدال الاجتماعي. ويمكنها أن تشكل في حالة تعميق رؤيتها الفلسفية أحد النماذج الرفيعة للحركات الإسلامية المعاصرة، القادرة على تقديم صيغة ومستوى مناسبين للإجماع التاريخي الضروري بين الحركات الإسلامية والدنيوية في العالم العربي.
    س . هل من مصلحة الحركات الإسلامية أن تتحول إلى أحزاب سياسية؟
    د. الجنابي : دون شك افضل! إلا انه ليس ضمانة لتحول نوعي. غير أن العمل ضمن إطار "الحزب السياسي" ووعي الذات ضمنه هو توسيع وترسيخ للبنية السياسية الاجتماعية في العالم العربي. انه يؤدي إلى التعامل مع الجميع بمعايير السياسة ومتطلباتها الاجتماعية والثقافية، وبالتالي يضعف إمكانيات الشقاق والخلاف بين "الديني" و"الدنيوي"، ويدفع بالقوى جميعا للاحتكام أولا وقبل كل شئ أمام المجتمع والتاريخ.
    وفي النهاية إن الانتقال إلى ميدان ومستوى "الحزب السياسي" هو عملية وليس رغبة. وإدراك ضرورتها لا يعني بالضرورة أنها قابلة للتحقيق. إن الإعلان عن تشكيل حزب سياسي فعل سهل، والأسهل منه اضمحلاله. غير أن العمل من اجل بناء الأحزاب السياسية الإسلامية هو فعل إيجابي من الناحية التاريخية والاجتماعية، وله آثاره المفيدة على المدى القريب والبعيد بالنسبة للدولة والمجتمع في العالم العربي.
    س . ما هو مستقبل الحركات الإسلامية؟
    د. الجنابي : انه متوقف عليها، أي على مدى وكيفية تمثلها لتقاليد ما ادعوه "بالإسلام الثقافي" وتجسيده نظريا وعمليا. وهو موضوع آخر، لأنه أيضا من شأن المستقبل!
    * بروفيسور العلوم الفلسفية والإسلاميات ، يعمل أستاذاً للفلسفة الإسلامية والتصوف في الجامعة الروسية ، نشر العديد من الكتب في الفلسفة الإسلامية والكلام والتصوف والتاريخ السياسي والأدب منها الإمام علي القوة والمثال ، وعلم الملل والنحل ، والتآلف اللاهوتي الفلسفي الصوفي عند الغزالي ، ، وله العديد من الأبحاث في عدد من الدوريات ، يرأس تحرير الكتاب الدوري ( رمال ) الذي يعني بالشئون العربية الروسية .
    ملاحظة : هذا الحوار كان على هامش ندوة حوار الحضارات التي عقدت بمدينة الرياض بمكتبة الملك عبد العزيز العامة في بداية شهر محرم لعام 1423هـ حيث شارك د. الجنابي بورقة وكانت هذه الأسئلة مكتوبة وتم فيما بعد إرسال الإجابة عليها ، وعلى ذلك جرى التنويه .
    بطاقة
    - ميثم محمد الجنابي - أنهى دراسته الجامعية في كلية الفلسفة ( جامعة موسكو الحكومية ) عام 1981م . - نال من الجامعة نفسها درجة دكتوراه الفلسفة ( ph. D ) في العلوم الفلسفية عام 1985م . - ونال درجة دكتوراه العلوم ( D. S. c ) في العلوم الفلسفية . - بروفيسور في العلوم الفلسفية والإسلاميات . - عمل في عدة جامعات ، ويعلم الآن أستاذاًَ للفلسفة الإسلامية والتصوّف في الجامعة الروسية . - نشر أكثر من مئة دراسة وبحث في مختلف الميادين ( الفلسفة الإسلامية والكلام والتصوف والتاريخ السياسي والأدب ) في كثير من المجلات العربية والروسية . - أهم أعماله الفلسفية المنشورة ( علم الملل والنحل 1994م ) ، ( الأمام علي القوة والمثال عام 1995م ) ، ( التآلف اللاهوتي الفلسفي الصوفي عند الغزالي 1998م ) في أربع مجلدات . - رئيس تحرير الكتاب الدوري ( رمال ) الذي يعنى بالشئون العربية الروسية في ميادين السياسة والفلسفة والتاريخ والأدب . ملاحظة مصدر المعلومات السابقة هو من كتاب للمؤلف بعنوان " الإسلام السياسي في روسيا " نشر مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية ، بالرياض ، بالسعودية . - يكتب في مجلة الكلمة الذي يدير تحريرها أ. محمد محفوظ.

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    May 2003
    المشاركات
    1,538

    افتراضي

    الاخ مصعب حبذا لو تعطينا نبذة مختصرة حول الاخ الجنابي وشكرا

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
 
شبكة المحسن عليه السلام لخدمات التصميم   شبكة حنة الحسين عليه السلام للانتاج الفني